كيف ندعوا إلى الإسلام في زمن العولمة وعصر الهجوم على الإسلام في فكر الشيخ محمد الغزالي
غني عن البيان ذكر فضل الدعوة إلى الله تعالى وتوضيح منزلتها ومكانتها في الإسلام، وعوائدها على الفرد والمجتمع، فهي السبب الذي يتعلق به المؤمن، والعاصم الوحيد حين يحل عذاب الله، والركن الركين الذي يأوي إليه ليحميه ويُجيره: (قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً· إلَّا بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ··) الجن: 22 ـ 23· وحسبنا قول الله تعالى: (ومَنْ أحْسَنُ قَولاً ممَّنْ دَعَا إلى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمين)· فصلت: 33·
وبالطبع ليست كل دعوة يترتب عليها هذا الأجر العظيم والجزاء الوفير، إنما يقتصر ذلك على اقتفاء أثر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمنهج الذي سار عليه· وما أكثر الدعوات التي قامت تدعو باسم الإسلام إلى الإسلام، وهي أبعد ما تكون عن روحه ومقاصده، فكان أثرها الإساءة إلى الإسلام وتعاليمه وخطابه الدعوي من حيث أرادت الإحسان·
إنه لا خوف أبداً على دعوة الإسلام من أن يكون لها مناهضون من خارجها، فتلك سنَّة من سنن الله الجارية، ومقوِّم من مقومات صلاحية الحياة للبقاء، أما أن يكون أعداء الدعوة هم أبناؤها ورجالاتها فذلك ما يُذهب النفس حسرات، ويُقطّع القلب زفرات· والعلاج الوحيد الذي يضمن للدعاة اليوم استعادة العافية، وقوة الأثر والتأثير في المجتمعات هو السير على آثار خطى رسول الله في دعوته والقواعد التي انطلق منها يدعو ويبلِّغ ويدعو ويبلِّغ·
ويحسن بنا أن نتتبع هذه الطريقة ونذكر أهم مرتكزاتها؛ لتكون نبراساً للدعاة، ووميضا يبرق للعاملين، وذلك من خلال أحد دعاة الإسلام، صاحب تجارب واسعة في هذا الميدان، وخبير بالحياة وعللها، ومكين في الوحي الأعلى، وصاحب ثقافة موسوعية، عاش حياته للإسلام ومات وهو يدافع عن الإسلام، إنه الشيخ >محمد الغزالي< عليه رحمة الله ورضوانه·
وتأبى على القلم شخصية في وزن الشيخ الغزالي إلا أن يستهل موضوعه بإشارة إلى مكانته العلمية وقيمته الدعوية، وحسبنا أن نقتبس هنا مما قاله بعض أهل العلم والفكر والدعوة، ورجال العمل الإسلامي·
فهذا العلاَّمة الدكتور >يوسف القرضاوي< ـ حفظه الله ـ يقول في نهاية كتابه عنه: >والحق أن هذه الدراسة أثبتت أننا أمام قائد كبير من قادة الفكر والتوجيه، وإمام فذّ من أئمة الفكر والدعوة والتجديد· بل نحن أمام مدرسة متكاملة متميزة من مدارس الدعوة والفكر والإصلاح<(1)·
وهذا المفكر المعروف الدكتور >محمد عمارة< يقول: >لقد أدركت ـ وأنا الذي سبق ودرست الآثار الفكرية لأكثر من ثلاثين من أعلام الفكر الإسلامي، وكتبت عنهم الكتب والدراسات ـ أدركت أنني حيال الشيخ الغزالي ـ يرحمه الله ـ لست بإزاء مجرد داعية متميز، أو عالم من جيل الأساتذة العظام، أو مؤلف غزير الإنتاج، أو مفكِّر متعدد الاهتمامات، أو واحد من العاملين على تجديد فكر الإسلام لتتجدد به حياة المسلمين ·· أدركت أنني بإزاء جميع ذلك، وأكثر منه وأهم<(2)·
ويقول الدكتور >عبد الصبور شاهين<، وهو يقدم خطب الشيخ: >والحق أن كتابا يوضع على غلافه اسم الأستاذ الغزالي لا يحتاج إلى تقديم، فحسبه في تقديري أن يُتوَّج بهذا العلم الخفاق، وقد قرأَتِ الدنيا له عشرات الكتب في الإسلام ودعوته، وتلقت عنه ما لم تتلقَّ عن أحد من معاصريه، حتى إن عصرنا هذا يمكن أن يطلق عليه في مجال الدعوة: عصر الأستاذ الغزالي<(3)·
وهذا الكاتب السوري الأستاذ >عمر عبيد حسنة< صاحب القلم الرصين، يقول عن الشيخ في تقديمه لأول إصدار من سلسلة >كتاب الأمة<: >فهو يعتبر بحق أحد شيوخ الدعوة الحديثة وفقهائها، يحمل تاريخ نصف قرن أو يزيد من العمل الإسلامي، وهو أحد معالم الحركة الإسلامية الحديثة ورموزها<(4)·
لقد شق قلمه المضيء حجب ظلمات الجهل والبعد عن الله ما يزيد على نصف قرن، فاستضاءت أجيال متعاقبة بهذا القلم الصيِّب والكلم الطيب، وقد وجدت هذه الأجيال بغيتها عند خطبه وكتاباته، وأصغى لدرر محاضراته الملايين من المسلمين في المشارق والمغارب، وأخرجت المطابع هذا الكلم الرفيع كتبا ورسائل ومقالات دبَّجها يراع داعيتنا الكبير، تزوِّد جيل الدعوة إلى الله بالبحث والحوار العلمي والتوجيه إلى طريق الرشد في ظل القرآن وتحت رايته·
إن الشيخ الغزالي انتهج منهجا في الدعوة جدد به دماءها، اقتفى فيه أثر رسول الله وصحبه الكرام، وسلك طريقةً في الإصلاح والفكر والتغيير أصلح بها كثيرا من المفاهيم، وأحيا الفكر الإسلامي·
وباستقرائنا السريع لكتاباته التي بين أيدينا وجدنا أهم المرتكزات التي تدور حولها طريقته الإصلاحية، وينطلق منها منهجه الدعوي تتركز فيما يلي:
أولا: التدرج والتركيز على الكليات:
وهذا منهج قرآني محمدي، فالقرآن الكريم لم يفرض الشعائر والفرائض مرة واحدة، إنما فرضها فريضةً فريضة مع مراعاة الوقت الذي تفرض فيه، ثم التدرج والتمرحل في الفريضة نفسها، والأمر في المحرمات سواء بسواء·
وإنه واضح غاية الوضوح في سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي منهجه الدعوي، فلا يخفى على أحد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يربي أصحابه على الأصول والكليات، وظل القرآن يتنزل عليه موجها الجماعة المسلمة الوليدة إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وأصول الأخلاق وأساسيات السلوك ومبادئ المعاملات، وعلى الرغم أن القرآن المكي تنزل ببعض التشريعات بينما استكمل القرآن المدني أغلبها، إلا أن القرآن المكي كان جل تركيزه في تربية المسلمين على أصول الإسلام الكبيرة ومقاصده الأساسية ومبادئه العليا، ولعل آخر ما وجهه الرسول لأمته من نصح في خطبة الوداع يشير إلى ذلك·
والشيخ الغزالي لم يشغل نفسه يوما ما بالفرعيات، إنما كانت حملته على الذين ينشغلون بترقيع الثوب والجسد تسيل منه الدماء·
إن الذي يطالع كتب الشيخ الغزالي يشعر للوهلة الأولى أنها >تحمل عاطفة الأم على وليدها المريض الذي تخشى أن يفترسه المرض ···· وكانت كتبه وكتاباته تواجه التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء<(5)·
لقد جأر في وجه التيار العلماني الذي حاول سلخ الأمة من عقيدتها وشخصيتها المتميزة، كما كانت له صولات وجولات في مقاومة الزحف الأحمر والمد التنصيري، ولعل مؤلفات الشيخ وهو في شرخ الشباب خير شاهد على ذلك·
وفي كتابه فقه السيرة يلخص دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بدايتها تحت عنوان >إلام ندعو الناس<، يقول: >وسور القرآن الذي نزل بمكة تبين العقائد والأعمال التي كلف بها عباده وأوصى رسوله أن يتعهد قيامها ونماءها، وأول ذلك:
1 ـ الوحدانية المطلقة·····
2 ـ الدار الآخرة ····
3 ـ تزكية النفس ····
4 ـ حفظ الجماعة المسلمة باعتبارها وحدة متماسكة تقوم على الأخوة والتعاون<(6)·
وعند وصول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة، ماذا يفعل؟ هل يشرع في الكلام عن الفرعيات مع التأكيد عليها ولا سيما قد انتهى في المرحلة المكية من تثبيت وترسيخ الكليات؟ كلا·· كلا· لم يفعل ذلك، إنما كرر وأكد على ما كان في المرحلة المكية، يقول الشيخ: >من هنا شغل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول مستقره بالمدينة بوضع الدعائم التي لابد منها لقيام رسالته، وتبين معالمها في الشئون التالية:
1 ـ صلة الأمة بالله·
2 ـ صلة الأمة بعضها بعضها الآخر·
3 ـ صلة الأمة بالأجانب عنها ممن لا يدينون بدينها<(7)·
وبالتالي اتخذ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذلك خطوات عملية، وشرع في تنفيذها، فبنى المسجد، وآخى بين المهاجرين والأنصار، ووضع دستوراً لمعاملة غير المسلمين(8)·
إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوطد العلاقات الروحية، ويعمق الأصول الإسلامية، ويرسخ المعاني الكلية، فإذا تم هذا فلا خوف على الأمة من الخوض في الفرعيات والخلافيات؛ لأنه حينئذ سيكون منضبطا بضوابط ما ترسخ من أصول وتوطد من علاقات·
وتحت عنوان >كيف ندعو إلى الإسلام< يحكي الشيخ أنه دخلت عليه فتاة لم يعجبه زيها أول ما رآها، لكنه لمح في عينيها حزنا وحيرة يستدعيان الشفقة والرفق بها، وبعدما بثت شكواها علم الشيخ أنها فتاة عربية لكنها تلقت تعليمها في فرنسا، فلا تكاد تعلم عن الإسلام شيئاً، فأخذ يشرح لها حقائق ويرد شبهات ويجيب على أسئلة، ويصف لها الحضارة الحديثة بأنها تعرض المرأة لحما يغري العيون الجائعة، ثم انصرفت إلى سبيلها·
ودخل بعدها شاب عليه سمات التدين يقول للشيخ في شدة: ما الذي جاء بهذه الخبيثة إلى هنا؟ فقال له الشيخ في رفق: إن الطبيب يستقبل المرضى قبل الأصحاء· فقال له الشاب: طبعا نصحتها بالحجاب؟ فقال له: الأمر أكبر من ذلك، هناك المهاد الذي لابد منه، هناك الإيمان بالله واليوم الآخر، والسمع والطاعة لما جاء به الوحي في الكتاب والسنَّة، والأركان التي لا يوجد الإسلام إلا بها في مجال العبادات والأخلاق· فقاطع الشاب الشيخ قائلا: ذلك كله لا يمنع أمرها بالحجاب، فقال الشيخ في هدوء: ما يسرني أن تجيء في ملابس راهبة وفؤادها خال من الله الواحد، وحياتها لا تعرف الركوع والسجود· فقاطعه الشاب مرة ثانية، فقال الشيخ في حدة: أنا لا أحسن جر الإسلام من ذيله كما تفعلون، إنني أشيد القواعد، وأبدأ البناء بعدئذ، وأبلغ ما أريد بالحكمة(9)· وجاءته الفتاة بعد ذلك بخمار على رأسها·
وتحت عنوان >الدعوة ليس طريقها العنف< ذكر حديثا في كتاب الاستئذان من صحيح البخاري، قال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن· قال: اصرف بصرك (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم)· النور: 30· ولكن إيراد الشيخ لهذا الحديث لم يعجب بعض الشباب، وقال له: ليس هذا ما تعلمناه، ما تعلمناه أن المرأة المتبرجة تسحر الناس بجمالها، وقد قال الفقهاء: إن الساحرة تقتل، وهذه تسحر الناس بجمالها، بل إن المستعلنة بالفاحشة يجوز قتلها دون إذن الإمام·
واستنكر الشيخ هذا القياس الفاسد، وبعد حوار معهم قال الشيخ: >ليست كل واحدة مشت مع هذه المواريث تريد الرذيلة أو تبغي الفتنة، ربما كانت خالية البال، وربما كانت سيئة، والعمل الصحيح هو نشر العقيدة أولا ثم بناء الخلق والسلوك على دعائمها، والعقيدة لا تنشر بفتاوى القتل، واستباحة الناس···· إن منطق قطاع الطريق لا يسمى فقها، والحرص على اتهام الآخرين بالإثم ليس غيرة على الدين<(10)·
ويتحسر الشيخ في هذا الصدد ناعيا على الأمة عدم وجود دعاة لها يقدمون دعوتها بيضاء نقية، ويشرحون فطرة الله التي فطر الناس عليها· إن ألوفا من أهل أوروبا وأميركا يبحثون عن دين يملأ أفئدتهم ويروي عطشهم الروحي ونهمهم العقلي فلا يجدون، وإذا وجدوا واحداً يحدثهم عن الإسلام عادوا من عنده يرتدون جلباباً أبيض، وعمامة فوقها عقال·
هذا النوع من الدعاة إذا عرض عليه الأوروبيات والأميركيات ـ كما يقول الشيخ ـ لكي يُسْلِمن، أمرهن أول ما يأمر بغطاء الوجه، وأنكر عليهن بسوء أدب السفور والتكشف، يقول الشيخ محتداً: >ومن قال لامرأة سافرة الوجه: غطي وجهك يا عاهرة! يجب دينا أن يقاد إلى مخفر الشرطة ليجلد ثمانين جلدة، وتهدر كرامته الأدبية، فلا تقبل له شهادة أبداً<(11)·
إن هناك مشتغلين بالعلم الديني قاربوا مرحلة الشيخوخة ألَّفوا كتباً في الفروع، وأثاروا بها معارك طاحنة في هذه الميادين، ومع ذلك فإن أحداً منهم لم يخط حرفاً ضد الصليبية أو الصهيونية أو الشيوعية(12)·
إن الاشتغال بالجزئيات على حساب الكليات يتولد عنه ـ في فكر الشيخ الغزالي ـ أمران خطيران، كلاهما يهوي بالأمم من حالق ويذهب بريحها، الأول: ضعف الخلق، والثاني: العجز العجيب عن فقه الدنيا والاقتدار على تسخيرها لخدمة الدين(13)·
إن دعوة من الدعوات لن تبلغ أوجها أو تحقق أهدافها ما لم تركِّز على الكليات، ولا سيما في وقت وهن فيه جسد الأمة، وتفرق مع ذلك جمعها، فتكالبت عليها الأمم من كل حدب وصوب، إن هذه دعوة ليست جديرة بالبقاء، إنما ستعيش ـ إن عاشت ـ صغيرة ضئيلة بلا وجود، وستموت صغيرة ضئيلة بلا أثر·
ثانيا: عدم تهويل التوافه وتهوين العظائم
وهذه ترجع إلى منهج الإسلام الوسطي الذي لا يغالي أو يقصر، ولا يفْرط أو يفَرط، إنما هو بين المقصِّر والغالي، وبين الموغل فيه والجافي عنه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)·
والمعروف أن الإسلام عقائد وعبادات، وأخلاق وشرائع، ومن التقاء هذه الأنواع تتكون تقاليد ومعالم لمجتمع كامل وجماعة قائمة، لا يغني فرض عن فرض ولا نافلة عن نافلة، فكل تكليف له سره وله أثره·
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعوته لم يهول تافها أو يهون عظيما، إنما وضع الأمور في نصابها الصحيح·
كان يغضب أشد الغضب إذا سمع بفرقة بين المسلمين، وكان يتغير لون وجهه إذا سمع باتجاه في المجتمع يجنح إلى الغلو والتنطع ويهمل مقاصد الإسلام، فكانت التوافه عنده في مكانها، كما كانت العظائم في مكانها ومكانتها·
وما أكثر ما عانت الحركة الإسلامية المعاصرة من أمراض مهلكة تتورم فيها بعض التعاليم وينكمش بعضها الآخر، فتصبح العادة عبادة، والنافلة فريضة، والشكل موضوعا، ومن ثم يضطرب علاج الأمور وتصاب الدعوة بهزائم شديدة· وما أكثر ما ضرب بعض أبناء الحركة رقاب بعض من أجل أمور لا تمس أصول الإسلام من جانب، وإنما حملهم على ذلك التعصب الممقوت والهوى المتبع والجهل المركب وإعجاب كل ذي رأي برأيه·
وما أطول ما عانى داعيتنا الكبير من هذه الطرائق في الفهم، وما أكثر ما تحسر لها واحتد عليها·
رأى ذات مرة بعض الطلبة والعمال يتواصون بعدم تحية العَلَم، ويزعمون أن تحيته شرك، كما أفتى بعضهم بأن الموسيقا العسكرية ضد الإسلام، فقال لأحدهم: >إن العلم رمز لمعنى كبير، وهذا ما جعل جعفر بن أبي طالب في معركة مؤتة يقاتل دون سقوطه وتنقطع ذراعاه وهو يحمله ويحتضنه، ولم يزعم مغفَّل أن جعفراً كان يعبد الراية المنصوبة، ولا يتصور عاقل أن يُعبد مترٌ من قماش، ثم إن الموسيقا العسكرية تضبط الخطوات وتهيج المشاعر وتعين على أداء الواجب، فلا مكان لخصومتها· ثم قال لهم: إنكم مولعون بتهوين أشياء وتضخيم أشياء دون ميزان يحقق العدل<·
إن الدين الحق وعي صحيح بجملة العقائد والعبادات والأخلاق والشرائع، وارتسام صورها في نطاق النسب التي تقررت من عند الله لها، فلا تشمل العين الخد، ولا تضرب الأذن الكفين، لكل عبادة مكانها ومكانتها(14)·
إن كثيرا من مسلمي العصر الحاضر ـ كما يقول الشيخ الغزالي ـ يرحمه الله ـ جمعوا شعب الإيمان في خليط منكر كبروا فيه الصغير وصغروا فيه الكبير وقدموا المتأخر وأخروا المتقدم، وحذفوا شعباً ذات بال وأثبتوا أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، فأصبح منظّر الدين عجبا، لا! بل أصبحت حقيقته نفسها حرية بالرفض(15)·
إن الإسلام يريد أن ينطلق بأركانه السليمة ومعالمه الثابتة، فإذا ناس يقولون ضموا إلى هذه الأركان والمعالم المقررات التالية: لبس >البدلة< الإفرنجية حرام، كشف وجه المرأة حرام، الغناء حرام، الموسيقا حرام، التصوير حرام، إعلاء المباني حرام، ذهاب النساء للمساجد حرام ···· هذه الضمائم الرهيبة تُضم إلى كلمة التوحيد، وقد تسبقها عند عرض الإسلام على الخلق، فكيف يتحرك الإسلام مع هذه الأثقال الفادحة، إنه ـ والحال هذه ـ لن يكسب أرضاً جديدةً، بل قد يفقد أرضه نفسها(16)·
وهذا الفريق من الناس يسميه الشيخ >حزب الحُطَيْئة<، ويجعل علامتهم أن يضخموا التوافه، ويتاجروا بالخلافات، ويتلمسوا للأبرياء العيوب·
إن الداهية الدهياء ـ عند الشيخ ـ أن يقف في محاريب الدين رجال من على شاكلة >الحطيئة<، وأن يتكلم بلسانه صنف من البشر إذا وقع الإنسان لسوء الحظ بينهم فكما يقع الطارق الغريب أمام بيت لا أنيس فيه، ما إن يقرع الباب حتى يقضم رجله كلب عقور(17)·
أولئك قوم يتمنون وقوع الخطأ من الناس حتى إذا زلت أقدامهم وثبوا على المخطئ وظاهر أمرهم الغضب لحدود الله، أما باطنه فالتنفيس عن رغبات الوحش الكامن في دمائهم، يريد أن ينبح المارة ويمزق أديمهم، والويل للمسلمين يوم يشتغل >الحطيئة< بالدعوة إلى الله(18)·
وسبب هذا الخلل عند الشيخ الغزالي هو الجهل بالنسب التي تكوِّن معالم الدين، وتضبط شعب الإيمان(19)· بينما يرى العلاج لهذه الداهية الدهياء ـ على حد تعبيره ـ يتمثل في تزكية النفس الإنسانية، وحسن إدراك العقل البشري للحقائق كلها، وتربية الأجيال المنتمية للإسلام نفسياً وفكرياً، تلك التربية التي برَّز فيها السلف الأول، وأضحوا بها قادة ترنوا لهم الدنيا بإعجاب وحفاوة(20)·
والمعروف أن الإسلام عقائد وعبادات، وأخلاق وشرائع، ومن التقاء هذه الأنواع تتكون تقاليد ومعالم لمجتمع كامل وجماعة قائمة، لا يغني فرض عن فرض ولا نافلة عن نافلة، فكل تكليف له سره وله أثره·
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعوته لم يهول تافها أو يهون عظيما، إنما وضع الأمور في نصابها الصحيح·
كان يغضب أشد الغضب إذا سمع بفرقة بين المسلمين، وكان يتغير لون وجهه إذا سمع باتجاه في المجتمع يجنح إلى الغلو والتنطع ويهمل مقاصد الإسلام، فكانت التوافه عنده في مكانها، كما كانت العظائم في مكانها ومكانتها·
وما أكثر ما عانت الحركة الإسلامية المعاصرة من أمراض مهلكة تتورم فيها بعض التعاليم وينكمش بعضها الآخر، فتصبح العادة عبادة، والنافلة فريضة، والشكل موضوعا، ومن ثم يضطرب علاج الأمور وتصاب الدعوة بهزائم شديدة· وما أكثر ما ضرب بعض أبناء الحركة رقاب بعض من أجل أمور لا تمس أصول الإسلام من جانب، وإنما حملهم على ذلك التعصب الممقوت والهوى المتبع والجهل المركب وإعجاب كل ذي رأي برأيه·
وما أطول ما عانى داعيتنا الكبير من هذه الطرائق في الفهم، وما أكثر ما تحسر لها واحتد عليها·
رأى ذات مرة بعض الطلبة والعمال يتواصون بعدم تحية العَلَم، ويزعمون أن تحيته شرك، كما أفتى بعضهم بأن الموسيقا العسكرية ضد الإسلام، فقال لأحدهم: >إن العلم رمز لمعنى كبير، وهذا ما جعل جعفر بن أبي طالب في معركة مؤتة يقاتل دون سقوطه وتنقطع ذراعاه وهو يحمله ويحتضنه، ولم يزعم مغفَّل أن جعفراً كان يعبد الراية المنصوبة، ولا يتصور عاقل أن يُعبد مترٌ من قماش، ثم إن الموسيقا العسكرية تضبط الخطوات وتهيج المشاعر وتعين على أداء الواجب، فلا مكان لخصومتها· ثم قال لهم: إنكم مولعون بتهوين أشياء وتضخيم أشياء دون ميزان يحقق العدل<·
إن الدين الحق وعي صحيح بجملة العقائد والعبادات والأخلاق والشرائع، وارتسام صورها في نطاق النسب التي تقررت من عند الله لها، فلا تشمل العين الخد، ولا تضرب الأذن الكفين، لكل عبادة مكانها ومكانتها(14)·
إن كثيرا من مسلمي العصر الحاضر ـ كما يقول الشيخ الغزالي ـ يرحمه الله ـ جمعوا شعب الإيمان في خليط منكر كبروا فيه الصغير وصغروا فيه الكبير وقدموا المتأخر وأخروا المتقدم، وحذفوا شعباً ذات بال وأثبتوا أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، فأصبح منظّر الدين عجبا، لا! بل أصبحت حقيقته نفسها حرية بالرفض(15)·
إن الإسلام يريد أن ينطلق بأركانه السليمة ومعالمه الثابتة، فإذا ناس يقولون ضموا إلى هذه الأركان والمعالم المقررات التالية: لبس >البدلة< الإفرنجية حرام، كشف وجه المرأة حرام، الغناء حرام، الموسيقا حرام، التصوير حرام، إعلاء المباني حرام، ذهاب النساء للمساجد حرام ···· هذه الضمائم الرهيبة تُضم إلى كلمة التوحيد، وقد تسبقها عند عرض الإسلام على الخلق، فكيف يتحرك الإسلام مع هذه الأثقال الفادحة، إنه ـ والحال هذه ـ لن يكسب أرضاً جديدةً، بل قد يفقد أرضه نفسها(16)·
وهذا الفريق من الناس يسميه الشيخ >حزب الحُطَيْئة<، ويجعل علامتهم أن يضخموا التوافه، ويتاجروا بالخلافات، ويتلمسوا للأبرياء العيوب·
إن الداهية الدهياء ـ عند الشيخ ـ أن يقف في محاريب الدين رجال من على شاكلة >الحطيئة<، وأن يتكلم بلسانه صنف من البشر إذا وقع الإنسان لسوء الحظ بينهم فكما يقع الطارق الغريب أمام بيت لا أنيس فيه، ما إن يقرع الباب حتى يقضم رجله كلب عقور(17)·
أولئك قوم يتمنون وقوع الخطأ من الناس حتى إذا زلت أقدامهم وثبوا على المخطئ وظاهر أمرهم الغضب لحدود الله، أما باطنه فالتنفيس عن رغبات الوحش الكامن في دمائهم، يريد أن ينبح المارة ويمزق أديمهم، والويل للمسلمين يوم يشتغل >الحطيئة< بالدعوة إلى الله(18)·
وسبب هذا الخلل عند الشيخ الغزالي هو الجهل بالنسب التي تكوِّن معالم الدين، وتضبط شعب الإيمان(19)· بينما يرى العلاج لهذه الداهية الدهياء ـ على حد تعبيره ـ يتمثل في تزكية النفس الإنسانية، وحسن إدراك العقل البشري للحقائق كلها، وتربية الأجيال المنتمية للإسلام نفسياً وفكرياً، تلك التربية التي برَّز فيها السلف الأول، وأضحوا بها قادة ترنوا لهم الدنيا بإعجاب وحفاوة(20)·
ثالثا: البدء بالأقربين وبمن له بهم صلة قوية
فإن العصبة القبلية هي مظنة النصرة والمنعة، وتلحق بها في ذلك الصلة القوية والصداقة الحميمة، وإذا لم يستجب للمرء عصبته وتمنعه فمن ذا يستجيب ويمنع؟· ويشهد الواقع والفطرة أنه إذا وجد المرء بين يديه خيراً فإن أول ما ينطلق به إليه عصبته وقومه ليفيض عليهم من هذا الخير، فكيف إن كان الأمر وحيا أعلى يترتب عليه نجاحهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة؟· إن ذلك أدعى وأحرى أن يتوجه به إلى قومه ينقذهم به من النار، ولسان حاله يقول: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) الأحقاف:12
· وهذا ما رأيناه في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث عرض دعوته على أقرب الناس إليه، يقول داعيتنا الكبير: >ومن الطبيعي أن يعرض الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولاً الإسلام على ألصق الناس به من آل بيته وأصدقائه، وهؤلاء لم تخالطهم ريبة قط في عظمة محمد عليه الصلاة والسلام، وجلال نفسه وصدق خبره، فلا جرم أنهم السابقون إلى مؤازرته واتباعه<(21)·
ومن هنا آمنت به زوجته خديجة، ومولاه زيد بن ثابت، وابن عمه علي بن أبي طالب، وكان صبياً يحيا في كفالة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصديقه الحميم أبو بكر· وأراد أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أن يعيد سيرة رسوله الكريم في ذلك، فأدخل في الإسلام ـ بتوفيق الله ـ أهل ثقته ومودته، مثل: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وآمن ورقة بن نوفل، والزبير بن العوام، وأبو ذر الغفاري، وعمر بن عنبسة، وسعيد بن العاص، وهكذا يكون الداعية·
يقول الشيخ الغزالي: >وفشا الإسلام في مكة بين من نوَّر الله قلوبهم، مع أن الإعلام به كان يقع في استخفاء، ودون مظاهرة من التحمس المكشوف أو التحدي السافر<(22)·
هذا هو أثر العصبة التي تؤمن، فماذا عن التي لم تؤمن؟ رأينا أبا طالب ـ خفف الله عنه ـ ذلك الرجل الذي مات على كلمة الكفر، واستنكف أن يقول كلمة ظل الرسول يلح عليه لينطق بها، لكنه أبى إلا أن يموت على ملة عبد المطلب· لقد تحدى قريشا كلها تحدياً معلنا في مواقف كثيرة حتى قال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: >فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب، فقال أبو لهب: هذه والله السوأة!!! خذوا على يديه قبل أن يأخذه غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا<(23)· لقد ظل أبو طالب ـ خفف الله عنه ـ حصنا يتحصن به النبي الكريم، وموئلا تأوي إليه الدعوة، وظلاً ظليلاً يفيء إليه المسلمون·
إن الأقربين وأصحاب الأواصر القوية هم أكبر كسب يحتويه الداعية ليمنعوه ويتبعوه، فهم إن لم ينصروه ويؤازروه فلن يصدوه عن سبيله في الغالب، وسوف يكسر النفورَ الذي في قلوبهم، ويهدئ من ثورتهم ضده ورفضهم لما جاء به ـ ما توطد بينهم وبينه من قربى، وما ترسخ في النفوس من فطرة تنصر العصبة وتحوطها وتمنعها·
رابعا: الاختلاط بالناس ومراعاة أحوال السائلين:
ومراعاة أحوال السائلين لا تُتصور إلا بوجود سائل ومسؤولين، وهذا مقتضى الاختلاط بالناس ومعايشتهم، ولا يُتصور داعية إلا بوجوده بين الناس ومعايشته لهم، ومعاناته معهم آمالهم وآلامهم· وربما يظن الداعية أنه إذا اعتزل الناس سوف يُريح ويستريح، ويُعفي نفسه من ضجرهم وأذاهم، أو ربما تصور أن اختلاطه بهم يضع حجابا على بصره وبصيرته فلا يكاد يرى وجه ربه، ولا يشعر بلذة المناجاة والتأمل·
إن بعض الدعاة ما زال يفسر قول الله تعالى: >عليكم أنفسكم< خطأ، ويظن أن اعتزال الناس أسلم في مثل هذا الزمان، وموقف أبي بكر من تفسير الآية معروف كما روى الترمذي وغيره·
ولا شك أنه إذا اعتزل سيستريح من ضجر الناس وأذاهم، لكنه سيُريح الشيطان ـ سواء كان إنساً أو جناً ـ ويتركه يؤدي رسالته دون وجل·
لكن الشيخ الغزالي ـ عليه رحمة الله ـ يرى اعتزال الداعية للناس في ظل ما يحياه الإسلام من محنة جريمةً نكراء وكبيرة من الكبائر، إنه يرى اعتزال الداعية للمجتمع >فراراً من الزحف ونكوصاً عن الجهاد<(24)·
إن العبادة الحقيقية لله أن نحرس الفطرة الإنسانية، وأن ندخل في حرب دائمة مع البيئة التي تريد تشويهها أو تغييرها أو تحريفها، فكل مولود يولد على الفطرة، والتقاليد الفاسدة والعقائد الزائفة هي التي تتلقف الأجيال الناشئة وتنحرف بها ذات اليمين وذات الشمال بعيداً عن حقائق الإسلام وصراطه المستقيم، فكيف نترك المجتمعات يستقر فيها الباطل، ويتلاشى منها الحق، ويحل الرجس محل الطهر، والكفر مكان الإيمان، والجور بدل العدالة؟(25)·
إن أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأُوَل كانوا ـ كما يقول الشيخ ـ بصلابة يقينهم وروعة استمساكهم دعائم رسالته وأصول امتدادها من بعدُ في المشارق والمغارب(26)·
ويتساءل الشيخ: كيف صنع رجل واحد ذلك كله! هذه هي المعجزة، وكان العرب قبل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مصابين بحمى الحرب والاقتتال على أتفه الأسباب ما أدى إلى إيقاع الوحشة والفرقة بينهم، حتى شملت هذه الحمى الأقارب أنفسهم، كما قال الشاعر:
وأحيانا على بكر أخين
ا إذا ما لم نجد إلا أخانا
لقد حل مكان هذه الوحشة شعور غامر من الأخوة الخالصة، والحب لله والحب في الله، والإيثار على النفس، وتقديم الآخرة على الأولى، ويبدأ هذا الحب ـ في رؤية الشيخ ـ من صلة محمد بالناس، ومن صلة الناس بمحمد(27)·
فإذا كانت هذه هي أهمية الاختلاط بالناس، فإن مراعاة أحوالهم حين عرض الدعوة عليهم، وتقدير الفوارق بين السائلين لوصف العلاج المناسب يعد أكثر أهمية وأبعد خطرا·
ويشبه الشيخ الغزالي الداعية في ذلك بالطبيب الذي يراعي الفوارق البدنية والمرضية بين مريض وآخر، فطبُّ الأرواح كطب الأجسام ·· علم وفن، فقد يصف الطبيب الغذاء الجيد لمريض بالسل، ولا يصف هذا الغذاء لمريض آخر؛ لأنه مصاب بالسكر، ومعنى هذا أن سبب الضعف هو الذي يملي نوع الدواء، ومثل ذلك يقال في علاج الأرواح واختيار الأدوية الناجعة لمرضى القلوب·
فقد يصف الرسول الحكيم دواء لحالة لا يصفها لحالة مشابهة؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضع لهذه الحالة الأخرى دواء آخر يخصها ويناسبها·
إن الداعية إذا جهل الفوارق الفردية والنفسية والروحية ولم يدرك أسباب الداء وأصول توصيف الدواء، قد يسيء إلى الدين وإلى الناس، فيصف للإنسان المصاب بفقر الدم رياضة تقتله، ويصف للإنسان المصاب بضغط الدم علاجاً يزيده سوءا على سوء(28)·
ويستعرض الشيخ الغزالي بعض الوصايا التي أوصى بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأشخاص معينين مبينا أحوالهم، يقول: >إذا قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (لا تغضب) فاعلم أنها لم تقل لشخص بليد العاطفة، فلا تقلها له، وإذا قال (اتقوا الله وأجملوا في الطلب) فاعلم أنها لم تقل لقعدة البيوت فلا تقلها لهم، وإذا قال (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق) فاحذر أن تقولها لرجل كسول في العبادات···الخ<(29)·
فلا بد من مراعاة حال السائل ودراسة الظروف النفسية والأخلاقية، والإحاطة علماً بظروفه الاجتماعية؛ كي يستطيع الداعية أن يصف له الدواء الناجع بعد أن وقف على تشخيص الداء وملابساته بوعي وفهم·
ولعل في قصة قاتل المئة نفس ـ وحديثها متفق عليه ـ عبرة لمن يعتبر؛ إذ سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه الملائكة ··· إلخ القصة· فانظر إلى من وُصف بالرهبنة وإلى عاقبته، فمع وصف الناس له بـ>أعلم أهل الأرض< إلا أنه لم يدرك ما نتحدث فيه من الظروف والملابسات النفسية للسائل ووجوب مراعاة ذلك فكانت نهايته القتل، أما الذي وصف بالعلم فدله على الطريق الصحيح، حتى لو لم يعرف الدواء فلا عليه أن يعترف بجهله ويرشده على من يشخص الداء ويصف الدواء·
يقول الشيخ الغزالي ـ عليه رحمة الله ـ: >إن قراءة النصوص ـ وبخاصة السنن ـ دون معرفة الملابسات التي أملت بها ليست باباً إلى العلم الصحيح، ولا وسيلة إلى التربية الجيدة<(30)·
والحق أن مراعاة الأحوال المختلفة للسائلين لا يصلح له أي داعية فضلا عن عموم الناس، إن ذلك يحتاج إلى الاطلاع الواسع والواعي لإجابات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المختلفة للسائلين وملابساتها، والإحاطة بالآثار التي تحدثت عن ذلك، ثم استيعاب العلوم التي تتعلق بالإنسان مثل علم النفس والاجتماع وغيرهما، بالإضافة إلى ذكاء العقل ونقاء القلب، وقبل هذا وذاك توفيق الله تعالى وتسديده·
ومراعاة أحوال السائلين لا تُتصور إلا بوجود سائل ومسؤولين، وهذا مقتضى الاختلاط بالناس ومعايشتهم، ولا يُتصور داعية إلا بوجوده بين الناس ومعايشته لهم، ومعاناته معهم آمالهم وآلامهم· وربما يظن الداعية أنه إذا اعتزل الناس سوف يُريح ويستريح، ويُعفي نفسه من ضجرهم وأذاهم، أو ربما تصور أن اختلاطه بهم يضع حجابا على بصره وبصيرته فلا يكاد يرى وجه ربه، ولا يشعر بلذة المناجاة والتأمل·
إن بعض الدعاة ما زال يفسر قول الله تعالى: >عليكم أنفسكم< خطأ، ويظن أن اعتزال الناس أسلم في مثل هذا الزمان، وموقف أبي بكر من تفسير الآية معروف كما روى الترمذي وغيره·
ولا شك أنه إذا اعتزل سيستريح من ضجر الناس وأذاهم، لكنه سيُريح الشيطان ـ سواء كان إنساً أو جناً ـ ويتركه يؤدي رسالته دون وجل·
لكن الشيخ الغزالي ـ عليه رحمة الله ـ يرى اعتزال الداعية للناس في ظل ما يحياه الإسلام من محنة جريمةً نكراء وكبيرة من الكبائر، إنه يرى اعتزال الداعية للمجتمع >فراراً من الزحف ونكوصاً عن الجهاد<(24)·
إن العبادة الحقيقية لله أن نحرس الفطرة الإنسانية، وأن ندخل في حرب دائمة مع البيئة التي تريد تشويهها أو تغييرها أو تحريفها، فكل مولود يولد على الفطرة، والتقاليد الفاسدة والعقائد الزائفة هي التي تتلقف الأجيال الناشئة وتنحرف بها ذات اليمين وذات الشمال بعيداً عن حقائق الإسلام وصراطه المستقيم، فكيف نترك المجتمعات يستقر فيها الباطل، ويتلاشى منها الحق، ويحل الرجس محل الطهر، والكفر مكان الإيمان، والجور بدل العدالة؟(25)·
إن أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأُوَل كانوا ـ كما يقول الشيخ ـ بصلابة يقينهم وروعة استمساكهم دعائم رسالته وأصول امتدادها من بعدُ في المشارق والمغارب(26)·
ويتساءل الشيخ: كيف صنع رجل واحد ذلك كله! هذه هي المعجزة، وكان العرب قبل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مصابين بحمى الحرب والاقتتال على أتفه الأسباب ما أدى إلى إيقاع الوحشة والفرقة بينهم، حتى شملت هذه الحمى الأقارب أنفسهم، كما قال الشاعر:
وأحيانا على بكر أخين
ا إذا ما لم نجد إلا أخانا
لقد حل مكان هذه الوحشة شعور غامر من الأخوة الخالصة، والحب لله والحب في الله، والإيثار على النفس، وتقديم الآخرة على الأولى، ويبدأ هذا الحب ـ في رؤية الشيخ ـ من صلة محمد بالناس، ومن صلة الناس بمحمد(27)·
فإذا كانت هذه هي أهمية الاختلاط بالناس، فإن مراعاة أحوالهم حين عرض الدعوة عليهم، وتقدير الفوارق بين السائلين لوصف العلاج المناسب يعد أكثر أهمية وأبعد خطرا·
ويشبه الشيخ الغزالي الداعية في ذلك بالطبيب الذي يراعي الفوارق البدنية والمرضية بين مريض وآخر، فطبُّ الأرواح كطب الأجسام ·· علم وفن، فقد يصف الطبيب الغذاء الجيد لمريض بالسل، ولا يصف هذا الغذاء لمريض آخر؛ لأنه مصاب بالسكر، ومعنى هذا أن سبب الضعف هو الذي يملي نوع الدواء، ومثل ذلك يقال في علاج الأرواح واختيار الأدوية الناجعة لمرضى القلوب·
فقد يصف الرسول الحكيم دواء لحالة لا يصفها لحالة مشابهة؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضع لهذه الحالة الأخرى دواء آخر يخصها ويناسبها·
إن الداعية إذا جهل الفوارق الفردية والنفسية والروحية ولم يدرك أسباب الداء وأصول توصيف الدواء، قد يسيء إلى الدين وإلى الناس، فيصف للإنسان المصاب بفقر الدم رياضة تقتله، ويصف للإنسان المصاب بضغط الدم علاجاً يزيده سوءا على سوء(28)·
ويستعرض الشيخ الغزالي بعض الوصايا التي أوصى بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأشخاص معينين مبينا أحوالهم، يقول: >إذا قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (لا تغضب) فاعلم أنها لم تقل لشخص بليد العاطفة، فلا تقلها له، وإذا قال (اتقوا الله وأجملوا في الطلب) فاعلم أنها لم تقل لقعدة البيوت فلا تقلها لهم، وإذا قال (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق) فاحذر أن تقولها لرجل كسول في العبادات···الخ<(29)·
فلا بد من مراعاة حال السائل ودراسة الظروف النفسية والأخلاقية، والإحاطة علماً بظروفه الاجتماعية؛ كي يستطيع الداعية أن يصف له الدواء الناجع بعد أن وقف على تشخيص الداء وملابساته بوعي وفهم·
ولعل في قصة قاتل المئة نفس ـ وحديثها متفق عليه ـ عبرة لمن يعتبر؛ إذ سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه الملائكة ··· إلخ القصة· فانظر إلى من وُصف بالرهبنة وإلى عاقبته، فمع وصف الناس له بـ>أعلم أهل الأرض< إلا أنه لم يدرك ما نتحدث فيه من الظروف والملابسات النفسية للسائل ووجوب مراعاة ذلك فكانت نهايته القتل، أما الذي وصف بالعلم فدله على الطريق الصحيح، حتى لو لم يعرف الدواء فلا عليه أن يعترف بجهله ويرشده على من يشخص الداء ويصف الدواء·
يقول الشيخ الغزالي ـ عليه رحمة الله ـ: >إن قراءة النصوص ـ وبخاصة السنن ـ دون معرفة الملابسات التي أملت بها ليست باباً إلى العلم الصحيح، ولا وسيلة إلى التربية الجيدة<(30)·
والحق أن مراعاة الأحوال المختلفة للسائلين لا يصلح له أي داعية فضلا عن عموم الناس، إن ذلك يحتاج إلى الاطلاع الواسع والواعي لإجابات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المختلفة للسائلين وملابساتها، والإحاطة بالآثار التي تحدثت عن ذلك، ثم استيعاب العلوم التي تتعلق بالإنسان مثل علم النفس والاجتماع وغيرهما، بالإضافة إلى ذكاء العقل ونقاء القلب، وقبل هذا وذاك توفيق الله تعالى وتسديده·
خامسا: تجنب الجدل والنقاشات الحادة
الجدل قرين الضلال، وما ضل قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، وما يجوز لأمة تؤكل من يمين وشمال وتنهش فيها الذئاب من كل جانب أن تشغل نفسها بالجدل والخوض في الخلافيات والنقاشات الحادة، وإذا كانت قاعدة المنار الذهبية التي تقول: >نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه< ـ مما يجوز فيه الخلاف بالطبع ـ معمولا بها في حال الترف الفكري وقوة الأمة واستقلاليتها، فإن العمل بها والأمة على ما نرى ونسمع ألزم وأوجب·
ويرى داعيتنا أن مصدر هذا الجدل هو الإبقاء على الكلاميات التي دارت رحاها بين الفرق الأولى للمسلمين من مرجئة ومشبهة ومعطلة ومعتزلة وغيرها، ثم تدريس هذا الجدل للعامة من المتعلمين، والعامة من الرعاع، والغفلة عما سيخلفه من آثار سيئة·
إن في القرآن آيات وعد ووعيد، ولو تركت في مجراها الطبيعي لأدت رسالتها الحقة في توجيه النفوس إلى الخير، ولحفظت على المسلمين قوتهم ودولتهم(31)
· هذا نوع من الجدل يبدد طاقات شباب العلم وشيوخه في الهواء، فهم يتحدثون في غير حديث، ويقاتلون في غير معركة، ولا ينفضُّون إلا عن الكراهية والبغضاء والفرقة فيما بينهم· ونوع آخر من الجدل وهو الخوض في الفرعيات، والوقوف على حرفيتها دون النفوذ إلى فحواها ومقصدها، وهذا النوع له هواته المحترفون الذين تنحصر قضاياهم في مسائل فقهية فرعية معروفة، اختلفت فيها الأمة من بعيد، وهي مختلفة فيها اليوم، ولن يزال الخلاف فيها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها·
وعند الشيخ الغزالي أن الاهتمام بهذه اللاأهميات ـ إن صح التعبير ـ كان خطة ماكرة لصرف العامة عن النقد السياسي ومتابعة الأخطاء التي أودت بالدولة الإسلامية قديما، ويبدو أن الخطة لا تزال تنفذ إلى الآن(32)·
مع أن اختلاف الآراء وتباين المذاهب شيء لا يمكن تجاهله، ولا الفرار منه، فتلك سنَّة لله في النصوص والعقول، كما أن الخلاف لا يُحَل بالسفاهة والعصيّ، وإنما يحل بالتعاون على المتفق عليه، والتماس العذر للمخالف، وكم من ميدان عمل الآن يخلو من الرجال؛ لأن الرجال ـ كما يقول الشيخ ـ يتهارشون في ميدان الكلام حول بعض الفروع التي لا تجدي على الإسلام شيئا(33)·
فلابد من منع هذا الجدل ـ وخيم العواقب ـ وقبول جميع المذاهب الفقهية المعروفة والاهتمام بتحريك قافلة الإسلام التي توقفت في وقت تقدم فيه حتى عبيد البقر، وتكريس الجهود والأوقات لرد العدوان على ديننا، وإعادة بناء أمتنا على قواعدها الأولى، فإن الجدل والخلاف الفقهي بهذا الشكل يتحول إلى عناد شخصي، ثم إلى عداء ماحق للدين والدنيا(34)·
الجدل قرين الضلال، وما ضل قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، وما يجوز لأمة تؤكل من يمين وشمال وتنهش فيها الذئاب من كل جانب أن تشغل نفسها بالجدل والخوض في الخلافيات والنقاشات الحادة، وإذا كانت قاعدة المنار الذهبية التي تقول: >نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه< ـ مما يجوز فيه الخلاف بالطبع ـ معمولا بها في حال الترف الفكري وقوة الأمة واستقلاليتها، فإن العمل بها والأمة على ما نرى ونسمع ألزم وأوجب·
ويرى داعيتنا أن مصدر هذا الجدل هو الإبقاء على الكلاميات التي دارت رحاها بين الفرق الأولى للمسلمين من مرجئة ومشبهة ومعطلة ومعتزلة وغيرها، ثم تدريس هذا الجدل للعامة من المتعلمين، والعامة من الرعاع، والغفلة عما سيخلفه من آثار سيئة·
إن في القرآن آيات وعد ووعيد، ولو تركت في مجراها الطبيعي لأدت رسالتها الحقة في توجيه النفوس إلى الخير، ولحفظت على المسلمين قوتهم ودولتهم(31)
· هذا نوع من الجدل يبدد طاقات شباب العلم وشيوخه في الهواء، فهم يتحدثون في غير حديث، ويقاتلون في غير معركة، ولا ينفضُّون إلا عن الكراهية والبغضاء والفرقة فيما بينهم· ونوع آخر من الجدل وهو الخوض في الفرعيات، والوقوف على حرفيتها دون النفوذ إلى فحواها ومقصدها، وهذا النوع له هواته المحترفون الذين تنحصر قضاياهم في مسائل فقهية فرعية معروفة، اختلفت فيها الأمة من بعيد، وهي مختلفة فيها اليوم، ولن يزال الخلاف فيها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها·
وعند الشيخ الغزالي أن الاهتمام بهذه اللاأهميات ـ إن صح التعبير ـ كان خطة ماكرة لصرف العامة عن النقد السياسي ومتابعة الأخطاء التي أودت بالدولة الإسلامية قديما، ويبدو أن الخطة لا تزال تنفذ إلى الآن(32)·
مع أن اختلاف الآراء وتباين المذاهب شيء لا يمكن تجاهله، ولا الفرار منه، فتلك سنَّة لله في النصوص والعقول، كما أن الخلاف لا يُحَل بالسفاهة والعصيّ، وإنما يحل بالتعاون على المتفق عليه، والتماس العذر للمخالف، وكم من ميدان عمل الآن يخلو من الرجال؛ لأن الرجال ـ كما يقول الشيخ ـ يتهارشون في ميدان الكلام حول بعض الفروع التي لا تجدي على الإسلام شيئا(33)·
فلابد من منع هذا الجدل ـ وخيم العواقب ـ وقبول جميع المذاهب الفقهية المعروفة والاهتمام بتحريك قافلة الإسلام التي توقفت في وقت تقدم فيه حتى عبيد البقر، وتكريس الجهود والأوقات لرد العدوان على ديننا، وإعادة بناء أمتنا على قواعدها الأولى، فإن الجدل والخلاف الفقهي بهذا الشكل يتحول إلى عناد شخصي، ثم إلى عداء ماحق للدين والدنيا(34)·
سادسا: عدم إهمال النساء:
تشكل المرأة مساحة واسعة من خارطة الفكر لدى الشيخ الغزالي، حتى أفرد لها كتابا كاملا سماه: >قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة<، ولا غرو، فأول من آمن على الإطلاق امرأة، وأول شهيدة في الإسلام امرأة، وقد شهدت المرأة بيعة العقبة الكبرى، ودافعت أشرف دفاع عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في معاركه المختلفة، وقاتلت قتال الأبطال في البر والبحر·
إن التلطف مع الإناث والرفق بهن ـ عند الشيخ ـ آية اكتمال الرجولة ونماء فضائلها، وهو أدب يبذل للنساء عامة سواء كن قريبات أم غريبات كبيرات أم صغيرات، ومع استقامة الفطرة الإنسانية قلما يتخلف هذا المسلك العالي(35)·
والنساء ـ في فكره يرحمه الله ـ مكلفات مثل الرجال، وما من شيء يقوم به الإسلام وتعتز به أمته وكلف به مسلم إلا كلفت المسلمة بمثله، غير أمور محصورات استثنيت النساء منها، ولا تهدم أصل المساواة في التكاليف الشرعية، لكن تقاليد الشرق التي حصرت وظيفة المرأة في المتاع الحيواني قلما تهتم بهذه التكاليف(36)·
إن مجتمعاً من المجتمعات لن تكتمل حياته إلا بشقيه الذكر والأنثى، ولا يتصور مجتمع صالح عندما تكون المرأة حيوانا يُحسن تقديم الأكل والمتعة وحسب(37)· إن أي مطالع للقرآن الكريم والسنن الصحاح يرى المرأة جزءاً حياً من مجتمع حي، فهي تتعلم وتتعبد وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتجاهد ـ إذا شاءت ـ في البر والبحر، وتؤخذ منها البيعة على معاقد الإيمان والأخلاق، وتعارض الحكم أو تؤيده(38)·
ويرى الشيخ أن أشرف وظائف المرأة وأرقى أعمالها هي وظيفة >ربة البيت< ما لم تُخرجها ضرورة ملجئة؛ لأنها إنشاء الحياة وصيانتها وتعهدها حتى تؤدي رسالتها كاملة(39)· كما يدعو إلى تعليمها وتثقيفها حتى تكون على وعي بالقضايا العامة والخاصة، وتُشرف إشرافا منتجاً على تربية أبنائها(40)·
ويحمل حملة لا هوادة فيها على الذين يرون أن صوت المرأة عورة، ويمنعون النساء من المساجد(41)، ويرون وجوب حبسهن في البيوت، فلا يخرجن إلا إلى بيت زوجها أو إلى قبرها(42)· ونفس الحملة يحملها على الحضارة الغربية التي تريد أن تنزعها من تقاليدها المحترمة، وتجعلها لحماً يغري العيون الجائعة، فدعاة السفور يقودونها إلى جاهلية حديثة، ودعاة الحجاب يردونها إلى جاهلية قديمة(43)·
إن نموذج المرأة الفلسطينية المجاهدة التي قدمت زوجها وولدها وأخاها وأباها في سبيل الله، ثم جادت هي بنفسها، هذا النموذج جدير أن يعيد للمرأة مكانتها التي قررها لها الإسلام منذ جاء، وحري أن يعيد لها تاريخها الإسلامي ومكانتها في الإسلام، ولا يدع مجالاً لتأويل الجاهلين، أو تحريف الغالين، أو انتحال المبطلين·
وبعد، فلا يطل الحديث أكثر من هذا، فإن الحديث عن أي قضية في فكر الشيخ الإمام مُستدرِج وأخَّاذ، وهذه المرتكزات التي تحدثت فيها عن سلامة الطريقة والمنهج في الدعوة لم تُوفَّ حق توفيتها، بل إن الباحث في كتب الشيخ سيجد لها أفكاراً أخرى تحت كل مرتكز، فضلاً عن أنه سيجد من المرتكزات غير ما ذكرنا الكثير والكثير، ولعل الأطاريح الجامعية قد تناولتها بما يليق ومكانة الشيخ وعلمه·
والحق أنني عند البحث عن فكرة من الأفكار في كتبه أجد أمامي نصوصا كثيرة، كلها يتناول الموضوع الواحد بأساليب مختلفة، وصور متنوعة، وكلها معبر ورائع، فيحتار المرء: أيها يأخذ، وأيها يدع، وكم يأخذ منها، وكم يترك، فما الحال والحديث عن الدعوة وطريقتها عنده؟ فالغزالي رجل دعوة وداعية إصلاح بالدرجة الأولى، فلا يصدق عليه لفظ >فقيه<، وإن كانت له مشاركات وآراء يداني بها أئمة الاجتهاد، ولا يصدق عليه لفظ >محدِّث<، وإن كان له منهجه في أخذ الأحاديث وردها، ولا يصدق عليه لفظ >مفسِّر< وإن كان رائد اتجاه في تفسير القرآن، هو التفسير الموضوعي، إن أصدق كلمة تلخص شخصية الشيخ الغزالي ـ يرحمه الله ـ هي أنه >رجل دعوة< وكفى·
الهوامش
(1) الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن: 259· دار الشروق· ط·أولى· 1420هـ·
(2) الشيخ محمد الغزالي الموقع الفكري والمعارك الفكرية: 24· طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب· 1992·
(3) خطب الشيخ الغزالي في شؤون الدين والحياة: 1/3 دار الاعتصام·
(4) مشكلات في طريق الحياة الإسلامية للغزالي: 9، الإصدار الأول من السلسلة· جمادى الآخرة· 1402هـ، وهي سلسلة فصلية ما زالت تصدر عن رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية في دولة قطر، راجع ما كتبه عن الشيخ د· عبد الحليم عويس، ود· عماد الدين خليل، وغيرهم·
(5) الأستاذ عمر عبيد حسنة في مقدمته لكتاب الشيخ المذكور: 10·
(6) فقه السيرة: 108 ـ 110· دار الدعوة ط ثانية· بتعليقات الشيخ الألباني·
(7) فقه السيرة: 207·
(8) راجع ذلك تفصيلا في فقه السيرة: 208 ـ 219·
(9) راجع الحق المر: 27 ـ 28· مكتبة دار التراث الإسلامي·
(10) السابق: 62 ـ 63
(11) مستقبل الإسلام خارج أرضه كيف نفكر فيه: 53 ـ 54· مؤسسة الشرق للعلاقات العامة والترجمة· الأردن· ط أولى· 1984·
(12) هموم داعية: 177· دار ثابت· القاهرة· ط أولى· 1404هـ·
(13) هموم داعية: 178 ـ 179·
(14) الحق المر: 49 ـ 50· طبع مركز الإعلام العربي· القاهرة· ط· ثانية· 1417هـ، وراجع ص: 135 منه·
(15) مستقبل الإسلام خارج أرضه: 73·
(16) مستقبل الإسلام: 76 ـ 77، وراجع ص: 112 ـ 113 منه·
(17) تأملات في الدين والحياة: 188· دار الدعوة· الإسكندرية· ط· أولى· 1410هـ·
(18) تأملات في الدين والحياة: 188 ـ 189·
(19) راجع هموم داعية: 172، والحق المر: 50 طبع مركز الإعلام العربي·
(20) مستقبل الإسلام خارج أرضه: 73·
(21) فقه السيرة: 112·ر (22) فقه السيرة: 112
· (23) راجع فقه السيرة: 112·
(24) الحق المر: 118· طبع مكتبة التراث·
(25) السابق: الصفحة عينها·
(26) فقه السيرة: 119·
(27) كنوز من السنَّة: 121· الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن مشروع مهرجان القراءة للجميع· 1999م·
(28) من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث: 193· دار نهضة مصر· القاهرة· 1998م·
(29) المرجع السابق: الصفحة عينها·ر (30) من معالم الحق: 193·
(31) من معالم الحق: 192·
(32) الحق المر: 35· طبع مكتبة التراث، وانظر هموم داعية: 149 ـ 150·
(33) مشكلات في طريق الحياة الإسلامية: 148·
(34) هموم داعية: 22 ـ 23·
(35) ركائز الإيمان بين العقل والقلب: 229· طبع دار الاعتصام· القاهرة· من دون تاريخ·
(36) من هنا نعلم: 182 ـ 183· دار الكتب الإسلامية· الطبعة الخامسة· بدون تاريخ، والطريق من هنا: 149 ـ 150· دار البشير القاهرة· ط· أولى· 1407هـ· (37) هموم داعية: 162·
(38) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين: 157· دار الوفاء· المنصورة· ط· ثالثة· 1413هـ، وقضايا المرأة: 35· طبع دار الشروق· القاهرة· (39) ركائز الإيمان: 250، ومئة سؤال: 443، والطريق من هنا: 150·
(40) من هنا نعلم: 205 ـ 212، ركائز الإيمان: 243·
(41) الحق المر: 28، 60· طبع مكتبة التراث، ومن هنا نعلم: 185، مئة سؤال عن الإسلام: 446· دار ثابت· ط خامسة· 1417هـ، هموم داعية: 75· ر(42) الحق المر: 61· طبع مكتبة التراث، ومن هنا نعلم: 183·
(43) من هنا نعلم: 183، وركائز الإيمان: 239، ودستور الوحدة الثقافة بين المسلمين: 162·
التصنيف الرئيسيدعوة
بقلم الكاتب: وصفي عاشور أبو زيد
تشكل المرأة مساحة واسعة من خارطة الفكر لدى الشيخ الغزالي، حتى أفرد لها كتابا كاملا سماه: >قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة<، ولا غرو، فأول من آمن على الإطلاق امرأة، وأول شهيدة في الإسلام امرأة، وقد شهدت المرأة بيعة العقبة الكبرى، ودافعت أشرف دفاع عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في معاركه المختلفة، وقاتلت قتال الأبطال في البر والبحر·
إن التلطف مع الإناث والرفق بهن ـ عند الشيخ ـ آية اكتمال الرجولة ونماء فضائلها، وهو أدب يبذل للنساء عامة سواء كن قريبات أم غريبات كبيرات أم صغيرات، ومع استقامة الفطرة الإنسانية قلما يتخلف هذا المسلك العالي(35)·
والنساء ـ في فكره يرحمه الله ـ مكلفات مثل الرجال، وما من شيء يقوم به الإسلام وتعتز به أمته وكلف به مسلم إلا كلفت المسلمة بمثله، غير أمور محصورات استثنيت النساء منها، ولا تهدم أصل المساواة في التكاليف الشرعية، لكن تقاليد الشرق التي حصرت وظيفة المرأة في المتاع الحيواني قلما تهتم بهذه التكاليف(36)·
إن مجتمعاً من المجتمعات لن تكتمل حياته إلا بشقيه الذكر والأنثى، ولا يتصور مجتمع صالح عندما تكون المرأة حيوانا يُحسن تقديم الأكل والمتعة وحسب(37)· إن أي مطالع للقرآن الكريم والسنن الصحاح يرى المرأة جزءاً حياً من مجتمع حي، فهي تتعلم وتتعبد وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتجاهد ـ إذا شاءت ـ في البر والبحر، وتؤخذ منها البيعة على معاقد الإيمان والأخلاق، وتعارض الحكم أو تؤيده(38)·
ويرى الشيخ أن أشرف وظائف المرأة وأرقى أعمالها هي وظيفة >ربة البيت< ما لم تُخرجها ضرورة ملجئة؛ لأنها إنشاء الحياة وصيانتها وتعهدها حتى تؤدي رسالتها كاملة(39)· كما يدعو إلى تعليمها وتثقيفها حتى تكون على وعي بالقضايا العامة والخاصة، وتُشرف إشرافا منتجاً على تربية أبنائها(40)·
ويحمل حملة لا هوادة فيها على الذين يرون أن صوت المرأة عورة، ويمنعون النساء من المساجد(41)، ويرون وجوب حبسهن في البيوت، فلا يخرجن إلا إلى بيت زوجها أو إلى قبرها(42)· ونفس الحملة يحملها على الحضارة الغربية التي تريد أن تنزعها من تقاليدها المحترمة، وتجعلها لحماً يغري العيون الجائعة، فدعاة السفور يقودونها إلى جاهلية حديثة، ودعاة الحجاب يردونها إلى جاهلية قديمة(43)·
إن نموذج المرأة الفلسطينية المجاهدة التي قدمت زوجها وولدها وأخاها وأباها في سبيل الله، ثم جادت هي بنفسها، هذا النموذج جدير أن يعيد للمرأة مكانتها التي قررها لها الإسلام منذ جاء، وحري أن يعيد لها تاريخها الإسلامي ومكانتها في الإسلام، ولا يدع مجالاً لتأويل الجاهلين، أو تحريف الغالين، أو انتحال المبطلين·
وبعد، فلا يطل الحديث أكثر من هذا، فإن الحديث عن أي قضية في فكر الشيخ الإمام مُستدرِج وأخَّاذ، وهذه المرتكزات التي تحدثت فيها عن سلامة الطريقة والمنهج في الدعوة لم تُوفَّ حق توفيتها، بل إن الباحث في كتب الشيخ سيجد لها أفكاراً أخرى تحت كل مرتكز، فضلاً عن أنه سيجد من المرتكزات غير ما ذكرنا الكثير والكثير، ولعل الأطاريح الجامعية قد تناولتها بما يليق ومكانة الشيخ وعلمه·
والحق أنني عند البحث عن فكرة من الأفكار في كتبه أجد أمامي نصوصا كثيرة، كلها يتناول الموضوع الواحد بأساليب مختلفة، وصور متنوعة، وكلها معبر ورائع، فيحتار المرء: أيها يأخذ، وأيها يدع، وكم يأخذ منها، وكم يترك، فما الحال والحديث عن الدعوة وطريقتها عنده؟ فالغزالي رجل دعوة وداعية إصلاح بالدرجة الأولى، فلا يصدق عليه لفظ >فقيه<، وإن كانت له مشاركات وآراء يداني بها أئمة الاجتهاد، ولا يصدق عليه لفظ >محدِّث<، وإن كان له منهجه في أخذ الأحاديث وردها، ولا يصدق عليه لفظ >مفسِّر< وإن كان رائد اتجاه في تفسير القرآن، هو التفسير الموضوعي، إن أصدق كلمة تلخص شخصية الشيخ الغزالي ـ يرحمه الله ـ هي أنه >رجل دعوة< وكفى·
الهوامش
(1) الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن: 259· دار الشروق· ط·أولى· 1420هـ·
(2) الشيخ محمد الغزالي الموقع الفكري والمعارك الفكرية: 24· طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب· 1992·
(3) خطب الشيخ الغزالي في شؤون الدين والحياة: 1/3 دار الاعتصام·
(4) مشكلات في طريق الحياة الإسلامية للغزالي: 9، الإصدار الأول من السلسلة· جمادى الآخرة· 1402هـ، وهي سلسلة فصلية ما زالت تصدر عن رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية في دولة قطر، راجع ما كتبه عن الشيخ د· عبد الحليم عويس، ود· عماد الدين خليل، وغيرهم·
(5) الأستاذ عمر عبيد حسنة في مقدمته لكتاب الشيخ المذكور: 10·
(6) فقه السيرة: 108 ـ 110· دار الدعوة ط ثانية· بتعليقات الشيخ الألباني·
(7) فقه السيرة: 207·
(8) راجع ذلك تفصيلا في فقه السيرة: 208 ـ 219·
(9) راجع الحق المر: 27 ـ 28· مكتبة دار التراث الإسلامي·
(10) السابق: 62 ـ 63
(11) مستقبل الإسلام خارج أرضه كيف نفكر فيه: 53 ـ 54· مؤسسة الشرق للعلاقات العامة والترجمة· الأردن· ط أولى· 1984·
(12) هموم داعية: 177· دار ثابت· القاهرة· ط أولى· 1404هـ·
(13) هموم داعية: 178 ـ 179·
(14) الحق المر: 49 ـ 50· طبع مركز الإعلام العربي· القاهرة· ط· ثانية· 1417هـ، وراجع ص: 135 منه·
(15) مستقبل الإسلام خارج أرضه: 73·
(16) مستقبل الإسلام: 76 ـ 77، وراجع ص: 112 ـ 113 منه·
(17) تأملات في الدين والحياة: 188· دار الدعوة· الإسكندرية· ط· أولى· 1410هـ·
(18) تأملات في الدين والحياة: 188 ـ 189·
(19) راجع هموم داعية: 172، والحق المر: 50 طبع مركز الإعلام العربي·
(20) مستقبل الإسلام خارج أرضه: 73·
(21) فقه السيرة: 112·ر (22) فقه السيرة: 112
· (23) راجع فقه السيرة: 112·
(24) الحق المر: 118· طبع مكتبة التراث·
(25) السابق: الصفحة عينها·
(26) فقه السيرة: 119·
(27) كنوز من السنَّة: 121· الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن مشروع مهرجان القراءة للجميع· 1999م·
(28) من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث: 193· دار نهضة مصر· القاهرة· 1998م·
(29) المرجع السابق: الصفحة عينها·ر (30) من معالم الحق: 193·
(31) من معالم الحق: 192·
(32) الحق المر: 35· طبع مكتبة التراث، وانظر هموم داعية: 149 ـ 150·
(33) مشكلات في طريق الحياة الإسلامية: 148·
(34) هموم داعية: 22 ـ 23·
(35) ركائز الإيمان بين العقل والقلب: 229· طبع دار الاعتصام· القاهرة· من دون تاريخ·
(36) من هنا نعلم: 182 ـ 183· دار الكتب الإسلامية· الطبعة الخامسة· بدون تاريخ، والطريق من هنا: 149 ـ 150· دار البشير القاهرة· ط· أولى· 1407هـ· (37) هموم داعية: 162·
(38) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين: 157· دار الوفاء· المنصورة· ط· ثالثة· 1413هـ، وقضايا المرأة: 35· طبع دار الشروق· القاهرة· (39) ركائز الإيمان: 250، ومئة سؤال: 443، والطريق من هنا: 150·
(40) من هنا نعلم: 205 ـ 212، ركائز الإيمان: 243·
(41) الحق المر: 28، 60· طبع مكتبة التراث، ومن هنا نعلم: 185، مئة سؤال عن الإسلام: 446· دار ثابت· ط خامسة· 1417هـ، هموم داعية: 75· ر(42) الحق المر: 61· طبع مكتبة التراث، ومن هنا نعلم: 183·
(43) من هنا نعلم: 183، وركائز الإيمان: 239، ودستور الوحدة الثقافة بين المسلمين: 162·
التصنيف الرئيسيدعوة
بقلم الكاتب: وصفي عاشور أبو زيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق