الأربعاء، 23 يوليو 2008

مشكلة الغذاء في العالم.. رؤية شرعية

مشكلة الغذاء في العالم.. رؤية شرعية
لا يصح أن نتناول أي مشكلة عالمية تخص العالم عامة أو العالم الإسلامي على وجه الخصوص من أي جهة شرعية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، دون النظر إلى الظرف الحضاري الذي تمر به الأمة، أو دون النظر إلى طرفي العالم، الغالب والمغلوب. فكل مشكلة سواء أكانت دينية أم اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية لابد أن يرجع أساسها إلى ضعف الأمة الإسلامية . ولا يصح أن يكون التناول لأي مشكلة من المشكلات جزئيا أو من زاوية واحدة، إذ يصعب أن تنفصل الرؤية الشرعية عن الرؤية الاقتصادية عن الرؤية السياسية عن الرؤية الاجتماعية في تناول أي مشكلة من المشكلات لا سيما في هذا العالم الذي تميز بالتعقيد في منظوماته، والتشابك في علاقاته. ولحل هذه المشكلة لابد من حلول آنية فورية تسد الرمق وتغيث الملهوف وتقيم صلب الشعوب والأمم التي تموت جوعا، وحلول أخرى مستقبلية تجنب هذه الشعوب على المدى البعيد الوقوع في مثل هذه الأزمة، وتضمن لها الثراء والغنى، وأن تكون يدها العليا وليست السفلى.

حلول آنية فورية

لا نستطيع أن ننتقل إلى الحلول البعيدة المدى قبل أن نعالج الجراح القائمة التي تنزف، ونحفظ الأرواح التي تزهق، إذ إن التخطيط المستقبلي دون حلول عاجلة لما نراه اليوم يعرضنا لفقدان الكثير والكثير: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(المائدة: 32).
فلابد من إغاثة هؤلاء إستغاثة فورية من أجل استنقاذهم بإرسال الأغذية التي تسد رمقهم، والملابس التي تستر عوراتهم، والمساكن التي تؤويهم، وكل ما يضمن لهم حد الكفاية من العيش الكريم.
وفي نصوص القرآن الكريم ما يحض على هذا بل يوجبه ويجعله فريضة، ويتوعد من لم يقم به أو يصد عنه، قال تعالى عن صفات الأبرار: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8).
وذكر أن دعَّ اليتيم وعدم الحض على إطعام المسكين من علامات من يكذب بالدين، فقال في سورة الماعون: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}.
وفي سورة الفجر، يوضح حقائق التصور، وأصول النظر في قضية المنع والمنح: {كَلا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}.
وعن أسباب ما يقع فيه من يؤتى كتابه بشماله قال القرآن: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ. وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}(سورة الحاقة 23- 27).
فانظر كيف كان جزاؤه طعاما من غسلين في مقابل أنه كان لا يحض على طعام المسكين، يقول صاحب الظلال تعقيبا على هذه الآيات: "وهي تكملة الإعلان العلوي عن مصير ذلك الشقي. فلقد كان لا يؤمن بالله العظيم، وكان لا يحض على طعام المسكين. فهو هنا مقطوع (فليس له اليوم ها هنا حميم) وهو ممنوع: (ولا طعام إلا من غسلين)، والغسلين هو غسالة أهل جهنم من قيح وصديد! وهو يناسب قلبه النكد الخاوي من الرحمة بالعبيد! طعام (لا يأكله إلا الخاطئون)، المذنبون المتصفون بالخطيئة، وهو منهم في الصميم!".

ثم يقول في كلمات معبرة عن واقعنا: "فذلك هو الذي يجعله الله مستحقاً للأخذ والغل والتصلية والسلسلة التي ذرعها سبعون ذراعاً في الجحيم. وهو أشد دركات جهنم عذاباً.. فكيف بمن يمنع طعام المسكين ومن يجيع الأطفال والنساء والشيوخ، ومن يبطش بطشة الجبارين بمن يمد إليهم يده باللقمة والكساء في برد الشتاء؟ أين يذهب هؤلاء، وهم يوجدون في الأرض بين الحين والحين؟ وما الذي أعده الله لهم وقد أعد لمن لا يحض على طعام المسكين، ذلك العذاب في الجحيم؟".

وفي نصوص السنة النبوية ما يؤكد هذا التوجه القرآني، ويبين أن المؤمنين أمة واحدة، القوي فيها يحمل الضعيف، والغني فيها لا يترك الفقير، فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِم... (رواه أبو داود: 2371).

وفي سياق آخر يبين هذه الرابطة التي تجمع بين المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم، فعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى". رواه مسلم:( (4685
إلى غير ذلك من نصوص في هذا الشأن الذي لا يحتاج لجمع نصوص ولا لحشد أدلة، لأنه يبلغ في الشرع حد التواتر، ويعد في الدين من الأصول والكليات، وقبل هذا كله فهي حاجة إنسانية محضة، يتحرك لها الناس بدافع الإنسانية فضلا عن دافع الدين.
وإذا كان الشرع قد أمر بحفظ مشاعر الحيوان ومراعاتها، فكيف بعدم حفظ نفوس بني آدم من الهلاك وأرواحهم من الإزهاق؟ وإذا كانت امرأة دخلت النار في هرة حبستها، ورجل دخل الجنة في كلب سقاه، فماذا عن إنقاذ نفوس بشرية معصومة ومحترمة، ومشرفة ومكرمة بنفخة من روح الله؟
من هذا كله يتبين وجوب إغاثة الملهوفين، وضرورة سد رمق الجائعين، ويتأكد هذا الوجوب للدول المحتاجة على الدول المجاورة، فالرسول ۖ حينما أوصى بالجار وظل يوصي به حتى ظن بعض الصحابة أنه سيورثه من تركة جاره، كان يشير إلى معنى التكافل والتضام والتلاحم بين الجيران، ليصير المجتمع المسلم متماسكا، قوي البنيان شديد البأس.
وليس معنى الجوار أن يكون البيت ملاصقا للبيت على المستوى التكافل الإجتماعي والتخطيط المشترك فريضة إنسانية ... لإنقاذ ملايين البشر الفردي فقط، بل هو الوطن مجاور للوطن والقطر بجانب القطر والدولة جارة للدولة، فيصدق الجوار على الدول والأمم والشعوب كما يصدق على الأفراد سواء بسواء، ومن هنا كان من حق الدول الفقيرة الجائعة على جيرانها من الدول الغنية الثرية هذا الحق الذي يفرضه الدين، ويحتمه الواقع، وتوجبه كل معاني الإنسانية.

حلول مستقبلية .
وأعني بهذه الحلول أن يجتمع الخبراء والمتخصصون في كل مجال من أجل وضع خطط عملية ومشاريع طويلة المدى بغية تجنيب هذه البلاد الوقوع في مثل هذه الأزمات، وهذه الخطط أمر مقرر في الإسلام، ونحن نقرأ في القرآن الكريم عن خطة اقتصادية خمس عشرية وضعها يوسف عليه السلام لتجنيب مصر هذه المشكلات، فقال القرآن في سورة يوسف: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.((47 -49
وحتى لا يكون كلامنا استنباتا للبذور في الهواء لابد من توافر تربة سياسية واجتماعية واقتصادية تقبل هذا التخطيط المستقبلي وتستوعبه، فلن يتم هذا إلا ببث الوعي الفردي والمجتمعي والدولي بأهمية التعاون بين بني البشر عموما، وبين المسلمين خصوصا، ولو كانت روح الشريعة الإسلامية موجودة في واقعنا لأخرج الأغنياء صدقات أموالهم لترد على الفقراء، ثم من حق الحاكم بعد ذلك أن يفرض وظائف مالية توفر حد الكفاية للمجتمع.
ونحن المسلمين عندنا في عالمنا العربي والإسلامي ما يكفي لتوفير حد الكفاف، بل ما يوفر الثراء والغناء والإفراغ من دلونا في دلاء العالم كله، فمثلا دول الخليج تمتلك الأموال، والسودان تملك الأراضي الزراعية، ومصر تملك الأيدي العاملة.

من حق الدول الفقيرة على الدول الغنية إطعامها وسد رمقها
وفي كل وطن يوجد العلماء والخبراء والمتخصصون، فيحدث هذا النوع من التكامل والتكافل والتناغم الذي يحقق للأمة العربية الوحدة وللعالم الإسلامي القوة والمنعة والثراء، فنأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع، وتكون لنا وحدتنا واستقلالنا ومشاريعنا وخططنا التي تعمل لمصلحتنا ومصلحة شعوبنا.
وبغير هذا التعاون البناء لن يتوفر لنا حد الكفاية، ولن نستقل في التفكير أو اتخاذ القرار، وسنظل ندور في دائرة مفرغة: الشعوب فيها منفصلة عن الحكام، والعلماء متصادمون مع الأمراء، وأعداؤنا يتحكمون فينا ويتصرفون في مقدراتنا وأقواتنا كما يشاءون، ولن نفيق من غفلتنا، أو نصحو من نومتنا، أو نتصدر مكان القيادة والريادة كما كنا من قبل إلا باتباع روح الإسلام واستنزال تعليماته الفردية والجماعية، وعندها ستعيد الأمة مجدها وعزها، وما ذلك على الله بعزيز.

كيف واجه المسلمون الأوائل غلاء الأسعار؟
- في البداية لا بد أن نعلم أن ما مسَّنا في بلادنا من غلاء الأسعار إنما هو بسبب ذنوبنا {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى-30)، ونحن في نعمة إذا نظرنا إلى غيرنا ممن ابتُلِي في أمنِهِ بكوارث طبيعية أو سياسية، وأزمة الغلاء والفقر تواجه العالم كله، وأصابت مجتمعاتنا بشكل واضح، وقد تؤدي- إذا استفحلت- إلى كوارث ونتائج سيئة، وتُنهِك ذوي الدخل المنخفض والفقراء، وتؤدي إلى الركود الاقتصادي وعزوف الأفراد عن الشراء.
في زمن سيدنا عمر بن الخطاب اشتكى الناس غلاء السلع، وخاصةً اللحم، فعندما سألوه، قال لهم: أرخصوه أنتم.. فعَجِبوا وقالوا: كيف ونحن لا نملكه؟! فأجابهم: اتركوه لمن يملكه!

وقد غلت الأسعار في تاريخ الأمة أواخر عهد بني العباس، وعظُم البلاء ببغداد حتى أكلوا الجِيَف، وضرب الغلاء بعض البلاد كمصر، وحصل هلاك كبير، وقد وضعت الشريعة الأحكام التي تقي من هذه الأزمة؛ ففي أوقات الرخاء حثَّ الإسلام على الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة، وهذا من شأنه أن يقلِّل الطلب فينخفض السعر، ويقل الطلب على السلع الباهظة الثمن، وشراء المنتجات البديلة معتدلة السعر، وإذا كان هذا في حالة الرخاء فما بالنا في حالة الغلاء؟!

وحدث في زمن آخر، زاد سعر الزبيب واشتكى الناس أيضًا، فقال لهم الحاكم: أبدلوه بالتمر؛ لوفرته، ورخص ثمنه، وقيمته الغذائية العالية.
التصنيف الرئيسيملف العددأزمة الغذاء
بقلم الكاتب: وصفي عاشور أبو زيد - مصر

حكم إجهاض الحمل الناتج من اغتصاب

حكم إجهاض الحمل الناتج من اغتصاب
يحدث في كثير من الأحيان أن تغتصب نساء مسلمات وبخاصة في الحروب كما حدث في البوسنة والهرسك، وكذلك في الشيشان وغيرهما، وقد حدث ذلك للنساء في المعتقلات وبخاصة في سجون الطغاة على أيدي الزبانية، فما حكم إجهاض الجنين الذي تشعر المرأة المسلمة المغتصبة بحركته في أحشائها: هل يحرم إجهاضه بإطلاق، أم يباح إجهاضه بإطلاق، أم يفرق بين ما قبل نفخ الروح وما بعده، ولا سيما في حالات العذر الظاهر؟

يقول الشيخ يوسف القرضاوي مجيباً على سؤال وجه إليه من بعض نساء المسلمين المغتصبات في البوسنة والهرسك: أحب أن أؤكد أولاً: أن هؤلاء النسوة من أخواتنا وبناتنا، ليس عليهن أي ذنب فيما حدث لهن، ما دمن قد رفضن وقاومن في أول الأمر، ثم أكرهن عليه تحت أسنَّة الرماح، وضغط القوة الباطشة، وماذا تصنع أسيرة أو سجينة مهيضة الجناح، أمام آسر أو سجان مدجج بالسلاح؟ لا يخشى خالقًا، ولا يرحم مخلوقًا؟!
والله تعالى قد رفع الإثم عن المكره فيما هو أشد من الزنى، وهو الكفر، والنطق به، قال تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)· (النحل: 106)·
بل إن هؤلاء البنات والأخوات يؤجرن على ما أصابهن من البلاء، إذا تمسكن بإسلامهن الذي ابتلين وامتحن به، واحتسبن ما نالهن من الأذى عند الله عز وجل، وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: >ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولاهمِّ ولا حزن، ولا أذى ولا غمِّ ـ حتى الشوكة يشاكها ـ إلا كفَّر الله بها من خطاياه<· رواه البخاري: في كتاب المرضى· باب: ما جاء في كفارة المرض· فإذا كان المسلم يثاب في الشوكة يشاكها، فكيف إذا انتهك عرضه أو لوِّث شرفه؟!

أما إجهاض الحمل، فإن الأصل في الإجهاض هو المنع، منذ يتم العلوق، أي منذ يلتقي الحيوان المنوي الذكر بالبيضة الأنثوية، وينشأ منهما ذلك الكائن الجديد، ويستقر في قراره المكين في الرحم·
فهذا الكائن له احترامه وإن جاء نتيجة اتصال محرَّم كالزنى، وقد أمر الرسول المرأة الغامدية التي أقرت بالزنى واستوجبت الرجم، أن تذهب بجنينها حتى تلد، ثم بعد الولادة أن تذهب به حتى يُفطم·
وهذا ما اختاره للفتوى في الحالات العادية، وإن كان هناك من الفقهاء من يجيز الإجهاض إذا كان قبل مضي أربعين يومًا على الحمل، عملاً ببعض الروايات التي صحت بأن نفخ الروح في الجنين يتم بعد أربعين أو اثنين وأربعين يومًا·
بل من الفقهاء من يرى الجواز إذا كان قبل مضي ثلاث أربعينات أي قبل مئة وعشرين يومًا، عملاً بالرواية الأكثر شهرة بأن نفخ الروح يتم عند ذلك·

والذي نرجحه هو ما ذكرناه أولاً، ولكن في حالات الأعذار لا بأس بالأخذ بأحد القولين الآخرين، وكلما كان العذر أقوى كانت الرخصة أظهر، وكلما كان ذلك قبل الأربعين الأولى كان أقرب إلى الرخصة·
ولا ريب أن الاغتصاب من عدو كافر فاجر، معتد أثيم، لمسلمة عذراء طاهرة ـ عذرٌ قوي، لدى المسلمة ولدى أهلها، وهي تكره هذا الجنين ـ ثمرة الاعتداء الغشوم ـ وتريد التخلص منه·· فهذه رخصة يفتى بها للضرورة، التي تقدر بقدرها·
ونحن نعلم أن هناك من الفقهاء من شدد في الأمر، ومنع الإسقاط ولو بعد يوم واحد من الحمل، بل هناك من حرَّم لمجرد الامتناع الاختياري عن الإنجاب، بمنع الحمل من قبل الرجل أو المرأة أو من كليهما، مستدلين بما جاء في بعض الأحاديث من تسمية (العزل) بـ (الوأد الخفي)· فلا غرو أن يُحرَّم الإجهاض بعد الحمل، والأرجح هو التوسط بين المتوسعين في الإجازة، والمتشددين في المنع·
والقول: إن (البيضة) مذ يلقحها الحيوان المنوي تصبح (إنسانًا) إنما هو لون من (المجاز) في التعبير، فالواقع أنها (مشروع إنسان)، صحيح أن هذا الكائن يحمل الحياة، ولكن الحياة درجات ومراتب، والحيوان المنوي نفسه يحمل الحياة، والبييضة قبل تلقيحها أيضًا تحمل الحياة، ولكن هذه وتلك ليست هي الحياة الإنسانية التي تترتب عليها الأحكام·
ومن ثم تكون الرخصة مقيدة بحال العذر المعتبر، الذي يقدره أهل الرأي من الشرعيين والأطباء والعقلاء من الناس، وما عدا ذلك يبقى على أصل المنع·

على أن من حق المسلمة التي ابتليت بهذه المصيبة في نفسها، أن تحتفظ بهذا الجنين، ولا حرج عليها شرعًا، كما ذكرت، ولا تجبر على إسقاطه، وإذا قدر له أن يبقى في بطنها المدة المعتادة لحمل ووضعه، فهو طفل مسلم، كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم: >كل مولود يولد على الفطرة··· <· رواه البخاري: كتاب الجنائز· باب: ما قيل في أولاد المشركين· والفطرة هي التوحيد وهي الإسلام·

ومن المقرر فقهاً: أن الولد إذا اختلف دين أبويه، يتبع خير الأبوين ديناً، وهذا فيمن له أب يعرف، فكيف بمن لا أب له؟ إنه طفل مسلم بلا ريب·

وعلى المجتمع المسلم أن يتولى رعايته والإنفاق عليه، وحسن تربيته، ولا يدع العبء على الأم المسكينة المبتلاة، والدولة في الإسلام مسؤولة عن هذا الرعاية بوساطة الوزارة أو المؤسسة المختصة، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: >كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته<· رواه البخاري: كتاب الجمعة· باب الجمعة في القرى والمدن، ومسلم: كتاب الإمارة· باب فضيلة الإمام العادل· انظر فتاوى معاصرة للشيخ القرضاوي: 2/609 ـ 216· دار الوفاء· ط ثالثة· 1415هـ·

ويقول الدكتور >عبد الفتاح محمود إدريس< ـ أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر ـ مستدلا بحديث الغامدية ومعلقا عليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستفصل منها عما إذا كان زنا ماعز بها قد تم برضاها أو بإكراهها عليه، كما لم يستفصل منها إن كان حملها في أشهره الأولى أو بعد ذلك، فلو كان حكم الإجهاض يختلف باختلاف ظروف ارتكاب الفاحشة وعمر الجنين لاستفصل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولَبَيَّنَ لها ـ وقد ذكَرَت أنها حُبلى ـ أن لها أن تُجهض هذا الجنين إن كان عمره كذا أو نحو ذلك، لأنه وقت الحاجة إلى البيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة إليه لا يجوز، فلما لم يستفصل ولم يبين دل على حرمة إجهاض الجنين ولو كان من سفاح، أياً كانت ظروف ارتكاب الفاحشة أو عمر الجنين·

إن الجنين قبل نفخ الروح فيه له حرمة، وإن لم تكن كحرمة من نُفخت فيه الروح، وهذه الحرمة تقتضي حرمة الاعتداء عليه، فإذا نُفخت فيه الروح بعد مضيّ مئة وعشرين يومًا من بدء الحمل به فإن الاعتداء عليه في هذه الحال يكون قتلاً لنفس حرَّم الله قتلها إلا بالحق، وليس من الحق إزهاقُها لمجرد إتيانها من سفاح· من فتوى للدكتور >عبد الفتاح إدريس< على موقع إسلام >أون لاين · نت<·

ولا شك أن الأصل حرمة الإجهاض، ولا سيما إن نفخت فيه الروح، وما دام للفقهاء اختلاف قبل نفخ الروح ففي مثل حالات الأعذار ـ التي منها بلا شك اغتصاب العدو لها، أو اغتصاب الزبانية لها في سجون الطغاة ـ لا بأس بالأخذ بأحد القولين الآخرين، كما يقول الشيخ القرضاوي، استثناء من الأصل، وإباحة للمحظور بالضرورة القاهرة التي تقدر بقدرها، وكلما كان العذر أقوى كانت الرخصة أظهر، وكلما كان ذلك قبل الأربعين الأولى كان أقرب إلى الرخصة، على أن لها أن تحتفظ به في بطنها، ولا حرج عليها، وعلى المجتمع أن يتولاه، وألا ينظر إلى هذه المرأة المكسورة نظرة سوء· والله أعلم·
التصنيف الرئيسيأحكام
بقلم الكاتب: وصفي عاشور أبو زيد ـ باحث في العلوم الشرعية ـ جامعة القاهرة

الثلاثاء، 22 يوليو 2008

الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.......المحدث والمحقق الأصيل

الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.......المحدث والمحقق الأصيل
بقلم وصفي عاشور أبو زيد
كان يكفي أن نسمع ونرى ما يحدث من مجازر وحشية في الفلوجة بالعراق، وما يحدث من انتهاكات صارخة في أرض الرباط: فلسطين، وما تصنعه فيهما آلة الحرب الحديثة في البيوت والمزارع والمساجد‏,‏ لتكون الضحية عشرات الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، بالإضافة إلا ما يحدث للإسلام وأهله في كل بلاد العرب والمسلمين من فساد وإفساد في الداخل، وكيد ومؤامرات من الخارج، كانت تكفي مشاعرنا هذه المشاهد المحبطة غير أن الأقدار شاءت ـ ولا راد لمشيئتها ـ أن تفجعنا بوفاة عالم جليل، هو فضيلة الشيخ "عبد القادر الأرناؤوط" الذي أسلم الروح إلى خالقها فجر يوم الجمعة 13 شوال 1425هـ/ 26 نوفمبر 2004م، في دمشق إثر نوبة قلبية مفاجئة أصيب بها عن عمر يناهز ستة وسبعين عاما قضاها في التعلُّم والتعليم والتحقيق والدعوة، وأُديت الصلاة عليه في جامع "زين العابدين" بحي الميدان في دمشق بعد صلاة الجمعة، وبرحيل الشيخ الجليل يفقد العالم الإسلامي عالمًا كبيرًا أثرى الفكر الإسلامي والمكتبة الإسلامية بالعديد من الكتب والتحقيقات العلمية الكبيرة.المولد والنشأة والتعليم:الاسم الحقيقي للشيخ ـ رحمه الله ـ هو "قَدري بن صوقل بن عبدول بن سنان"، واشتهر بالأرناؤوط، لأنه اللقب الذي أطلقه الأتراك على كل ألباني، حيث وُلد في قرية "فريلا" (VRELA) في إقليم كوسوفا عام 1928م.وقد هاجر والد الشيخ إلى دمشق بصحبة عائلته، بسبب اضطهاد الصرب لمسلمي ألبانيا الذي بلغ أوجه في ذلك الوقت. وكان عمر الشيخ الأرناؤوط آنذاك لم يتجاوز ثلاث سنوات. يقول الشيخ: "وفي السنة الأولى تعلمنا شيئا من اللغة العربية، ثم دخلت مدرسة ابتدائية، وكان هناك مدرسة اسمها: مدرسة الأدب الإسلامي، وكان مديرها الشيخ أمين الحنفي؛ توفي منذ زمن رحمه الله، ولكن درست فيها سنة واحدة". وانتقل بعدها إلى مدرسة "الإسعاف الخيري" حتى أنهى الصف الخامس الابتدائي سنة (1363هـ-1942م)، وكان الصف الخامس آنئذٍ هو نهاية المرحلة الابتدائية يقول الشيخ: "وكان في ذلك الوقت الذي يتخرج من الصف الخامس يأخذ شهادة ابتدائية كانوا يسمونها (سرتفيكا) باللغة الفرنسية، فأنا ما أخذت شهادات مدرسية ولا درست دراسة أكاديمية، وإنما أخذت هذه الشهادة الابتدائية فقط".وذلك في وقت كانت الحاجة إلى المال تضغـط عليه وعلى أسرته؛ مما اضطره إلى ترك العلم من أجل العمل لسد حاجته المالية، فعمل في تصليح الساعات في محلة "المسكية" بدمشق.وطلب العلم في بداياته على الشيوخ 'نوح نجاتي' والد الشيخ 'ناصر الدين الألباني'، والشيخ "سليمان غاوجي الألباني" رحمه الله حيث درَّسه الفقه وعلم الصرف، والشيخ "صبحي العطار" رحمه الله، والشيخ "محمود فايز الديرعطاني" رحمه الله، والشيخ "محمد صالح الفرفور".نبوغه في علم الحديث ومجال التحقيق:وقد اهتم الفقيد ـ رحمه الله ـ بعلم الحديث ومصطلحه ومصنفاته منذ الصغر، حتى صار متمكنا منه تماما بعد مطالعات مطولة في مصنفات السنة المتعددة، ولم يعتمد الشيخ ـ رحمه الله ـ منهج التأليف، ولذلك فإن مصنفاته التأليفية قليلة، لم تتجاوز بعض الرسائل الصغيرة، منها رسالة بعنوان: "الوجيز في منهج السلف الصالح" وله أيضا رسالة بعنوان "وصايا نبوية" شرح فيها خمسة أحاديث نبوية، وقد اختارها في العقيدة والأخلاق.ولكنه ـ رحمه الله ـ اعتمد التحقيق منهجاً له، حيث يقول حول ذلك: "ذلك لأن المؤلفات كثيرة، والتحقيق أولى، وذلك حتى نقدم الكتاب إلى طالب العلم محققا ومصحّحا حتى يستفيد منه".وقد تفرغ لأعمال التحقيق بعد أن توقف عن الخطابة لأسباب سياسية فأخرج دررا من تراثنا العريق، يقول بعدما توقف عن الخطابة: "بعد ذلك جلست وقمت بتحقيق بعض كتب الحديث ولله الحمد، يعني تقريبا 40 إلى 50 كتابا حديثيا حتى الآن حققتها، أما التآليف فليس لي إلا بعض الرسائل، وأما بقية الأشياء فهي عبارة عن تحقيقات".ومن أعماله الجليلة التي كانت سببا في شهرته لما اتصفت به من ضخامة وجودةٍ تحقيقُه لكتاب: "جامع الأصول" لابن الأثير، يقول: "وكنت حققت في الشام كتاب جامع الأصول لابن الأثير الجَزَري، واشتغلت به خمس سنوات في تحقيقه، وهذا الكتاب يجمع موطأ الإمام مالك، والبخاري ومسلم وأبا داود والترمذي والنسائي، فعملت به، ورجعت إلى كثير من الكتب أثناء تحقيقي لمثل هذا الحديث".ومن أهم الكتب التي حققها الشيخ بمفرده: كتاب التوابين لابن قدامة المقدسي. وكتاب الأذكار للنووي. وكتاب الشفا في تعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض. و"تحفة المودود" لابن القيم، كما أخرج بالاشتراك مع الشيخ شعيب الأرناؤوط مجموعة قيمة من كتب التراث أهمها: زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي في 9 مجلدات، والمبدع في شرح المقنع، لابن مفلح في 8 مجلدات، وروضة الطالبين، للنووي في 12 مجلدا، وزاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 5 مجلدات. وجلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام لابن القيم مجلد، وغيرها.من آرائه الحديثية:ليس للشيخ عبد القادر منهج يستقل به عن محدثي الأمة، فطريقته في المصطلح وفي التحقيق تحت مظلة علمائنا الأفذاذ، فكان يفضل العمل بآراء علماء الحديث وشرطه، وهو لذلك يأخذ برأي الإمام النووي رحمه الله في تصحيح الحديث وتضعيفه الذي يقول فيه: "يجوز لمن ملك خبرة بهذا الفن وقويت معرفته أن يصحح ويحسن حسب قواعد مصطلح الحديث عند العلماء"، ففي الحديث المرسل -مثلا– يصف منهجه فيقول: "أعمل برأي الإمام الشافعي رحمه الله الذي يقول بأن المرسل ضعيفه لا يُعمل به إلا إذا وجد للحديث طرق وشواهد، فعند ذلك يعمل به".وإذا كان الخبر ضعيفا فإنه يبحث في طرقه المختلفة وشواهده، فإذا تقوى بتعدد الطرق، أو بالشواهد حكم عليه بالصحة أو الحسن تبعا لمنزلة تلك الطرق والشواهد، وما لم يجد له ما يقويه يحكم عليه بالضعف معززا ما ذهب إليه الحفاظ من أئمة الحديث الذين عُنوا بذلك.جهوده في الدعوة إلى الله:ولم تقتصر جهود عبد القادر الأرناؤوط على اهتمامه بعلوم الحديث وتحقيق التراث الإسلامي، بل كان في حلبة الصراع مع الفئات الضالة، والأفكار المنحرفة من خلال الوسائل المتعددة للدعوة إلى الله تعالى تدريسًا وخطابة وغير ذلك، يقول: "كنت إماما في عدة المساجد، وكنت خطيبا في أكثر من مسجد، مسجدين أو ثلاثة، في المدة الأخيرة كنت خطيبا في جامع اسمه الجامع المحمدي، وهذا عندما استلمته كان جديدا، فتردد عليّ كثير من الشباب، وكانوا يسمعون الخطب ويسألون، وكنت دائما عقب خطبة الجمعة أعمل أسئلة وأجوبة، فيأتي الشباب فيسألون ويُجابون على هذه الأسئلة".ولقد كان الشيخ الأرناؤوط ـ الذي مات وخلف من الأولاد أحد عشر: ثمانية ذكور، وثلاث بنات ـ كبير المقام عند أهل العلم، يعرفون له قدره، يعرف لهم قدرهم، ويتأدب معهم بأدب الخلاف، ويتأدبون معه، ولا أدل على ذلك من علاقته بالشيخ ناصر الدين الألباني والشيخ عبد العزيز بن باز، رحم الله الجميع، وأخلف الأمة فيهم خيرا(*).
* للاستزادة من أخبار الشيخ الشخصية والعلمية هناك رسالة في كلية الشريعة بدمشق بعنوان: "كشف اللثام عن أحد محدّثي الشام؛ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط".
رحيل خادم السنة حسام الجزار يقول... إن نور النبوة يضيء لنا طريقنا، ويأخذ بأيدينا إلى غايتنا المنشودة، ولقد سخر الله لنا من يحمل إلينا هذا النور، لا يسألوننا أجرًا على ما يقومون به، بل يريدون وجه الله ـ نحسبهم كذلك ـ منهم من رحل عنا، ومنهم من ينتظر، ولقد كان الشيخ عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله ممن رحل عنا، بعد أن حمل إلينا من نور النبوة قبسًا، أضاء لنا طريقنا، فمصيبتنا فيه كبيرة، نرجو من الله أن يأجرنا فيها، ويخلف لنا خيرًا منها.

لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير

لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير
24-3-2004
بقلم وصفي عاشور أبو زيد
باحث في العلوم الشرعية ـ جامعة القاهرة
لم أتمالك نفسي عندما سمعت خبر استشهاد شيخ المجاهدين، وحامل لواء الجهاد، ورمز العزة والكرامة للأمة العربية والإسلامية الشيخ أحمد ياسين، بل انسابت دموعي دون أن أشعر مترحما عليه طالبا من الله أن يتقبله شهيدا.
ووجدتني أتلو قول الله تعالى في سورة آل عمران: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ".
وهكذا تمضي قافلة الشهداء التي يصطفيها الله تعالى حيث الحياة الأبدية، والفرح والاستبشار والرضا الدائم والنعيم المقيم.
إنها عملية تدل على غباء محكم متأصل في رأس شارون وجنوده بكل المقاييس الشرعية، والبراهين الإنسانية، والحجج القانونية المحلية والدولية.
وذلك أن الشيخ ياسين لم يكن سوى رمز للجهاد، وأب روحي للمجاهدين، بلغ من الكبر عتيا، وكان على حافة القبر، لكن الله يأبى إلا أن يختم لهذا البطل حياته بهذه الخاتمة التي تسجل دلالات عديدة في هذا الصدد:

أولاها: أن الرجل كان في كل تصريح يطلب من الله الشهادة غير خائف ولا وجل ولا مختبئ، ولم لا وهو الذي أرسى دعائم الجهاد المعاصر، إنه صدق الله فصدقه الله، ومن يسأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه، ومن ثم فلا ينبغي أن نحزن عليه أبدا، بل نفرح؛ لأنه لم يمت فهو حي عند الله يرزق.

ثانيها: على الرغم من أنه طاعن في السن، ومقعد لا ساق له تحمله ـ ورأسه في الثريا ـ إلا أنه يذهب بكرسيه إلى صلاة الفجر في المسجد، وهو ما لا يفعله كثير من شباب الحركة الإسلامية اليوم وهم بكامل الصحة والعافية، وهذه هي روح الشهداء وأخلاق الشهداء، ولقد كنت كلما رأيت الشيخ ياسين على كرسيه أقول في نفسي: من أراد أن ينظر إلى أخلاق الشهيد وروحه فلينظر إلى هذا الرجل.

ثالثها: أن هذه العملية سيكون لها الأثر الأعظم في نفوس فصائل المقاومة الفلسطينية المختلفة، حيث التجمع والتوحد والاحتشاد جميعا تحت راية واحدة، وقد سمعنا بشائر ذلك حينما صرحت كتائب شهداء الأقصى فور اغتيال الرجل: أن اغتيال الشيخ أحمد ياسين هو اغتيال للرئيس ياسر عرفات.

رابعها: سوف تتحول الأرض إلى نيران وزلازل وبراكين وجحيم تحت أقدام السفاحين وقتلة الأنبياء وناقضي العهود، ولن تهدأ ثائرة الصادقين في كل العالم إلا برؤية رأس شارون إربا إربا، كما توعدت كل فصائل الجهاد، بل كما صرح رئيس الوزراء الفلسطيني نفسه أحمد قريع، مما يخلع عليهم الرعب والفزع والهلع أكثر مما هم فيه.

خامسها: هذه العملية الجبانة واللاإنسانية بكل المقاييس قد أثبتت للعالم كله ـ وحكام العرب في المقدمة ـ بما لا يدع مجالا لأدنى شك، أن اليهود لا خلاق لهم، ولا عهد لهم، ولا أمان لهم، وأن دعاوى السلام والمفاوضات كلها زائفة قد تبخرت تماما، ولا ينفع إلا إعلاء راية الجهاد داخليا وخارجيا.

سادسها: أن شارون أثبت أنه أكفأ وأقوى من حكام العرب والمسلمين جميعا؛ لأنه يقتل بلا حساب ويغتال بلا مراجعة، يده مطلقة لا تقييد عليها، ولا سلطان، مرتكنا إلى السياسات الأمريكية التي تحميه وتؤيده، ولا أدل على ذلك من تصريح وزارة الخارجية الأمريكية الذي صدر عقب اغتيال الشيخ ودعوتها للفلسطينيين والإسرائيليين بضبط النفس، ولم تكلف نفسها أن تدين الحادث ولو تلميحا.

سابعها: أثبت هذا الحادث أن على الحكام العرب والمسلمين أن يتحركوا تحركا إيجابيا قبل أن تطالهم يد شارون والأمريكان، وقبل أن تنفجر الشعوب فلا تستطيع السيطرة عليها، وقبل أن تحدث حالة من الانفلات الأمني يهلك فيها الحرث والنسل.

ثامنها: هذه العملية سوف تجعل العالم كله ـ موافقا ومخالفا للانتفاضة ـ متفهما ومقدرا لأي رد مهما بلغ حده على هذه العملية حتى لو كان برأس شارون ومن حوله، وبالتالي فقد فتحت الباب على مصراعيه لتُفرغ حركات الجهاد طاقاتها، وتُعْمل الضرب والقتل والتدمير بكل ما يمكن، وبأقصى ما تستطيع.

تاسعها: لعلها تعيد حكام العرب إلى صوابهم، وتحمل بعضهم ـ بأضعف الإيمان ـ على مقاطعة السفارات الأمريكية والإسرائيلية وطرد السفراء من كل بلد انتقاما لدم الشيخ، الذي تساقط فرحا بلقاء ربه، وشاكيا إخلاد حكام العرب إلى الكراسي والمناصب، وتركهم للجهاد في سبيله.
لكل هذه الاعتبارات والدلالات نقول ـ بكل ثقة ـ إن هذا الحادث ليس شرا أبدا إنما هو خير على كل الأصعدة وعلى كل المستويات، وسوف يفجر دم الشيخ ياسين بركان الثورة، ويكون لعنة على قاتليه، ولن تتوقف الانتفاضة باستشهاده، بل هي ماضية في طريقها قدما إلى حيث ما رسم لها الله تعالى: إما النصر وإما الشهادة، ونسأل الله أن يلحقنا بالشيخ ياسين على خير، وألا يحرمنا أجره ولا يفتنا بعده، ويغفر لنا وله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإليه المشتكى.
سعى للشهادة فنالها محمد عبد المعطي يقول... في استشهاد الشيخ ياسين درس لشباب الأمة؛ أن يكون الشيخ -هو وأمثاله- قدوة لنا، وأن نقرأ في سيرته، وأن نأخذ من حياته تقويما لحياتنا؛ فقد كان للأمة، مدافعا عن قضيته ووطنه ودينه، فهل سنظل -نحن الشباب- لاهين في حياتنا، غارقين في سباتنا، لا هَمَّ لنا في الحياة، لا ندري من أين جئنا ولا إلى أين المسير، كما هو حال كثير منا؟ إن استشهاد الشيخ ياسين عند عقلاء الشباب -والشيوخ أيضًا- يجب أن يكون نقطة تحول، ودافعا لتصحيح كثير من سلوكياتنا، فإنه رغم عجزه البدني، إلا أنه طلَّق العجز، وتزوج الحماس، فأنجب كتائب عز الدين، مقاومة إسلامية جعلت الله غايتها، والرسول قدوتها، والقرآن شرعتها، والجهاد سبيلها، والموت في سبيل الله أسمى أمانيها. إننا نتعلم من استشهاد الشيخ أن يكون أحدنا صاحب هدف في الحياة، يسعى لتحقيقه، وأن يقوِّم سلوكه، وأن يؤدي كل منا دوره تجاه نفسه، وتجاه ربه، وتجاه دينه، وتجاه أمته، بل تجاه الإنسانية كلها {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. سلام عليك عبد الله رمضان يقول... سلامُ عليكْ(إلى شهيد الأمة الإسلامية الشيخ أحمد ياسين)شعر/ عبد الله رمضان سلامٌ عليكْوليسَ عليهمْ سلامْفمِنْ راحتيكتَفَجَّرَ نَهْرُ الشَّهَادَةْيُروِّي تُرَابَ الوطنْومِنْ رَاحَتيهمْ تَفَجَّرَ نَهْرُ البَلادَةْوبئرُ العَطَنْفنَمْ هَادِئَ البالِ.. نَمْ لا عَلَيكْفدَرْبُكَ نُوروفيهِ نسيرويَحدُو خُطانا زَئِيرإلى أَنْ يعودَ الطريدويهنأَ بالعُش طيرٌ بعيدويسكنَ دَمُّ الشهيدفلا تنسنا عندَ ربِّكولا تنسهم من شكاتكفكُرْسِيكَ أسمىوكلُّ الكراسِي وَضِيعَةْوكُرْسِيكَ أَبْقَىوكُلُّ الكَرَاسِي صَنِيعَةْفلا تَبْتَئِسْ مِنْ أُولاءفهُمْ مِنْ هَبَاءولن تستمرَّ البلاهةولن يستطيلَ الغباءدماؤك نارٌ سَرَتْ في دِمَانَاوعيناكَ نُبْصِرُهَا في الطريقفنلهث خلفَ ابتسامِكوفي خطوِ جندِكَ تَنْسَحِقُ الأرضُ ..تنشقُّ..تبلعُ كُلَّ الغُثَاءوتبقى فلسطينُ في راحتيك سلام عليك فجرا يا فلسطين حسام الجزار يقول... فجرًا يا فلسطينفجرًا اغتيل الشيخ أحمد ياسين، فمن قتلوا؟! قتلوا جسده، وبقيت روحه بيننا تشع فيوضات من حماس، حماس التي ستبقى إن شاء الله حتى تتحرر أرض الأقصى من دنس اليهود، حتى يأتي اليوم الموعود الذي وعدنا ربنا به (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).إن عمليات الاغتيال التي تقودها إسرائيل اليوم ضد قيادات الفلسطينيين قد أثبتت فشلها في كسر إرادة الفلسطنيين في مقاومة هذا الاحتلال، وتعالوا معنا لنرى ذلك من خلال أحداث الماضي فمقولة التاريخ يعيد نفسه مقولة يصدقها الواقع ويشهد لها.فحين نزف دم المصلين ـ فجرًا ـ على أرض الحرم الإبراهيمي، في 15من رمضان المبارك 1414هـ، غلت الدماء في قلوب المسلمين جميعًا. ولكن هذه المشاعر لم تقف عند حدود الغضب الجارف، بل اتخذت جانبًا عمليًّا فتأسست مدرسة في النضال، أسسها مهندس للجهاد ألا وهو المهندس يحيى عياش. الذي أنتج منظومة في فكر النضال ما زال المناضلون يتعلمون منها ويتخرجون فيها، حتى يرى اليهود ثمرة إجرامهم عيانًا واقعًا ملموسًا يذرون عليه دماءهم قبل دموعهم. فهذا جزاء الإجرام.ولم تنته هذه المدرسة باغتيال مؤسسها الشهيد يحيى عياش في عام 1996م بل ظلت تذل دولة بل أقصد عصابات اليهود في فلسطين، عصابات أشاعت أنها لا تقهر.إن اغتيال الشيخ أحمد ياسين هو محنة ومنحة، محنة لـ .... ومنحة للمناضلين للمجاهدين، منحة ليبايعوا الله على الموت في سبيله، فقد آمنوا بكلام ربهم وحديث نبيهم، فهذا هو الطريق هو طريقهم إلى الجنة، جنة الآخرة، بل وطريقهم إلى جنة الدنيا إن أرادوها أيضًا. فالفجر سيأتي حتمًا، وليس علينا إلا أن نبذل وسعنا، لنراه واقعًا، فإن لم نره فلن يضيع الله أجرنا (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).الاسم: حسام محمد الجزارالتخصص: باحث في التاريخ الإسلامي ـ جامعة القاهرةالبريد الإلكتروني: hosaamalgzaar@hotmail.com

توسعة المسعى بين الصفا والمرة ـ رؤية فقهية

توسعة المسعى بين الصفا والمرة
(رؤية فقهية)

وصفي عاشور أبو زيد
باحث بالمركز العالمي للوسطية بالكويت
اتسع الحوار في الآونة الأخيرة في صحف المملكة العربية السعودية وخارجها حول مدى مشروعية التوسعة للمسعى بين الصفا والمروة، وهو ما أدى إلى تشكيك بعض الحجاج والمتعمرين في سعيهم، وظهرت أقوال من هنا وهناك، وأفتى بعضهم بأنه إذا سعى الحاج أو المتعمر في المسعى الجديد فإنه يكون قد ترك واجبا وعليه به دم، بل وصل الأمر ببعض أهل العلم أن ينصحوا من انطلقوا للعمرة ألا يعتمروا إذا لم يفتح المسعى القديم.
وهذا ما يجعلنا نفرد القضية ببعض التأصيل والتفصيل؛ لما للقضية من أهمية لا تخص أهل المملكة فقط بل تعم الأمة الإسلامية جمعاء.

الرأي المانع وأدلته:
ذهب للقول بالمنع ثلة من العلماء وبخاصة معظم أعضاء هيئة كبار العلماء بالمملكة على رأسهم الشيخ صالح الفوزان والشيخ صالح اللحيدان، وفتوى هيئة كبار العلماء صدرت بتاريخ 22-2-1427 هـ حيث أشارت إلى"أن العمارة الحالية للمسعى شاملة لجميع أرضه، ومن ثم فإنه لا يجوز توسعتها، ويمكن عند الحاجة حل المشكلة رأسيا بإضافة بناء فوق المسعى".
ويستدل هذا الفريق على المنع بأن هذا هو المسعى، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه؛ لأنه مشعر، ولا يجوز التصرف في المشاعر بزيادة أو نقص، ولتبق على ما هي عليه، ولا مانع من التوسعة رأسيا، يعني تبنى أدوار عليا، أما عرضيا فلا يجوز.

الرأي المجيز وأدلته:
بينما ذهب بعض أهل العلم على رأسهم الشيخ عبد الله منيع الذي رجع عن فتواه بالمنع، والشيخ سعود بن عبد الله الفنيسان، وغيرهما ـ إلى جواز التوسعة لما بين الصفا والمروة، واستدلوا لذلك بما يلي:
ـ أن المساحة العرضية بين الصفا والمروة مسألة اجتهادية ليس فيها نص قطعي يوقف عنده، بل كل ما نص عليه العلماء هو وجوب الاستيعاب في السعي طولا ما بين جبلي الصفا والمروة، أما عرضه فلم يشر إليه أحد من علماء المذاهب فيما اطلعت عليه، أما المؤرخون فمختلفون في تحديده، كما حكاه ابن كثير في البداية وغيره.
ـ أن جبلي الصفا والمروة في أصلهما أطول وأعرض مما نشاهده في المسعى قبل توسعة الملك عبد الله الحالية، و أن جماعة من كبار السن والخبرة من سكان مكة أدلوا بشهادتهم في المحكمة الشرعية بمكة المكرمة وأكدوا أن جبلي الصفا والمروة أعرض وأكبر، وأنهما ممتدان من الجهة الشرقية، ومن هؤلاء الشهود من كان بيته على الصفا وبعضهم على المروة.
ـ أن التوسعة في الدور الأرضي هي أولى من بناء أدوار عليا؛ فالسعي في الدور الأرضي أسهل على الحجاج والمعتمرين، إذ الصعود للأدوار حيث لا يستطيع كبار السن والعجزة والنساء الصعود حتى مع وضع السلالم الكهربائية وهي معرضة للأعطال والزحام.

الرأي المختار:
قبل أن نذكر رأينا في المسألة يجب أن ننوه إلى أمور:
الأمر الأول: يجب التفريق بين المتفق عليه والمختلف فيه، فالمتفق عليه لا يسع مسلما ردُّه أو الجدال فيه، والمختلف فيه يسعنا فيه ما وسع السابقين من تقبل رأي الآخر، وعدم الإنكار عليه، وعدم جواز إلزام الآخر برأيك ما دام في الأمر متسع.
الأمر الثاني: ينبغي أيضا أن ندرك أن كل جديد في السلوك والأقوال والأفعال لابد أن يثير جدلا ويحدث انقساما، وقد يصل الأمر إلى التشنيع على المخالف في هذا السياق، ولعل سيرة الإمام ابن تيمية العلمية والعملية تثبت هذا، فقد عانى الأمرَّيْن بسبب آرائه التجديدية والإصلاحية، وسجن أيضا.
وليس معنى ذلك أن كل جديد يكون موافقا للشرع، بل ربما يكون الجديد موافقا، وقد يكون مخالفا، فما كان موافقا قبلناه، وما كان مخالفا رددناه، وما كان مختلطا فيه الحق والباطل قبلنا حقه ورددنا باطله، سائرين في هذا كله وراء الدليل القاطع والبرهان الساطع، لكن هكذا جُبل الإنسان على استنكار كل جديد لا سيما إن خالف ما نشأ فيه وتربى عليه.
الأمر الثالث: هو قداسة مشاعر الحج والعمرة، وأن قداسة هذه المشاعر توجب الحذر في الحديث عنها، فيجب التوقف عند النصوص، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة وإجماع الأمة، ولهذا نقدر في الرأي الذي منع غيرته على حرمة المقدسات وصون المشاعر، وعليه فلا يجوز أن نحدث طولا في المسافة بين الصفا والمروة؛ لأن جبلي الصفا والمروة معروفان، ومن ثم فأي طواف خارج إطارهما طولا لا يجوز.

الأمر الرابع: أن توسعة ما بين الصفا والمروة عن طريق إنشاء أدوار عليا فوق الدور الأرضي هو أمر مشروع بل قد يصل إلى حد الوجوب عند اشتداد الزحام وازدياد عدد الحجاج الذين يزدادون ـ بفضل الله ـ عاما بعد عام، ما يؤدي إلى هلاك بعض النفوس، وهذا لا خلاف فيه، أما توسعة ما بين الصفا والمروة عرضا فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء وخاصة علماء المملكة.

الأمر الخامس: أنه كان يجب على أولياء الأمر في المملكة العربية السعودية أن يتركوا الأمر للعلماء أولا قبل أن يختاروا فيه رأيا ثم يفرضوه على العلماء أو يطرحوه للنقاش بعد اختيارهم هم، فيجب أن تترك الحرية كاملة للعلماء ليقولوا رأيهم بتجرد وموضوعية ، ثم إذا ظهر أن الأمر فيه خلاف، فلا مانع أن يختار ولي الأمر أحد الرأيين ويلزم به الناس، فهذا من حقه المقرر شرعا.

ولعل سبب هذا الخلاف هو عدم وجود "نص" مباشر وصريح في المسألة، ولو كان هناك نص لحسم الخلاف، فهي مسألة اجتهادية، نظر كل فريق إلى أدلة اجتهادية رأي بعضهم فيها المنع، ورأي آخرون الجواز، كما أن من أسباب الخلاف: هل جبلا الصفا والمروة المشاهدان داخل المسعى الحالي ممتدان من جهة الشرق أو لا؟ فالمانعون يقولون لا امتداد لهما. والمجيزون يثبتون ذلك، وعند كلا الطرفين إنما يكون السعي بمسامتة عرض الجبلين الصفا والمروة ذهاباً وإياباً.

وإنني أميل إلى رأي المجيزين للتوسعة بين الصفا والمروة عرضا، وفي الدور الأرضي مستندا إلى الأدلة التالية:
أولا: أن المسألة ليس فيها نص ثابت وإلا حسمنا الخلاف، فتبقى المسألة اجتهادية، والمسائل الاجتهادية عادة ما تحكمها مصالح الناس ومقاصد الشريعة، غير أن هناك نصا غير مباشر يمكن أن يؤخذ من دلالته الجواز أو عدم الجواز، وهو قوله تعالى: "إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا".
وقد ذكره الشيخ عبد الله بن منيع ـ حفظه الله ـ في فتواه، وقال: "بل في عرض المسعى نص صريح من كتاب الله تعالى وهو آية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فهذا نص يدل على أن عرض المسعى ما تحققت فيه البينونة بين الصفا والمروة، وهو نص صريح من كتاب الله تعالى على أن عرض المسعى هو عرض جبلي الصفا والمروة من الغرب إلى الشرق، وقد قامت البينة العادلة على أن توسعة الملك عبد الله لم تتجاوز عرض الجبلين- الصفا والمروة - من الغرب إلى الشرق".
والمعنى أن قوله تعالى: "يطوف بهما" يقتضي البينونة ـ كما يرى العلامة ابن منيع ـ لكن هذا الكلام غير مسلم؛ لأن نص الآية يقول "بهما"، وليس "بينهما"، ولو كان بينهما لصح الاستدلال بالآية لا سيما وقد ذكر الرازي عند تفسير الآية: أن الله تعالى "رفع الجناح عن الطواف بهما لا عن الطواف بينهما، وعندنا الأول غير واجب ، وإنما الثاني هو الواجب". إذن فهناك فرق بين "بهما" و"بينهما".
ولو سلمنا أن لغة العرب تعبر عن "بينهما" بـ "بهما"، لظل الخلاف قائما؛ لأنه ليس هناك مَنْ نص على المساحة البينية عرضا نصا قطعيا بتحديد حاسم، بل اختلف المؤرخون في تقديرها، فمنهم من قال عشرون ذراعا، ومنهم من قال خمسة وثلاثون، وغير ذلك من آراء، وهذا يعني أن النص غير قطعي في دلالته وإن كان قطعيا في ثبوته.
على أنه من الجانب العقلي والحسي أن الجبال ذات الأهمية والاعتبار ليس فيها جبل عرضه لا يتجاوز عشرين متراً، فهل يعقل أن يكون عرض جبل الصفا وعرض جبل المروة أقل من عشرين متراً؟!!، وإذا كان أحدهما - فرضا - عرضه أقل من عشرين متراً فهل يلزم أن يكون عرض الثاني مثله؟.
وقد سبق في أدلة الرأي المجيز أن الشهود الذين ذهبوا للمحكمة في هذه القضية شهدوا بأن جبلي الصفا والمروة أعرض وأكبر، وأنهما ممتدان من الجهة الشرقية، ومن هؤلاء الشهود من كان بيته على الصفا وبعضهم على المروة، ولهذه الشهادة قوتها الواضحة هنا في جواز التوسعة، فهي بمثابة النص الذي يحتج به.
وفي النهاية لمحمد الرملي الشافعي ج2 ص416، قوله: "لم أر في كلامهم ضبط عرض المسعى، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج اليه، فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة، ولو التوى في سعيه عن محل السعي يسيرا لم يضر ، كما نص عليه الشافعي".

ثانيا: أن رأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة، وفي المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية أو يخالف نصا.
والقاعدة الفقهية: أن حكم الحاكم يرفع الخلاف في قضية من قضايا مسائل الخلاف إذا حكم فيها بأحد أقوال أهل العلم بما لا يخالف نصاً صريحاً من كتاب الله، أو من سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم- أو بما انعقد عليه إجماع الأمة، وقد اختار الملك عبد الله رأي التوسعة، فينبغي أن يحسم الأمر باختياره، ولا ينكر عليه فيه.
ثالثا: أن الصفا والمروة هما الشعيرتان بنص القرآن، فأما ما بينهما فهو بمنزلة الوسيلة ليسعى فيه بينهما، والوسائل تحتمل أن يزاد فيها بحسب ما هي وسيلة له، كطواف الطائفين وسعي الساعين، ولا تجب أن تحدد تحديد المشاعر نفسها، كما أن الكعبة هي الشعيرة في الأصل فشرع الطواف بها، والعكوف عندها والصلاة، وهذه الأمور لا بد لها من موضع فهو ما حولها، فالموضع كالوسيلة، والشعيرة كالأصل أو المقصد، وهذا هو رأي المحدث الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ت 1386هـ في كتابه المخطوط: "رسالة في توسعة المسعى بين الصفا والمروة".
رابعا: أن القول بجواز التوسعة ليس مصادمًا نصًا من كتاب الله تعالى، ولا من سنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم- وقد ثبت أن الزيادة المقترحة للتوسعة لا تخرج عما بين الصفا والمروة.

لو افترضنا جدلا أن المساحة عرضا محسومة وفيها نص صحيح صريح، وحدث مع تغير الزمان وازدياد عدد الحجاج عاما بعد عام كما هو الآن وبينهم المرضى والعجزة وكبار السن ما يؤدي إلى هلاك النفوس ووقوع المشقة الشديدة في أداء هذه الشعيرة ـ لذهبنا للقول بجواز التوسعة أيضا، ونستند في هذا إلى عدة أدلة هي:
أولا: أن مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء تقرر أمورا عدة، منها:
ـ حفظ النفوس من التلف، وقد بين الشرع الشريف أن حرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، كما قال عمر بن خطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو يسكب العبرات في الملتزم مخاطباً الكعبة: «ما أطيبك وما أطيب ريحك! وما أعظمك وأعظم حرمتك! ولكن حرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتك». رواه الترمذي في كتاب البر والصلة.
ـ التوسعة على الناس، فهل يبقى المسعى كما هو ، وقد ضاق بالساعين وأضر بهم ، أم ينبغي توسعته ، لأن المقصود هو السعي بين الصفا والمروة ، وهو حاصل في المقدار الذي يوسع به هذا الشارع كما هو حاصل في هذا الشارع نفسه ؟ والله تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة لا يكلف خلقه بعبادة إلا ويسرها لهم ، أو يرخص لمن شق عليه شيء منها أن يدع ما شق عليه ، وقد أصبح المسعى يضيق بالمسلمين في أيام الموسم ، ويشق عليهم ، ولا سيما على النساء والضعفاء والمرضى ، بل يلقى فيه الأقوياء شدة ، وسيزداد الحجاج – إن شاء الله – كثرة سنة بعد سنة.
ـ أن يؤدي المسلمون شعائرهم كما يرضى الله بخشوع وخضوع وإخبات وإنابة، وهذا ما لا يتحقق في الزحام الشديد الذي تجلبه عدم توسعة المسعى.

ثانيا: أن هناك كثيرا من القواعد الفقهية تسند هذا القول، وتنتصر له، مثل: "إذا ضاق الأمر اتسع"، و "الحرج مرفوع شرعاً"، و "المشقة تجلب التيسير"، و "لا ضرر ولا ضرار"، ولا شك أن عدم التوسعة يؤدي إلى إلحاق الضرر الجسيم والحرج الكبير بالناس، بل ربما أدى إلى موت بعضهم ، وبخاصة المرضى والعجزة وكبار السن، وهو ما تنزهت عنه الشريعة السمحة التي انبنت على التيسير والعدل والرحمة والمصالح.

ثالثا: أن الله تعالى يبيح الحرام وقت الضرورة للحاجة إليه، فالضرورات تبيح المحظورات، والحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، فكيف والتوسعة وسيلة لبلوغ مقصد معين هو السعي، والحكمة في السعي أن يتذكر الإنسان مآثر من قبلنا، وأن يسعى ويذكر الله، فيكون سعيه محلا للذكر.
رابعا: أننا يجب أن نستأنس بما حدث من توسعات من قبل في شعيرة الحج فيما يلي:
ـ فالمسجد الحرام لم يزل المسلمون في عهود متتابعة ضمن الحكم الإسلامي يقومون بتوسعته في عهود متتابعة، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وعهد عثمان بن عفان، وعهد عبد الله بن الزّبير، وفي عهد عبد الملك بن مروان، وفي عهد ابنه الوليد بن عبد الملك، وعهد الخليفة المنصور، وكلها محاولات وتوسيعات ثابتة تاريخيا كما ذكرتها الكتب التي اهتمت بالحرم المكي.
ـ المبيت بمنى؛ حيث لم يكن في السابق على ما هو عليه الآن، وتوسع فيه الفقهاء المعاصرون، نظرا لتزايد عدد الحجاج عاما بعد عام، حتى عدَّ الفقهاء المبيت بأي مكان يدخل في مساحة الحرم ـ كالعزيزية مثلا ـ أمرا جائزا ومجزئا.
ـ توسيع وقت رمي الجمرات، وقد كان الحجاج لا يرمون إلا بعد الزوال استنادا إلى السنة العملية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم لم يلبث أن تزايدت الأعداد، وظل بعض الفقهاء متمسكا بالرمي بعد الزوال فقط حتى وقع مئات القتلى في هذه الشعيرة إلى أن تجدد النظر الفقهي وبحث فوجد آراء في الفقه الإسلامي، وقواعد في الشريعة الإسلامية تدل على جواز الرمي قبل الزوال، بل ذهب بعضهم إلى الجواز من بعد صلاة الفجر حتى انتهاء اليوم.

كل ما سبق يعتبر من شعائر الحج، ولكن الشعائر لابد أن يثار حولها جدل، وهذا نابع من حرص المسلمين وفقهائهم على أداء شعائرهم وفق الشرع الحنيف حتى لا يقعوا في براثن البدع، وعبادة الله بغير ما شرع.
وفي الوقت نفسه يجب علينا أن نمتثل المنهج في التعامل إزاء القضايا الخلافية، فلا ينكر بعضنا على بعض ما دام ليس هناك نص قاطع، وقد تقرر في تراثنا الفقهي أنه لا إنكار في المختلف فيه، والله الموفق.
نشرته مجلة العالمية ـ رجب 1429 هجرية - يوليو 2008 م - العدد (220) - السنة العشرون

فقه الخطابة من خلال خطبة الوداع


فقه الخطابة من خلال خطبة الوداع

وصفي عاشور أبو زيد
الخطابة إحدى الركائز الأساسية والوسائل المهمة في الدعوة إلى الله تعالى؛ فهي اللقاء الأسبوعي الذي يحتشد فيه المسلمون في مسجد جامع ليسمعوا الخطيب يذكِّرهم ربهم ويعلمهم دينهم.
فالخطابة في الإسلام تمثل مظهر الحياة التي تجعل القيم النبيلة، والمثل الرفيعة، والأخلاق الفاضلة تصل من قلب إلى قلب، وتثب من فكر إلى فكر، فتنعش الروح ويتجدد الإيمان؛ فلا غرو أن تكون بذلك من شعائر الإسلام.
ومن المؤسف حقّاً ـ في عصرنا الحاضر ـ أن كثيراً المنابر أصبحت تحمل فوقها ساعة الجمعة أشباه الخطباء الذين فرَّغوا الخطابة من محتواها، وأخرجوها عن إطارها الصحيح، وأبعدوها عن أداء أماناتها وإبلاغ رسالتها.
فلا يرقى أكثرهم أن يقرأ آية من كتاب الله ويعطيها حقها، أو يـروي حـديثاً صحيـحاً بنصـه عـن النـبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو يصوغ عبارة صحيحة من ناحية اللغة، فما أصدق ما قال أديب العربية والإسلام مصطفى صـادق الرافـعي: «ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجالٌ بمعنى الكلمة، لا رجالٌ في أيديهم سيوف من خشب»(1).
وإني لأعرف أناساً من المصلين يتأخـرون عـن الخـطبة ـ بصرف النظر عن الحكم الشرعي لذلك ـ ويحضرون قبيل إقامة الصلاة حتى يعفوا آذانهم من سماع الكلام المكرر الذي يخدش روعة الجمعة، ويُذهِب جلال اليوم وبهاءه.
وهذا الحديث ليس موجهاً لهؤلاء الذين اتخذوا من الخطابة مهنة يتكسبون من ورائها، إنما هو موجه إلى دعاة على درجة معينة من الثقافة، يفقهون دور الخطابة، مدركين أثرها وتأثيرها في المجتمع.
أما أولئـك فساحة المسـجد أوْلـى بهـم مـن منبـر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
بين أيدينا حديثٌ من جوامع الكلم، وخطبة تُعدُّ وثيقة من وثائق الإسلام، ومثلاً أعلى لكل داعية، ونموذجاً للخطبة الناجحة يحتذيه الخطيب الناجح.
إنها خطبة حجة الوداع التي ألقاها أفصح العرب طُرّاً محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - في جموع بلغت عشرات الآلاف.
بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال - صلى الله عليه وسلم - (2): «أيها الناس! اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت. فمن كانت عنده أمانة فلْيؤدِّها إلى من ائتمنه عليهـا، وإن كـل رِبـا موضـوعٌ، ولكـن لكـم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس ابن عبد المطلب موضوعٌ كله، وإن كل دمٍ كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل؛ فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد: أيها الناس! فإن الشيطان قد يئس من أن يُعبَد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطَعْ فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم!
أيها الناس! {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37]، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب مضر(1)، الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد: أيها الناس! فإن لكم على نسائكم حقّاً، ولهن عليكم حقّاً، لكم عليهن ألا يُوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرِّح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوانٍ(2)، لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي! فإني قد بلَّغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله، وسنة نبيه.
أيها الناس! اسمعوا قولي واعقلوه! تعلمُنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُن أنفسكم، اللهم هل بلَّغت؟».
فذُكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اشهد.
قال ابن إسحاق: «... كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يعرفه ربيعة بن أمية بن خلف...».
في هذه الخطبة من الدروس والعبر ما لو أدركه الدعاة والخطباء لأدت الخطابة رسالتها أحسن ما يكون الأداء.. ومن أهم هذه الدروس:

أولاً: الإخلاص والحرص على هداية الناس:
فالإخلاص هو مدار الأمر كله ـ بعد الفقه الكامل لمعنى الخطابة ـ إذ به يصل الكلام إلى القلوب، فيتمثله الناس واقعاً عملياً في حياتهم، وبغيره لا يتعدى الكلام الآذان، ولو ملك الخطيب ناصية البيان وقوة الحجة ونصاعة البرهان.
وقد قال ابن عطاء الله السكندري في حكمته الشهيرة: «الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها».
من هنا وجدنا الإخلاص متمثلاً في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصيح في هذا الجمع الحاشد: «أيها الناس! اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً».
إن الـذي يعيـش الموقف مع هذا الجمهور يشعر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأمة بمثابة الأب مع أبنائه، يريد ألا يدعهم في آخر لقاءٍ بهم قبل أن يُلقي في آذانهم آخر ما لديه من نصح وحب وإرشاد.
وهذا من تمام حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومه وإخلاصه لهم: «كان يُحس أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة وحده، فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذي انطلق به القطار، يوصيه بالرشد، ويذكره بما ينفعه أبداً»(3).
فألقى النبي هذا البيان الجامع الذي هو خلاصة رسالته التي ظل ثلاثاً وعشرين سنة يجاهد من أجل إرسائها في الواقع، وعَقْدها في قلوب الأمة.
أفلم تكن تُغني ثلاث وعشرون سنة عن هذا البيان الأخير؟ ولكن النبي الرؤوف الرحيم يريد أن يضع البصمات الأخيرة، والمبادئ الكلية، وأهداف الرسالة وخلاصتها قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى؛ لتظل هذه التوجيهات، وتلك الصيحات حاضرة في أذهانهم، ترددها آذانهم بعد رسول الله أبد الآبدين.
والحق أن الإخلاص والحرص على هداية الناس منهج الأنبياء جميعاً؛ فكم تكرر في القرآن الكريم على لسان الأنبياء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 108]، {إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [هود: 26]، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الشعراء: 145]، وقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْـمُكْرَمِينَ} [يس: 26 - 27]، وغير ذلك.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على هداية قومه؛ فكم قال: «اللهم اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون» وحين جاءه مَلَك الجبال وهو في الطائف رد عليه قائلاً: «لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً..» وقبل هذا كله قرر الله عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْـمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
وفي هؤلاء الأنبياء جميعاً أسوة للدعاة إلى الله الذين يواجهون المجتمع، ويُمسكون بزمام الجماهير إلى الله تعالى.

ثانياً: جذب الجمهور وتهيئته من أول الخطبة:
وقد أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في البـداية عبارته المؤثـرة: «لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً». وهنا تشرئب الأعناق، وتتطاول الرقاب، وتترقب الآذان ما يُلقى من وعظ ومن إرشاد.
فهناك من الخطباء من يجعل من الخطبة وسيلة لإنامة الجمهور، فيذهب فريقٌ من الناس للجمعة ليستكمل ساعات نومه، فإذا ما سمع الإقامة صلى مع المصلين وركع مع الراكعين، فلم ينتفع بموعظة، ولم يخشع في صلاة.
إن وسائل الجذب وبراعة الاستهلال أول الخطبة ـ ليتهيأ الناس للكلام ـ لا حصر لها، يملكها الخطيب اللبيب من خلال الواقع الذي يموج بأحداث يعيشها الناس، ومن خلال القضايا المثارة في المجتمع التي ينبغي أن يكون الخطيب على دراية كاملة بها.
ولم يكن هذا الدرس الهام في بداية خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط، إنما تخلل مواضع كثيرة منها؛ فكم قال: «أيها الناس!»، وقال: «اسمعوا قولي واعقلوه!»، وقال: «فاعقلوا أيها الناس قولي!» ثم يرمي بالتبعة على كاهلهم حتى يتنبهوا لخطورة الكلام حين قال: «فإني قد بلَّغت» وفي النهاية: «اللهم اشهد!».
والقرآن الكريم يعلمنا هذا الأسلوب في كثير من سوره: فمرة يبدأ السورة بذكر شيء، ثم يستفهم عنه، ثم يعظِّم من شأنه: «الحاقة. ما الحاقة. وما أدراك ما الحاقة»، وقوله: «القارعة. ما القارعة. وما أدراك ما القارعة»، ومرة يفجأ الناس بوقائع مرهبة، وأحداث مرعبة: {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإذَا الْـجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير: 1 - 3] ، ومرة أخرى يثير تساؤلاً، ثم يجيب عنه: «عم يتساءلون. عن النبأ العظيم»، ومرة يبدأ بقَسَم ـ والقسم يشير إلى أهمية ما بعده ـ مثل قوله: {ن» وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]. إلى آخر هذه الوسائل المثيرة للعقل والوجدان معاً.
والخطيب الحاذق هو الذي يتعلم من هذا الكلام المعجز؛ فيوظف أحداث عصره في ذلك، ثم يستهدي الشفاء والدواء من كلام الله ورسوله.

ثالثاً: التركيز على المتفق عليه:
لا ينبغي بحالٍ أن تثار قضايا الخلاف على المنبر في حضور هذا التجمع أو في أي تجمع؛ لئلا يُحدث ذلك اضطراباً واختلافاً وجدلاً بين الناس؛ فما لأجل هذا جُعلت المنابر، إنما جعلت لتثبيت أركان التوحيد، وتقرير شعائر الإسلام، وتوضيح مبادئه الكلية ومقاصده العامة.
لكنَّ هناك نوعاً من الخطباء ـ لا ينقصهم الإخلاص بقدر ما ينقصهم حسن الفهم وعمق التجربة ـ يصعدون المنابر، وليتهم لا يصعدون، من أجل إثارة هذه القضايا التي لم ينتهِ الخلاف فيها أزلاً، ولن ينتهي الخلاف فيها أبداً، ويقيمونها مقام أصول الإسلام، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فينقسم الناس إلى طوائف يتراشقون ويتشاحنون، وليتهم شغلوا أنفسهم بالمتفق عليه ـ وهو كثير ـ أو بقضايا واقعهم المخزي المرير.
إن المتأمل في خطبة الوداع لا يجد فيها إلا أصول الإسلام العامة ومبادئه الكلية التي لا يختلف فيها اثنـان، ولا ينتطح عليها عنزان.
من يختلف في حرمة دم المسلم وماله وعرضه، وأداء الأمانة؟ أو من يشك في حرمة الربا؟ أو من ينكر حقوق المرأة التي قررها الإسلام؟ أو من يماري في أن الرابطة العليا هي أخوة الإسلام؟ بل من يتكلم في كلمة النبي الجامعة: «تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله وسنة نبيه»؟.
وإذا كان هذا هو آخر ما يريد نبي الرحمة أن يطبعه في أذهان الأمة؛ فإن من يثير كلاماً في تجمعات الناس وجُمعهم يخالف فحواه هذه التعاليم، يُعد مخالفاً لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبه.
يقول الشيخ رشيد رضا معلقاً على خطبة الوداع: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر قواعد الإسلام، وأمر أن يبلِّغ الشاهد الغائب، ونعى إليهم نفسه، وأشهد الله ـ تعالى ـ والمؤمنين أنه قد بلَّغ الدعوة»(1).
إن إثارة مثل تلك القضايا الخلافية في تجمعات الناس وجُمعهم ليُعدُّ ـ في رأيي ـ نوعاً من السفه الذي يجب أن يترفع عنه الدعاة الذين أقامهم الله مقام الأنبياء ليُضيئوا ظلمات الأرض بنور السماء.

رابعاً: شمول الخطبة أمور الدنيا والآخرة:
من الخطباء من يجعل شغله الشاغل وهمه الأكبر الحديث عن عذاب القبر، وعذاب النار، وسخط الله وعقابه، وقضايا الآخرة عموماً، ويعد الحديث عن شؤون الدنيا أمراً لا ينبغي أن يكون موضوع خطبة، أو يحسبه رجساً من عمل الشيطان يجب على الخطباء أن يجتنبوه، فإن الخطبـة ـ بزعمهم ـ تقوم على الوعظ الذي يشمل التخويف والترهيب وحسب.
وما نحن بصدده أكبر دحض لهذا، وإن أطول آية في كتاب الله تعالج أمراً دنيوياً.
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته هذه لم يركز على أمور الآخرة ـ على أهميتها ـ بقدر ما ركز على شؤون الدنيا، فقد ذكّرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم سيلقون ربهم فيسألهم عن أعمالهم، ثم بين لهم سبل غواية الشيطان وحذرهم منه.
لا تكاد الخطبة تذكر من أمور الآخرة شيئاً سوى ذلك، أما بقيتها فتعالج شؤون الحياة الدنيا، فإن صلاح الآخرة مرهونٌ بإصلاح الدنيا، والذين لا يبنون دنياهم يهدمون آخرتهم.
بينما قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمور الدنيا الكثير الكثير، ومن ذلك:
ـ حرمة الأموال والدماء والأعراض: وهذا يمثل مفرق الطريق بين نظام الإسلام والنظم الأخرى من شيوعية ورأسمالية وغيرها.
ـ حرمة الربا: وهو النظام الذي يسحق الفقراء، ويجعل المجتمع طبقياً.
ـ العدل والمساواة وحقن الدماء: حيث وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - الربا، وأول ربا وضعه هو ربا عمه العباس بن عبد المطلب، ووضع دماء الجاهلية، وأول دم وضعه دم ابن عمه، ابن ربيعة بن الحارث.
ـ حق الرجل على المرأة وحق المرأة على الرجل: اللذان يكوِّنان أسس العلاقة التي تقوم عليها كبرى لَبِنات المجتمع المسلم.
ـ حق المسلم على أخيه المسلم: وهو بيان أن الرابطة العليا في الأمة هي رابطة العقيدة(2).
فهل ترك النبي من أنواع العلاقات شيئا؟!!
لقد ذكر علاقة المسلم بنفسه: عندما حذر من الشيطان وأوصانا بمجاهدته.
وذكر علاقة المسلم بربه: عندما تحدث عن لقائنا بالله وسؤاله لنا.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الصغير «الأسرة»: عندما ذكر حقوق النساء، وأوصى بهن خيراً.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الكبير: عندما قرر حرمة الدماء والأموال والأعراض وأمر بأداء الأمانة.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الأكبر: وهي الأخوة التي تنتظمها العقيدة؛ لتكوِّن الرابطة العليا في الأمة.
إن الخطابة التي تقتصر على أمور الآخرة والترهيب وتهمل شؤون الدنيا تبعث على اليأس والقنوط، وتجعل الناس في حالة من السآمة والملل والإعراض؛ لأنها لم تشتمل على قضايا تلمس واقع الناس، وتعالج مشكلاتهم، «وبهذا لا يجيء الكلام على المنابر إلا حيّاً بحياة الوقت، فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد، ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل»(3).
إن كل نبي من الأنبياء أرسله الله ليعالج مرضاً واقعياً موجوداً في حياة الناس، وذلك باستهداء الوحي الذي ينزله الله عليه، مع الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده قبل كل شيء.
وهكذا المجددون والمصلحون يبعثهم الله بعد انقطاع من الزمن ليجددوا ويُحيوا معالم الإسلام التي انطمست ومـاتت ـ أو تكاد ـ في ضمير الأمة.

خامساً: الاقتباس من القرآن والسير معه:
وهذه لا يتقنها أشباه الخطباء، إنما يقدر عليها أولو العزم منهم، الذين استظهروا كتاب الله قراءة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً، وقبل ذلك حازوا ثقافة اللغة والأدب.
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمَّن خطبته معانيَ وآيات قرآنية كثيرة، وكيف لا وهو أفصح من نطق بالضاد، ومن ذلك: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، و {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ..} [التوبة: 37]. و {إلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]. وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن، وغير ذلك.
وكيف يكون داعيةً إلى الله مَن لا يفقه كلام الله قراءة وحفظاً، فضلاً عن إدراك أسراره ومقاصده؟ فالقرآن لم يدع أمراً من شؤون الدنيا والآخرة إلا تحدث فيه، والخطبة التي تخلو من كلام الله ينقصها الكثير.
«إن الخطيب الذي يصلح للتحدث عن الإسلام رجلٌ خبيرٌ بالحياة وعللها، مكين في الوحي الأعلى»(1).
قد يتحدث الخطيب عن معنى رائع أو فكرة هامة، لكن المعاني والأفكار وحدها لا تكفي ما لم يكن لها لباسٌ حسن، وكساءٌ أخَّاذ، والقرآن الكريم قد تحدى العرب جميعاً، وأخرس الأولين والآخرين في فصاحته وبيانه.
يقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ: «لا تسمى خطابة إسلامية هذه الكلمات الميتة التي يسمعها الناس في بعض المساجد ثم يخرجون وهم لا يدرون ماذا قال خطيبهم؛ لأنه لم يَصل أحداً منهم بروح القرآن، ولا أنعش قلباً بمعانيه، ولا علَّق بصراً بأغراضه»(2).
وبجانب الاقتباس من القرآن يليق بالخطيب أيضاً أن يسير مع القرآن؛ فهناك قضايا ركز عليها القرآن، وأطال الحديث عنها في غير موضع، وهناك قضايا ذكرها في موضع أو موضعين، وبين هذه وتلك تفاوتٌ ونسبيّة في عرض القرآن للقضايا، والخطيب الناجح هو الذي يسير مع القرآن حيث سار، فيولي ما اهتم به القرآن اهتمامه الأكبر؛ لأن القرآن لا يركز على أمر إلا إذا كان له أثره الكبير في معاش الناس ومعادهم.

سادساً: على الداعية البلاغ:
وهذا أمرٌ حسمه القرآن مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ قال له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، و {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272]، و {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، و {إنْ أَنتَ إلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 23]، و {فَإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 20]، إلى آخر هذه الآيات التي تحسم الأمر بوضوح لا لبس معه، ولا شبهة فيه.
وفي خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يلقي التبعة عليهم ـ بعد أن بلَّغ ما عليه ـ أنهم سيلقون ربهم، ويسألهم عن أعمالهم، وكم تكرر في خطبته الجامعة: «اللهم هل بلَّغت؟» فتردد الجماهير: «اللهم نعم!».
وهذا ـ بالطبع ـ لا يتنافى مع شعور الداعية بالأسف والحزن على ما به قومه من ضلالة، وأنهم على غير الصراط المستقيم؛ فقد كان ـ صلوات الله عليه ـ أوضح مثل لذلك، حتى أنزل الله عليه يواسيه ويخفف عنه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْـحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6] وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
يسير الداعية بهذا الحرص على قومه، ويرجو الله أن يهديهم، لكنه لا يقنط ولا ييأس إن استجابت له قلة، أو لم يستجب له أحد؛ فلقد مكث نوحٌ ـ عليه السلام ـ في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل.
المهم أنه أدى ما عليه، وبلَّغ ما أناط الله بعنقه، وأشهد الله وأشهدهم على ذلك، كما فعل مؤمن آل فرعون، وقد سلك مع قومه كل سبيل، ثم قال في النهاية: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ} [غافر: 44].
وها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن بدأ الإسلام بشخصه في مكة وهو شاخصٌ ببصره إلى السماء وجبريل يناديه: «أنت رسول الله، وأنا جبريل» ـ ها هو في المكان نفسه قريباً من غار حراء وقد احتشد حوله عشرات الآلاف ليعلن فيهم إتمام المهمة، وتبليغ الرسالة، وإكمال الدين.
من أجل هذا كان الخطاب على الملأ: «اللهم هل بلَّغت؟» فيجيبون: «اللهم نعم!» فيرفع يديه لرب السماء قائلاً: «اللهم فاشهد!».
(1) وحي القلم: 1/25، دار ابن زيدون. بيروت. بدون تاريخ، وانظر معنى السيف الخشبي في: «قصة الأيدي المتوضئة».
الجزء: 2/245 من الكتاب المشار إليه.
(2) السيرة النبوية لابن هشام: 6/8 ـ 11 دار الجيل. بيروت. ط أولى. 1411هـ. بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد، رواها ابن هشام عن ابن إسحاق بغير إسناد، وقد جاء إسنادها في أحاديث متفرقة؛ فقد جاءت في الصحيحين عن أبي بكرة، ولمسلم عن جابر رواية جامعة، وفي سنن الترمذي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص، وغيرها من كتب السنة. وحسبنا ما قاله ابن حجر العسقلاني في مقدمة «لسان الميزان» وهو يتحدث عن فضل الاشتغال بعلم الحديث مورداً بعض ما جاء في خطبة الوداع: «فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلِّغ أوعى من سامع..»، قال عن الخطبة: «وقد بلغت حد التواتر» راجع لسان الميزان: 1/3 بيروت. ط ثالثة. 1406هـ.
(1) إنما قال النبي ذلك؛ لأن ربيعة كانت تُحرِّم رمضان وتسميه رجباً، فبين أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وأنه الذي بين جمادى وشعبان.
(2) عوانٍ: جمع عانية، وهي الأسيرة.
(3) فقه السيرة للشيخ الغزالي: 505، بتخريج الشيخ الألباني. دار الدعوة. ط ثانية. بدون تاريخ.
(1) خلاصة السيرة المحمدية: 66، المكتب الإسلامي. بيروت. ط رابعة. 1405هـ.
(2) ذكر الأستاذ منير الغضبان عشرة مبادئ تضمنتها الخطبة عموماً، راجع المنهج الحركي للسيرة النبوية:
3 /200 ـ 201. مكتبة المنار. ط سادسة 1411هـ.
(3) وحي القلم: 2/247.
(1) مع الله/ دراسات في الدعوة والدعاة: للشيخ الغزالي: 273، دار الكتب الإسلامية. ط سادسة 1405هـ.
(2) السابق: 272.

التيسير في الفتوى تعريفـه ومشـروعـيتـه ومجـالاتـه وضـوابـطه



التيسير في الفتوى تعريفـه ومشـروعـيتـه ومجـالاتـه وضـوابـطه


وصفي عاشور أبو زيد
تطالعنا بعض الفضائيات ومواقع الإنترنت ببعض المشايخ من غير أهل العلم الراسخين الذين يتصدرون لأخطر الأمور في الإفتاء، ويفتون الجمهور العريض في أنحاء العالم على الهواء مباشرة دون تأنٍّ ولا مراجعة، وبجرأة ظاهرة يجعلون الحلال حراماً والحرام حلالاً فيَضلون ويُضلون، وصدق فيهم ما رواه البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»(1).
وكثير من هؤلاء يبيحون أشياء محظورة، بل يحللون أشياء محرمة بحجة التيسير في الفتوى، وأن الدين الإسلامي دين التيسير ورفع الحرج، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بُعث بالحنيفية السمحة، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهذا كله حق، لكن ما أجدره بكلمة علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في قول الخوارج: «لا حكم إلا لله» بأنها «كلمة حق يراد بها باطل».
وهذا ما يدعو إلى الوقوف ـ بشيء من التفصيل ـ على تعريف التيسير، وتوضيح ضوابطه في الشريعة الإسلامية، حتى يتسنى لنا أن نفهم أنه ليس كل تيسير منضبطاً ومعتبراً، بل إن من التيسير ما لو تتبعناه بلا ضوابط لاندرست معه معالم الشريعة الغراء.
ومن الأهمية ابتداء تبيين المصطلحات التي يحتوي عليها الموضوع مثل: الفتوى، والتيسير، وما يتصل بهما، حتى نكون على بينة من الأمر؛ فلن يكون هناك خلاف أو تناقض متى انكشفت المفاهيم، واتضحت المسميات.


■ معنى الإفـتاء:
قال في اللسان: يقال: أَفْتاه فـي الـمسأَلة يُفْتِـيه إِذا أَجابه، والاسم: الفَتْوى، والفُتـيا: تبـيـين المُشكِل من الأَحكام. أَصله من الفَتَـى، وهو الشاب الـحدث الذي شَبَّ وقَوِيَ؛ فكأَنه يُقوّي ما أَشكل ببـيانه فـيَشِبُّ ويصير فَتِـيّاً قوِيّاً، وأَصله من الفتـى، وهو الـحديث السنّ، وأَفْتَـى الـمفتـي إِذا أَحدث حكماً(2). والإفتاء في الاصطلاح: هو تبيين الحكم الشرعي للسائل عنه، والإخبار بلا إلزام(3).
وتجدر الإشارة أن مفهوم المفتي عند الأصوليين هو نفسه مفهوم المجتهد، فيقول علاَّمة متأخري الحنفية ابن عابدين ـ رحمه الله ـ: وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كالإمام على وجه الحكاية، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي(1). وقال زكريا الأنصاري الشافعي: المفتي هو العدل المقبول الرواية المجتهد في الأحكام الشرعية(2).
وبناء عليه فإن أغلب من نراهم اليوم على الهواء مباشرة في الفضائيات المتعددة ليسوا مفتين بالمعنى العلمي للكلمة وبمفهومها عند الأصوليين، وإنما هم نقلة لما قاله المجتهدون من قبل، والذين قالوا: إن المفتي هو المجتهد أرادوا بيان أن غير المجتهد لا يكون مفتياً حقيقة، وأن المفتي لا يكون إلا مجتهداً، ولم يريدوا التسوية بين الاجتهاد والإفتاء في المفهوم.


■ بين الفتوى والحكم:
كما أن هناك فرقاً بين الحكم التكليفي لأمر ما والفتوى في هذا الأمر؛ فليس الحكم التكليفي هو الإفتاء، بل الحكم التكليفي شيء، والفتوى شيء آخر، وإن كانت وظيفة المفتي أن يحكم على أفعال العباد أياً كانت حالهم ووضعهم.
والحكم في ذاته لا يتغير أبداً مهما تغير المكان والزمان والأشخاص والأحوال؛ فحكم شرب الخمر مثلاً في ذاته محرم شرعاً لا يتغير إلى يوم القيامة، أما الفتوى فتتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال والنية والعوائد، كما قرر ذلك المحققون من علماء الأمة.
وعلى ذلك فيمكن أن تغير الفتوى حكماً من الأحكام لسبب من أسباب تغير الفتوى في واقع معين، لكن لا يغير ذلك من الحكم نفسه، إنما أباحت الفتوى شيئاً ما لضرورة من الضرورات؛ فشرب الخمر يباح أحياناً في أحوال وضرورة معينة؛ فإذا كان المسلم في صحراء ولا يجد ما يدفع به الموت من شدة العطش، أو حدثت له غُصَّة في حلقه، ولا يجد ما ينقذ به نفسه إلا شرب الخمر قطعاً فيباح له هنا ـ بالفتوى ـ أن يشرب الخمر، ومن هنا قعَّد الفقهاء قاعدة شهيرة: «الضرورات تبيح المحظورات»، ولكن لا تغيِّر هذه الفتوى من الحكم في ذاته شيئاً؛ فيبقى حكم الشرب محرماً ثابتاً محكماً إلى يوم القيامة؛ فإذا ما وجد المسلم شديدُ العطش ما يدفع به عطشه سوى الخمر، أو يدفع به الهلاك بالغُصّة سواها ارتدَّ الحكم على الفور إلى أصله وهو الحرمة.


■ معنى التيسير وأدلته:
أما التيسير أو اليُسْرُ بسكون السين وضمها فهو ضد العسر، والمَيْسُور ضد المعسور، وقد يَسَّرَهُ الله لليُسْرَى أي وفقه لها(3). والتيسير مبدأ أصيل في الشريعة الإسلامية، ومقصد أعلى من مقاصد التشريع الإسلامي؛ فما من حكم من الأحكام الشرعية العملية إلا والتيسير لحمته وسداه، والذي يتأمل التشريع الإسلامي يوقـن بهـذه الحقيقة يقيناً لا يخالطه شــك ولا ريب، وقد قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا ييسر آمِرٌ على مأموريـه ويرفـع عنهـم ما لا يطيقونه إلا واللهُ ـ تعالى ـ أعظم تيسيراً على مأموريه، وأعظم رفعاً لما لا يطيقونه عنهم، وكل من تدبر الشرائع لا سيما شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- وجد هذا فيها أظهر من الشمس»(4).
والمتأمل في القرآن والسنة يجدهما يفيضان بذلك حقاً؛ فبعد تشريع الصيام قال ـ تعالى ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]؛ وبعد إباحة مُلك اليمين للزواج قال ـ سبحانه ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، وبعد أحكام الطهارة قال ـ عز من قائل ـ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، وبعد أن عذر الضعفاء والمرضى في الجهاد قال ـ تعالى ـ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْـمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْـمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، وبعد الأمر بالجهاد قال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ورفع عن الأعمى والمريض والأعرج الحرج في أن يأكل من بيت أبيه أو أمه ... إلخ، فقال: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْـمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61]، بل رفـع عنهـم الحرج مطلقـاً، فقـال ـ سبحانه ـ: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْـمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17]، ولما زوَّج الله رسولَه ـ عليه السلام ـ بزوجة مولاه زيد بعد أن طلقها قرر أن الغاية من ذلك رفع الحرج على المؤمنين في أزواج أدعيائهم، فقال: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37].
والسنَّة النبوية المطهرة فيها ما فيها من مظاهر التيسير في حياة النبي العملية والقولية، بل إن فيها أوامر صريحة به من النبي عليه صلوات الله وسلامه. فعن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده قال: لما بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعاذ بن جبل قال لهما: «يسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا...»(5). وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وسكِّنوا ولا تنفروا»(6).
وعن عائشــة ـ رضـي الله عنها ـ أنها قالت: «ما خُيّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً؛ فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط إلا أن تُنتَهك حرمة الله فينتقم بها لله»(1). وعن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: «دعوه وهَرِيقوا على بوله سَجْلاً من ماء، أو ذَنُوباً من ماء، فإنما بُعثتم ميسِّرين، ولم تُبعثوا معسِّرين»(2).
والمتتبع لأقوال الصحابة وفهمهم للدين والأحكام، ويلاحظ معاملتهم وتعاطيهم مع الواقع المعيش في ظل النصوص، وكذلك السلف الصالح والأئمة الكبار على مر القرون لا يخطئه في ذلك كله مراعاتهم واعتبارهم، وفهمهم لهذا المبدأ الجليل، وقد أخرج الدارمي في سننه عن عمر بن إسحاق قال: لَـمَن أدركت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة، ولا أقل تشديداً منهم(3).


■ مجال التيسير:
والتيسير وإن كان مبدأ أصيلاً في التشريع الإسلامي، ومقصداً أعلى في الشريعة الإسلامية إلا أن له مجالاً يعمل فيه، ومجالاً لا يعمل فيـه؛ فالتيـسير أو التغيـير والتخفـيـف لا يدخل في أصول الدين وكليات الشريعة التي بها بقاء الدين ودوامه. قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: «كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يَحِلَّ الاختلاف فيه لمن عَلِمَهُ»(4).
فأصول الدين، وكليات الشرع وثوابته، وأصول الحلال والحرام، وأصول الأخلاق والآداب لا يجوز أن يوضع شيء منها موضــع الخــلاف والجـــدل، وإلا اندرست معالم الشريعة، فلا يدخل فيها التيسير إلا لعارض الضرورة بالمعنى الأصولي للكلمة. وأما ما سوى ذلك من الفروع والجزئيات والمتغيرات، وكل ما لم يقم عليه دليل صحيح صريح قاطع؛ فهذا يدخله التيسير بضرورة وبغير ضرورة بما لا يتعارض وأصول الشرع والأخلاق والحلال والحرام. قال الإمام الشافعي: «وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويُدرَك قياساً، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره لم أقل إنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص»(5).
وللإمام ابن القيم في هذا السياق كلام يؤكد هذا التقسيم؛ فيقول ـ رحمه الله ـ: «الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة: كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك؛ فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع ينوِّع فيها بحسب المصلحة»(6).
يتبين من ذلك أن التيسير لا يكون في أي مجال في الشريعة، بل له مجال لا يتخطاه، ومدى لا يتعداه، ونحن إنما نكون مع الأصول في صلابة الحديد، ونكون مع الفروع في ليونة الحرير بما لا يتعارض مع المقررات الشرعية الكبرى.


■ مبادئ لها أثرها في التيسير:
وقد ذكر الفقهاء أسباباً لها أثرها القوي في التحول من التشديد إلى التيسير، ومن العزيمة إلى الرخصة، مثل: السفر، والمرض، والإكراه، والنسيان، والجهل، والعسر، وعموم البلوى، كما أن هناك مبادئ أصولية وفي علم القواعد استخلصها الفقهاء والأصوليون لها أثرها كذلك في هذا الأمر، ومن أهم هذه المبادئ:
ـ المشقة: فإن المشقة توجب التيسير وتجلبه، والأمر إذا ضاق اتسع، وقد ضبط السيوطي المشقة التي تجلب التيسير فقال: المشاق على قسمين: مشقة لا تنفك عنها العبادة غالباً: كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، ومشقة ألم الحدود، ورجم الزناة، وقتل الجناة، فلا أثر لهذه في إسقاط العبادات في كل الأوقات.
وأما المشقة التي لا تنفك عنها العبادات ـ غالباً ـ فعلى مراتب:
الأولى: مشقة عظيمة فادحة: كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأعضاء؛ فهي موجبة للتخفيف والترخيص قطعاً.
الثانية: مشقة خفيفة لا وقع لها كأدنى وجع في إصبع، وأدنى صداع في الرأس، أو سوء مزاج خفيف؛ فهذه لا أثر لها، ولا التفات إليها.
الثالثة: متوسطة بين هاتين المرتبتين؛ فما دنا من المرتبة العليا أوجب التخفيف، أو من الدنيا لم يوجبه: كحُمَّى خفيفة، ووجع الضرس اليسير، وما تردد في إلحاقه بأيهما اختلف فيه، ولا ضبط لهذه المراتب إلا بالتقرب(7).
ـ ارتكاب أخفّ الضررين، فإذا ما كان هناك خياران أمام المكلف: أحدهما فيه ضرر، والآخر أشد ضرراً كان ذلك موجباً لارتكاب أخف الضررين، كالحاكم المسلم الذي يتحالف مع عدو لدفع خطر عدو أشد خطراً وضرراً منه؛ فهو يرتكب أخف الضررين، ويدفع أعظم الشرين.
ـ تغير الفتوى بمقتضياتها، من تغيرٍ للزمان، والمكان، والأشخاص، والأحوال والنيات والعوائد، كما قرره ابن القيم وغيره، ومشهور ما فعله الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ من تغيير في مذهبه بعد مجيئه إلى مصر، وصار له مذهبان: مذهب قديم، ومذهب جديد. وتغير هذا المتغيرات يقتضي الإفتاء بما يوائمهـا بما لا يتناقض مع الأصول الكلية والمبادئ الكبرى في الإسلام.
ـ مآل الفتوى: بمعنى أن ينظر المفتي في مآل وعواقب فتواه؛ فإن أيقن أن مآلها ضرر وتعسير، وتحقيق لمصالح غير مشروعة امتنع عن هذه الفتوى، وبذلك يكون قد يسر على الناس، ومن ذلك امتناع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، مخافة أن تقع فتنة أكبر جراء حداثة القوم بالإسلام؛ فعن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت»(1).
فهذه كلها مبادئ لها أثرها في التيسير على الناس في مجال الفتوى، بما استخلصه فقهاؤنا من قواعد وضوابط تؤثر بقوة في عملية التيسير.


■ ضوابط التيسير المعتبر:
من المؤكد أن كل تيسير لا يعد معتبراً في شريعة الإسلام؛ فمن التيسير ـ كما سبقت الإشارة ـ ما لو تتبعناه لاندرست معه معالم الشريعة؛ ولذلك فهناك بعض الضوابط الحاكمة للتيسير حتى يكون تيسيراً متوافقاً مع مقاصد الشريعة ومع روح التشريع ومنها:
الأول: أن يكون التيسير مضبوطاً بالدليل، وهو من أهم الضوابط، وأخطر الشروط للتيسير في الفتوى؛ فالقول بالتيسير لا بد له من دليل يسنده ويؤيده من أدلة أصول الفقه المعروفة، أما أن يُفتى بالتيسير دون ضابط من دليل كتاب أو سنة أو اجتهاد؛ فهذا ما لا يقره الشرع، وهو عينه الذي يقع فيه كثير من المفتين ـ أو بالأحرى نقلة الفتاوى ـ في هذا العصر.
ومثال ما له دليل: زكاة الفطر هل تُخْرَج حبوباً أم نخرج القيمة؟ فيها الرأيان، ولكل دليله ووجهته، الحبوب هي رأي الجمهور، والقيمة هي مذهب عمر بن عبد العزيز، وأبي إسحاق، وأبي حنيفة، وجمهور من علماء العصر؛ فعلى المفتي هنا أن يراعي الأيسر على الناس في بيئة من البيئات، أو زمن من الأزمنة، وأن يراعي أيضاً الأنفع للآخذ ما دام في المسألة رأيان، ولكل رأي دليله المعتبر شرعاً.
ومثال آخر: في وقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة أو ثلاث طلقات؛ فقد استقرت الفتوى على وقوعه طلقة واحدة، وهو الأيسر حفاظاً على كيان الأسرة من الانهيار، ومراعاة لما جُبِل عليه الإنسان من عجلة وتسرع، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته الذي خالف فيه الأئمة الأربعة، كل ذلك في ضوء ما يستند إليه هذا الأيسر من أدلة الشرع المعتبرة، وهكذا.
أما أن يفتي المفتي برأي أيسر وليس له ما يؤيده من أدلة كتاب أو سنة أو غيرهما؛ فهذا ما لا يجوز الإفتاء به.
الثاني: عدم تتبع الرخـص، وهـو مــن الشــروط والضوابط المهمة أيضاً؛ لأن المفتي لو أفتى الناس بالرخص في كل شيء، وفي كل حال ولكل شخص لذاب الدين بين الناس، وأصبح الأصل هو الترخص لا العزيمة؛ ومع أن الله ـ تعالى ـ يحب أن تؤتــــى رخصــه كما يكــره أن تؤتــى معاصيه؛ فإنــه ـ تعالى ـ لا يرضى لعبده أو من قام مقامه في الفتيا أن يتتبع الرخص من كل مذهب، ويفتي الناس بها؛ لأنه بذلك يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة.
ولذلك حذر فقهاؤنا كثيراً من هذا الأمر، وشددوا النكير على فاعليه. قال الزركشي: «فلو اختار من كل مذهب ما هو الأهون عليه ففي تفسيقه وجهان: قال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا... وأطلق الإمام أحمد: لو أن رجلاً عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً. وخصّ القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها، وبالعامي المقدم عليها من غير تقليد؛ لإخلاله بغرضه وهو التقليد. فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يُفَسَّق؛ لأنه قلد من يسوغ اجتهاده. وفي (فتاوى النووي) الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص.
قال الزركشي: وفي «السنن» للبيهقي عن الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام، وعنه: يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع، وإتيان النساء في أدبارهن، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة، ومن قول أهل الكوفة النبيذ. قال: وأخبرنا الحاكم، قال أخبرنا أبو الوليد يقول: سمعت ابن سريج يقول: سمعت إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فدفع إليَّ كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق؛ فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رُويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب(2).
فلا بد من مراعاة الدليل للترخص، وحسن تقدير الحالة التي يفتى فيها هل يصلح لها الإفتاء بالرخصة أم لا؟ وكذلك الشخص المستفتي هل يصلح له الترخص المنضبط أم أن له العزيمة لزجره، وهكذا بحسب الحال والشخص وغير ذلك، فلا يكون الإفتاء بما فيه الرخصة عن غير ثقة ودليل، وإلا كان الترخيص تشهياً وجرياً مع الهوى؛ ولهذا قال النووي في مقدمات المجموع: وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل، وعليه يُحمَل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا! كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد(3).
الثالث: ألا يتتبع الحالات الخاصة بوقائع معينة، أو ما كان استثناء من الأصل لبيان معنى معين، فلا يجوز للمفتي أن يعمم وقائع خاصة بأشخاص معينين إلى غيرهم من أفراد الأمة، كذلك الصحابي الذي أجاز النبي شهادته منفرداً، واكتفى بها دليلاً، مع أن الأصل شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين؛ فهذه خاصة به لا تتعدى إلى غيره من المسلمين.
وكذلك ما جاء لا على الأصل ولكن على سبيل الاستثناء لإبراز معنى معين والتأكيد عليه؛ وذلك مثل ما فعله النبي ـ عليه السلام ـ من جمع بين الصلوات دون عذر جمع من سفر أو مطر أو مرض، كما رواه مسلم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لِمَ فعل ذلك؟ فقــال: ســألت ابن عبـاس كما سـألتنــي فقال: أراد أن لا يُحرِج أحداً من أمته(1). فهذا الفعل فعله النبي ـ عليه السلام ـ كي يبين مدى اليسر في الشريعة الإسلامية، ويؤكد على أن رسالته إنما جاءت لترفع الإصر والأغلال التي كانت على البشر قبل مجيء الرسالة الحنيفية السمحة.
ومع ذلك فقد ذهب فقهاؤنا ـ رضي الله عنهم ـ مذاهب شتى في تأويل الحديث، حتى لا يخرج قصر الصلاة عن أعذاره المعروفة، فقال ابن قدامة بعد ذكر الحديث: ولنا عموم أخبار التوقيت، وحديث ابن عباس حملناه على حالة المرض، ويجوز أن يتناول من عليه مشقة: كالمرضع، والشيخ الضعيف، وأشباههما ممن عليه مشقة في ترك الجمع، ويحتمل أنه صلى الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها، فإن عمرو بن دينار روى هذا الحديث عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال عمرو: قلت لجابر: أبا الشعثاء أظنه أخَّر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك(2).
وهذا الإمام النووي يورد تأويلاً لهذه الحالة بأنها محمولة على المطر، ثم يقول: ولكن هذا التأويل مردود برواية في صحيح مسلم، وسنن أبي داود عن ابن عباس: «جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة من غير خوف ولا مطر»، وهذه الرواية من رواية حبيب ابن أبي ثابت، وهو إمام متفق على توثيقه وعدالته والاحتجاج به. قال البيهقي: هذه الرواية لم يذكرها البخاري مع أن حبيب بن أبي ثابت من شرطه. قال: ولعله تركها لمخالفتها رواية الجماعة. قال البيهقي: ورواية الجماعة بأن تكون محفوظة أوْلى؛ يعني رواية الجمهور: مـن غـير خــوف ولا سفر. قال: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع في المطر، وذلك تأويل من تأوله بالمطر. قال البيهقي في معرفة السنن والآثار: وقول ابن عباس: أراد أن لا يُحرج أمته: قد يحمل على المطر؛ أي لا يلحقهم مشقة بالمشي في الطين إلى المسجد. وأجاب الشيخ (أبو حامد) في تعليقه على رواية من غير خوف ولا مطر بجوابين: أحدهما: معناه: ولا مطر كثير، والثاني: أنه يجمع بين الروايتين؛ فيكون المراد برواية: من غير خوف ولا سفر: الجمع بالمطر، والمراد برواية: ولا مطر: الجمع المجازي، وهو أن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ويقدم الثانية إلى أول وقتها(3).
وأياً ما كانت تأويلات الفقهاء فإن النفس تطمئن إلى أنه ثابت عــن النبي ـ عليه الصـلاة السلام ـ بيقـين أنـه جمع بلا عذر(4) حتى يؤكد على المعنى الذي أشرنا إليه سابقاً، ولكن ليس معنى هذا أن يفتي المفتون بذلك، ويجعلوه أصلاً، وينسوا الأصل، وهو الجمع بأعذاره المعروفه؛ ولهذا قال (الشوكاني) بأن الجمع يجوز مطلقاً بشرط أن لا يتخذ ذلك خُلُقاً وعادة(5). قال ابن حجر: وممن قال به ابن سيرين، وربيعة، وأشهب، وابن المنذر، والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث(6). وعليه فلا يجوز للمفتي أن يعدي حالة خاصة إلى الناس ويعممها عليهم، أو يفتي بحالة استثنائية، وينسى الأصل؛ ويجعلها هي الأصل؛ بدعوى التيسير على الناس.
الرابع: أن يكون هناك ما يدعو للتيسير، وليس هذا شرطاً أساسياً من شروط التيسير في الفتوى؛ لأن التيسير أصل من الأصول التي بنيت عليها الأحكام، ولكن إذا كان هناك ما يدعو للتيسير الظاهر تأكد التيسير في الفتوى وتحتم، كضرورة من الضرورات، أو وقوع مشقة من المشقات، وهكذا.
فالأصل أن يأخذ المكلفون بالعزيمة ما لم يدعُ داعٍ إلى التحول من العزيمة إلى الرخصة، وهذا الضابط يدخل فيه النوعان اللذان أشار إليهما الإمامان: الشافعي، وابن القيم من قبل؛ ففي النوع الأول ـ الكليات والأصول ـ يدخل التيسير فيه بالضرورة المعتبرة شرعاً؛ فالضرورة هنا هي التي دعت إلى التيسير، وفي النوع الثاني ـ الفروع والمتغيرات ـ يدخل التيسير باختيار الرأي الأيسر ما دام له دليل، وقد يكون التيسير فيه راجعاً إلى الضرورة أيضاً، ولا يلزم للتيسير في هذا النوع وجود الضرورة، وربما يليق للمفتي أن يفتي بالتغليظ والتشديد لمن يناسبه ذلك طبقاً لتغير الأحوال واختلاف الأشخاص زجراً للعامة، ولمن قلَّ دينه ومروءته، بشرط أن تكون فتياه طبقاً لمقتضى الأدلة الشرعية وأصول الفتيا.
وبعد: فهذه بعض الشروط التي يجب على المفتي مراعاتها إذا أراد التيسير على الناس، والحق أن الباحث عن شروط التيسير لا يجد الحديث عنها مفرداً أو مستقلاً عند أحد من علمائنا لا في القديم ولا الحديث، كل ما هنالك الحض على التيسير في الفتوى وأدلة ذلك من الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح مما يعطي البحث فيها أهميته، ويستوجب على الباحثين والمتخصصين إجراء البحوث العلمية في هذه المسألة.
أما الذين يجترئون على منصب الإفتاء ـ وما أخطره ـ فالنصيحة الواجبة لهم هي: أن يتقوا الله في هذا المنصب الذي تولاه الله بذاته العليا: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء: 176]، وأن يتريثوا في النطق بالحكم في مسألة مـن المســائل، حتــى لا يأخذهم الله بما يقولون، وإذا كان لا يعلم حكم مسألة من المسائل فإنه يسعه ما وسع الأئمة الكبار الذين كانوا يقولون: «لا أعلم»، وكانوا يحيل بعضهم الفتوى على بعض.
(1) صحيح البخاري: كتاب العلم. باب كيف يقبض العلم.
(2) لسان العرب: 15/147 ـ 148، طبعة دار صادر. بيروت. 1410هـ.
(3) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى: 6/437، طبعة خاصة على نفقة الشيخ علي بن عبد الله بن قاسم آل ثاني. ط ثانية. 1415هـ.
(1) رد المحتار على الدر المختار: 1/69، وانظر التقرير والتحبير في شرح التحرير: 3/347، ومجمع الأنهر: 2/154، وإذا قال ابن عابدين: «الإمام» فإنما يعني به أبا حنيفة رحمه الله.
(2) أسنى المطالب: 4/ 280، دار الكتاب الإسلامي. بدون تاريخ.
(3) مختار الصحاح: 310، دار الحديث ـ القاهرة ، بدون تاريخ .
(4) درء تعارض العقل والنقل: 8/473- 474، بتحقيق محمد رشاد سالم. دار الكنوز الأدبية. الرياض. 1391هـ.
(5) صحيح البخاري: كتاب الأدب. باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: يسروا ولا تعسروا، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس. (6) الموضع السابق.
(1) الموضع السابق.
(2) صحيح البخاري: كتاب الوضوء. باب صب الماء على البول في المسجد.
(3) سنن الدارمي: باب كراهية الفتيا.
(4) الرسالة: 560، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر. القاهرة. 1358هـ.
(5) المصدر السابق: الموضع نفسه.
(6) إغاثة اللهفان: 1/330 - 331، بتحقيق محمد حامد الفقي. دار المعرفة. بيروت. طبعة ثانية. 1395هـ.
(7) الأشباه والنظائر: 80 - 81، دار الكتب العلمية. بيروت. طبعة أولى. 1983م.
(1) صحيح مسلم: كتاب الحج. باب نقض الكعبة وبنائها.
(2) البحر المحيط: 8/381- 383، دار الكتبي. طبعة أولى. 1414هـ/1994م.
(3) المجموع: 1/79- 80، مكتبة المطيعي. القاهرة. بدون رقم الطبعة، وبدون تاريخ.
(1) صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها. باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
(2) المغني: 2/60. دار الفكر. بيروت. ط أولى. 1405هـ. 1985م، وانظر المجموع للنووي: 4/259.
(3) المجموع: 4/ 259.
(4) انظر كلاماً لابن حجر نفى فيه كل هذه التأويلات، وأكد أنه جمع بلا عذر، فتح الباري: 2/24. بتحقيق فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب. دار المعرفة. بيروت 1379هـ.
(5) نيل الأوطار: 3/ 257. دار الحديث. القاهرة. ط أولى. 1413هـ. 1993م.
(6) فتح الباري: 2/ 24.



السنة العشرون * العدد 210* صفر 1426هـ * مارس /أبريل 2005م

التعصب الممقوت وآثاره على العمل الاسلامي


التعصب الممقوت وآثاره على العمل الاسلامي

وصفي عاشور أبو زيد
ظهرت القضية الإسلامية المباركة بعد أن تهددت شخصية الشعوب الإسلامية، وتبددت قِيَمُها وموازينها بفعل الجمود في الداخل، ومخططات التغريب من الخارج، التي تهدف إلى ضرب الفــكرة الإسـلامية، وإبعـاد الأمـة عن شريعة ربها. ولكن الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد تضعف أو تلين أو تتوارى خلف السُتُر المختلفة والعديدة، ولكنها لا تختفي ولا تنمحي أبداً؛ لأن عامل الفطرة أقوى من كل العوامل الأخرى الطارئة والضعيفة مهما تعددت وتنوعت، فـشاء الله للأمـة العـربـيـة الإسـلامـيـة ـ بظهـورهــا ـ أن تـتـجـدد بعد أن بليت، وأن تقوى بعد أن ضـعفـت، وأن تـظهر فيـها بـوادر النـصر بعـد أن تجـرعـت مـرارة الهزائـم المتـتـالية على يد المستعمرين والمنهزمين ردحاً طويلاً من الزمان.
وبقدر هذه النعمة التي يستبشر بها دعاة الإسلام اليوم ورجاله في كل مكان ظهرت أمراض خطيرة بين أبناء هذه الصحوة المباركة تأكل من جسدها الناهض، وتهشم كيانها الصاعد؛ فبقدر ما تتقدم إلى الأمام تتقهقر إلى الخلف بفعل هذه الأمراض القاتلة، ومن أجل ذلك اهتم ثلة من علماء الأمة ومن أخلص دعاتها بترشيد مسيرة العمل الإسلامي في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ على بصيرة، وتقويم ونقد الحركات الإسلامية العاملة على الساحة، ومن أبرزهم: الشيخ أبو الحسن الندوي، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ سلمان بن فهد العودة، والشيخ محمد أحمد الراشد، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور عوض القرني، والأستاذ عمر عبيد حسنة، والأستاذ فتحي يكن، وغيرهم كثير.
وإذا كان للقضية أعداء من خارجها، فهذا من سنن الله الجارية في خلقه وفي كونه التي تقتضيها سنة التدافع بين الحق والباطل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْـمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]، لكن أن يكون عدو الصحوة من داخلها، فيتصارع أبناؤها، ويتعصبون ضد أنفسهم، ويصبح بأسهم بينهم شديداً؛ فهذا ما يغمر النفس حسرات، ويقطع القلب زفرات.
ومن أخطر الأمراض التي تهدد وجود القضية الإسلامية وتعوق مسيرتها: مرض التعصب الممقوت(1) الذي يمكن تعريفه بأنه: «عدم قبول الحق عند ظهور دليله»(2). وهو ما يعني في المحصلة الأخيرة تأخير امتداد صحوة الإسلام، وتزهيد الناس في الالتزام، فيكون بذلك الحالقة التي تحلق العلاقات والأواصر بين المسلمين العاملين في هذا السبيل المبارك، وربما تحلق الدين. ويقول العلاَّمة الشوكاني ـ في حسرة ـ مبيناً خطره في مقام من المقامات: «هاهنا تُسكب العبرات، ويُناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسُنَّة ولا لقرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لمَّا غلت مراجل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب بالقِيعة، فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين»(3).
واعتبره الشوكاني رزية وفاقرة على اعتبار أنه مفهوم يشتمل على بعض العناصر السلبية والخطيرة؛ ومنها:
1 - أنه حكم يفتقد للموضوعية، ويتسم بالتعميم أو التسطيح المخل.
2 - أنه يقوم على أساس مجموعة من القوالب النمطية والتصنيفات الجاهزة والانطلاق من خلفية معينة.
3 - ينشأ في ظل سياق ثقافي واجتماعي تغيب فيه الشورى والحرية، ويدفع للمجاراة بدرجة أو بأخرى.
وهذا ما يستوجب وقفة متأنية أمام هذا المرض الخطير لنرصد مظاهره، ونبين آثاره وأسبابه، ونرسم الطريق لعلاجه، وما يلي من مظاهر وآثار وأسباب وعلاج ليس هو الكلمة النهائية، بل ربما رأى غيري أن يضيف إليها أكثر منها.

أولاً: المظاهـر:
وللتعصب الممقوت الذى ابتُلي به بعض العاملين في ساحة العمل الإسلامي مظاهر متعددة، ويعتبر رصدها نتاج خبرة نتجت عن مشاهدة هذا الواقع ومعايشته فترة غير قليلة من الزمان ـ وربما كان هناك من المظاهر أكثر من هذا عند التأمل والتدبرـ ومنها:
1 - أن الذي يعمل في دعوة أو مع حزب أو جماعة يرى أنه هو الذي على الحق، وأن غيره على الباطل، مهما كان بينهم من كثرة في نقاط الاتفاق، ومهما كان بينهم من قلة في نقاط الاختلاف. قال ابن القيم في قوله ـ تعالى ـ: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]: جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتاجرون»(4).
2 - أن الذي يسلك سبيل الدعوة الفردية مع آحاد المسلمين يفاجئه أصحاب اتجاهات أخرى يخطفون منه هذا المدعو، ويتقاتلون عليه بحجة أن الطرف الآخر سوف يضله ويغويه بما عليه هو من غواية وضلال، وتكون النتيجة أن يترك المدعو هذا الميدان تماماً؛ لما يراه من فرقة واختلاف بين هؤلاء الدعاة.
3 - تحويل المساجد ـ بيوت التوحيد والعبادة والتجمع والتصافي والتوحُّد بين المسلمين ـ إلى ساحات شجار وتراشق بين فصائل الصحوة المختلفة بسبب قضايا فرعية خلافية، لم ينته الخلاف فيها سابقاً، ولن ينتهي الخلاف فيها لاحقاً. ويصف الصنعاني مظاهر ذلك قائلاً: «لم تكن الخلافات والنزاعات بين المقلدين مقتصرة على الآراء الفقهية فقط، بل بلغ بهم التعصب إلى الحروب الطاحنة فيما بينهم، يروي لنا التاريخ الشيء الكثير من ذلك. قال ياقوت الحموي وهو بصدد ذكر مدينة أصبهان: «وقد فشا الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين؛ فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إلٌّ ولا ذمة، ومع ذلك فقد قلَّ أن تدوم بها دولة سلطان أو يقيم بها فيصلح فاسدها، وكذلك الأمر في رساتيقها وقراها التي كل واحدة منها كالمدينة». ا. هـ. وهذا غيض من فيض مما وقع بين أتباع المذاهب الذي يندى له جبين التعصب، أعاذنا الله جميعاً من هذا الداء العضال الذي أصاب الأمة الإسلامية المتلاحمة ففرقها»(5).
4 - ومن المظاهر أيضاً أن ينتصر المسلم لجماعته أو حزبه أو دعوته أو مذهبه ومدرسته بالحق والباطل؛ فهي الحق على طول الخط حتى لو فعلت المنكرات البينات، وينتصر من غيرها دائماً حتى لو نصرت المحكمات الواضحات.
5 - إن بعض المسلمين يرى مدرسته التي ينتمي إليها مقدسة، ورجالها ملائكة معصومين، وتاريخها كله خالياً من الأخطاء مبرأً من العيوب، ولا يذكر لها إلا الحسنات والميزات حتى لو أتت أفعالاً تسببت في تأخر الإسلام وصحوته حيناً من الدهر، في حين يرى غيره من المدارس والجماعات مدخول العقيدة، سيئ المنهج، مُجرَّح الرجال، أسود التاريخ، ضيق الأفق، ضحل الفهم، متحلل الفكر، ولا يذكر لها إلا السيئات والعيوب حتى لو كان لها في انتشار الإسلام أيادٍ بيضاء، وما أحسن ما قاله العلامة الشوكاني في تفسيره عن المتعصب: «والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلةً منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقِّي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع؛ فإنه صار بها باب الحق مرتجّاً، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله ـ سبحانه ـ والهداية منه»(1).
6 - أن هذا الفريق لا يعجبه علماء الفريق الآخر حتى لو صدع بالحق؛ بينما إذا تبين خطأ علمائه هو التمس لهم العذر وهوَّن من ضلالهم في القول والفتوى؛ فعلماؤه مبرؤون حتى لو ضلوا وأضلوا، وعلماء غيره مدانون حتى لو كان لهم الفضل في رفع كلمة الإسلام زمناً ما، ونسي هؤلاء وأولئك هيبة العلماء، وأن القضايا العلمية الكبيرة لا شأن للصغار بها، وأن لحوم العلماء مسمومة، وهذا المظهر للأسف ربما وجدناه عند بعض العلماء أصحاب الاتجاهات والانتماءات المختلفة.
7 - ومن المظاهر أيضاً أنه ربما تعاون أبناء فصيل معين من الدعاة وتحالفوا مع عدو خارجي من أعداء الإسلام لضرب فصيل آخر مسلم عامل في الساحة، ليعملوا سوياً على إذهاب ريحه، وإنهاء وجوده؛ حتى يخلو لهم الجو، وتفرغ لهم الساحة؛ ليمارسوا دعوتهم في جوٍّ آمن من التراشق والمضايقات، خالٍ من التنافس والمشاحنات. نسأل الله العافية.

ثانياً: الآثار:
ومن البدهي أن يكون لهذه المظاهر آثار مدمرة على كل المستويات سواء على مستوى الدعوة الخاص، أو مستوى الإسلام العام، ومن أبرز هذه الآثار ما يلي:
1 - تأخر وتخلف الحركات بهذا التعصب؛ لأنه ـ وقد رآها أصحابها معصومة فوق النقد والمراجعة ـ سوف يقفز الزمان عليها ويتخطاها بأزمان ليرتاد آفاقاً غيرها بما مات فيها من نقد ذاتي يحيي الحركات والدعوات، ويقوي ضعفها ويشد على أيديها.
2 - الكراهية والتدابر والتحاسد والتباغض الذي سيسري بين أبناء الدعوة الإسلامية من جراء هذه المراشقات، ونتيجة تلك الاختلافات الفرعية، وهو أمر يوقِع في مخالفة مع نصوص متفق عليها مثل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إيـاكـم والظـن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا»(2).
3 - إيقاع الوهن والتفكك في جسد الدعوة الإسلامية، وربما تعدى ذلك إلى عموم المسلمين، وهو ما يوقع أيضاً في مخالفة نصوص صريحة متفق عليها ليس أبرزها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(3).
4 - تزهيد الناس في الالتزام بالإسلام، أو مع هذه المدارس والمذاهب للعمل للإسلام؛ لما يرونه من تراشق وتشاحن، هذا يحارب ذاك وينشر عنه الافتراءات والأكاذيب ويكيد له، وذاك يتهم هذا ويتمنى له الخطأ ويُسمِّع به، فيقف الجمهور المسلم في حيرة: أيهم على صواب، وأيهم على خطأ، ولماذا كل هذا، وفي صالح من؟ وربما تعدى هذا الزهد إلى الإسلام ذاته فيتشكك الناس في الإسلام؛ فهل منهج الإسلام السمح وشريعته الغراء وتشريعه الوسطي يفرِّخ هذا التعادي والتحاقد، ويولِّد هذا التنافر والتباغض؟
5 - الانكفاء على قضايا الداخل الذاتية الصغرى، وإهمال القضايا المصيرية الكبرى التي تتعلق بواقع الأمة ومستقبلها؛ لأن فصائل الصحوة مشغولة بكيفية انتصار بعضها على بعض، ناسين أو متناسين الأخطار المحدقة بالأمة التي توجب عليهم أن يتكاتفوا لينتصروا عليها، وما أكثرها.
6 - طمع الأمم في أمة الإسلام؛ لأنها أصبحت أمة ضعيفة الجسد مترهلة البنيان ليست جسداً قوياً، ولا بنياناً مرصوصاً، ومن ثَم فالدائرة تدور عليها؛ لأن السنن الإلهية الجارية لا تحابي أحداً؛ فالأمة القوية التي تأخذ بأسباب القوة والنصر والوحدة ينصرها الله ولو كانت كافرة فاجرة، والأمة الضعيفة التي تهمل أسباب القوة والنصر يخذلها الله ولو كانت مؤمنة تقية.
7 - ومن الآثار الخطيرة التي تدخل على آخرة المسلم بالخراب والبوار هو كسب السيئات التي يجنيها المسلم من وقوعه في عرض أخيه الذي ينتمي إلى غير مذهبه وجماعته بالهمز واللمز، والغيبة والنميمة، والسخرية والاستهزاء، وأكله للحوم العلماء في الطوائف الأخرى، وغير ذلك من أبواب السيئات.

ثالثاً: الأسبـاب:
لا شك أن خلف كل دخان ناراً، ولكل داء دواء؛ فإذا تم تشخيص الداء والوقوف على أسبابه سهل علينا وصف الدواء، فوضع اليد على الأسباب هي نصف طريق العلاج كما يقولون، ومن أهم أسباب هذا التعصب الممقوت ما يلي:
1 - اتبـاع الهوى والإعـجاب بالرأي: وهو من أسباب التعصب الـقويـة؛ فـمن لم يتبـع الكـتاب والسـنة، وأُعـجب برأيـه فلن يتـبع الحـق مهمـا ظــهر بدلـيــله؛ كـيــف وقـد قـال ـ تعالى ـ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 43 - 44].
وروى التـرمذي بسنده عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعـلبة الخشـني، فقـلت له: كيـف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] قال: أما واللهِ لقد سألتَ عنها خبيراً، سألتُ عنها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر؛ حتى إذا رأيتَ شُحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنياً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام؛ فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمـلكم». قال عبـد الله بـن المبـارك: وزادنـي غـير عتـبة قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم»(1).
فطبيعة متبع هواه والمعجب برأيه إذا علم أن رأيه خطأ ألاَّ يتنازل عنه ولا يعترف بالحق بل يتمسك بخطئه، ويزداد عناداً وإصراراً عليه، وإذا علم أن رأي غيره صواب فلا يعترف به حتى لو كان واضحاً وضوح الصبح لذي عينين، وقديماً قال الشاعر:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضحُ
2 - تحقيق مآرب شخصية ومصالح دنيوية، وهذا السبب يقتصر على الذين يلتحقون بالحركات العاملة لتحقيق مآرب شخصية، ومصالح نفعية، وأهداف دنيوية، كالطبيب الذي يريد أن يوسع دائرة مرضاه، والمحامي الذي يريد أن يكسب ثقة الناس حتى يتشاكوا إليه، والعالم الذي يريد أن يوسع دائرة شهرته ليجد لإنتاجه وكتبه وخطبه مريدين وقراءً ومستمعين، وهكذا... فهذا الشخص لن ينظر إلى الحق والباطل، ولا إلى الخطأ والصواب، إنما هو ينصر الاتجاه الذي انتمى إليه ويتعصب له من أجل تحقيق مآربه ومصالحه بصرف النظر عن قضية الحق والباطل، وبعيداً عن تصحيح المسار والنقد الذاتي والتقويم النفسي؛ لأن هذا ليس هو أكبر همه، وربما أبدى اهتمامه بذلك أحياناً ليبين مدى تفانيه في العمل، وإرادته الخير لما انتمى إليه من مذهب، ولكن هذا كله لا يلبث أن يظهر مع العقبات، وسرعان ما يزول مع الابتلاءات التي يمتحن بها أهل الدعوات: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17].
3 - الجهل بمذاهب الفقهاء، وهذه طامة كبرى، ومصيبة عظمى وسبب أكبر من أسباب التعصب الممقوت، وهو سبب رئيس من أسباب التناحر والتباغض والتنافر والتدابر بين أبناء الصحوة الإسلامية؛ إذ إن عدم الاطلاع على مذاهب الفقهاء وآرائهم في مـسألةٍ ما يـؤدي إلى التـعصب لمـذهـب بعينه؛ لأنه لا يعلم سواه، ومن ثَم ينظر لمن يخالفه على أنه جاهلٌ لا علم له، وعلى أنه مخالف للسنة والهدي النبوي، في حين أنه لو اطلع على المـذاهـب الأخرى لعـلم أنها قـضية خلافـية يسـعهم فيها ما وسع الأئمة الكبار من قبلهم، ولعل هذا النوع من الجهل هو أهم أسبـاب المشـاحنات والمشـادات في المسـاجد التـي تمتلئ عندنا ـ نحن المسلمين ـ بالاختلاف نتيجة الجهل المطبق بالأحكام الفقهية الفرعية العملية.
4 - اتبـاع الأشـخاص والهيئات، وعدم الإذعان للحق بدليله؛ فمن يتبع حزباً أو جماعة أو دعوة أو مؤسسة ويرى أنها لا تخطئ في العمل، أو تضل في الرأي يتعصب لها تعصباً شديـداً، ويحمـل حمـلة لا هـوادة فيـها علـى مـن يحاول نقدها أو تصحيح وتقـويم مـسارها حتى لو كان من أبنائها، وكذلك إذا وثق في علم عالم، ورجاحة عقله، وفقهه للنص الشرعي وإدراكـه للواقـع العمـلي؛ فإنه يـرى أنـه لا ينـطق عن الهوى، ولا يفتي إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق، لا يقع منه زلل في القـول أو العـمل، ولا يصـدر عنه خطأ في الفتوى أو الحكم، ولا يُـظن به خطل في الرأي أو التصور، ومن ثم لا يجري عليه ما يجري على البشر، في حين أنه لم توجد ـ على امتداد التاريخ ـ هيئة أو مؤسسة أو جماعة إلا ولها أخطاؤها وإخفاقاتها، ولم ولن يوجد عالم إلا وله زلاته وكبواته، ويأبى الله إلا أن تكون العصمة له ولكتابه ورسوله.
ولهذا وصف ابن قيم الجوزية أهل العلم والعدل والقسط بكونهم: «زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحداناً، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إخراج المتعصب عن زمرة العلماء إليه ولا يسألونه عما قال برهاناً»(1).

رابعاً: معـالم على طريـق العـلاج:
لم يَعُد خافياً ـ بعد ذكر المظاهر والآثار والأسباب ـ على كل ذي نظر عميق وفهم دقيق، ملامح طريق العلاج وأهم معالمه؛ فبالإضافة إلى تلافي الأسباب السابقة نحاول التعرف على نقاط العلاج، والتي من أبرزها:
1 - الفهم السليم لطبيعة العمل في فصائل الدعوة الإسلامية، وهي أن كل الفصائل والحركات ـ التي يجوز العمل من خلالها ـ مكملة لبعضها، ومتعاونة ومتضافرة فيما بينها، وليست متنافرة ولا مختلفة، الكل يبغي نصرة الإسلام، وإعلاء كلمته ورفع رايته، ومن ثَم فلا يضير أن تقوم دعوة من الدعوات أو حركة من الحركات تهتم بالعمل الخيري، وأخرى تهتم بجمع الناس في المساجد وحشدهم لفعل الخير، وأخرى تهتم بالعمل العام، وأخرى تذكِّر بقضايا الأمة الكبرى، وأخرى تهتم بالعمل الاقتـصادي أو السياسي، وهكذا... فلا تنكر هذه على تلك، ولا تنقم تلك من هذه،؛ لأنهم فهموا أنهم متعاونون على نصرة الإسلام وجمع كلمة المسلمين، فلن يعيب بعضهم على بعض التقصير في جانب دون جانب.
والفهم نعمة عظيمة بها تُحل كثير من المشكلات، وتزال العـديد مـن العقبات، فلا غرو أن امتن الله بها على سليمان حين قـال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]، وكان من وصية عمر بن الخـطاب لأبي مـوسـى الأشـعـري ـ رضـي الله عنـهما ـ: «الفهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة».
وما أحسن ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله ـ تحت عنوان: «الفـهم الصـحيح نعـمة»، قال: «صحة الفهم وحسن القصد من أعـظم نعـم الله التـي أنعـم بها علـى عبـده، بل ما أُعطي عبد عطـاء بعـد الإسـلام أفضـل ولا أجـل منـهما، بل هـما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغـضوب عليهـم الذين فـسد قصـدهم، وطريـق الضـالين الذيـن فسـدت فهومـهم، ويصيـر من المنـعم عليهم الذين حسـنت أفهـامهم وقصـودهـم، وهم أهل الصراط المستقيم الذيـن أُمِرْنا أن نسـأل الله أن يهـديـنا صـراطـهم في كل صـلاة، وصـحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغـي والرشـاد، ويمـده حسـن القـصـد وتحـري الحـق وتـقـوى الرب في السـر والعـلانيـة، ويقـطع مادتَه اتباعُ الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى»(2). مـع التـسليم بوجـوب التـزام جمـيع أبـناء الصـحوة ـ مع اهتـمام كل فصيـل بعـمل معـين أو جانب ما ـ أصولَ الإسلام وفرائضه إلا لضرورة، والتفريق بين الأصول والفروع، والفرائض والنوافل، وفقه النسب بينها، واتفاقهم على معنى ومفهوم ذلك كله.
2 - التجرد في الوصول إلى الحق والعمل به، وإخلاص النية وضبطها ما أمكن، وهو ما سوف يقطع الطريق على الشيطان وأهواء النفس أن تضل أو أن تطغى، ما دام بغيتها الوصول إلى الحق بدليله، والانغماس في العمل بعيداً عن النقاشات الحادة والجدال الذي لا يأتي بخير.
وما دام العاملون يتميزون بالإخلاص والتجرد في طلب الحـق فلن يتـردد أحـدهم في اتبـاعه متى ظهر حتى لو كان على لسـان غيـره من الاتجاهات أو الحركات، ولعلنا نتذكر كلام الإمام أبي حنيفة في هذا الصدد؛ إذ كان يقول عند الإفتاء: «هـذا رأي النعـمان بن ثابت ـ يعني نفسه ـ وهو أحسن ما قدرت عليه؛ فمن جاء بأحسن منه فهو أوْلى بالصواب». ونقل عن الإمام الشافعي أنه قال: «ما ناظرت أحداً إلا قلت: اللهم أجْـرِ الحـق على قلبه ولـسانه؛ فإن كـان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته»(3). وكان يقول: «ما ناظرت أحداً قـط فأحـببت أن يخطئ». وكان عبد الله بن أحمد بن حنبل يحكي عـن أبيـه أنه قال: قال الشافعي: «أنتم أعلم بالحديث والرجال مني؛ فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفياً أو بصرياً أو شامياً حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً»(1).
3 - ضـرورة الاطـلاع على الخلاف الفقهي، وهي واحدة من أهم معالم طريق العلاج لهذه الآفة الخطيرة؛ فما أكثر المصـارعات التـي تحـدث وسبـبها أن أحد الأطـراف أو أغـلبها لا يكـون عـالماً بأن القـضية خـلافـية. وعبارة: «ضـرورة الاطـلاع على الخلاف الفقهي» مقصودة عمداً؛ لأنها فعلاً ضرورة من الضرورات، والتي بدون الاستجابة لها لن يكون هـناك كبيـر اتفاق بين أبنـاء الدعوة، وسيـظل العـراك مشتـعلاً، والشجار محتدماً، ووجه الصواب خافياً ما لم يتفقه العامـلون في دينهـم، ويتعـمقوا في مصـادر الشريعة ومواردها، وما لم يطلعوا على الخلاف الفقهي من مصادره المعـتبرة بحججه وبراهينه، مثل كتب الفقه المقارن وكتب الأصول والقواعد، وهذا ما جعل رجلاً مثل ابن القيم يقول: «ومـن له قـدم راسخ في الشريعة ومعرفة بمصادرها ومواردها، وكان الإنصاف أحب إليه من التعصب والهوى، والعلم والحجة آثر عنده من التقليد لم يكد يخفى عليه وجه الصواب»(2).
4 ـ أهمية الاحتـرام المتبـادل ومـراعــاة أدب الخـلاف، وهـو مَعْلَم ينبـثق عـن سابقه مبـاشـرة، ويـترتـب عـليـه؛ فإذا تم الاطلاع على الخلاف الفقهي وجب الاطلاع على أدب الخلاف، وسيرة الفقهاء القدماء والمعاصرين الذين اختلفوا في الرأي مع بعضهم، وسيرة السلف الصالح، بل سيرة الصحابة أنفسهم، ولم يكن ذلك سبباً ـ أبداً ـ في إضعاف الحب بينهم، أو النيل من تقدير بعضهم لبعض، ولعلنا نحفظ العبارة التي رويت عن الأئمة الأربعة تقريباً: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيـري خطأ يحتمل الصواب». ومعنى «رأيي صواب»: أي لذلك قلت به وإلا فلا، ما دام يغلب عليه الظن بالصواب. ومـعنى «ورأي غيري خطـأ»، أي وإلا لقلـت به ما دام يغـلب علـيه الظـن بالخـطأ؛ لأنـه ليـس هنـاك قطـع بأفضـلية أحد على أحد، وكل يؤخذ من قوله ويرد عليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا أحد في الإسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام أن فلاناً أفضل من فلان فيقبل منه هذا الجواب؛ لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجح متبوعها، فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه، كما أن من يرجح قولاً أو عملاً لا يقبل قول من يفتي بخلاف ذلك، لكن إن كان الرجل مقلداً فليكن مقلداً لمن يتـرجح عـنده أنـه أوْلى بالحق؛ فإن كان مجتهداً اجتهد واتبع ما يتـرجح عنـده أنه الحـق، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد قال ـ تعـالى ـ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، لكن عليه أن لا يتبع هواه، ولا يتكلم بغير علم، قال ـ تعالى ـ: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [آل عمران: 66]، وقال ـ تعالى ـ: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْـحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6]، وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره، ولا يَعرف هذا التفاضل إلا من خاض في تفاصيل العلم(3).
فانظر كيف كان عند كل واحد منهم احتمال بخطأ رأيه، وصواب رأي غيره، وهذا فيه من رحابة الصدر وسعة الأفق ما يمحو التعصب، ويهيئ المسلم لاتباع الحق والانصياع له متى ظهر بدليله، وهو من عظيم أخلاق العلماء وطلاب العلم، فضلاً عن العاملين في ساحة العمل الإسلامي.

وختاماً: تجدر الإشارة إلى أن هناك الكثير من أبناء الدعوة الإسلامية في مختلف فصائلها يدركون أبعاد العمل الإسلامي ومراميه، فاقهين للقضايا الخلافية مطلعين على آراء الفقهاء، فاهمين طبيعة العمل ضمن فصائل الصحوة المتعددة، متخلقين بأخلاق الإسلام من آداب للخلاف، واحترام لآراء الغير، واستعداد لقبول الرأي الآخر متى كان حقاً.
ولما كان للعملة دائماً وجهها الآخر، وكان التغلب على التعصب الممقوت وآثاره هو مسؤولية جميع التيارات داخل أبناء الدعوة الإسلامية؛ فإن العلماء والفقهاء والدعاة المنتمين لهذه التيارات ـ وغير المنتمين بوجه ما ـ مدعوون لأنْ يؤمنوا بأن حماية الدعوة وتحقيق أهدافها رهن بتفعيل القيم الإسلامية سالفة الذكر، إضافة إلى قيم الشورى والعمل الجماعي، وأن يقتنعوا بأن تضمينها في المناهج التربوية يعد من الوسائل الناجعة في مغالبة التخلف والجمود والظلم لأمتنا.
(*) باحث في العلوم الشرعية، كلية دار العلوم، القاهرة.
(1) أركز هنا على وصف التعصب بـ «الممقوت»؛ لأن هناك تعصباً محموداً، وهو التعصب للعقيدة وأصول الإسلام وكلياته الكبرى ومقاصده العظمى، أما التعصب المذموم أو الممقوت فهو ما نحن بصدد الحديث عنه.
(2) قواعد الفقه للبركتي: 231، طبع دار الصدف ببلشرز. كراتشي. طبعة أولى، 1407هـ.
(3) السيل الجرار: 4/ 584، دار الكتب العلمية. بيروت. طبعة أولى، 1405هـ.
(4) إعلام الموقعين: 1/7، دار الجيل. بيروت، 1973م.
(5) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد: 22- 23، الدار السلفية. الكويت. طبعة أولى 1405هـ، وانظر معجم البلدان للحموي: 1/209، دار الفكر. بيروت. بدون تاريخ.
(1) فتح القدير: 2/243، دار الفكر. بيروت. بدون تاريخ.
(2) صحيح البخاري: كتاب الأدب. باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله ـ تعالى ـ ومن شر حاسد إذا حسد. وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، واللفظ له.
(3) صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم. وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب. باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، واللفظ له.
(1) سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله، باب ومن سورة المائدة، وقال: «هذا حديث حسن غريب».
(1) إعلام الموقعين، 1/6 ـ 7.
(2) إعلام الموقعين: 1/87.
(3) إرشاد النقاد: 14.
(1) إيقاظ همم أولي الأبصار، لصالح بن نوح العمري: 102، دار المعرفة. بيروت، 1398هـ.
(2) إعلام الموقعين: 4/32.
(3) مجموع الفتاوى: 20/293.