الأخذ بالتيسير وحسن التنظيم هو الحل... وصفي عاشور أبو زيد
وصفي عاشور أبو زيد : بتاريخ 17 - 1 - 2006
أصبح خبرا عاديا كل عام أن يتسامع المسلمون في كل مكان عن ضحايا الحج في رمي الجمرات، لدرجة أن المسلمين عند بداية الموسم يترقبون عدد الشهداء من الحجيج، وكم كانت الحسرة في قلوب المسلمين عامة وأهالي الشهداء خاصة حين تنامى إلى أسماعنا أن عدد الضحايا هذا العام قد تجاوز 400 شهيد، أما عن أعداد الجرحى فحدث ولا حرج.وقد تضاربت التصريحات في بيان سبب هذه الكارثة، ففي حين أرجع مسئولون سعوديون السبب إلى سقوط حجم كبير من الأمتعة المنقولة مع الحجاج وإصرار أعداد كبيرة منهم على التحقق من حلول موعد الزوال قبل الشروع في الرجم وعلى التعجل في رمي الجمرات، ما أسفر عن حدوث تعثر وتدافع للحجاج عند مدخل جسر الجمرات الشرقي. قالت قناة الجزيرة على لسان أحد الحجاج إن الشرطة السعودية قامت بدفع الحجاج لإفساح الطريق لأحد كبار المسئولين حتى يستطيع أن يرمى الجمرات، وهو ما صرحت به جريدة الأهرام القاهرية في عدد الجمعة 13-1-2006م، كما تحدث آخرون عن سوء حالة وسائل النقل، وسوء التنظيم الذي اقتصر فقط على الدور البشري لقوات الأمن، إضافة إلى تراكم كميات كبيرة من النفايات. فيما فهم أعضاء البعثة, المصرية من كلام بعض العلماء في مكة أنه لا يجوز الرمي إلا من الزوال إلي المغرب, وأن من يفعل غير ذلك, فقد ارتكب حراما وتحمل إثما, وأن المسلم جاء هنا ليغسل الذنوب لا ليرتكبها, وفهموا أن الحج مع الرمي قبل الزوال أو في أي ساعة من ليل أو نهار يكون منقوصا, بل فهم بعضهم أنه يكون باطلا.مأساة كل عاموليست هذه الكارثة هي الأولى من نوعها فقد عكرت حوادث التدافع صفو مواسم الحج السابقة، ففي عام 1407هـ قتل نحو 400 شخص غالبيتهم من الحجاج الشيعة الإيرانيين في اشتباكات مع قوات الأمن السعودي خلال احتجاجات مناهضة للغرب في مكة في موسم الحج. وفي عام 1409 هـ انفجرت قنابل بالقرب من الحرم المكي مما أسفر عن مقتل حاج وإصابة 16 آخرين. ونفذت السلطات السعودية حكم الإعدام في 16 أجنبيا ثبت ضلوعهم في زرع القنابل. وفي عام 1410 هـ لقي 1426هـ حاجا حتفهم في تدافع في أحد أنفاق مكة، وكان معظم الضحايا من إندونيسيا وتركيا. وفي عام 1411هـ لقي 261 شخصا حتفهم في تحطم طائرة كانت تقل حجاجا عائدين إلى نيجيريا عقب انتهاء مناسك الحج. وفي عام 1414هـ أدى تدافع للحجاج على جسر الجمرات في منى إلى مقتل 270 أثناء تجمع الحجاج لرمي الجمرات. وفي عام 1417 هـ شب حريق في مخيم بمنى وقتل فيه 343 حاجا. وفي عام 1418هـ أسفر تدافع للحجاج قرب جسر الجمرات عن مقتل 119 شخصا. وفي عام 1421هـ أسفر تدافع الحجاج قرب جسر الجمرات عن مقتل 35 شخصا. وفي عام 1423هـ أسفر تدافع للحجاج قرب جسر الجمرات عن مقتل 14 شخصا على الأقل. وفي عام 1424هـ أسفر تدافع للحجاج قرب جسر الجمرات عن مقتل 251 شخصا على الأقل. وفي عام 1425 هـ كان عدد الضحايا 270 حاجا، إضافة إلى قتل 76 شخصا في العام الحالي جراء انهيار فندق بمكة المكرمة في بداية شعائر الحج.فتوى علامة قطروقد ألف فقيه قطر العلامة عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية في قطر يرحمه الله منذ أكثر من ثلث قرن رسالة بعنوان: "يسر الإسلام" تحدث فيها عن مناسك الحج، وذكر فيها وجوب الأخذ برأي من قال بتوسيع وقت رمي الجمرات لأنه رأي يقتضيه العصر بما يحتويه موسم الحج من زحام وتدافع وهلاك في الأرواح، فبدلا من أن يبدأ الرمي بزوال الشمس إلى المغرب، يبدأ من طلوع الفجر إلى الفجر التالي، أي في أي ساعة من ليل أو نهار.وقد أثار هذا الرأي وقتها المشايخ والعلماء بالمملكة، وردوا عليه بعنف وخطئوه مع أن الشيخ الفقيه لم ينفرد به، فقد قال به ثلاثة من الأئمة الكبار، من فقهاء التابعين: عطاء بن رباح فقيه مكة، وفقيه المناسك، وطاووس بن كيسان فقيه اليمن، وأبو جعفر الباقر من أئمة آل البيت، كما قال به الرافعي من علماء الشافعية، هذا ولم يشهدوا في زمنهم ما شهدنا في زماننا، وقد قرر الإمام ابن القيم وغيره من الأئمة المحققين في سائر المذاهب: أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال. وأصر الشيخ على رأيه وثبت على موقفه، رغم شدة الضغط عليه، وكتب رسالة إلى علماء الرياض، يرد عليهم فيها، ويؤكد مستنداته الشرعية، وفيهم المفتى الأكبر العلامة الشهير الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.المسألة من الناحية الشرعيةوبعد هذه الحادثة تبنى كثير من فقهاء العصر هذا القول لأنه يستند إلى أدلة شرعية من الكتاب ومن هدي النبي ـ صلوات الله عليه ـ فقد رخص النبي لرعاة الإبل والسقاة أن يرموا عن يومين مرة واحدة بالتتابع، وأن يرموا الجمرات الثلاث ليلا، وهو بعد وقت الفضيلة.فهل يقدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحوال الإبل وغيرهم ولا يقدر الأرواح البشرية التي تزهق بالمئات كل عام؟!ثم أين النصوص الشرعية الكثيرة في القرآن الكريم التي تحرم قتل النفس بغير حق، وفي السنة النبوية التي بلغت ـ على الأقل ـ حد التواتر المعنوي، وأين مقاصد الشريعة التي تقضي بأن حفظ النفس من كليات ضروراتها، وأين القواعد الشرعية التي تقضي بإزالة الضرر، وإباحة المحظورات للضرورات، وبأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وبأن الحرج مرفوع، والمشقة تجلب التيسير...الخ. ألم يبح الشرع أكل الميتة ولحم الخنزير لضرورة حفظ النفس؟ فكيف نفوت ضروريا وهو حفظ النفس من أجل تحصيل واجب من واجبات الحج يمكننا أن نجبر تفويته بدم؟؟!!وجوب الأخذ بالأيسروإذا كان الدين مبنيا على اليسر ورفع الحرج فإن الحج من أخص العبادات التي يظهر فيها هذا المقصد الأكبر، فما سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمر قُدِّم ولا أخر ـ سئل عن أكثر من 25 أمرا ـ إلا قال: "افعل ولا حرج".ثم ما هو حكم رمي الجمار أصلا؟ إن حكمه لا يعدو أن يكون من واجبات الحج باتفاق المذاهب الفقهية خلافا لابن حزم وداو اللذين ذهبا إلى القول بفرضيته. يعني لو لم يقم به الحاج فحجه صحيح وعليه دم للجبران، بل ربما نذهب للقول بأن الحاج لو أيقن أنه هالك في رمي الجمرات أو سيكون سببا ـ قطعا ـ في إهلاك غيره وأقدم على هذا المنسك فهو آثم شرعا؛ لأن النفس محرمة إلا بالحق، ولم يرد تهديد ووعيد في القرآن أشد من قاتل المؤمن عمدا.وما دامت المسألة خلافية ـ بالرغم من أن ترجيح القول بتوسيع وقت الرمي ظاهر ـ فلا حرج أن نأخذ برأي من قال بتوسيع وقت رمي الجمرات، بل أرى أن الأخذ به في عصرنا يصل حد الوجوب، ويجب علينا أن نفقه خلاف الفقهاء، ونعرف متى نأخذ برأي ونترك رأيا آخر، وما هي مقتضيات الأخذ ومتطلبات الترك التي يفرضها تغير الزمان وتطور الأحوال واختلاف العوائد.وفي ظني أن الفقهاء الذين رفضوا الأخذ بتوسيع وقت الرمي لو عاشوا إلى زماننا ورأوا ما فيه من زحام وتدافع، واختلاط فاحش وتناحر، وقتل للأنفس بالمئات وإسالة لدماء المسلمين لما ترددوا في الأخذ بتوسيع وقت الرمي، ولقالوا: إنه اختلاف زمان ومكان لا اختلاف حجة وبرهان.حسن التنظيم ضمانة للأرواحهذا من الناحية الشرعية، أما من الناحية التنظيمية التي يتولاها أهل المملكة ابتداء من "الملك" وانتهاء بأصغر عامل في وزارة الحج فعليهم إعمال هذا الكلام وتنظيم هذه الجموع الكبرى بما يتلافى سقوط أي قتيل أو جريح.وفي رأيي أن المشكلة كل عام لا تكمن في أحكام شرعية أو غيره ـ بالرغم من تعسف بعض علماء المملكة حتى وقت متأخر في رفض الأخذ بالتوسيع وربما إلى الآن ـ بل تكمن في الفشل التنظيمي من قبل السلطات السعودية لهذه الوفود التي تخطت حاجز المليونين واقتربت من الثلاثة هذا العام، وإلا فكيف تخرج عشرات الملايين في بلاد مثل الصين واليابان إلى عملها يوميا دون حدوث أدنى تصادم؟لماذا لا تُفعّل السلطات السعودية هذه الأحكام الفقهية؟ فتقسم الحجاج إلى فريقين: فريق في أول يومين، والآخر في آخر يومين، وقد قال تعالى: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى".أو أن تسمح لجزء يرمي، ولا تسمح لآخرين إن تطلب الأمر حقنا للدماء وحفظا للأرواح، أو تجعل فريقا يرمي وينوب عن غيره من الفريق الآخر، فقد سئل الإمام مالك: هل يرمى عن الصبي والمريض؟ قال: "نعم، ويتحرى المريض حين يرمي عنه فيكبر وهو في منزله". ويقول الإمام الشافعي: "يرمى عن المرض الذي لا يستطيع الرمي، يضع المريض الحصى في يد الذي يرمي ويكبر".اختيارات كثيرة يمكن أن تختارها السلطات السعودية وللحاكم في المسائل الخلافية أن يحمل الناس على رأي منها جلبًا لمصلحة أو درءًا لمفسدة، فالأخذ بالتيسير وحسن التنظيم هو الحل لهذه المأساة التي أصبحنا نترقبها كل عام، والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق