مشكلة الغذاء في العالم.. رؤية شرعية
لا يصح أن نتناول أي مشكلة عالمية تخص العالم عامة أو العالم الإسلامي على وجه الخصوص من أي جهة شرعية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، دون النظر إلى الظرف الحضاري الذي تمر به الأمة، أو دون النظر إلى طرفي العالم، الغالب والمغلوب. فكل مشكلة سواء أكانت دينية أم اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية لابد أن يرجع أساسها إلى ضعف الأمة الإسلامية . ولا يصح أن يكون التناول لأي مشكلة من المشكلات جزئيا أو من زاوية واحدة، إذ يصعب أن تنفصل الرؤية الشرعية عن الرؤية الاقتصادية عن الرؤية السياسية عن الرؤية الاجتماعية في تناول أي مشكلة من المشكلات لا سيما في هذا العالم الذي تميز بالتعقيد في منظوماته، والتشابك في علاقاته. ولحل هذه المشكلة لابد من حلول آنية فورية تسد الرمق وتغيث الملهوف وتقيم صلب الشعوب والأمم التي تموت جوعا، وحلول أخرى مستقبلية تجنب هذه الشعوب على المدى البعيد الوقوع في مثل هذه الأزمة، وتضمن لها الثراء والغنى، وأن تكون يدها العليا وليست السفلى.
حلول آنية فورية
لا نستطيع أن ننتقل إلى الحلول البعيدة المدى قبل أن نعالج الجراح القائمة التي تنزف، ونحفظ الأرواح التي تزهق، إذ إن التخطيط المستقبلي دون حلول عاجلة لما نراه اليوم يعرضنا لفقدان الكثير والكثير: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(المائدة: 32).
فلابد من إغاثة هؤلاء إستغاثة فورية من أجل استنقاذهم بإرسال الأغذية التي تسد رمقهم، والملابس التي تستر عوراتهم، والمساكن التي تؤويهم، وكل ما يضمن لهم حد الكفاية من العيش الكريم.
وفي نصوص القرآن الكريم ما يحض على هذا بل يوجبه ويجعله فريضة، ويتوعد من لم يقم به أو يصد عنه، قال تعالى عن صفات الأبرار: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8).
وذكر أن دعَّ اليتيم وعدم الحض على إطعام المسكين من علامات من يكذب بالدين، فقال في سورة الماعون: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}.
وفي سورة الفجر، يوضح حقائق التصور، وأصول النظر في قضية المنع والمنح: {كَلا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}.
وعن أسباب ما يقع فيه من يؤتى كتابه بشماله قال القرآن: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ. وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}(سورة الحاقة 23- 27).
فانظر كيف كان جزاؤه طعاما من غسلين في مقابل أنه كان لا يحض على طعام المسكين، يقول صاحب الظلال تعقيبا على هذه الآيات: "وهي تكملة الإعلان العلوي عن مصير ذلك الشقي. فلقد كان لا يؤمن بالله العظيم، وكان لا يحض على طعام المسكين. فهو هنا مقطوع (فليس له اليوم ها هنا حميم) وهو ممنوع: (ولا طعام إلا من غسلين)، والغسلين هو غسالة أهل جهنم من قيح وصديد! وهو يناسب قلبه النكد الخاوي من الرحمة بالعبيد! طعام (لا يأكله إلا الخاطئون)، المذنبون المتصفون بالخطيئة، وهو منهم في الصميم!".
ثم يقول في كلمات معبرة عن واقعنا: "فذلك هو الذي يجعله الله مستحقاً للأخذ والغل والتصلية والسلسلة التي ذرعها سبعون ذراعاً في الجحيم. وهو أشد دركات جهنم عذاباً.. فكيف بمن يمنع طعام المسكين ومن يجيع الأطفال والنساء والشيوخ، ومن يبطش بطشة الجبارين بمن يمد إليهم يده باللقمة والكساء في برد الشتاء؟ أين يذهب هؤلاء، وهم يوجدون في الأرض بين الحين والحين؟ وما الذي أعده الله لهم وقد أعد لمن لا يحض على طعام المسكين، ذلك العذاب في الجحيم؟".
وفي نصوص السنة النبوية ما يؤكد هذا التوجه القرآني، ويبين أن المؤمنين أمة واحدة، القوي فيها يحمل الضعيف، والغني فيها لا يترك الفقير، فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِم... (رواه أبو داود: 2371).
وفي سياق آخر يبين هذه الرابطة التي تجمع بين المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم، فعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى". رواه مسلم:( (4685
إلى غير ذلك من نصوص في هذا الشأن الذي لا يحتاج لجمع نصوص ولا لحشد أدلة، لأنه يبلغ في الشرع حد التواتر، ويعد في الدين من الأصول والكليات، وقبل هذا كله فهي حاجة إنسانية محضة، يتحرك لها الناس بدافع الإنسانية فضلا عن دافع الدين.
وإذا كان الشرع قد أمر بحفظ مشاعر الحيوان ومراعاتها، فكيف بعدم حفظ نفوس بني آدم من الهلاك وأرواحهم من الإزهاق؟ وإذا كانت امرأة دخلت النار في هرة حبستها، ورجل دخل الجنة في كلب سقاه، فماذا عن إنقاذ نفوس بشرية معصومة ومحترمة، ومشرفة ومكرمة بنفخة من روح الله؟
من هذا كله يتبين وجوب إغاثة الملهوفين، وضرورة سد رمق الجائعين، ويتأكد هذا الوجوب للدول المحتاجة على الدول المجاورة، فالرسول ۖ حينما أوصى بالجار وظل يوصي به حتى ظن بعض الصحابة أنه سيورثه من تركة جاره، كان يشير إلى معنى التكافل والتضام والتلاحم بين الجيران، ليصير المجتمع المسلم متماسكا، قوي البنيان شديد البأس.
وليس معنى الجوار أن يكون البيت ملاصقا للبيت على المستوى التكافل الإجتماعي والتخطيط المشترك فريضة إنسانية ... لإنقاذ ملايين البشر الفردي فقط، بل هو الوطن مجاور للوطن والقطر بجانب القطر والدولة جارة للدولة، فيصدق الجوار على الدول والأمم والشعوب كما يصدق على الأفراد سواء بسواء، ومن هنا كان من حق الدول الفقيرة الجائعة على جيرانها من الدول الغنية الثرية هذا الحق الذي يفرضه الدين، ويحتمه الواقع، وتوجبه كل معاني الإنسانية.
حلول مستقبلية .
وأعني بهذه الحلول أن يجتمع الخبراء والمتخصصون في كل مجال من أجل وضع خطط عملية ومشاريع طويلة المدى بغية تجنيب هذه البلاد الوقوع في مثل هذه الأزمات، وهذه الخطط أمر مقرر في الإسلام، ونحن نقرأ في القرآن الكريم عن خطة اقتصادية خمس عشرية وضعها يوسف عليه السلام لتجنيب مصر هذه المشكلات، فقال القرآن في سورة يوسف: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.((47 -49
وحتى لا يكون كلامنا استنباتا للبذور في الهواء لابد من توافر تربة سياسية واجتماعية واقتصادية تقبل هذا التخطيط المستقبلي وتستوعبه، فلن يتم هذا إلا ببث الوعي الفردي والمجتمعي والدولي بأهمية التعاون بين بني البشر عموما، وبين المسلمين خصوصا، ولو كانت روح الشريعة الإسلامية موجودة في واقعنا لأخرج الأغنياء صدقات أموالهم لترد على الفقراء، ثم من حق الحاكم بعد ذلك أن يفرض وظائف مالية توفر حد الكفاية للمجتمع.
ونحن المسلمين عندنا في عالمنا العربي والإسلامي ما يكفي لتوفير حد الكفاف، بل ما يوفر الثراء والغناء والإفراغ من دلونا في دلاء العالم كله، فمثلا دول الخليج تمتلك الأموال، والسودان تملك الأراضي الزراعية، ومصر تملك الأيدي العاملة.
من حق الدول الفقيرة على الدول الغنية إطعامها وسد رمقها
وفي كل وطن يوجد العلماء والخبراء والمتخصصون، فيحدث هذا النوع من التكامل والتكافل والتناغم الذي يحقق للأمة العربية الوحدة وللعالم الإسلامي القوة والمنعة والثراء، فنأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع، وتكون لنا وحدتنا واستقلالنا ومشاريعنا وخططنا التي تعمل لمصلحتنا ومصلحة شعوبنا.
وبغير هذا التعاون البناء لن يتوفر لنا حد الكفاية، ولن نستقل في التفكير أو اتخاذ القرار، وسنظل ندور في دائرة مفرغة: الشعوب فيها منفصلة عن الحكام، والعلماء متصادمون مع الأمراء، وأعداؤنا يتحكمون فينا ويتصرفون في مقدراتنا وأقواتنا كما يشاءون، ولن نفيق من غفلتنا، أو نصحو من نومتنا، أو نتصدر مكان القيادة والريادة كما كنا من قبل إلا باتباع روح الإسلام واستنزال تعليماته الفردية والجماعية، وعندها ستعيد الأمة مجدها وعزها، وما ذلك على الله بعزيز.
كيف واجه المسلمون الأوائل غلاء الأسعار؟
- في البداية لا بد أن نعلم أن ما مسَّنا في بلادنا من غلاء الأسعار إنما هو بسبب ذنوبنا {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى-30)، ونحن في نعمة إذا نظرنا إلى غيرنا ممن ابتُلِي في أمنِهِ بكوارث طبيعية أو سياسية، وأزمة الغلاء والفقر تواجه العالم كله، وأصابت مجتمعاتنا بشكل واضح، وقد تؤدي- إذا استفحلت- إلى كوارث ونتائج سيئة، وتُنهِك ذوي الدخل المنخفض والفقراء، وتؤدي إلى الركود الاقتصادي وعزوف الأفراد عن الشراء.
في زمن سيدنا عمر بن الخطاب اشتكى الناس غلاء السلع، وخاصةً اللحم، فعندما سألوه، قال لهم: أرخصوه أنتم.. فعَجِبوا وقالوا: كيف ونحن لا نملكه؟! فأجابهم: اتركوه لمن يملكه!
وقد غلت الأسعار في تاريخ الأمة أواخر عهد بني العباس، وعظُم البلاء ببغداد حتى أكلوا الجِيَف، وضرب الغلاء بعض البلاد كمصر، وحصل هلاك كبير، وقد وضعت الشريعة الأحكام التي تقي من هذه الأزمة؛ ففي أوقات الرخاء حثَّ الإسلام على الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة، وهذا من شأنه أن يقلِّل الطلب فينخفض السعر، ويقل الطلب على السلع الباهظة الثمن، وشراء المنتجات البديلة معتدلة السعر، وإذا كان هذا في حالة الرخاء فما بالنا في حالة الغلاء؟!
وحدث في زمن آخر، زاد سعر الزبيب واشتكى الناس أيضًا، فقال لهم الحاكم: أبدلوه بالتمر؛ لوفرته، ورخص ثمنه، وقيمته الغذائية العالية.
التصنيف الرئيسيملف العددأزمة الغذاء
بقلم الكاتب: وصفي عاشور أبو زيد - مصر
حلول آنية فورية
لا نستطيع أن ننتقل إلى الحلول البعيدة المدى قبل أن نعالج الجراح القائمة التي تنزف، ونحفظ الأرواح التي تزهق، إذ إن التخطيط المستقبلي دون حلول عاجلة لما نراه اليوم يعرضنا لفقدان الكثير والكثير: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(المائدة: 32).
فلابد من إغاثة هؤلاء إستغاثة فورية من أجل استنقاذهم بإرسال الأغذية التي تسد رمقهم، والملابس التي تستر عوراتهم، والمساكن التي تؤويهم، وكل ما يضمن لهم حد الكفاية من العيش الكريم.
وفي نصوص القرآن الكريم ما يحض على هذا بل يوجبه ويجعله فريضة، ويتوعد من لم يقم به أو يصد عنه، قال تعالى عن صفات الأبرار: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8).
وذكر أن دعَّ اليتيم وعدم الحض على إطعام المسكين من علامات من يكذب بالدين، فقال في سورة الماعون: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}.
وفي سورة الفجر، يوضح حقائق التصور، وأصول النظر في قضية المنع والمنح: {كَلا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}.
وعن أسباب ما يقع فيه من يؤتى كتابه بشماله قال القرآن: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ. وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}(سورة الحاقة 23- 27).
فانظر كيف كان جزاؤه طعاما من غسلين في مقابل أنه كان لا يحض على طعام المسكين، يقول صاحب الظلال تعقيبا على هذه الآيات: "وهي تكملة الإعلان العلوي عن مصير ذلك الشقي. فلقد كان لا يؤمن بالله العظيم، وكان لا يحض على طعام المسكين. فهو هنا مقطوع (فليس له اليوم ها هنا حميم) وهو ممنوع: (ولا طعام إلا من غسلين)، والغسلين هو غسالة أهل جهنم من قيح وصديد! وهو يناسب قلبه النكد الخاوي من الرحمة بالعبيد! طعام (لا يأكله إلا الخاطئون)، المذنبون المتصفون بالخطيئة، وهو منهم في الصميم!".
ثم يقول في كلمات معبرة عن واقعنا: "فذلك هو الذي يجعله الله مستحقاً للأخذ والغل والتصلية والسلسلة التي ذرعها سبعون ذراعاً في الجحيم. وهو أشد دركات جهنم عذاباً.. فكيف بمن يمنع طعام المسكين ومن يجيع الأطفال والنساء والشيوخ، ومن يبطش بطشة الجبارين بمن يمد إليهم يده باللقمة والكساء في برد الشتاء؟ أين يذهب هؤلاء، وهم يوجدون في الأرض بين الحين والحين؟ وما الذي أعده الله لهم وقد أعد لمن لا يحض على طعام المسكين، ذلك العذاب في الجحيم؟".
وفي نصوص السنة النبوية ما يؤكد هذا التوجه القرآني، ويبين أن المؤمنين أمة واحدة، القوي فيها يحمل الضعيف، والغني فيها لا يترك الفقير، فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِم... (رواه أبو داود: 2371).
وفي سياق آخر يبين هذه الرابطة التي تجمع بين المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم، فعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى". رواه مسلم:( (4685
إلى غير ذلك من نصوص في هذا الشأن الذي لا يحتاج لجمع نصوص ولا لحشد أدلة، لأنه يبلغ في الشرع حد التواتر، ويعد في الدين من الأصول والكليات، وقبل هذا كله فهي حاجة إنسانية محضة، يتحرك لها الناس بدافع الإنسانية فضلا عن دافع الدين.
وإذا كان الشرع قد أمر بحفظ مشاعر الحيوان ومراعاتها، فكيف بعدم حفظ نفوس بني آدم من الهلاك وأرواحهم من الإزهاق؟ وإذا كانت امرأة دخلت النار في هرة حبستها، ورجل دخل الجنة في كلب سقاه، فماذا عن إنقاذ نفوس بشرية معصومة ومحترمة، ومشرفة ومكرمة بنفخة من روح الله؟
من هذا كله يتبين وجوب إغاثة الملهوفين، وضرورة سد رمق الجائعين، ويتأكد هذا الوجوب للدول المحتاجة على الدول المجاورة، فالرسول ۖ حينما أوصى بالجار وظل يوصي به حتى ظن بعض الصحابة أنه سيورثه من تركة جاره، كان يشير إلى معنى التكافل والتضام والتلاحم بين الجيران، ليصير المجتمع المسلم متماسكا، قوي البنيان شديد البأس.
وليس معنى الجوار أن يكون البيت ملاصقا للبيت على المستوى التكافل الإجتماعي والتخطيط المشترك فريضة إنسانية ... لإنقاذ ملايين البشر الفردي فقط، بل هو الوطن مجاور للوطن والقطر بجانب القطر والدولة جارة للدولة، فيصدق الجوار على الدول والأمم والشعوب كما يصدق على الأفراد سواء بسواء، ومن هنا كان من حق الدول الفقيرة الجائعة على جيرانها من الدول الغنية الثرية هذا الحق الذي يفرضه الدين، ويحتمه الواقع، وتوجبه كل معاني الإنسانية.
حلول مستقبلية .
وأعني بهذه الحلول أن يجتمع الخبراء والمتخصصون في كل مجال من أجل وضع خطط عملية ومشاريع طويلة المدى بغية تجنيب هذه البلاد الوقوع في مثل هذه الأزمات، وهذه الخطط أمر مقرر في الإسلام، ونحن نقرأ في القرآن الكريم عن خطة اقتصادية خمس عشرية وضعها يوسف عليه السلام لتجنيب مصر هذه المشكلات، فقال القرآن في سورة يوسف: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.((47 -49
وحتى لا يكون كلامنا استنباتا للبذور في الهواء لابد من توافر تربة سياسية واجتماعية واقتصادية تقبل هذا التخطيط المستقبلي وتستوعبه، فلن يتم هذا إلا ببث الوعي الفردي والمجتمعي والدولي بأهمية التعاون بين بني البشر عموما، وبين المسلمين خصوصا، ولو كانت روح الشريعة الإسلامية موجودة في واقعنا لأخرج الأغنياء صدقات أموالهم لترد على الفقراء، ثم من حق الحاكم بعد ذلك أن يفرض وظائف مالية توفر حد الكفاية للمجتمع.
ونحن المسلمين عندنا في عالمنا العربي والإسلامي ما يكفي لتوفير حد الكفاف، بل ما يوفر الثراء والغناء والإفراغ من دلونا في دلاء العالم كله، فمثلا دول الخليج تمتلك الأموال، والسودان تملك الأراضي الزراعية، ومصر تملك الأيدي العاملة.
من حق الدول الفقيرة على الدول الغنية إطعامها وسد رمقها
وفي كل وطن يوجد العلماء والخبراء والمتخصصون، فيحدث هذا النوع من التكامل والتكافل والتناغم الذي يحقق للأمة العربية الوحدة وللعالم الإسلامي القوة والمنعة والثراء، فنأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع، وتكون لنا وحدتنا واستقلالنا ومشاريعنا وخططنا التي تعمل لمصلحتنا ومصلحة شعوبنا.
وبغير هذا التعاون البناء لن يتوفر لنا حد الكفاية، ولن نستقل في التفكير أو اتخاذ القرار، وسنظل ندور في دائرة مفرغة: الشعوب فيها منفصلة عن الحكام، والعلماء متصادمون مع الأمراء، وأعداؤنا يتحكمون فينا ويتصرفون في مقدراتنا وأقواتنا كما يشاءون، ولن نفيق من غفلتنا، أو نصحو من نومتنا، أو نتصدر مكان القيادة والريادة كما كنا من قبل إلا باتباع روح الإسلام واستنزال تعليماته الفردية والجماعية، وعندها ستعيد الأمة مجدها وعزها، وما ذلك على الله بعزيز.
كيف واجه المسلمون الأوائل غلاء الأسعار؟
- في البداية لا بد أن نعلم أن ما مسَّنا في بلادنا من غلاء الأسعار إنما هو بسبب ذنوبنا {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى-30)، ونحن في نعمة إذا نظرنا إلى غيرنا ممن ابتُلِي في أمنِهِ بكوارث طبيعية أو سياسية، وأزمة الغلاء والفقر تواجه العالم كله، وأصابت مجتمعاتنا بشكل واضح، وقد تؤدي- إذا استفحلت- إلى كوارث ونتائج سيئة، وتُنهِك ذوي الدخل المنخفض والفقراء، وتؤدي إلى الركود الاقتصادي وعزوف الأفراد عن الشراء.
في زمن سيدنا عمر بن الخطاب اشتكى الناس غلاء السلع، وخاصةً اللحم، فعندما سألوه، قال لهم: أرخصوه أنتم.. فعَجِبوا وقالوا: كيف ونحن لا نملكه؟! فأجابهم: اتركوه لمن يملكه!
وقد غلت الأسعار في تاريخ الأمة أواخر عهد بني العباس، وعظُم البلاء ببغداد حتى أكلوا الجِيَف، وضرب الغلاء بعض البلاد كمصر، وحصل هلاك كبير، وقد وضعت الشريعة الأحكام التي تقي من هذه الأزمة؛ ففي أوقات الرخاء حثَّ الإسلام على الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة، وهذا من شأنه أن يقلِّل الطلب فينخفض السعر، ويقل الطلب على السلع الباهظة الثمن، وشراء المنتجات البديلة معتدلة السعر، وإذا كان هذا في حالة الرخاء فما بالنا في حالة الغلاء؟!
وحدث في زمن آخر، زاد سعر الزبيب واشتكى الناس أيضًا، فقال لهم الحاكم: أبدلوه بالتمر؛ لوفرته، ورخص ثمنه، وقيمته الغذائية العالية.
التصنيف الرئيسيملف العددأزمة الغذاء
بقلم الكاتب: وصفي عاشور أبو زيد - مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق