الثلاثاء، 10 فبراير 2009

الإمام محمد عبده في مرآة الشيخ محمد الغزالي

الإمام محمد عبده في مرآة الشيخ محمد الغزالي
وصفي عاشور أبو زيد
لا يزال فكر الأستاذ الإمام محمد عبده (1265ـ1323هـ/ 1849 -1905 م) حاضرا متجددا تستدعيه الساحة الفكرية والعلمية، وتتلقفه الأوساط السياسية والاجتماعية، وترتكز عليه الحركات الإصلاحية والتجديدية رغم مرور أكثر من مائة عام على وفاته.
لقد كانت الأمة الإسلامية وقت ظهور الإمام تعاني من استقطاب حاد بين فكر التقليد والجمود وأحيانا العنف، ذلك الفكر الذي يعبر عن غلو يحجب الدين والإصلاح الإسلامي عن الواقع والحياة، ويخلق الفراغ الديني الحق في هذا الواقع، ويبعد المنهاج الإصلاحي الإسلامي عن أن يكون هو سبيل الأمة للنهضة والتقدم، وبين فكر التغريب والعلمنة، ذلك النموذج الذي وفد إلى بلادنا في ركاب الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة لعالم الإسلام، وهو نموذج ـ كما يقول د. محمد عمارة(
[1]) ـ قد تميز بالغلو الشديد، وذلك عندما انحاز إلى عالم الشهادة رافضًا عالم الغيب، وإلى الدنيا في مواجهة الدين، وإلى الفردية في مقابلة الجماعة، وإلى الأرض في رفضه لحكمة السماء وشريعتها، وإلى المادية والوضعية في مقابلة الروح، وإلى القوة في مواجهة العدل، وإلى الصراع بدلاً من التدافع، فملأ هذا النموذج الغربي الفضاء الفلسفي والثقافي والسياسي بحشد غفير من "الثنائيات المتناقضة" التي عبرت وتعبر عن غلو التفريط، المقابل لغلو الإفراط.
ولقد تركت مدرسة المنار ـ على رأسها محمد عبده ـ تلاميذ وأتباعا أحيوا الأمة الإسلامية وجددوا الفكر الإسلامي، وأعادوا للإسلام يسره وسماحته واستنزلت هداياته على أرض الواقع، منهم الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ مصطفى المراغي، والشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ يوسف القرضاوي، ود. محمد عمارة، وغيرهم كثير، ولذلك فليس غريبا عند حديثنا عن محمد عبده أن يختلط ذكره بهؤلاء الأعلام خاصة الأفغاني أستاذ الإمام، ورشيد رضا تلميذه.
ومن أهم تلامذة مدرسة المنار الداعية الكبير الأستاذ الشيخ محمد الغزالي الذي تمر بنا ذكراه الحادية عشرة 9/3/1996م ـ يرحمه الله ـ الذي صرح بأنه واحد من تلامذة المنار(
[2]) وقرر أن مدرسة المنار هي المهاد الأوحد للصحوة الإسلامية المعاصرة، ونصح الذين يرفعون القواعد من هذا المهاد أن يتجنبوا بعض الهنات التي فات فيها الصواب إمامنا الكبير، فما نزعم عصمة له أو لغيره([3])، ومن رأيه أيضا أن هذه المدرسة قد بذلت جهودا متصلة لتصحيح المعرفة الدينية، فحاربت التقليد المذهبي الجامد، كما حاربت الأحاديث الضعيفة، وضبطت داخل الهداية القرآنية الأحاديث الصحاح، وطاردت قضايا كلامية وتضليلات سياسية([4]).
ولما كان الإمام محمد عبده هو رأس هذه المدرسة المباركة أردنا أن نوضح ملامح صورته في مرآة الشيخ محمد الغزالي الذي يستشهد به كثيرا في كتبه وخطبه(
[5])، وبالتأمل في تراث الشيخ الغزالي وجدنا رؤيته للإمام محمد عبده كما يلي:

أولا: مجاهد وداعية:
حيث يرى الشيخ الغزالي أن الإمام محمد عبده كان من الأئمة الأبطال الذين يحترقون دأبا في تعريف الجماهير الغافلة بالله وحده ويمسحون عن قلوبها الذليلة أرجاس العبودية للأوهام والأسماء، في وقت كانت أوربا تعد فيه الساعات القلائل الباقية في عمر الرجل المريض ـ الدولة العثمانية ـ فلم تكن مصائبنا من اندحار عسكري مفاجئ، بل من مرض متغلغل قديم، وكان محمد عبده من المصلحين الذين هبوا يعالجون العلة الدفينة ويستنقذون عقيدة التوحيد من ضروب الوثنيات التي أوشكت على إتلافها، سياسية كانت أو مادية، ويحاولون بناء الحضارة الإسلامية على أصولها الأولى من حرية العقل والضمير(
[6]).
وكان الغزالي يرى أن محمد عبده هو مثل عالٍ لشيوخ الأزهر القائمين بحق الله ورسوله، فعندما كان عبيد الولاء للأتراك يخونون الإسلام ويساندون الظلم، انضم هذا الشيخ الجليل إلى الشعب مطالبا بدستور يقيد سلطة الحكم الفردي، ويضعها في حدود ما شرع الله، وقاد الثورة التي اشتعلت لذلك، ولاقى من جرائها ما لاقى، وإننا لنقرأ ما كتبه الشيخ محمد عبده في نقد الأوضاع المعاصرة، ثم نقرأ ما يهرف به مخرفة الشيوخ في وصف أحوالنا الحاضرة فنجد العجب العجاب، ونحس أننا هبطنا من القمة إلى القاع(
[7]).
ومن قيامه بحق الله ورسوله أنه رد على وزير خارجية فرنسا (مسيو هانوتو) إفكه وافتراءه الذي طال على الإسلام، واتهامه لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان كتاب الشيخ عن علاقة العلم بالدين الذي ألفه في ليلة واحدة قاطعا للسان الوزير الكذوب(
[8]).
وكان من ركائز دعوة الإمام محمد عبده في نظر الشيخ الغزالي أمران: الأول: دراسة العلوم الحديثة، وجعل ذلك واجبا إسلاميا أول، وأن أي عقل نظيف يدرك أن هذه الدراسة امتداد محتوم لحديث القرآن الكريم عن الكون، وأن نتائج الجهود العقلية الذكية دعم للإيمان الصحيح ودمغ للإلحاد، وعلماء الدين الذين يبتعدون عن هذه الدراسات عمدا هم أنصاف أميين، وربما أساءوا إلى الإسلام من حيث يبغون الإحسان إليه.
الأمر الثاني: هو حسن معرفتنا لأنفسنا أو بتعبير دقيق: التفريق بين دين الله وبين عملنا به وله في الماضي والحاضر. دين الله مضبوط في الكتاب والسنة ومنهما تستمد الأحكام، أما التاريخ الإسلامي في الماضي والحاضر فليس مصدرا للتشريع، ولا مؤشرا على الحلال والحرام، وأخطاء السلاطين أكثر من صوابهم، وعوج التقاليد أكثر من استقامتها(
[9]).

ثانيا: صاحب عقل ذكي وعلم واسع وبصر سديد:
يرى الشيخ الغزالي أن الإمام محمد عبده كان عقله أكبر من حفظه، وبصره بالحكمة الإسلامية أحدَّ من إحاطته بالآثار الواردة(
[10]). وهو أحد رواد الإصلاح الحديث، وروح الفقه المتجدد في مدرسة المنار([11]). ويرى أيضا أن الأستاذ الإمام له ذكاء الفيلسوف، ودقة الفقيه، وأناة المربي، فأدرك أن الأمة التي تفقد التربية السليمة لا تحقق شيئا، ولا تنجح لها ثورة، وإذا نجحت لها ثورة لأمر ما فسرعان ما يستولي عليها الشطار ونهازو الفرص، ويستغلونها لمآربهم.
من أجل ذلك لجأ إلى التربية، ورفع مستوى الشعوب، وإبعاد العطب الذي سرى في كيان ثقافتنا الدينية، واشتغل بتشكيل العقل الإسلامي على نحو صحيح(
[12]). فقد كان الرجل أول من أحس حاجة الأمة إلى تربية واعية تتعهد سلوكها بالعقل المؤمن، وتحرس نظامها بالشورى العامة([13]).
ويذكر الشيخ الغزالي اطلاع الإمام الواسع وحرصه وتوقفه أمام كتاب الله، فيقول: وقد قرأت للشيخ محمد عبده أنه قرأ خمسة وعشرين تفسيرا وهو يعالج إحدى آيات الأحكام، ثم تأملت في تراثه وتراث تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا، فوجدتني أمام قمة شامخة من قمم الفقه والأصول، وعلوم العقيدة والملل والنحل(
[14]).

ثالثا: صياغته التجديدية للعلوم الإسلامية:
استطاع الإمام محمد عبده أن يعيد صياغة بعض العلوم الإسلامية بشكل يتناسب مع العصر، فنقاها مما يشوبها مما لا حاجة لنا به في عصرنا وثقافتنا، مثل شغب الفرق الإسلامية القديمة وغيرها، يقول الشيخ الغزالي: أول ما عرفت الشيخ في كتابه "رسالة التوحيد" وهو عرض جديد لعلم الكلام، ردم الفجوة بين السلف والخلف، وشرح العقائد شرحا يمزج بين العقل والنقل، وتجاوز الترف العقلي والجدل اللفظي ومنهج المتون والشروح، وقدم أصول الإسلام تقدمة دقيقة جيدة(
[15]). ويقول عن هذه الرسالة في موضع آخر: وقد حاول الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد التي ألفها في العقائد أن يجعل الخلاف لفظيا بين شتى الخصوم، وأن ما ينكره هؤلاء غير ما يقره أولئك، إذ الكل متفقون على تنزيه الله وتقديس ذاته([16])، فاجتهد الرجل فيها أن يعرض علم العقيدة في ثوب جديد فابتعد عن الجدل، وأبى أن يلمز واحدا من المتكلمين، وعدَّهم جميعا إخوة متحابين يبحثون عن الحق، ثم شرَح القضايا الأصلية في ديننا شرحا حسنا، وقدم لها خلاصات نقية([17]).
ويواصل الشيخ الغزالي توضيح جهود الأستاذ الإمام التجديدية في صياغة العلوم الإسلامية فيقول: ثم قرأت كتابه عن الإسلام والعلم الذي رد به على وزير خارجية فرنسا، فرأيت رجلا عليما بالإسلام وتاريخه وفضله على الحضارة الإنسانية، عليما في الوقت نفسه بالنصرانية والهندوكية وتاريخها وما يكتنفه من غيوم، وقد ألف الكتاب في ليلة واحدة لشدة غضبه من الهجوم الفرنسي وملأه بالوثائق التي تشرف الحق وتخزي الباطل. مَن مِن علماء المسلمين في عهده تحرك بهذه العاطفة ورد بهذا الرسوخ؟. ثم قرأت تفسيره للقرآن الكريم، ووجدت بواكير التفسير الموضوعي للسورة فيما كتب، اهتدى إليها ذهن لماح مستوعب، وبصر حديد في إدراك الخيوط التي تشد أجزاء السورة، كما تشد الأعصاب أجزاء الكائن الحي، ويمكن عند متابعة المنار أن يُعرف فضل الرجل في تجلية المعنى والحكمة، ودفع الشبهات ودعم اليقين(
[18]).

رابعا: مصلح تعليمي:
وهو محور منبثق عن سابقه؛ حيث تجديده للعلوم الإسلامية صياغة وعرضا، يستدعي أن تسلك هذه العلوم الطريق نحو تعليمها للناس على تلك الكيفية.
وقد كانت هواية محمد عبده هي التعليم والتدريس، وكان ميدانه الأساسي هو إصلاح مناهج التربية والتعليم، فكما كان إصلاح مناهج الفكر مَعْلما أساسيا عنده، فإن إصلاح التربية والتعليم أيضا كان معلما أساسيا في مشروعه؛ حيث كان يريد إصلاح الأصول، فعمل على إصلاح المؤسسات التربوية والعلمية التي تصنع العقل المسلم كإصلاح المساجد وإصلاح الأزهر وإصلاح الأوقاف وإصلاح القضاء، وكل المؤسسات التي من شأنها أن تعيد صياغة الإنسان، والتي تصوغ الأصول وتجعلها فاعلة في الشخصية الإسلامية.
ثم تسلم هذه المرحلة من إصلاح الأصول وخاصة التربية والتعليم وتثمر بعد ذلك الحياة السياسية والنيابية والحياة الحزبية والحياة الدستورية والقانونية... الخ، ومن هنا كان اهتمام محمد عبده بإصلاح التعليم، فكتب لوائح لإصلاح التعليم في مصر وإصلاح التعليم العثماني، وجهوده لإصلاح الأزهر وإصلاح القضاء مثل التقرير الذي كتبه عن القضاء الشرعي، وغير ذلك.
يقول الشيخ الغزالي: كان محمد عبده وتلميذه رشيد رضا معنيين بالإصلاح العلمي، ومحو الخرافات التي شلت التفكير الإسلامي دهرا طويلا(
[19]).
كما كانت مقالات الإمام في مجلة الوقائع وغيرها منصبة على أمر التربية والتعليم ويلح في إصلاحهما، وينال من ذلك بعض غرضه، وينقد العادات السيئة، ويدعو إلى التخلص منها(
[20]).
وفي سياق آخر يتحدث الشيخ الغزالي عن كره بعض الناس للتصوف، وعدم مخاطبة فريق آخر للغرب بما يناسب عقليته ولا يتعارض مع الإسلام، يقول مبينا جهاد الإمام العلمي: ومن الإنصاف أن نثبت واقعا تمَّ في مدارس التعليم الأصلي بمصر والشام وأقطار المغرب، فقد انفتحت من نصف قرن على تفكير ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، واقتبست الكثير من آرائهم الفقهية، وكان ابن تيمية وتلميذه بغيضين إلى جمهور المتعلمين هنا، كما أن الأشعري والغزالي بغيضان الآن إلى جمهور المتعلمين في أنحاء الجزيرة، وأحسب أن هذا التغير نشأ عن الجهاد العلمي للشيخ محمد بن رشيد رضا وأستاذه محمد عبده(
[21]).

خامسا: مصلح سياسي واجتماعي:
لم تقتصر ميادين الإصلاح عند الأستاذ الإمام ـ في نظر الشيخ الغزالي ـ على الدعوة والدفاع عن الإسلام وصياغة العلوم الإسلامية والتربية والتعليم، بل امتدت لتشمل أيضا مجالات السياسة والاجتماع، فهو أحد الرواد المناضلين ضد الطغيان والاستبداد(
[22]) وهو الذي عاون أحمد عرابي بلسانه وقلمه ورأيه، يقول الشيخ الغزالي: ولقد كان الشيخ محمد عبده من قادة الحرية السياسية والاجتماعية والشخصية يوم أيد ثورة عرابي ضد القصر الملكي، ويوم جاهد لتحرير الطبقات الكادحة من ظالميها، ويوم جاهر بضرورة أن يحكم الشعب نفسه بنفسه([23]).
والإصلاح السياسي والاجتماعي إذا انعزل عن تعاليم الإسلام فإنه يكون إصلاحا منقوصا، بل لابد أن يكون تحت سلطانه وفي ظل رايته، ولذلك يقول الشيخ الغزالي: لو كان محمد عبده العالم الثائر أو حسن البنا المربي النابه، لو أن أحدهما صاحب الثورة الكبرى 1919م، أكانت تأخذ اتجاهها المدني المحض مبتوتة الصلة بآلام الإسلام وآماله؟ إن القصور الشنيع في أفكار علماء الدين ورؤساء الجماعات الإسلامية يومئذ جر على الإسلام هزائم متلاحقة، وجعل بضاعته أمام الأبصار المتطلعة مزهودة كاسدة(
[24]).
وكانت مقالات الإمام محمد عبده في "العروة الوثقى" ـ كما نقل الشيخ الغزالي عن الأستاذ أحمد أمين وصْفَه لها ـ تقصد أول ما تقصد إلى مناهضة الاحتلال الأجنبي بجميع أشكاله، وتهدف إلى رفع نيره عن العالم الإسلامي كله عن طريق ثورة الشعوب، وبث روح العزة القومية على أساس العقيدة الدينية الصحيحة، كما تستهدف خلق الأمل في النجاح مكان اليأس، وتوثيق الصلات بين الشعوب الإسلامية كلها، لتتعاون على دفع أذى الأجنبي عنها، والتخلص من المستبدين الظالمين من أهلها، وتأسيس الحياة الاجتماعية والسياسية على أصول الإسلام الأولى: من إعداد للسلاح، ومقابلة القوة بالقوة، وطرح العقائد الدخيلة التي تدعو إلى الاستسلام، مثل رمي العبء كله على القضاء والقدر، وإفهام الشعوب أن الإسلام في شكله لا يتنافى مع المدنية، ولا يعوق التقدم أو الوصول إلى ما وصلت إليه الأمم الأخرى(
[25]).
ومن معالم الإصلاح السياسي عند الأستاذ الإمام أنه كان يحقر الملوك ويُجرِّئ الشعوب عليهم، يقول الشيخ الغزالي وكأنه يصف واقعنا اليوم: قد كانت ثورات الحرية في الغرب لا دين لها، أما ثورات الحرية في الشرق الإسلامي فإن الإسلام الحق كان ملهب نيرانها، وموقف جمال الدين ومحمد عبده من تحقير الملوك وتجريء الشعوب عليهم، وتزكية الثورات على الطغيان في كل قطر إسلامي، ذلك كله معروف ومدروس، إلا أن الاستعمار الغربي وبما يكنه من حقد على الإسلام آزر ملوك الشرق ضد هياج الشعوب المستيقظة، وعمل على إبقاء الأوضاع المعوجة، لتزيد المسلمين مرضا على مرض(
[26]).
وعبارات محمد عبده في التقليل من شأن محمد علي معروفة، وقد نقل الشيخ الغزالي بعضا منها، من ذلك: لا أظن أحدا يرتاب ـ بعد عرض تاريخ محمد علي ـ على بصيرته أن هذا الرجل كان تاجرا زارعا، وجنديا باسلا، ومستبدا ماهرا، ولكنه كان لمصر قاهرا، ولحياتها الحقيقية معدِمًا(
[27]).

سادسا: محاربة مدرسته:
وليس بمستغرب ـ بعد هذا العرض من جوانب الإصلاح خاصة السياسي ـ أن تلقى هذه المدرسة وأعلامها العديد والكثير من الانتقادات الشديدة والهدامة، فالقوى الشريرة سواء في الداخل أو الخارج دائما تعترض الخير الدافق، وبقدر قيمتك يكون النقد الموجه لك، يقول الشيخ الغزالي: إن مدرسة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا من أجلّ المدارس الفكرية في تاريخ الإسلام، وهناك جهود مسعورة بين السلفيين"!" لتلويث سمعتهم واتهام عقائدهم وجعلهم جواسيس على الإسلام، فهل هذه سلفية؟ وهل يلام من يُعرِّي أصحابها؟ من حقي أن أقسو على جهلة يتطاولون على غيرهم يبغون الإجهاز عليه، ماذا يبقى للإسلام من ضياع رجاله، أو تحقيرهم والحط من شأنهم؟(
[28]).
ومن التهم التي وجهت لمحمد عبده أنه اتصل بالإنجليز وتعاون معهم، يقول الشيخ الغزالي: فقلت: إن كانت علاقته بالقوم عن محبة لهم وولاء فقد ارتد عن دينه، وحبط عمله، فهل كان ماضي الرجل ومستقبله يرشحه لهذه التهمة؟(
[29]).
بل بلغ الهجوم عليه حد اتهامه بالكفر، يقول الشيخ الغزالي: ولم يكن غريبا أن يتهم محمد عبده بالكفر وإنكار كرامات الأولياء، والخروج على آراء الفقهاء، بل لقد اتهم بترك الصلاة، وأحسبه كان سيتهم بأمور أخرى لو كان في ريعان الشباب.
ومع ذلك فقد مضى الرجل في طريقه بقوة، ونشأ عن حركته ازدهار علمي وأدبي وسياسي نقل الأمة الإسلامية إلى طور آخر من أطوار الحياة والكفاح لم تشهده من ألف عام(
[30]).
ما أحوجنا في هذا العصر إلى هذا المشروع الفكري المتميز الذي ركز على إصلاح الأصول والمؤسسات التي تعيد بناء الشخصية الإسلامية وتنشئها خلقا آخر، والذي شمل ميادين عديدة تعليمية وسياسية واجتماعية وفكرية رشحت الأستاذ الإمام محمد عبده أن يكون مهادا لانطلاق الحركات الإسلامية بعده، ورائدا لمشروع الوسطية الإسلامية بين إفراط الجمود والتقليد وتفريط التغريب والعلمنة.
([1]) من مقال للدكتور عمارة في مجلة وجهات نظر بعنوان: محمد عبده مشروع حضاري للإصلاح بالإسلام عدد يوليه 2005م.
([2]) انظر: علل وأدوية: 70.
([3]) السابق: 91.
([4]) الغزو الثقافي يمتد في فراغنا: 53.
([5]) انظر مثلا: الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية: 15، ونظرات في القرآن: 146، 204، ودفاع عن العقيدة والشريعة: 90-91، 177، ومع الله: 47، الإسلام والطاقات المعطلة: 59، ومعركة المصحف: 10-11، وتراثنا الفكري: 177، حقوق الإنسان: 65، وليس من الإسلام: 52، والغزو الثقافي: 36، والسنة النبوية: 76، ومائة سؤال عن الإسلام: 263، 309، 402، وخطب الشيخ الغزالي: 3/222، 5/182.
([6]) في موكب الدعوة: 95.
([7]) تأملات في الدين والحياة: 22.
([8]) قضايا المرأة: 17، وعلل وأدوية: 72،92.
([9]) علل وأدوية: 84.
([10]) ركائز الإيمان: 146.
([11]) علل وأدوية: 72، 86.
([12]) الحق المر: 2/163، 3/138.
([13]) الحق المر: 5/4.
([14]) الحق المر: 3/212.
([15]) علل وأدوية: 72.
([16]) المحاور الخمسة: 17.
([17]) سر تأخر العرب والمسلمين: 62.
([18]) علل وأدوية: 72.
([19]) مع الله: 141.
([20]) معركة المصحف: 186.
([21]) مستقبل الإسلام خارج أرضه: 59.
([22]) معركة المصحف: 252.
([23]) معركة المصحف: 189، 200، وانظر: حصاد الغرور: 146.
([24]) في موكب الدعوة: 10.
([25]) معركة المصحف: 10-11، وانظر: علل وأدوية: 83.
([26]) في موكب الدعوة: 99.
([27]) تأملات في الدين والحياة: 24. وقال عنه أيضا: "أخذ يقرب الأسافل كأنما يحن إلى عرق فيه". علل وأدوية: 92.
([28]) من معالم الحق: 188، وانظر الفساد السياسي: 80، وعلل وأدوية: 70، و72، 86.
([29]) علل وأدوية: 91.
([30]) السابق: 93.

ليست هناك تعليقات: