الجمعة، 31 ديسمبر 2010

أهل القرآن ودورهم في النهضة

أهل القرآن ودورهم في النهضة


وصفي عاشور أبو زيد
wasfy75@yahoo.com


حينما نقرأ في مدونات السنة النبوية الشريفة عن أنس، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن لله تعالى أهلين من الناس" قيل: يا رسول الله، ومن هم؟ قال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته "(
[1]). ويقول المناوي: "أي الذين يختصون بخدمته ... فإنه لما قربهم واختصهم كانوا كأهله([2])।


حينما نقرأ ذلك ندرك ـ تمامًا ـ ما لأهل القرآن عند الله تعالى من مكان ومكانة ؛ فليس بعد هذا التشريف تشريف، وليس بعد هذه الأهلية الإلهية من تكريم ورفعة، وليس بعد هذا الاختصاص والاصطفاء من كرامة وشرف: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا"। فاطر: 32। وإذا كان خير الكلام كلام الله، فكذلك خير الناس بعد النبيين من يتعلم القرآن ويعمل به ويعلِّمه، وليس مجرد حفظ حروفه فقط، وهذا مقتضى وصف الربانيين الذين قال الله عنهم: "وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ". آل عمران: 79॥


من معالم النهضة في القرآن
وحين نتحدث عن دور أهل القرآن في إحداث نهضة الأمة وقيادة تلك النهضة، فلا يسعنا أن نتجاوز الحديث عن دور القرآن نفسه في إحداث تلك النهضة وريادتها وبيان معالمها وموجباتها.


**إن أول ما يلفت النظر في هذا السياق في القرآن الكريم أنه "كتاب الإنسانية"؛ فلم ينزل القرآن للمسلمين فقط إنما نزل للناس كافة؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، إنه نداء للإنسانية قبل أن يكون نداء للمؤمنين رغم كثرة النداءات الإيمانية في هذا الكتاب العزيز.
حسبنا أن "يا أيها الناس" ذكرت في القرآن 19 مرة، وكلمة "الناس" في القرآن 138 مرة، و"بني آدم" 5 مرات؛ ومن ثم يفتح هذا الكتاب الباب على مصراعيه للحوار مع الآخر، واستيعاب البشرية بما فيه من مبادئ إنسانية، وتعاليم بشرية تصلح للبشر ـ كل البشر ـ رغم اختلاف الزمان والمكان والإنسان والحال؛ فهي الرسالة التي "امتدت طولاً ـ كما قال الإمام حسن البنا ـ حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضًا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عُمقًا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة".


** إنه الكتاب الوحيد ـ من الكتب السماوية التي بين أيدينا ـ الذي أعلى مكان "الآخر"، ورفع قدره، وأوجب له التقدير والإجلال والإقساط والإحسان والبر دون نظر أو اعتبار لعقيدته أو لونه أو جنسه أو لغته، كيف لا وقد قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا". الحجرات:13.
** ومع هذا الشمول في مساحات الخطاب نجد شمولا من نوع آخر، وهو في مجالات توجيه هذا الخطاب، ففي القرآن اهتمامات واسعة بمجالات الحياة كلها؛ عقيدةً وعبادةً، أخلاقًا ومعاملات، نظمًا وأحكامًا، قوانينَ وتشريعاتٍ، قيمًا ومُثلا، عاداتٍ وتقاليدَ، أعرافًا وموازينَ...الخ؛ فالأول شمول في المستهدفين من الخطاب، والثاني شمول في مجالات هذا الخطاب.


** هو الكتاب الوحيد الذي ظل محفوظًا لم تمتد ـ ولن تمتد ـ إليه يد بالتحريف أو التغيير أو التبديل أو التزوير، بمقتضى وعد الله بحفظه حين قال: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"। الحجر:9. فنجد فيه الأخبار الصادقة، والوقائع الحقيقية، وهو الوثيقة الوحيدة التي نطمئن إليها في قصص الأنبياء وسيرهم وتاريخهم؛ حيث نلتمس منها العبرة البليغة، والحكمة النافعة.


** من معالم النهضة كذلك في هذا الكتاب أن كل شيء فيه قائم على التوازن، توازن في الخلق وتوازن في الأمر، توازن في الكون وتوازن في التشريع؛ فتعاليمه وتشريعاته جمعت بين الدعوة والحركة، ومزجتْ بين العلم والعمل، ووصلتْ بين التأصيل والتطبيق، وربطتْ بين الدنيا والآخرة، في غير ما طغيان ولا إخسار.
لم يأمر باعتبار الآخرة وإهمال الدنيا، إنما جعل عمارة الدنيا طريقًا للفوز في الآخرة، فخلق الخلق وأمرهم بعمارة الأرض: "هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا". هود: 61. ولم يأمر المؤمنين أن يتبتلوا ويتعبدوا ثم يهملوا أبدانهم أو عقولهم، كما لم يأمرهم بالترهبن دون الزواج والإنجاب لتسير حركة الحياة ويعمر الكون.
كل هذا يدلك على رغبة القرآن في إحداث "حراك" في الحياة له شموله وتوازنه وعمقه واستمراره।


** إن من خصائص هذا الكتاب ومقومات النهضة فيه أنه ـ كما روى الترمذيُّ في سننه بسندٍ فيه مقال عن الحارث الأعور أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عنه ـ : "...هو الذي لا يزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه...".، وهو الذي وصفه الإمام الشاطبي بأنه: "كليةُ الشريعة، وعمدةُ الملة، وينبوعُ الحكمة، وآيةُ الرسالة، ونورُ الأبصار والبصائر، وأنه لا طريقَ إلى الله سواه، ولا نجاةَ بغيره، ولا تَمَسُّكَ بشيء يخالفُه ... وإذا كان كذلك لَزِمَ ضرورةً لمن رامَ الاطلاعَ على كلياتِ الشريعة، وطَمِعَ في إدراك مقاصدِها واللِّحاقِ بأهلها أن يتخذَه سميرَه وأنيسَه، وأن يجعلَه جليسَه على مَرِّ الأيام والليالي؛ نظرًا وعملاً، لا اقتصارًا على أحدهما، فيوشك أن يفوزَ بالبُغْيَةِ، ويَظْفرَ بالطُّلْبَةِ، ويجدَ نفسَه من السابقين وفي الرعيل الأول"(
[3])।


**ومن خصائص هذا الكتاب ومعالم النهضة فيه أنه خالد وخاتم، كما أن الذي أنزل عليه خاتم، وكما أن الذي أنزل لهم خاتمون؛ فليس بعد القرآن كتاب، وليس بعد محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسول، وليس بعد أمة الإسلام أمة.
ومقتضى هذه "الخاتمية" أن أودع الله في القرآن أصولاً وكلياتٍ ومبادئَ، ثابتةً لا تتغير ولا تتبدل مهما تبدلت الأجيال والأزمان والأحوال والعوائد، فهي بمثابة الجبال الرواسي التي تمسك الأرض أن تميد بالناس؛ يرجع الناس إليها، وينشئون حضارتهم وعمرانهم على أساس منها واستبصار بها وبصيرة فيها، يرجعون إليها عند الفزع، ويأوون إليها عند الخوف، ويلتمسون فيها الفرج عند الضيق، ويجدون عندها ـ مهما كان الألم واليأس وتردي الواقع ـ الرَّوْح والراحة والأمل والرضى والرضوان واليقين.
وجعل فيه متغيراتٍ تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والعوائد؛ احتضانًا للواقع، واستيعابًا لمتغيراته، وإحداثًا لأحكام وتشريعاتٍ تنبثقُ من تلك الكليات والمبادئ والمقاصد، ولا تتعارض معها أو تتصادم بها।


أهل القرآن والنهضة
إننا مهما حاولنا أن نكتب عن معالم النهضة الحضارية القرآنية لن ننتهي من الحديث، ولن ينتهي بنا بحره إلى ساحل، فالقرآن بحر، من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله؛ ذلك إن كان له بَرٌّ، أو وجد له ساحل.
ولما كان أهل القرآن ـ الذين هم أهل الله وخاصته ـ يحملون هذا القرآن؛ حفظًا وتلاوةً وتدبرًا وعملاً وتعليمًا؛ فلا يتصور أبدا أن تجدهم منفكين عن هذه المعالم أبدًا، بل دائمًا متلبسين بها جميعًا؛ فهم عن القرآن يصدرون، وإليه يرجعون، ومنه يغترفون، وفي نوره يسيرون، وبه يجاهدون البشرية جميعًا جهادًا كبيرًا.
إن أهل القرآن هم أهل السماحة والتواصل الفعال الحضاري بين البشر؛ حوارًا موصولاً، وعطاءً ممدودًا.
لن تجد أحدًا منهم مصابًا بالتعصب أو الانغلاق، ولن تجد أحدهم موبوءًا بالتحجر أو التحلل أو احتقار الخلق، إنما هو شخص منفتح على "الإنسانية"، على "البشرية"، على "بني آدم"، كيف لا، وهو يُدرِجُ بين جنبَيْهِ كتاب الإنسانية؟!.
إنهم يحمون الناس من اليأس، ويضيئون أمامهم الطريق، وييسرون لهم العسر، ويذللون لهم الصعب، ويبثون فيهم الأمل، ويحيونهم بعد موات، ويهدون البشرية للتي هي أقوم: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا". الإسراء: 9.

ومن الأدوار التي يمكن أن يؤديها أهل القرآن للأمة في هذا السياق ما يلي:
** دور تربوي جماهيري، بحيث ينشرون هدايات القرآن، ومنهجه في إصلاح النفوس وترقيتها في مدارج الكمال الإنساني المنشود؛ فيصير الفرد إنسانًا صالحًا مصلحًا، تتحقق فيه مقتضيات الاستخلاف والتكليف والعمارة।


** دور إصلاحي اجتماعي؛ بحيث ينبني هذا الدور على الدور السابق، فمتى تحققت الربانية في الأفراد سهل تحقيق الإصلاح الاجتماعي العام بحفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان، وهو المقصد الأعلى من وضع الشريعة كما قال العلامة الطاهر بن عاشور وغيره।


**دور تيسيري تبشيري، وهو دور يتغلغل في الأدوار الأخرى وينسرب في تضاعيفها؛ بحيث يظهرون سماحة الإسلام ويسر الشريعة؛ فيستوعبون الناس، ويبسطون مظلة الإسلام على قطاعات البشرية العريضة بما أودع الله في هذا الدين من أصول جامعة وفروع متغيرة، تتغير بتغيرات الزمان والمكان والأشخاص والأحوال والعوائد، وفي الوقت نفسه يبشرون بظهور الإسلام إن عاجلاً أو آجلاً، وينشرون الأمل بين الناس رغم وجود الألم، فإن تَبَلُّجَ الإصباح يَخْرُجُ من رحم الظلام الدامس، وإن سورة الفجر نزلت بعد سورة الليل!.

وكما أن معالم النهضة الحضارية في القرآن لا تنتهي، فكذلك معاني النهضة الحضارية في أهله لن تنتهي، ولن نستطيع حصرها إلا كما روى الإمام أحمد بسنده عن سعد بن هشام بن عامر قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن قول الله عز وجل: "وإنك لعلي خلق عظيم"(
[4])। وصدقت السيدة عائشة رضي الله عنها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله العظيم॥!!.


الحواشي:
([1]) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم بسندهم عن أنس رضي الله عنه، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تعليقاته على المسند، وقال المناوي: "قال الحاكم: روي من ثلاثة أوجه هذا أجودها اهـ، وفي الميزان: رواه النسائي وابن ماجه من طريق ابن مهدي عن عبد الرحمن بن بديل، وأحمد عن عبد الصمد عن ابن بديل تفرد به، وقد ضعفه يحيى، ووهاه ابن حبان، وقواه غيرهما". فيض القدير: 2/629. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. الطبعة الأولى. 1415 هـ– 1994م.
([2])فيض القدير: 2/628-629.
([3])الموافقات: 4/346. طبعة دار الفكر العربي.
([4]) مسند أحمد: (24645)، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح.

الأحد، 31 أكتوبر 2010

عبد الصبور شاهين: مشروع مالك بن نبي درس في مسالك النهضة الحضارية ودروبها


الحوار الأخير مع د. عبد الصبور شاهين حول مالك بن نبي
د عبد الصبور شاهين: مشروع مالك بن نبي درس في مسالك النهضة الحضارية ودروبها

حاوره/ وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@yahoo.com
يعتبر مالك بن نبي واحداً من رجالات القرن العشرين الذين شغلوا أنفسهم بقضايا أمتهم، وسعوا إلى بلورة الحلول والاقتراحات الكفيلة بإخراج الأمة المسلمة من تخلفها الشامل المركب، ودفعها إلى معانقة العصر بفاعلية، من خلال تقديمه مشروعاً فكرياً متكاملاً في وقت كان فيه العالم الإسلامي يعارك فلول الاستعمار أو يعيش مخلفاته التي كبلت حركته، وسممت أجواءه الثقافية والفكرية بإفراز نخبة منه حاولت إفهام الرأي العام المسلم بأن القوة في اتباع سبل الغرب وتقليد نموذجه الحضاري، وقد وقف مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ ضد هذه الدعوات اليائسة والمضللة وصاغ مقولة "القابلية للاستعمار"، مقتنعاً بأن الهزيمة الحقيقية للجيل المسلم ـ وكل جيل استوفى شروطه نفسها ـ هي هزيمة نفسية لا تزول إلا بتغيير ما بالنفس مصداقاً لقوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". (الرعد: 11).
وفي إطار مشروعه الفكري العام وتحديد نوعية وطبيعة المشكلات التي يواجهها المجتمع الإسلامي، كرس مالك بن نبي أغلب جهده الفكري لبحث مشكلة نهوض المجتمع المسلم من الهوة الحضارية التي يعاني منها.
واليوم قد مر على وفاة ابن نبي أكثر من سبعة وثلاثين عاما، ومن الخير أن نقف أمام فكره وبعض مواقفه ورؤيته الإصلاحية، لنأخذ منها الدرس والعبرة النافعة لتسديد مسيرة أمتنا، وتعزيز طريقها نحو التغيير والإصلاح، كل ذلك من خلال حوار مع أفضل من يحدثنا عنه، وهو مترجمه الأشهر الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين الذي ترجم ثمانية كتب من كتبه من الفرنسية إلى العربية، ودارَسه وعايشه فترة طويلة من الزمان، فإلى تفاصيل الحوار

***بداية نود أن نتعرف من سيادتكم على قصة تعارفكم بالمفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله.
تعرفت به في ظروف تعتبر أقسى ما يواجهه شاب في حياته، فقد كنت آنذاك متخرجا في دار العلوم بالقاهرة، ودارسا في كلية التربية جامعة عين شمس، ومفرجا عني من السجن.
وشاب في مثل حالتي في ذلك الوقت لم يكن من حقه أن يعمل في وظيفة حكومية، وليس في السوق مجال للعمل الحر، ومعنى ذلك أن الإحساس بالضياع كان يحوطني من كل جانب، وأذكر أني كنت أقرأ في ذلك الوقت كل إعلانات الصحف التي تطلب عاملين، وكان من بين هذه الإعلانات إعلان للجامعة العربية عن حاجتها إلى ملحقين دبلوماسيين، وكنت ـ في مرحلة مبكرة قد درست شطرا من القانون والاقتصاد في كلية الحقوق الفرنسية بالقاهرة، فتقدمت في هذا الإعلان ونجحت، ولكني لم أُعَيَّن، فقرأت ـ وكنت في الفصل الدراسي الأول في كلية التربية ـ إعلانا للإذاعة المصرية عن حاجتها إلى مذيعين محررين، فتقدمت، وكان من حظي أن أكون أول الناجحين في هذه المسابقة من بين 330 متقدما، وذلك عام 1957م، ونشرت الصحف الخبر المدهش، وأرسل إليَّ مفتش المباحث العامة آنذاك "القائمقام" العميد أحمد صالح داود بضرورة أن ألقاه، وكنا في الفصل الدراسي الأول، وذهبت ولقيني بوجه متجهم، وقال لي بعد قليل من السخرية والاستهزاء: "انت عاوز تتسلل للإذاعة من ورانا – اسمع يا واد انت ما لكش عمل في البلد دي – لا قبل التخرج ولا بعده – انت عاوز تمارس نشاطك ضد الريس والثورة – شوف لك شغله برة".
وضغط على الكلمة الأخيرة وكررها، وهي كانت تعني عندي الكثير في ذلك الوقت، وخرجت من عنده كاسف البال لا أملك دموعي، منقطع السبيل، لا أمل لي في شيء.
وفكرت في الطريق، وعزمت على أنه ينبغي ألا أيأس، فإن اليأس لا يعرفه قلب المؤمن، لا سيما عندما يكون معه ما يشجعه على عدم اليأس، ولقد كنت أملك ميزة يمكن أن أستغلها، وهي معرفة اللغة الفرنسية، فقلت في نفسي بصوت خفيض تسمعه أذناي: "لو أنني عملت في حقل الترجمة من الفرنسية إلى العربية لن يستطيع أحد ـ ولا عبد الناصر ـ أن يمنعني من العمل في هذا المجال، واللهِ العظيمِ لن أترك هذا البلد".
كنت في ذلك الوقت منتسبا إلى كلية التربية من ناحية، وإلى الدراسات التمهيدية للماجستير بدار العلوم من ناحية أخرى، والحمل ثقيل، ولكن الإنسان أحيانا يشعر بأن في وسعه أن ينقل جبلا من مكانه إلى مكان آخر، وفي ساحة كلية دار العلوم القديمة، وأنا ذاهب إلى إحدى محاضرات الدراسات العليا بدار العلوم، في يوم من أيام مارس 1957، نادى عليَّ باسمي مَنْ لا أزال أذكره وأحمل اسمه في قلبي، تعرف إليَّ، وأخبرني باسمه: "أنا عبد السلام الهراس من المملكة المغربية"، ثم قال لي: "هل تحب أن تترجم كتابا؟" لم أكن حدثت أحدا بما دار في نفسي من العزم على الاشتغال بالترجمة؛ ولذلك فأنا ما زلت ـ بعد مرور نصف قرن على هذه الحادثة ـ مندهشا لما جرى، ما الذي ساق إليَّ هذا الرجل ليحدثني في أمر حدثت به نفسي، مجرد حديث نفس؟!
لم يكن يخامرني شك في أن الشاب عبد السلام الهراس الذي ساقه القدر إليَّ ـ لم يكن سوى حامل رسالة ملائكية، هي رسالة الرحمة الإلهية التي أخرجتني من ظلمة اليأس إلى ساحة الفرج، وأغلقت حانوت التحكم في مصائر العباد لتفتح بدلا منه ساحة اللطف والتدبير العلوي الحكيم.
وكانت البداية مع هذه اللحظة في كتاب: "الظاهرة القرآنية" للأستاذ مالك بن نبي، وكان قد هرب من باريس إلى مصر إبَّان إعلان الثورة الجزائرية، حين شعر أن الحكومة الفرنسية توشك أن تلقي عليه القبض، فهرب إلى مصر لاجئا سياسيا، ومعه مجموعة من كتبه التي كتبها بالفرنسية، ولم يكن يعلم شيئا عن العربية، وكانت خطته لكي يعيش في القاهرة أن يترجم كتبه إلى العربية، ويعيش مما تدره عليه ترجمتها، هكذا فكر، وهكذا كنت قد فكرت، والتقينا على هدف واحد ونية واحدة وعزيمة واحدة، وكنت في ذلك الوقت في الفصل الدراسي الثاني من كلية التربية بالإضافة إلى انشغالي بالدراسات العليا بدار العلوم، ومع ذلك فإن الهم الثقيل المزدوِج لم يمنعني أن أخوض غمرات التجربة الأولى في الترجمة، فأنجزت للأستاذ مالك في الترجمة كتابه الأول: "شروط النهضة" وتم طبعه.
ويوم ذهبت لأعرف نتيجتي في كلية التربية كانت معي النسخة الأولى من الكتاب أُزْهَى بها على زملائي وأقراني، ولا أعتقد أن أحدا قد مر بمثل هذه اللحظة من السعادة التي مررت بها، حين وجدتني ناجحا في كلية التربية، ناجحا في الدراسات العليا بدار العلوم، ناجحا في الترجمة بظهور الكتاب الأول للأستاذ مالك، وكان ذلك إيذانا بأن الطريق صارت معبدة نحو المضي في طريق التحدي والقهر الذي فرضه الحاكم الطاغية المستبد عبد الناصر على كل من قال له "لا"، وخالفه في اتجاهه.

*** هل تذكر مواقف لها ذكراها وأثرها في نفسك مع الأستاذ مالك؟
لا شك أنني لا أنسى ما دار بيننا في أول لقاء، وكنت قد ترجمت فصلين من كتاب "الظاهرة القرآنية" عن المذهب المادي والمذهب الغيبي، وقرأت عليه الترجمة الأولى، فما سمعت منه سوى لفظين اثنين بلهجته المغربية: "باهي"، و"الله يجازيك خير"، وتعلَّم مالك بعد ذلك العربية على يدي من خلال مراجعتنا للكتاب الأول: "شروط النهضة"، وللثاني: "فكرة الإفريقية الآسيوية"، والثالث: "الظاهرة القرآنية، إلى آخر الكتاب الثامن: "فكرة كومنولث إسلامي"، وبمناسبة الكتاب الثاني: "فكرة الإفريقية الآسيوية" فقد ترجمته ابتداء من الإجازة الصيفية بعد ظهور نتيجة كلية التربية حتى ظهر في طبعته الأولى في 28 ديسمبر 1957م، أي أن ترجمة الكتاب وتصحيحه وطبعه وإصداره كان ذلك كله في خمسة أشهر مع أن الكتاب حجمه كبير، وكنت قد عينت مدرسا للغة العربية في مدرسة السويس الإعدادية للبنين، وفي الثاني من يناير 1958م بعد ظهور الكتاب بثلاثة أيام ذهبت أنا ومالك لتقديم نسخة منه إلى جمال عبد الناصر، وعليه إهداء رقيق مطبوع: "للرئيس الذي يمسك بيده مقود التاريخ" كما قال مالك، ونشر خبر ذهابنا يوم الجمعة 3/1/1958م في تشريفات رئيس الجمهورية، وذهبت يوم السبت مع ضوء الفجر إلى السويس لأبدأ يوما دراسيا جديدا في عملي التدريسي، وكانت المفاجأة رهيبة ومذهلة أني منعت من دخول الفصل الدراسي، ووقعت على ورقة بالطرد من التدريس، وخرجت منها بين دموع الزملاء وسواد الرؤية المستقبلية، ومضيت إلى القاهرة ولم أعد إلى السويس منذ ذلك التاريخ حتى الآن.
وقد انتهيت ـ بحمد الله ـ من ترجمة ما تيسر لي من كتب مالك بين عامي: 1962 و1963م، وذهب مالك إلى الجزائر، وكان كثيرا ما يتردد على بيروت حيث بدأت كتبه المترجمة تنتشر في المشرق العربي، وما زالت حتى الآن.

***الاحتلال الفرنسي للجزائر لم يُبق شيئا من هويتها ولا عروبتها، فهل كان للأستاذ مالك دور في إعادة الهوية الإسلامية والعربية للشعب الجزائري؟
في الواقع يعد مالك أول وجه ثقافي يطل من شرفة الجزائر على العالم العربي، وكان وجها مشرِّفًا، وله جاذبيته الأسلوبية التي لا ينكرها من يناقشه أو يعايشه، ولا شك أن الجزائر والشعب الجزائري لا ينكر أثر مالك وكتبه المترجمة في النُّقْلة الحضارية التي حققها هذا الشعب من الفرنسية إلى العربية.
لكن تعريب الجزائر أسهمت فيه عوامل كثيرة جدا، من أهمها البعثات المصرية التي اشتغلت في مجال التعليم بالجزائر؛ حيث كانت ذات أثر حاسم في تحقيق التعريب وعودة الشعب الجزائري إلى أصله، مع تسليمنا بأن الفرنسيين ما زالت بصماتهم مطبوعة على جبين الجزائر حتى الآن.

*** الأستاذ مالك بن نبي كان معاصرا لعبد الحميد بن باديس، وهما جزائريان، فهل تأثر مالك بدعوة ابن باديس ومشروعه الإصلاحي؟
كان مالك يحبه ويعتبره من العلامات المضيئة على طريق حرية الشعب الجزائري وتربية الجيل الذي قاد الثورة الجزائرية إلى الاستقلال فيما بعد؛ ولذلك فإن هذا الشعب مدين للشيخ ابن باديس وفكره الإصلاحي فيما يتعلق بتحقيق الحرية، فلم يكن لأي عامل آخر كالماركسية أي أثر في الثورة الجزائرية فيما أعتقد، ولا شك أن كل الإصلاحيين الإسلاميين يتماثلون في الأساس والجوهر، وإن اختلفوا في التفريعات والتفصيلات.

***نشأ مالك بن نبي في فترة كثرت فيها الحركات الإسلامية الإصلاحية التي كان ظهورها نتيجة طبيعية لظروف العالم العربي والإسلامي في ذلك الوقت، فهل استفاد ابن نبي من هذه الحركات أو تأثر بأي منها؟
الأستاذ مالك كانت عنده فكرة عن الحركة الوهابية، وكذلك كانت عنده فكرة عن حركة الإخوان المسلمين، لكني كنت ألاحظ أن بعض أفكاره عن الإخوان يشوبها الخطأ والتشويه؛ ولذلك تدخلت في ترجمة كتابه: "وجهة العالم الإسلامي" في تعديل فكرته عنهم، وقد كانت شديدة الانحراف والظلم، والسبب في ذلك أنه لم يكن قد عاش في زمان الإخوان، بل كان متأثرا بما كتب عن الحركة أيام عبد الناصر، وهي كتابات مغلوطة وظالمة، والذين يقولون عن الإخوان ما يقولون ـ في هذه الأيام ـ ويصدرون أحكاما جزافية على الحركة هم في الواقع متعسفون؛ لأن الإخوان منذ عام 1948م وحتى الآن في حرب مستمرة مع الأمريكان وإسرائيل وأتباعهما، ومع ذلك فإن جوهر الحركة لم يتغير رغم عوامل البلاء المستمر، ومن المؤكد أن تقدير الإنسان المسلم لهذه الحركة تقدير عميق لا يتأثر بالأحكام الماركسية ولا العلمانية التي يصدرها بعض الكتاب الطفيليين الذين يتعيشون من وراء هجاء الإخوان.
وعلى الرغم من ذلك ستبقى حركة الإخوان المسلمين أعظم الحركات تعبيرا عن الحقيقة الإسلامية، وأقل الحركات تعلقا بالتفاصيل والجزئيات والفرعيات، وأعمق الحركات تأثيرا في وجدان المسلمين في العالم، فهم الذين قاتلوا في أفغانستان، وهم الذين حرروا شعوبا كثيرة في العالم الإسلامي، وحافظوا على الوجود الإسلامي ماثلا منتصب القامة أمام العوامل المعادية والتيارات الهدامة؛ ولذلك فإني أعتقد أن حركة الإخوان هي أصدق الحركات تعبيرا عن الأمل في بقاء الإسلام وفي انتشاره، ولو عاش حسن البنا مزيدا من العمر لحقق للأمة الإسلامية مشروع الوحدة الكبرى بجهاده وإخلاصه.
ونعود إلى الأستاذ مالك فأقول: إنه ـ في تقديري ـ صنع نفسه بنفسه، ولم يتأثر بأي من الحركات التي كانت شائعة آنذاك لكنه كان عميق التقدير للشيخ عبد الحميد بن باديس.

***نموذج الثقافة الغربية أو الغريبة عن الإسلام ـ في نظر البعض ـ دائما هناك حساسية بيننا ـ نحن الإسلاميين ـ وبينه، لكن شخصيات: مالك بن نبي في الجزائر، وسيد قطب في مصر، وعلي شريعتي في إيران هي في الحقيقة نماذج عملية أثبتت غير ذلك، كيف ترون ذلك من خلال ثقافة كل منهم وما انتهى إليه؟
لكل واحد من هؤلاء الثلاثة ـ كما ذكرت ـ أسلوبه الخاص به؛ فمالك متأثر بطريقة التفكير الغربية الفرنسية، وعلي شريعتي له روافده الشيعية في البيئة الإيرانية، وسيد قطب روافده إخوانية سجونية حيث قضى وقتا طويلا من حياته في السجن، فكلٌّ له طابعه الخاص، لكن الهدف واحد والرسالة واحدة.
وأعتقد أن مالكا لم يكن لديه صفات الزعامة، إنما كان عنده صفات المفكر، أما سيد قطب فكانت له صفات الزعامة لكنه لم يدرك فرصتها قبل أن يكون نزيل السجن بشكل دائم، وأما علي شريعتي فكانت بيئته ـ في تقديري ـ بمثابة السجن أيضا من حوله حيث حالت بينه وبين المجالات الأخرى مثل مجالات أهل السنة.
وهناك أمر عجيب في كل منهم: مالك بن نبي كان مهندسا في الكهرباء، وسيد قطب كان متخصصا في الأدب والنقد، وعلي شريعتي كان متخصصا في علم الاجتماع، إلا أنه جمعهم هدف واحد، وغاية واحدة هي غاية النهضة والإصلاح والفكر الإسلامي.
وأمر آخر أنبه عليه من خلال هؤلاء الثلاثة بالذات، وهو أن ثقافتهم الإسلامية والعربية بحكم البيئات التي نشأوا فيها ـ لم تمنعهم من الاطلاع على ما عند الغرب والاقتباس منه بما لا يتعارض مع مبادئ العروبة والإسلام؛ فسيد قطب تعلم كثيرا في أمريكا، وحصل على الماجستير من هناك، ومالك عاش في فرنسا جل حياته ما عدا فترة اللجوء السياسي والثورة الجزائرية، وعلي شريعتي هو الآخر اقتبس من الثقافة الغربية كثيرا، وهذا دليل على أن الفطرة الإسلامية دائما تغلب كل العوامل الطارئة، والواقع أن أنموذج الأستاذ مالك دليل قاطع على ما أقوله الآن، حيث إن سفره وإقامته في فرنسا هذه الفترة جعلت منه شخصية إسلامية كأنها نبتت في بيئة إسلامية.
*** يعتبر مالك بن نبي دارسا للقضاء، ومتخصصا في الهندسة الكهربائية، فما سر هذا التحول في حياته من الكهرباء إلى هموم النهضة ومغارم الإصلاح باعتباركم عايشتموه وحدثتموه فترة طويلة؟
في الواقع إن هذا الموضوع ثار مرة بيني وبينه عليه رحمة الله، وذلك حين سألته: أنت تعلمت في كلية الهندسة لتكون مهندسا في الكهرباء، فما الذي دفعك إلى طريق الاهتمام بقضايا النهضة والحضارة؟ فقال لي ـ فيما أذكر الآن ـ: "إنني بعد أن أصبحت مهندسا في الكهرباء رأيت أن أمتي بحاجة إلى مهندس للأفكار أكثر من حاجتها إلى مهندس للكهرباء، فعكفت على دراسة كتب التاريخ والفلسفة والاجتماع لأحقق ما رأيت أنني أستطيع أن أقدمه في بلدي ولأمتي العربية والإسلامية".
ولذلك ـ كما قلت ـ يعتبر مالك بن نبي نموذجا فريدا في هذه الطريق الوعرة.
*** لا شك أن لكل مفكر أو مصلح مصادره التي يستفيد منها، ومرتكزاته التي ينطلق من خلالها، فما أهم المصادر التي اعتمد عليها مالك في مشروعه الحضاري؟
لو نظرت إلى الجو الذي عاشه مالك بن نبي في باريس لوجدت أنه قد ترامت في مجاله أصداء الحركة الإسلامية المجاهدة، لا سيما تلك الحركات التي أسهمت في العمل العسكري خلال الأربعينيات، وقد كان هذا تجسيدا لما يملأ واقع العالم الإسلامي من إمكانات مادية وإنسانية، ولا بد أن مثل هذا قد أثر على فكر مالك بن نبي، وإن اختلف المنهج بينه وبينها، بالإضافة إلى أنك لو قرأت في كتبه لوجدت منطلقاته ومرتكزاته إسلامية أيضا، فهو ينطلق نحو الفاعلية في العقيدة الثقافة ومقاومة الاستعمار والقابلية له وتغيير الواقع عموما من قول الله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". (الرعد: 11).

*** الأمة الإسلامية اليوم تحتاج إلى كثير من المشروعات النهضوية الحضارية؛ وذلك لاستعادة مكانتها وريادتها، ففي رأي الدكتور عبد الصبور شاهين ما مدى حاجة الأمة الآن إلى المشروع الحضاري للمفكر مالك بن نبي؟
في الحقيقة مشروع مالك بن نبي النهضوي هو مشروع عقلاني ومنطقي يصلح درسا للشباب يتعلمون منه مسالك النهضة الحضارية ودروبها، لكن في هذا المشروع نقطة ضعف هي أن مالكا لم يكن يمثل قيادة فكرية جماهيرية، بل كان منحصرا في ذاته، ربما ألجأه إلى هذا الانحصار قدر كبير من الوسوسة والشك فيمن حوله، فلم يكن يثق كثيرا بأحد إلا بضعة أفراد تبين له من خلال المواقف المختلفة أنهم ليسوا عملاء للاستعمار، ولا يمثلون اتجاها استعماريا إلى اغتياله، وهذا هو مجمل تقديري وتقريري عن الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله.

مالك بن نبي في سطور
مالك بن نبي من مواليد قسنطينة بالجزائر (1905-1973) مفكر إسلامي بارز، درس القضاء بالمعهد الإسلامي المختلط، نال شهادة الهندسة الكهربائية من باريس وفيها أصدر عدداً من كتبه الهامة التي تناول فيها أبرز مشكلات العالم، لجأ إلى القاهرة عام 1956 وأصدر بعض كتبه فيها بالفرنسية ثم عاد إلى الجزائر بعد الاستقلال مديراً عاماً للتعليم العالي ثم تفرغ للعمل الفكري.
د. عبد الصبور شاهين في سطور
ولد في القاهرة 18 مارس 1929م، كان والده عالما أزهريا، ودخل الكتاب فحفظ القرآن قبل أن يتم سبعة أعوام، والتحق بالأزهر، ثم تخرج في دار العلوم عام 1956م، ، وتدرج في المناصب العلمية حتى أصبح أستاذا غير متفرغ للدراسات اللغوية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، تنوعت ثقافته بين أزهرية وفرنسية، وشارك في العمل السياسي من خلال مجلس الشورى المصري عام 1987م، كما اشتغل في مجال الدعوة إلى الله، وكان له نشاط بارز في الخطابة، وأوذي في سبيل الله كثيرا، فاعتقل لمدة عام من مارس 1955 إلى فبراير 1956م، ثم منع من التليفزيون الذي كان من أوائل العاملين فيه، كما منع من الإذاعة، ومن الخطابة، وله نشاطه ومجهوداته ومؤلفاته الإسلامية والفكرية واللغوية।



ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرته مجلة المجتمع الكويتية عام 2003م، وأعادت نشره جريدة العرب القطرية بعد وفاة د। عبد الصبور بقليل جدا.

الأربعاء، 28 يوليو 2010

تكريم أحمد العسال...وهدية نادرة



تكريم أحمد العسال...وهدية نادرة***
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد

يحزُّ في نفسي كثيرًا فراق علمائنا، الذين يودِّعوننا يومًا بعد يوم، واحدًا بعد الآخر، إلى عالم الحق والبقاء، فأشعر بأن الحمل يزداد على العلماء الذين يستبشرون بهم من خلفهم، فرحيل الرواحل لا يزيد الكواهل إلا حملاً، ولا يترك في القلب إلا أسفًا وهمًّا.

ورحيل الفقيه العالم العامل الداعية المصلح المجاهد الأستاذ الدكتور أحمد العسال- وهو جديرٌ بهذه الألقاب التي يكفي بعضها لاستنزال رضا الله تعالى- بعد رحيل العلاَّمة المحقق المدقِّق الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب، بعد رحيل الداعية السائح المصلح الأستاذ الدكتور عز الدين إبراهيم؛ إنما يقلِّل من وجود الأثبات في ساحة العلم والعمل والدعوة والجهاد، ويترك الأدعياء والأشباه يمتدون في فراغهم.

وقد ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرَّم وجهه أنه قال: "إذا مات العالِمُ انثلَم في الإسلام ثلمة لا يسدُها شيءٌ إلى يوم القيامة" (رواه الزبير بن بكار من قول علي معضلاً، وله شواهد).

وروى الطبراني عن أبي الدرداء رفعه: "موت العالم مصيبة لا تُجبر، وثلمة لا تسدُّ، وموت قبيلة أيسر من موت عالم، وهو نجم طمس".

وثبت في صحيح الحاكم عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ (الرعد: من الآية 41) قال: "موت علمائها وفقهائها".. إنهم الحرَّاس على أطراف الأرض، المرابطون على ثغورها، الحارسون لها من الشانئين والمتربِّصين، حتى إذا اختارهم الله إلى جواره، تكالب المتكالبون على الملَّة، وثلم في دين الإسلام ثلمة، وانتقصت الأرض من أطرافها.

رحل أحمد العسال بعدما أسَّس المؤسسات، وأنشأ الكليات، ورسَّخ المبادئ، ونشر العلم، وألَّف المناهج، وبذَر البذور؛ فأثمرت أجيالاً ينشدها الإسلام في شتَّى بقاع الأرض؛ تعجب الزرَّاع، ويغيظ بهم الكفار!.

لم يُعرف أحمد العسال بأنه فقيهٌ أو مفتٍ، رغم كونه فقيهًا متمكنًا؛ وذلك لفرط تواضعه، وإنكاره لذاته، وهو الذي تخرَّج في كلية الشريعة بجامعة الأزهر الأنور.

لم يمهله القدر إلى أن يتمَّ تكريمه ضمن المشروع الذي يقوم عليه الأستاذ صلاح عبد المقصود- شكر الله سعيه ووفاءه- بل حُمَّ القضاء ليتمَّ تكريمه بين أرواح الشهداء تطير في حواصل طير خضر في جنان الخلد بإذن الله.

ووفاءً مني لهذا العالم الزاهد أقدِّم مع هذا المقال كتابًا نادرًا، أحسب أنه ليس بين يدي أحد اليوم إلا القليل، صنَّفه هو وشقيق روحه ورفيق دربه وزميل عمره في الدراسة والسكن والدعوة والمحنة شيخنا العلاَّمة د. يوسف القرضاوي، وهما في شرخ الشباب، وهو كتاب: "الإسلام.. بين شبهات الضالين وأكاذيب المفترين"، الذي جاء ردًّا على افتراءات لفَّقها شيوعيو العراق فيما عُرف باسم: "الكراسة الرمادية"، يجد القارئ الكريم تفصيلاتها في مقدمة الكتاب، عسى أن يغفر الله لنا تقصيرنا نحو علمائنا ويعفو عنا.

اللهم ارحم العسال، وأحسن وفادته عليك، واخلفنا والأمة فيه خيرًا، ولا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.. آمين.. آمين.

حمل الكتاب من هنا

http://www.almeshkat.net/books/open.php?cat=57&book=5586

للتحميل اضغط على الرابط "كليك يمين" واختر (save target as)

***نشره موقع إخوان أون لاين بتاريخ: 13/7/2010م، بعد وفاة العسال بثلاثة أيام؛ حيث توفي 10/7/2010، عن عمر ناهز 82 عاما، رحمه الله وأجزل مثوبته وبرد مضجعه!!
http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=67823&SecID=391

تعليقات

1 - أضيف بواسطة : علي السيار ، القاهرة في 19/07/2010
ان الله لا ينتزع العلم انتزاعا انما ينتزعه بموت العلماء .. ودعك انه غير مشهور عبر الاعلام ام لا... يكفيه هذه المكانه في نفوس وقلوب اهل العلم والصلاح والاصلاح ..نحسب انه سيكرم تكريما اخر يليق بما قدمه للاسلام تكريما من لدن خبير عليم رحيم ..جزاكم الله خيرا علي هذه المقاله الطيبة وهذا المرفق العظيم ..

2 - أضيف بواسطة : مصعب الخير الإدريسي ، قطر في 16/07/2010
نعم أخي الكريم وصفي عاشور، والشيخ العسال ـ رحمه الله تعالى ـ وتقبله في الصالحين وأنزله منازل الأبرار المقربين كان أيضا مربيا زاهدا من طراز فريد، لم يكن الشيخ صوفيا سالكا مسالك الصوفية المعلومة في الزهد والتربية؛ لكني صحبته سنوات في باكستان وعملت تحت إشرافه المباشر؛ فوجدته ـ ولا أزكي على الله أحدا ـ قد رقي في مراقى الزهد والتربية مرقى يموت فيه هوى النفس، ولقد انصهر الشيخ في دعوته حتى كانت حياته دعوته وكانت دعوته هي حياته .. إنه طراز العالم العامل وأمتنا أحوج ما تكون إلى مثله حينما غادرها، والله المسئول أن يخلفنا فيه خيرا

3 - أضيف بواسطة : عصام موسى ، اسكندرية في 16/07/2010
رحم الله عالمنا الجليل واسكنه فسيح جناته والحقنا به فى الصالحين وجزاك الله أخانا أ/ وصفى لهذا الكتاب الرائع

4 - أضيف بواسطة : هشام يسري العربي ، القاهرة - مصر في 15/07/2010
اللهم ارحم علماءنا ومشايخنا وجازهم خير ما جازيت الأنبياء وأتباعهم، واجعل فيمن بقي منهم الخير كله، وسدد شباب الأمة للسير على دربهم. وشكرا للأخ الحبيب الدكتور وصفي على هذه النفحة العطرة.

5 - أضيف بواسطة : د.عبد القادر سليماني ، وهران الجزائر في 14/07/2010
إنا لله وإنا إليه راجعون وورحم الله عالمنا الجليل فسيرته عظيمه لا نخفي علي أحد وبارك الله فيك أخي وصفي

6 - أضيف بواسطة : فرج احمد كندى ، ليبيا في 14/07/2010
رحم الله شيخنا وادخلة فسيح جناتة وجمعة مع الصديقين والشهداء وجعل الفردوس الاعلى مثواة واعظم الله الاجر لتلاميذه ومحبية وخاصة صديقة العلامة الامام القرضاوى مع شكرى لاخى وصفى كاتب هذه المقالة

7 - أضيف بواسطة : أبو أنس ، البلد في 14/07/2010
رحم الله شيخنا الجليل وعالمنا الكريم ونسأل الله أن يأجرنا في مصيبتنا ويخلف الأمة خيرا منها، فموت العلماء موعظة وتذكير للأمة جميعاً بقرب الرحيل، وقرب انتهاء الدنيا، فإن الدنيا قد آذنت بصُرمِ وولت حذَّاء، ولم يبق منها إلا صُبابة كصبابة الإناء يتصابَّها صاحبها، وخراب الدنيا بموت عالم أضعاف خرابها بموت غيره، فالاستعداد ليوم الرحيل واجب، والعمل ليوم المعاد متحتم. وإنا لله وإنا إليه راجعون وجزاكم الله خيرا أستاذ وصفي على هذه التذكرة.

8 - أضيف بواسطة : جمال الرحوم ، المغرب في 14/07/2010
بسم الله الرحمن الرحيم عزاؤنا لأمة الاسلام في فقد د.أحمد العسال،وفقد الكثير من العلماء والمفكرين هذه الأيام وانتقالهم إلى رحمة الله. نسأل الله تعالى أن يسكنهم فسيح جناته،ويجعلهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم في جنات عدن . لا ترزأ الأمم بأكثر من فقد أهل العلم فيها، فنرجو الله أن يجعل لأمة الاسلام الخلف الصالح لخير سلف من العلماء وأهل الفضل. وشكر الله د.وصفي عاشور وقوفه عند هذا الحدث المعبر ، ونعيه للأمة هذا العلم الشامخ ، بعد أن جاء على أمة الإيمان زمن لا تتألم ولا تنعي فيه إلا أصحاب الفكر التافه أو الهوى الدنيوي . إنا لله وإنا إليه راجعون .

9 - أضيف بواسطة : صلاح عاشور ، مصر في 14/07/2010
شكر الله لشيخنا وصفي ما ذكره نحو شيخنا وأحب أن أؤكد أن جلست بين يدي الشيخ مرارا فلمست فيه تواضع علماء السلف وكنت أعجب لنكران نفسه وخوفه الشديد من الله ومراقبته لله دون تكلف يسأل عن تلامذته يذكر إخوانه بالخير يترك سيرة حسنة حيثما حل مهما قلت في حقه فمثل لا يعطيه حقه غير أنني لم أجد له مثيلا في علماء عصره

10 - أضيف بواسطة : رضا عبد الفتاح ، مصر في 14/07/2010
نسأل الله العظيم أن يتغمده بواسع رحمتهويدخله فسيح جناته وأن يلحقنا بهم على ما يحبه ويرضاه

11 - أضيف بواسطة : مصطفى عون ، مصر في 14/07/2010
رحم الله العالم الجليل والمربي العظيم الدكتور أحمد العسال ، وجزاكم الله خيرا أخانا د/وصفي

12 - أضيف بواسطة : مصطفى عون ، مصر في 14/07/2010
رحم الله العالم الجليل والمربي العظيم الدكتور أحمد العسال ، وجزاكم الله خيرا أخانا د/وصفي

13 - أضيف بواسطة : علاء السيد ، مصر-الشرقية في 13/07/2010
جزاك الله خيرا أخى وصديقى الدكتور وصفى وبارك الله فيك ونفع بك المسلمين

14 - أضيف بواسطة : خالد ، مصر في 13/07/2010
انا لله وانا اليه راجعون لقد فقدت الأمة رمزا وشيخا وقدوتا

15 - أضيف بواسطة : أحمد عاشور ، الكويت في 13/07/2010
جزاكم الله خيرا د وصفي ورحم الله عالمنا الجليل فسيرته عظيمه لا نخفي علي أحد وبارك الله فيك

16 - أضيف بواسطة : أحمد الخير ، مصر في 13/07/2010
رحم الله العالم الجليل ومنّ على الأمة بمن يسد مسده ويحفظ عليها علمها

17 - أضيف بواسطة : محمد عز الدين ، مصر في 13/07/2010
جزاك الله خيرا أ/ وصفي ورفع الله ذكرك في الأولين والآخرين، وهكذا عهدتك تلتفت للمسات الوفاء، وتذكِّرُنا به، فالإسلام صرح كبير وهؤلاء بانوه وهم جديرون بأن تعرفهم الأجيال لا سيما الأتقياء الأخفياء، فمعرفتهم تؤنس وتدفع إلى الله تعالى، وتقود إلى النصر. فرحم الله أستاذناوشيخنا، وأخلف الله على المسلمين، وبارك الله فيك أ وصفي وفي إخوانك من الدعاة المخلصين.

18 - أضيف بواسطة : اسماعيل معلم ، الصومال في 13/07/2010
رحم الله فقيد الأمة الشيخ الدكتور أحمد العسال، الذي جاهد لأجل الله، وكافح وناضل لأجل الأمة الاسلامية ، وكان من نجوم الاخوان المسلمين ، الذين نشروا العلم والدعوة في كير من أرجاء العالم الاسلامي، وان لم يزه بنفسه، فعلمه وصل الى أرض لم يعرف من هو الشيخ العسال. وأعزي الى أسرة الفقيد، وجماعة الاخوان المسلمين، والأمة الاسلامية جمعاء.

19 - أضيف بواسطة : محمد عبد الفتاح محمد ، كفر طهرمس الجيزه في 13/07/2010
الاستاذ الاخ الفاضل جزاكم الله خيرا ولله ما اعطي ولله ما اخذ وكل شي عنده بمقدار ونسال الله الحنان المنان ان يعطي الامه امثال هولاء اعلام القمم في العلم والتواصع وجلعلكم علي الدرب انشاء الله وزقنا حسن الاتباع وعظيم الاجر

20 - أضيف بواسطة : محب في الله لكل المسلمين ، مصر في 13/07/2010
جزيت خيراً كثيراً أستاذ وصفي و أحسن الله إليك

21 - أضيف بواسطة : إسماعيل سعد ، مصر في 13/07/2010
عزاؤنا في فقيدنا وإخوانه أنهم زرعوا وغرسوا، وعبّدوا الطريق وأضاءوا فيه المشاعل ليمضي فيه خلَفُهم دون تردد، والعهد لله قد قطعناه على مواصلة دربهم.

22 - أضيف بواسطة : محمد طه ، مصر في 13/07/2010
جزاكم الله خيرا أخانا أ وصفي على وفاءك لشيخنا العسال رحمه الله فكل ماينشر هذه الأيام يجمع التنوع لسيرته العطره وعطاؤه الكبير في الدعوة والعلم فشكر الله لك

التكوين الدعوي للداعية




التكوين الدعوي للداعية
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد

هو تكوين بدهي ومنطقي؛ إذ كيف يكون داعية من لم يتكوَّن دعويًّا؟ ونعني بالتكوين الدعوي ما يُمكِّن الداعية من تبليغ دعوته إلى الناس بعلمٍ وفهمٍ، وحكمة وبصيرة، وللتكوين الدعوي هنا محوران:
المحور الأول: الإلمام بتاريخ الدعوة وسيرة أعلامها مجملاً وما أُلِّفَ فيها.

المحور الثاني: ما يسمى بـ: "فقه الدعوة"، وهو علم يجب على الداعية أن يتبحر فيه كي يستطيع أن يمارس دعوته على بصيرة.


المطلب الأول: تاريخ الدعوة وأعلامها ومؤلفاتها:

والمقصود بتاريخ الدعوة هنا أن يلم الداعية إلمامًا جيدًا بتاريخ الدعوة الإسلامية عبر مراحلها المختلفة، ابتداءً بعصر النبي- صلى الله عليه وسلم- ومرورًا بالعصر الأموي ثم العباسي، ثم العثماني، ثم تاريخ الدعوة في كلِّ دولة من الدول الإسلامية التي قامت فيها دعوة إسلامية في بلاد مختلفة، مثل: مصر، وبلاد الأندلس، والمغرب العربي، وغيرها.

الفرع الأول: تاريخ الدعوات قبل النبي وبعده:

ومن المفيد قطعًا أن يطالع تاريخ الدعوات الأخرى قبل النبي- صلى الله عليه وسلم- فيقرأ سير الأنبياء وتاريخ دعوتهم مع أقوامهم، ومراحلها، وكيف كانت نهاياتها، وليس أمامنا مصدر موثوق به في هذا الصدد إلا ما ورد في القرآن الكريم.

ثم يطالع بعد ذلك تاريخ الدعوات المعاصرة، مثل دعوة محمد بن عبد الوهاب، ودعوة النورسي، ودعوة السنوسي، ودعوة محمد عبده، ودعوة أبي الأعلى المودودي، ودعوة حسن البنا، وغيرها من الدعوات؛ ليستخلص أروع ما فيها من فوائد وإيجابيات، ويتجنب أبرز ما فيها من أضرار وسلبيات، وهذا يعطيه بُعدًا ثقافيًّا وأفقًا فكريًّا جديدًا يتميز بالواقعية والإمكانية القريبة للقياس عليه، والأخذ منه والانتفاع به.

والمطلوب من الداعية في هذا التاريخ أن يتعرَّف على أحداثه بشكل توثيقي يضمن معه صحة الأحداث، ويقرأ وقائعه ومعاركه، وكيف تكونت كل دولة، والبحث عن أسباب ازدهارها وقوتها، والتعرف على عوامل سقوطها وانهيارها.

كما ينبغي عليه أن يتعرَّف على أعلام الدعوة في كلِّ مرحلة من مراحلها، وفي كلِّ خلافة قامت في تاريخها؛ بحيث يقرأ سيرهم وتاريخهم؛ ليقف على طبيعة دعوتهم وتكوين أعلامهم، وكيف كان دورهم في نشر دعوتهم، وجهادهم وتضحيتهم، وصبرهم على ما لاقوه من محن وابتلاءات.

كل هذا عن طريق الكتب التي اهتمت برواية هذا التاريخ بعيدًا عن الاتجاهات المختلفة التي فسَّرت التاريخ حسب أهوائها ومذاهبها، ومللها ونحلها، بل يقرأ التاريخ أحداثًا فقط عبر مصادره الموثقة، في مثل: البداية والنهاية لابن كثير، والكامل لابن الأثير، وسيرة ابن هشام، وغيرها، حتى يسلم له الحدث التاريخي خالصًا صافيًّا قبل أن تشوبه التفسيرات الحزبية والمذهبية التي غالبًا ما يشوبها التعصب للمذهب أو الطائفة.


الفرع الثاني: تاريخ الرجال:
وإذا كانت هذه هي مصادر التاريخ وأحداثه، فإن لتاريخ الرجال كتبًا أخرى ينبغي مطالعتها في سير الرجال والدعاة وتراجمهم، مثل: كتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبي، و"النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين" لمحمد رجب البيومي، و"رجال من التاريخ" لعلي الطنطاوي، و"عظماؤنا في التاريخ" لمصطفى السباعي، وكتب الأعلام التي كتبها محمد أبو زهرة: "أبو حنيفة"، و"مالك"، و"الشافعي"، و"ابن حنبل"، و"ابن حزم"، وغيرهم، و"علماء في وجه الطغيان" لمحمد رجب البيومي، و"نُزْهَة الخواطر" لعبد الحي الحسني والد الشيخ أبي الحسن الندوي، و"من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة" لعبد الله العقيل، و"علماء ومفكرون عرفتهم" لمحمد المجذوب، و"رجال الفكر والدعوة في الإسلام" للشيخ أبي الحسن الندوي، بالإضافة إلى سلسلة "أعلام المسلمين" وسلسلة "علماء ومفكرون معاصرون" اللتين تصدرهما دار القلم بدمشق.

ومن المهم الاطلاع على ما كتبه بعض الدعاة من سير ذاتية ومذكرات شخصية لهم، مثل المشايخ: حسن البنا، وعبد الحليم محمود، ويوسف القرضاوي، وعلي الطنطاوي، وأبو الحسن الندوي، ومالك بن نبي، وأبي الأعلى المودودي، ومصطفى السباعي، وعبد الحميد كشك، وحسنين مخلوف، وخالد محمد خالد، وحسن العشماوي، وعبد العزيز كامل، وتوفيق الشاوي، وأحمد حسن الباقوري، وغيرهم كثير.


الفرع الثالث: مؤلفات في علم الدعوة:
ومما يندرج تحت هذا المحور قراءة المؤلفات التي أُلفت في الدعوة كعلم وهي من الأهمية بمكان؛ حيث يدرس الداعية الدعوة دراسة علمية، ومن أهم هذه الكتب: كتاب "أصول الدعوة" لعبد الكريم زيدان، وبنفس العنوان لعبد الرحمن عبد الخالق، و"المدخل إلى علم الدعوة" لمحمد أبو الفتح البيانوني، و"مع الله دراسات في الدعوة والدعاة" لمحمد الغزالي، و"الدعوة قواعد وأصول" لجمعة أمين عبد العزيز، و"أسس الدعوة" لمحمد الوكيل، و"الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها" لأحمد أحمد غلوش، و"الدعوة إلى الإسلام وأركانها" لأحمد عز الدين البيانوني، و"الدعوة الإسلاميَّة دعوةٌ عالميَّة" لمحمد الراوي، و"فصولٌ في الدعوة الإسلامية" لحسن عيسى عبد الظاهر، و"الدعوة إلى الله" لتوفيق الواعي، وغيرها كثير.

المطلب الثاني: فقه الدعوة
أما المحور الثاني في التكوين الدعوي للداعية فهو ما أسميناه "فقه الدعوة"، والفقه هنا- الذي يعني الفهم لغة- يجمع بين أمرين:

الأول: العلم بماهية الدعوة إلى الله تعالى، وبموضوعها، وبطرق كسب ذلك العلم، والثاني: العلم بقواعد وأحكام تنزيل ذلك على واقع الناس في كلِّ تفاصيله وحاجاته.
فنحن هنا إذن في حاجة إلى أمرين عظيمين: العلم بحقيقة الدعوة، والعلم بطريقة تنزيل تلك الحقيقة؛ لتصبح واقعًا معيشًا ومهيمنًا على الحياة ومنظمًا لها وصانعًا لمضامينها.

وإذا كان الإلمام بتاريخ الأنبياء والرسل، وتاريخ الدعوات من بعدهم هو الإحاطة النظرية والعلمية بالدعوة إلى الله، فإن المقصود بفقه الدعوة أن يتعمق الداعية في أحداث التاريخ، ويتأمل تاريخ الدعوات؛ ليستخلص منه العبر البليغة والدروس النافعة التي تساعده في فَهم الواقع، ويجد فيها تعزية وأسوة وسلوى، ويتلمس فيها الضياء الذي ينير له الطريق.

ومَثَلُ علم الدعوة وعلم فقه الدعوة كمثل التاريخ وفقه التاريخ وفلسفته، فإذا كان علم التاريخ يهتم بالأحداث وتصحيحها وتوثيقها، فإن فلسفة التاريخ وفقه التاريخ يتجاوز ذلك إلى تفسير الأحداث، والتماس العبرة النافعة والدروس المستفادة التي يعبر بها الدعاة والعلماء من القديم إلى الحديث إلى الواقع إلى استشراف المستقبل، فكذلك علم فقه الدعوة يتجاوز الدعوة كتاريخ وعلم إلى كيفية الدعوة إلى الله تعالى بمراعاة الزمان والبيئات، واعتبار الأعراف واختلاف الناس بما لا يتعارض مع محكمات الشرع، وبهذا تكون الدعوة على بصيرة كما قرَّر القرآن الكريم: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: من الآية 108).
ومن خلال التأمل في تاريخ الدعوات، سواء دعوات الأنبياء قبل دعوة الإسلام أو الفترة المكية والمدنية أو دعوات الإصلاح الحديث يستطيع الداعية أن يقف على أسباب النصر وأسباب الهزيمة، وأسباب التقدم وأسباب التخلف وأسباب نهوض الأمم وعوامل سقوطها، فيُدرك أهمية الارتقاء بالمستوى الروحي، وأهمية عمق الإيمان واليقين، وضرورة العلم في النهوض بالأفراد والجماعات، وأن الصراع بين الحق والباطل سُنَّة أبدية من سُنن الله الجارية التي لا تبديل لها ولا تحويل، وأن من أسباب النصر تربية الناس على الاعتزاز بالإسلام، وبثُّ الأمل في نفوس المسلمين، وهذا كله يُستقى من القرآن والسنة والسيرة.


الفرع الأول: أهمية القرآن مصدرًا للداعية:
وأهم مصدر على الإطلاق في هذا السياق وأول المصادر التي يجب أن يرجع إليها الداعية ويهتم بها اهتمامًا بالغًا هو القرآن الكريم؛ ذلك أنه حوى بين دفتيه ما يُبصِّر الداعية بطبيعة الطريق، ويضع يديه على بدايات المشوار وأحداثه ونهاياته، طبيعة العقيدة، وطريقة التبليغ، وطبيعة استقبال القوم لها، وحقيقة مشاعر الرسول، وتحقق النذير، وذلك مع كل دعوة من الدعوات، فالقرآن العظيم مليء بقصص السابقين من الأنبياء والدعاة.

وهناك قواعد كلية كثيرة تتخلل القصص القرآني أو تسبقه أو تتلوه مثل: وحدة الإيمان، ووحدة العقيدة، ومتى انتهت إلى إسلام النفس لله والإيمان به إيمانًا ينبثق منه العمل الصالح، وإن فضل الله ليس حجرًا محجورًا على عصبة خاصة، إنما هو للمؤمنين أجمعين.

كما نُدرك أهمية القصص القرآني في تركيز قواعد التصور الإسلامي وحقائقه، ومنها: حقيقة الوحي الذي يتلو عليهم أخبار أمم بائدة لم يشهدها الرسول المنزَّل عليه هذا الوحي، وحقيقة وحدة العقيدة والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير، وحقيقة تكرار الاعتراضات والاتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلاً أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل، وحقيقة تحقق البشرى والوعيد، كما يبشر النبي وينذر، وهذا شاهد من التاريخ، وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾ (القصص)، وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد، وبين جيل وجيل، وهي العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم في إله واحد(1).

كما يتعلم الداعية من خلال هذا القصص الصبر الجميل والنفس الطويل في مواجهة نفوس طال عليها الأمد وهي بعيدة كثيرًا أو قليلاً عن منهج الله تعالى، وهو ما يحتاج إلى صبر على الالتواءات والانحرافات وثقل الطبائع وتفاهة الاهتمامات؛ كما توجب عليه أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كلِّ مرحلة، ومن ثم فليس القصص القرآني مجرد حكايات تُروى، ولكنه لمسات وإيحاءات مقدرة تقديرًا.

كلُّ هذا وغيره يستخلصه الداعية من القرآن الكريم عبر قصصه ومواقفه، وأفكاره وتصوراته، وقيمه وموازينه فيما يقدمه بين يدي ما يقصه علينا من أنباء السابقين، وحسبنا في هذا المقام ما للأستاذ سيد قطب من كلمة طيبة تعبِّر أجمل تعبير، وتدل أتم دلالة وأصدقها فيما يتصل بهذا الأمر في خواطره في نهاية سورة هود، وقد قصَّ القرآن على النبي من نبأ الأولين، فيقول يرحمه الله: لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها، والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون له نهاية!

فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق؛ ويريهم معالمه في مراحله جميعًا؛ ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق؛ وقد بات لاحقًا موصولاً بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري؛ وبات بهذا الركب الكريم مأنوسًا مألوفًا لا موحشًا ولا مخوفًا!

إنهم زُمرة من موكب موصول في طريق معروف؛ وليسوا مجموعة شاردة في تيه مقطوع!

وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية؛ ولا يمضون هكذا جزافًا يتبعون الصدفة العابرة! هكذا كان القرآن يتحرَّك في الصف المسلم؛ ويُحرِّك هذا الوصف حركة مرسومة مأمونة، وهكذا يمكن اليوم وغدًا أن يتحرك القرآن في طلائع البعث الإسلامي، ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم.

إن هذه الطلائع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه، تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها؛ وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات؛ وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق، والقرآن بهذه الصورة لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة، ولكنه ينتفض حيًّا يتنزل اللحظة على الجماعة المسلمة المتحركة، لتتحرك به، وتتابع توجيهاته، وتتوقع موعود الله فيه. أ.هـ.

الفرع الثاني: أهمية السنة مصدرا للداعية(2)
ومن المصادر المهمة هنا في تكوين الداعية وبخاصة في مجال فقه الدعوة، السنة النبوية الشريفة؛ حيث ينبغي للداعية أن يتأمل أقوال النبي- صلى الله عليه وسلم- ليتعلم منها الحكمة وفصل الخطاب، وكيف كان كلامه قليلاً ومع ذلك يعبِّر عن معانٍ كبيرة وجامعة، كما أنه سيجد أساليب النبي في الدعوة من خلال أقواله؛ حيث كان يستخدم أساليب كثيرة، منها:

1- ضرب المثل:
فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسوق، داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء. وما نصنع به؟ قال "أتحبون أنه لكم؟" قالوا: والله لو كان حيًّا، كان عيبًا فيه؛ لأنه أسك. فكيف وهو ميت؟ فقال "فوالله للدنيا أهون على الله، من هذا عليكم"(3).

2- البيان بالرسم:
فعن عبد الله بن مسعود قال: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا ثم قال: "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: "هذه سبل" قال يزيد: "متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ (الأنعام: من الآية 153)" (4).

وعن عبد الله رضي الله عنه قال: خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطًا مربعًا، وخط خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به- أو: قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا"(5). وما أكثر الوسائل التقنية التي يمكن للداعية أن يبين ويوضح من خلالها في هذا العصر.

3- حسن الاستهلال في الحديث:
عن طريق السؤال مثلاً، كما في حديث: "أتدرون من المفلس؟" أو حديث: "ما تعدون الصرعة فيكم؟"(6)، وهذا أسلوب يجذب السامع، ويعلق بصره وسمعه وقلبه بالداعية.

4- الرفق واللين:
وفي موقف مَن جاءه ليرخِّص له في الزنا خير مثال على ذلك، وكانت عاقبته مع النبي بفضل رفقه معه، فعن أبي أمامة قال: إن فتى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مه مه، فقال: "ادنه" فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: "أتحبه لأمك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"، قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"، قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم"، قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم"، قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه"، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء"(7).
وهناك أمور كثيرة وجوانب عديدة يستطيع الداعية أن يحصلها من أقوال النبي في المقامات المختلفة يصعب حصرها، ومن المهم هنا أن يفرِّق الداعية بين حال وحال، وبين شخص وشخص، وبين مكان وآخر، وبين زمان وغيره، وهذا باب واسع يستحق دراسة منفصلة تستقصي أساليب النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذا الجانب؛ ليكون الداعية متمكنًا من فقه الدعوة.

الفرع الثالث: أهمية السيرة مصدرًا للداعية:
وإذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية من أهم المصادر التي يجب على الداعية أن يعتمدها في فقه الدعوة وطبيعة الطريق، فإن السيرة النبوية العطرة هي التي ترجمت هذا القرآن وجعلت منه كائنًا حيًّا يمشي على الأرض، وينتفض بين الناس، ومن هنا تأتي أهمية السيرة في التكوين الدعوي أو تكوين الفقه الدعوي لدى الداعية.

ولن يجد الداعية فروقًا بين سيرة النبي وسير الأنبياء السابقين إلا كما الفرق بين النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- وبين الأنبياء السابقين في عالمية الرسالة وشمولها؛ ما تطلب مقومات نبوية وتشريعات ربانية تناسب هذه المعطيات.

غير أن دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم- تلتقي في خطوطها العامة مع كلِّ دعوات المرسلين في قواعد التصور وحقائق الوجود، وطبيعة الطريق ابتداءً وانتهاءً.

ويليق للداعية هنا أن يتجاوز- وهو يتكون في فقه السيرة- أحداث السيرة إلى قراءة ما خلف الأحداث، وما تعطيه من عبرة وعظة، ويعينه على ذلك أن يطالع ما كتبه العلماء الربانيون حول فقه السيرة، مثل الشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والشيخ منير الغضبان- وكتبه معروفة في هذا الشأن- والدكتور مصطفى السباعي، ولا يفوته أن يتأمل ما كتبه الأستاذ سيد قطب من خواطر حول أحداث السيرة النبوية في القرآن الكريم، فإن فيها من الخير الكثير.

الفرع الرابع: مؤلفات في فقه الدعوة:
وبالإضافة إلى القرآن الكريم والسيرة النبوية المطهرة فإن هناك مؤلفات اهتمت بفقه الدعوة وليس مجرد الدعوة؛ ولكي ينطلق الداعية ويتكون تكونًا مُرضيًا يجب عليه أن يدرس هذه المؤلفات التي اعتنت عناية بالغة بهذا الشأن، ومن أهم هذه الكتب:
كتاب "زاد المعاد" لابن القيم، ومؤلفات الداعية محمد أحمد الراشد، وكثير من كتب الشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي، و"فقه الدعوة ملامح وآفاق" من سلسلة كتاب الأمة، و"فقه الدعوة إلى الله" للإمام عبد الحليم محمود، و"فقه الدعوة" للأستاذ مصطفى مشهور في مجلدين، و"فقه الدعوة إلى الله" و"فقه النصح والإرشاد" لعبد الرحمن حبنكة، وللدكتور موسى إبراهيم الإبراهيم: "تأمّلات تربويّة في فقه الدعوة الإسلاميّة"، و"الفقه الحركي في العمل الإسلامي المعاصر"، و"مفاهيم تربويّة في فقه الدعوة الإسلاميّة"، وغير ذلك.

------------

الحواشي:

(1) راجع في ظلال القرآن لسيد قطب في تفسير الآية: 49 من سورة هود: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)﴾.

(2) أفاض شيخنا الدكتور يوسف القرضاوي في كيفية تعامل الداعية والفقيه مع السنة النبوية في كتابه القيم ثقافة الداعية.
(3) رواه مسلم: كتاب الزهد والرقائق برقم: 2957.
(4) رواه أحمد في مسند عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.
(5) رواه البخاري: كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله.
(6) الحديثان رواهما مسلم.
(7) رواه أحمد في مسنده برقم: 21185.
-------------

* باحث شرعي بالمركز العالمي للوسطية- الكويت
نشره موقع إخوان أون لاين بعنوان: "التكوين الثقافي للداعية" بتاريخ: 19/7/2010م
http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=68126&SecID=360



تعليقات

1 - أضيف بواسطة : ابو زينب ، القليوبية في 23/07/2010
جزاكم الله خيرا وجعله فى ميزان حسناتكم ولكتى اقترح القاء نظرة واقعية على الدعاة تجد ان كثرة الاداريات طغت على التكوين التربوى والثقافى مما اضعف عندنا المستوى الثقافى وكما نعلم ان فاقد الشيء لا يعطيه

2 - أضيف بواسطة : wael ، egy في 21/07/2010
جزاكم الله خيرا

3 - أضيف بواسطة : اسلام فؤاد ، المنوفية -اشمون في 21/07/2010
الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ادام الله علينا علماؤنا وارشاداتهم لنا فى هذا الطريق الطويل وهذا الموضوع فى الوقت الحالى لهو مهم جدا بعد ان اهمله البعض واهتم بالحركة فقط

4 - أضيف بواسطة : ابن الخولى ، مصر المخروسة في 20/07/2010
أتفق مع سيادتكم تماما يا دكتور ولكن مذا تقول لشباب اليوم ودعاة اليوم والذين لا يهمهم الا أن يذهبون ويجيئون ويأتون ويروحون - طبعا أنا لا أقلل من أهمية الحركة فى موضوع التربية - لكن لابد للداعية أو للشاب المسلم فى مراحل عمره الأولى وحتى سن الثلاثين وذلك كما يقول الدكتور طارق السويدان أكرمه الله لابد أن يكوت أخذه أكثر من عطائه ينبغى له أن يقرأ كثيرا ويستمع كثيرا ويجلس الى العلماء كثيرا وذلك حتى يبنى نفسه وحتى يكون عنده شىْء يعطيه للناس وحتى تكون حركته على بينه ويعرف جيدا أين يضع قدمه . أطلب من سيادتك أن تكتبو مقالا فى هذا الشأن وتقبل الله جهدكم المشكور .

5 - أضيف بواسطة : أحمد صلاح ، أسيوط في 20/07/2010
أحسنتم وجزاكم الله خيرا ، فما أحوج الداعية إلى هذا التكوين الثقافي ليبصر أين يضع قدمه .

6 - أضيف بواسطة : م. رمضان أبوهرج ، دميـــاط في 20/07/2010
جزاكم الله خيــرا أخى الكريم د. وصفى ..., موضوع التكوين الحقيقى وتناسبه مع مدى الحركية السائدة لهو من الأمور التى تحتاج لطول تأمل فهو من النقاط الحرجة للغاية والتى باتت تهدد الحركة الإسلامية على المدى الطويل. دمت بخير وفى أمان الله

التكوين الفقهي للداعية


التكوين الفقهي للداعية
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد


تقديم الحديث عن التكوين الفقهي للداعية على التكوين الدعوي هو الأقرب إلى المنطق السليم، والمناسب للواقع المشَاهد، وإن كان التكوين الدعوي من الأهمية بمكان؛ إذ إن الداعية دائمًا ما يُسأل من جماهير المسلمين عمَّا أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، فالداعية أو الخطيب أو الإمام هو ملجأ عموم الناس في المسائل الفقهية وأمور الدين، وربما أمور الدنيا في بعض الأحيان.


والداعية أمام هذه الأسئلة ليس أمامه إلا ثلاثة خيارات:
الأول: أن يصمت أو يعتذر عن الإجابة لعدم علمه، وهذا يفقد الناس الثقة فيه، ويعدمه التأثير فيهم، لكنه الصواب بين يدي الله حتى لا يُفتي بغير علم.

الثاني: أن يُفتي بغير علم حتى لا يفقد ثقة الناس، فلا يكاد يُسأل سؤالاً، ويقول لا أعلم، أو الله أعلم، بل يجيب عن كل ماُ يُسأل عنه ويتحدث بكل ما علم، وهذه هي الطامة الكبرى، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسلك، حين روى البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالا، فسُئلوا، فأفتَوْا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا" (صحيح البخاري: كتاب العلم، باب: كيف يُقبض العلم).
وقال ابن عطاء الله في حكمه المعروفة: "من رأيته مجيبًا عن كل ما سُئل، ومعبرًا عن كل ما شَهِد، وذاكرًا كل ما علم فيُستدل بذلك على وجود جهله".

ولأن الحديث عن الشيء مع عدم العلم به يُوقع صاحبه في متناقضات، ربما أدَّت إلى التكذيب به والإنكار عليه، فقد عاب القرآن على أقوام سلكوا هذا المسلك حين قال: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ (يونس: من الآية ٣٩).
وكم حذَّر علماؤنا من مغبَّة الإفتاء بغير علم، فضلاً عن تاريخ الصحابة والتابعين والسلف الصالح المليء ببيان خطر الإفتاء والتهرُّب من الفتوى وإحالتها بعضهم على بعض (راجع في هذا بتوسع بدايات كتاب إعلام الموقعين لابن القيم).

الخيار الثالث- وهو الصواب: أن يجيبهم على تساؤلاتهم بعلم وبيِّنة، وحكمة وبصيرة، وهذا هو الخيار الذي لا يسع الداعية سواه، ومن هنا وجب عليه أن ينظر في أمره، ويخطط ليُكوِّن نفسه تكوينًا فقهيًّا راسخًا يمكِّنه من الوفاء بحاجات الناس، فضلاً عن رفع الجهل عن نفسه، وهو مستوى يطالب به كل المسلمين، ومن هنا فإن هناك أسئلةً ينبغي طرحها في المطلب التالي.


المطلب الأول: أسئلة أمام الداعية المتفقِّه

وهنا يثار عدد من الأسئلة أمام الداعية الذي يريد أن يكوِّن نفسه تكوينًا فقهيًّا، هل يبدأ من الكتب الميسَّرة السهلة المعاصرة؟ أم يبدأ بأمهات الكتب القديمة التي تحتوي على شروح وحواشٍ؟ وهل يتفقَّه على مذهب واحد أم يقرأ في كل المذاهب؟ أم يترك المذهبية ويقرأ في الفقه المعاصر الذي تميَّز بالتخلص من المذهبية، واتسم بالتحرر والعصرية؟ وهل إذا كان متعلمًا للفقه على مذهب واحد وجب عليه أن يُفتي بمقتضاه حتى لو اختلف مع الأشخاص والعصور والبيئات التي ساد فيها فقه آخر؟ وهل يُنكر ما عليه الناس؛ مما يعدُّ مخالفًا لمذهبه في مذاهب أخرى حتى لو كانت المسألة خلافية فيها أكثر من رأي؟ وهل يتعلم على يد شيخ يأخذ عنه الفقه؟ أم بوسعه أن يحصِّل العلم الشرعي وحده؟ لا سيما في عصرنا الذي تيسرت فيه أسباب العلم من أسطوانات مدمجة ومواقع إنترنت، مع وجود الكتب والمؤلفات التي تعرض العلوم مقرَّبة ميسَّرة؟!.

كل هذه أسئلة نحاول أن نجيب عنها في السطور التالية؛ كي يكون التكوين الفقهي للداعية على علم وحكمة وفهم وبصيرة، يرفع به الجهل عن نفسه أولاً، ويوفِّي به حاجات جمهور المسلمين.

أهمية الشيخ:
وجود الشيخ المُعلِّم يعتبر أمرًا مهمًّا في طريق طلب العلم الشرعي، حتى مع تيسير العلوم وتوافر وسائلها، وإذا كان المعلم ضرورةً لا غنى عنها في تلقي العلوم الدنيوية من طب وهندسة وغيرها من علوم، فإن وجوده في تلقِّي العلم الشرعي له أهمية خاصة.

وتكمن أهمية تلقِّي العلوم الشرعية على شيخ في مجموعة أمور، لعلَّ من أهمها ما يلي:
أولاً: إن الشيخ يوفِّر على المتعلِّم كثيرًا من الجهد في فهم مسائل هذه العلوم؛ لأن هذا الشيخ له معاناته السابقة في فهم هذا العلم، وسؤال العلماء عمَّا يعنُّ له حتى استوعب هذه المسائل، وفهم تلك العلوم، وهو ما يوفِّر الجهد في الاستيعاب، والطاقة في التحصيل.

ثانيًا: إن الشيخ يوفِّر على المتعلِّم طول الوقت في طريق التحصيل؛ لأنه يضع قدمه على الطريق الصحيح ابتداءً، والمتعلِّم بلا شيخ ربما بدأ طريقه بانحراف يسير، ثم مع مرور الزمن يتسع هذا الانحراف شيئًا فشيئًا، إلى أن ينتهي نهاية بعيدة كل البعد عن العلم السليم وطريقه الصحيح، فضلاً عن أن يبدأ بانحراف واسع، فينتهي إلى الضلال، وقد قال فقهاؤنا: "يُغتفر في النهايات ما لا يغتفر في البدايات"، فالخطأ في أساس البناء لا يُغتفر بحال من الأحوال إلا بهدم هذا البناء، أمَّا الخطأ في الأدوار العليا ربما وجدنا وسيلةً أو أخرى لاستدراك ما حدث من خطأ أو انحراف.

ثالثًا: إن الشيخ يبيِّن للمتعلِّم مصطلحات هذه العلوم، وهذه العلوم لها خصوصيتها في مصطلحاتها، ودلالات هذه المصطلحات، وفي الفقه على وجه أخص لا سيما في الفقه المذهبي الذي له رموزه ومصطلحاته التي تعبِّر عن مضامين ومسميات خاصة، لا يعرفها إلا أهل التخصص ومشايخ العلوم الشرعية، وبدون توضيح هذه الرموز والوقوف على معاني تلك المصطلحات يشعر المتعلِّم أنه لا يفهم شيئًا (ألَّف الدكتور علي جمعة كتابه "المدخل"، وأحصى فيه هذه المصطلحات والرموز بعد أن قضى في جمعها عشر سنوات، وهو جهد طيب ومبارك انتفع به طلاب العلم عامةً، وطلابه على وجه الخصوص).

كيف يُختار الشيخ؟
ولا ينبغي للمتعلم أن يختار أي شيخ من الشيوخ، بل لا بد أن تتوافر فيه صفات هي ما ينبغي أن يتمتع بها من يكون اختياره موفَّقًا، ومن أهم هذه المواصفات:

أولاً: أن يكون على خلق طيب وصلة قوية بالله، وهذا من أهم الأمور؛ لأن العالم الموصول بالله سيُراعي في المتعلِّم هذا الجانب ويسقيه مع العلم الخلق والتقوى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)﴾ (آل عمران).

ثانيًا: أن يكون عالمًا متمكنًا، فالعالم المتمكن هو الذي يعرف خبايا العلم، وأين معاقله وفرائده، وأين مكامن القوة فيه ومواضع الصعوبات، فلكل علم رجاله، ولا ينبئك مثل خبير.

ثالثًا: أن يكون عاملاً بعلمه، فعلم بلا عمل لا قيمة له، وعمل بلا علم يؤدِّي إلى بدعة وضلالة، فلا يبلغ العالم أن يكون ربانيًّا إلا إذا جمع بين العلم والعمل والتعليم.

رابعًا: أن يكون عالمًا مهمومًا بقضايا الأمة، وليس مجرد داعية أو شيخ يجلس لتعليم الناس- وهذا مهم- أو يُلقي الخطب والدروس، لكن يكون عالمًا مجاهدًا يجأر بالحق، ويصدع بالصدق، ويحيي قضايا أمته الكبرى، ولا يخشى في الله لومة لائم.
المطلب الثاني: خطوات هامة تتصل بالداعية ومنهجية التعلُّم:
ولكي يكون منطلق الداعية المتفقِّه منطلقًا ثابتًا راسخًا، سليمًا صحيحًا، ينبغي عليه أن يسلك سبيل مجموعة من الخطوات التي تصحِّح له مساره، وتجعله موفقًَا مسددًا، وهذه الخطوات منها ما يتصل بالداعية المتعلم بشكل عام، سواء كان تكوِّنه فقهيًّا أم غير ذلك، ومنها ما يتصل بطريقة التعلُّم ومنهجيته.

الفرع الأول: ما يتصل بالداعية:
ولعل من أهم ما يتعلق بالداعية نفسه ما يلي:
أولاً: إخلاص النيَّة، فإن النيَّة هي روح العمل، وبغيرها يصبح العمل جثةً هامدةً لا روح فيه ولا أثر لها، وقديمًا قال ابن عطاء الله: "الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها". ومكانة النيَّة والإخلاص في الأعمال أمر مفروغ منه، لا يستدعي مزيد بيان واستشهاد من القرآن أو السنة، وحسبنا أنها مناط القبول عند الله تعالى، وإنما لكل امرئ ما نوى، وكما قال البحتري: "نفس تضيء وهمة تتوقد"، فعبَّر عن النية الصالحة بالضياء، وعن الهمة العالية بالتوقُّد.

ثانيًا: استشعار أهمية الرسالة التي أقامه الله فيها، واستأمنه عليها، وهي رسالة الأنبياء والمرسلين، وميراث الأنبياء، فإنهم لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، وهو مقام جليل يعبر عنه ابن عطاء الله حين قال: "إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك، فانظر فيما أقامك".

ثالثًا: إرادة التعلم، حيث إن كثيرًا ممن يريدون أن يتعلموا يبدءون في سلك سبيل التعلم ثم بعد فترة يسيرة من الزمن يتراجعون ويتساقطون، ومن هنا تبدو أهمية قوة الإرادة وصلابة العزيمة وعلو الهمة، وقد قال أبو الطيب في هذا المعنى:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان

رابعًا: استفراغ الوسع وبذل الجهد، فإن من رام شيئًا جاهد من أجله وبذل فيه النفس والنفيس، ومن أحسن عملاً فلن يضيع الله أجره، ومن طلب شيئًا وبذل أسبابه وفقه الله وزاده توفيقًا.

خامسًا: وضوح الرؤية واستصحاب الهدف: وهذه من الأمور المهمة التي يجب أن يدركها المتكوِّن، فتكون حاضرة عنده لا تغيب، حتى لا يضل الطريق، أو يميل به السبيل، فيطول عليه المقصود، ويبعد عنه هدفه المروم، وهذا يوجب عليه أن تكون رؤيته واضحة، مستصحبًا لهدفه في كل وقت.


سادسا: قياس مدى ما حققه من إنتاج، فالمتعلم لو لم تكن له خطة بناء على وضوح الرؤية وتحديد الهدف، فلن يكون سيره منتجًا على المستوى المطلوب، ومن هنا كان من الأوقع له تحقيقًا للهدف وتحسينًا في التعلم، وتجويدًا في السير: أن يضع لنفسه خطة إنجاز ثم يتابع نفسه فيها من خلال قياس ما حققه على ما كان مطلوبًا.

سابعًا: المداومة والاستمرار- وهي مترتبة على ما قبلها ونتيجة طبيعية لها- فحين يصدق العزم وتعلو الهمة لا شك يكون الاستمرار والدوام، مهما كانت العقبات، ووقفت أمامه الأغيار والمعطلات، وخير الأعمال عند الله أدومها وإن قل.

الفرع الثاني: طريق التعلم ومنهجيته:
أما فيما يتصل بطريق التعلم ومنهجيته في محاولة لإجابة بعض الأسئلة المهمة السابقة، فلعل من أهمها ما يلي:

أولاً: أن يتعرف على شيخ أو أكثر في كل علم ليكون مرجعه وموئله الذي يرجع إليه ويستفسر منه ويتعلم عليه ويستشيره فيما يعن له من مسائل العلم، وبتعرفه على الشيخ سيوفر عليه الكثير من الجهد والوقت والمعاناة، وينتفع بما ذكرناه قبل قليل في أهمية الشيخ.

ثانيًا: أن يبدأ في الفقه بالكتب الميسرة السهلة القريبة المأخذ، التي لا تتقيد بمذهب، مثل كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق، والفقه الواضح للدكتور محمد بكر إسماعيل، ويستوعبها استيعابًا جيدًا، ثم بعد ذلك يسعه أن يتدرج مع الكتب في مستوياتها المختلفة.

ثالثًا: يسعه بعد ذلك أن يقرأ كتابًا موسعًا مثل: "الشرح الممتع" للعلامة ابن عثيمين، و"نيل الأوطار" للشوكاني، أو "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد، ثم بعد ذلك يطالع موسوعة مثل "المغني" لابن قدامة، أو "المجموع" للنووي، يرجع في ذلك كله إلى شيخه ويتابع معه ما يعرض له من صعوبات وإشكالات.

رابعًا: إذا أراد أن يتمذهب ويتبحر في أحد المذاهب الفقهية فلا بأس، بل ربما يكون مطلوبًا لطلب العلم الشرعي وبخاصة في الفقه، مع مراعاة أن هذه المذاهب غير متعبد بها إنما هو يتمذهب فقط كطريقة إجرائية للتعلم بلا تعصب أو إنكار على المخالف فيما يجوز فيه الخلاف، ثم إذا نزل في بيئة تتعبد على مذهبٍ غير مذهبه وجب عليه أن يتعرف على هذه البيئة ويتفقه في هذا المذهب لئلا يصطدم بالناس فيسيء من حيث أراد الإحسان وتصاب الدعوة على يديه بهزائم شديدة.

خامسًا: من الحكمة ألا يُدخل نفسه في عويص المسائل وكبير القضايا التي تجتمع لها المجامع ويُحشد لها كبار العلماء، فليحرص طالب العلم على البدء بصغار العلم قبل كباره، ولا يحاول أن يأخذ العلم جُملة، فإن من رامه جملة ذهب منه جملة، وقد قال الإمام البخاري رحمه الله: "الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره" (صحيح البخاري: كتاب العلم- باب: العلم قبل القول والعمل).

سادسًا: الإلمام بعلم أصول الفقه، وهو علم على درجة كبيرة من الأهمية إذ لا يصح العلم الحقيقي بالفقه إلا به؛ لأنه إذا كان علم مصطلح الحديث يُسلِّم لنا الدليل، فإن علم أصول الفقه يسلم لنا الدلالة.

ويليق للمبتدئ أن يتصفح كتابًا مبسطًا مثل كتاب: "الأصول من علم الأصول"، للشيخ محمد الصالح بن عثيمين، أو كتاب: "تيسير علم أصول الفقه" لعبد الله الجديع، أو كتاب: "علم أصول الفقه" للشيخ عبد الوهاب خلاف، ثم يقرأ بعد ذلك- إن شاء- الكتب المعاصرة التي تم تأليفها في القرن العشرين على يد كبار الفقهاء والمجتهدين في هذا الزمان، ومنها: "أصول التشريع الإسلامي" للشيخ علي حسب الله، و"أصول الفقه" للشيخ محمد أبو زهرة، و"أصول الفقه" للشيخ محمد الخضري، و"الوجيز في أصول الفقه" للدكتور عبد الكريم زيدان، وإن أراد التوسع فليقرأ كتاب: "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول"، للعلامة الشوكاني.

سابعًا: الاطلاع على القواعد والضوابط الفقهية، وهو علم مهم في اتصاله بعلم الفقه؛ لأنه بغير القواعد أو الضوابط لا يستطيع الإنسان أن يضبط الفروع، فمعرفة القواعد والإلمام بالضوابط يربي عقلية علمية وينشئ ملكة فقهية؛ لأن القاعدة قضية كلية تضم تحتها فروعًا كثيرةً، ويناسب المبتدئ في هذا العلم أن يقرأ كتاب: القواعد الكلية والضوابط الفقهية للدكتور محمد عثمان شبير، أو كتاب: القواعد الفقهية للدكتور علي أحمد الندوي، أو كتاب: القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه للدكتور محمد بكر إسماعيل، ثم إن شاء التوسع فكتاب: الأشباه والنظائر للسيوطي، ولابن نجيم أيضًا بنفس العنوان.

ثامنًا: الإلمام الواسع بعلم مقاصد الشريعة؛ لأن لذلك أثره الكبير والعميق في نجاح الدعوة إلى الله تعالى، فمن مراعاة المقاصد والتمكن فيها ينجح الداعية في قراءة الواقع، ومراعاة الأعراف، ووزن المصالح والمفاسد.. إلخ، وكل ذلك من ضروريات الدعوة.


وفي عصرنا برزت صحوة أكاديمية في دراسة المقاصد؛ فهناك العشرات من الرسائل الجامعية والدراسات والأبحاث في المقاصد، بل أصبح يعقد لها مؤتمرات خاصة بها، فضلاً عن مقررات خاصة تدرس في المقاصد وتقرر على الطلاب.

ومن أهم المراجع التي يمكن أن يقرأها الداعية في هذا: "نحو تفعيل مقاصد الشريعة" للدكتور جمال عطية، و"مقاصد الشريعة الإسلامية" لمحمد الطاهر بن عاشور، و"الموافقات في أصول الشريعة" للإمام الشاطبي، بالإضافة للدراسات غير المحصورة للعلماء والباحثين المعاصرين.

تاسعًا: ويطيب بعد ذلك للداعية في تكوينه الفقهي أن يلم إلمامًا معقولاً بأنواع جديدة من الفقه نوه بها ودعا إليها كثير من علماء العصر مثل: فقه الأولويات، وفقه الموازنات، وفقه السنن، وفقه الواقع، وفقه النسب ومراتب الأعمال، إضافة إلى فقه النصوص الذي يعالجه علم الفقه، وغيرها من أنواع مما له جذور في تاريخنا الفقهي، وازداد تأصيله والتنويه به في عصرنا الحاضر.

ولا يخفى ما لهذه الأنواع من الفقه من أهمية في فهم الداعية وأثرها في معايشته لقضايا أمته، ونجاحه في دعوته في مجتمع من المجتمعات.


أعتقد أنه لو قام بهذه الوسائل وسلك هذه الطريق على هذا النحو سيكون تكوينه واعدًا، ومبشرًا بداعية متمكن يراعي مقتضيات العصر في ضوء محكمات الشرع، معتبرًا اختلاف الأعراف والبيئات والأشخاص، مراعيًا للمقاصد والأوليات، مدركًا متطلبات كل عصر وزمان بما لا يتنافى مع أصول الإسلام وأهدافه العامة، وهو ما ينبغي أن يتربى عليه الدعاة.

-----------
* باحث شرعي بالمركز العالمي للوسطية- الكويت.
نشره موقع إخوان أون لاين بتاريخ: 24/7/2010م
http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=68326&SecID=360

تعليقات

1 - أضيف بواسطة : محمود مصاحى ، مصر في 28/07/2010
جزاكم الله خيرا ولكن كما قال اخواننا الالمام بكل ما ذكرت أمر فى غاية الصعوبة فيجب أن يحرص على الالتزام به المتفرغون لهذا المدمار من الدعوة الى الله أما بقية الدعاة وهم يجب أن يحرص كل مسلم على أن يكون منهم فكل له مجاله الذى يدعوا به فلا شك أن المتفوق مثلا فى العلوم الحياتية الاخرى من طب وفيزياء وتجارة سيكون بمثابة داعية الى الفكرة الاسلامية السليمة لاسيما اذا كان ملتزما بأخلاق السلام فى معاملاته وبقواعد الاسلام التى يضبط بها هذا المجال الذى يعمل فيه فاذا عنت له قضية من قضايا الشريعة فيجيب على قدر علمه والا فيرجع الى أهل العلم المتخصصين فى العلم الشرعى أو غيره وهو ما أصبح متيسرا فى زماننا كماذكرت والا اذا سلمنا بما ذكرت فلايجب فقط أن يتعلم العلم الشرعى بالكامل ولكن يكون على خبرة بكل الامور الحياتيه والتى لاشك سيتعرض للسؤال فيها وهذا من رابع المستخيلات نظرا للتمدد الواسع للعلو كلها بما فيها العلوم الشرعية ولنأخذاسام أهل جنوب شرق اسيا نظرا لرؤيتهم أخلاق التجار المسلمين مثالا على ذالك

2 - أضيف بواسطة : وصفي عاشور أبو زيد ، مصر في 27/07/2010
جوابي للأخ الكريم عبد الله: أن هناك فرقا بين "متعبد بها"، و"متعبد عليها" وهذا مذكور في نص المقال، فحين نقول القرآن هو كلام الله المتعبد "به"، يعني المتلو والذي لا تصح الصلاة إلا بتلاوته، أما كوني متعبدا "على" مذهب الإمام الشافعي مثلا، فعلى منهجية مذهبه في الاستنباط والأحكام التي بنيت على ذلك، وطريقته، والله أعلم.

3 - أضيف بواسطة : عبد الله ، مصر في 27/07/2010
قال الأستاذ وصفي: (مع مراعاة أن هذه المذاهب غير متعبد بها)، ثم قال: (ثم إذا نزل في بيئة تتعبد على مذهبٍ غير مذهبه)، والسؤال: هل يجوز التعبد بهذه المذاهب أم لا ؟

4 - أضيف بواسطة : محمد عز الدين ، مصر في 26/07/2010
جزاك الله خيرا مقال رائع أخي الحبيب، مهم جدا جدا التكوين الفقهي للدعاة، لكن أرى أن طلبك له فيه تعميم، فلو نفر فرقة بهذا الواجب كما وصفت، فسيكون الخير؛ أنا أعلم أنك تخاطب العاملين للإسلام، لكن ليسوا جميعا قادرين على صنع هذا، وانت بذلك خبير .

5 - أضيف بواسطة : محمد الزيات ، إيطاليا في 26/07/2010
مقال رصين مما ينبنى عليه عمل كثير فجزاكم الله خيرا د.وصفى

6 - أضيف بواسطة : د / أشرف طبل ، مصر في 25/07/2010
أخي الحبيب الدكتور وصفي عاشور، لقد صادف مقالكم الكريم قضية طالما أرقتني، وفكرت فيها كثيراً، وكتبت فيها بعد المقالات التي نشر بعضها ولم تنشر بقيتها بعد، فالدعاة - وخاصة الإخوان - يجب أن يكون تكوين الملكة الفهية هي بداية الانطلاق للعمل الدعوي ، فجزاك الله خير الجزاء ، وإني احبك في الله

7 - أضيف بواسطة : إسماعيل سعد ، مصر في 25/07/2010
ويبين ذلك صحيح النصوص الموجبة للدعوة على عموم المسلمين، من نحو قول الله - عز وجل - : (ولتكن منكم أمة يدعون) وقوله: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) كما أن صحابة النبي الكريم صلوات الله عليه لم يكونوا جميعًا بهذا الوصف، وإن كان جميعهم دعاة، فالداعي مبلغ ومنادٍ لغيره لتحصيل ما يعلمه من الدين أيًا كان قدره، فالعامي الأمي البسيط الذي يعلم فرضية الصلاة يدعو من لا يصلي إلى معرفة هذه الفريضة والقيام بحقها، ومثل ذلك فيمن يعلم صحيح الوضوء بالنسبة لمن لا يعلمه، وأضيف إلى ذلك أن مساحة الدعوة أرحب وأوسع من مساحة الفقه؛ فليس كل ما يقوم به الداعية يكون متعلقًا بمسائل فقهية، فهناك الجانب العقدي، والجانب الأخلاقي - وهو من أهم الجوانب الدعوية - والسلوكي إلى غير ذلك. ومبنى كلامي على الاعتبار الشرعي العام لمفهوم الدعوة والداعية، لا الاعتبار الأكاديمي له. والله الموفق.

8 - أضيف بواسطة : إسماعيل سعد ، مصر في 25/07/2010
بارك الله فيكم أخي المفضال الدكتور/ وصفي، ولعلي أسلّم مع حضرتك بأسبقية التكوين الفقهي للداعية على التكوين الدعوي ولكن ليس بهذا العموم والشمول؛ بل في المعلوم ضرورة ومالا يسع المسلم جهله لصلاح أمر دينه، فليست الدعوة مختزلة في كل من يملك تحصيل هذه المهمات الفقهية، وإلا لكان الدعاة قليلين جدًا، فمفهوم الدعوة أشمل وأعم من مفهوم الفقيه،

9 - أضيف بواسطة : دكتور على الموافى ، مصر في 25/07/2010
الدكتور وصفى تحياتى وأشواقى لرؤية سيادتكم أما بالنسبة لمقالكم الرائع فليس لدى ما أقوله بعدما تفضل سادتى القراء بالأدلاء بأرائهم العظيمة فى ما كتبتم غير إنى أتمنى أن يأخذ بهذه الشروط فى تقييم السادة العلماء خاصة بعدما رأينا فى الفضائيات ما يستحق الأسف من بعض ما يطلق عليهم دعاة وفقكم الله وبارك فيكم وزادكم علما وأدب

10 - أضيف بواسطة : اسامة سعيد ، مصر في 25/07/2010
مقال رائع جزاكم الله خيرا

11 - أضيف بواسطة : رجب البربري ، المدينة المنور في 25/07/2010
ماشاء الله لا قوة الا بالله ربنا يحفظك يادكتور وصفي وينفع بك الاسلام والمسلمين ويبارك لنا في عمرك

12 - أضيف بواسطة : صلاح عبد الحميد حامد ، إدفو أسوان في 24/07/2010
ماشاء الله يادكتور وصفي علي منهجية المقال وأدبية الأداء وعمق الأسلوب والفكرة ولكن أني لأئمة الأوقاف والأزهر بكل هذه الكتب؟ وحتي إذا قيل أنها متوفرة علي النت فيجب تدريبهم ومنحهم أجهزة مجانية في شوق للقياك وأمنية لحضور مناقشتي في التاسع من أغسطس

13 - أضيف بواسطة : عبده محمد عبده ، مصر في 24/07/2010
مقال رائع ينم عن علم راسخ متين من التزم بما فيهأأداه حقا الى العقلية الفقهية السليمة السلفية بحق

الثلاثاء، 22 يونيو 2010

التبصر بالواقع ودوره في فهم النصوص


التبصر بالواقع ودوره في فهم النصوص


[22/06/2010][10:49 مكة المكرمة]



بقلم: وصفي عاشور أبو زيد

لإدراك فقه الواقع أهمية لا تقل خطورة عن فقه المآلات أو المقاصد أو الأولويات؛ إذ إن كل الرسالات السابقة على الإسلام جاءت تعالج واقعًا معينًا، ولم تكن بمعزل عن واقعها الذي يتميز بالتغير والتحول والتجدد والتنوع والاختلاف، وكذلك جاءت رسالة الإسلام لتصلح الناس وتسعد حياتهم في ظلاله.

وقد عرَّف الدكتور ناصر العمر فقه الواقع بقوله: "علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة من العوامل المؤثرة في المجتمعات والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل"(1).

وهذا الفقه له أهمية عند الحاكم والمفتي، يقول ابن القيم عن ذلك وأهميته: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر.

فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يُعدم أجرين أو أجرًا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله..... ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله"(2).

ثم إن المتأمل في أحكام الإسلام وآيات القرآن يجد منها ما أنزل في مكة، ومنها ما أنزل في المدينة، وهذا دليل على مراعاة الواقع الذي يحياه الناس.

ولقد راعى الشارع الحكيم أحوال الناس؛ فلم يفرض عليهم المواجهة المسلحة من أول الأمر، ولم يحرم عليهم الخمر مرة واحدة، ولم يفرض عليهم الصيام مرة واحدة، ولكن كان هذا كله- وغيره- عبر مراحل وتدرج حتى يتقبل الناس شرع الله تعالى؛ لأنه هو الذي خلق، وهو يعلم من خلق؛ متى يستجيبون ومتى لا يستجيبون: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾ (الملك).

إن فقهاءنا السابقين جاءوا في عصر فكانت لهم اجتهاداتهم الخاصة بعصورهم، ومن المشهور أن أصحاب أبي حنيفة- رضي الله عنهم- أفتوا بغير ما أفتى به شيخهم في كثير من المسائل، وقالوا في هذا: "هذا اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان"، مع أن ما بين أبي حنيفة وتلاميذه لم يكن طويلاً بل كان عقدًا أو عقدين، وقالوا: لو عاش أبو حنيفة ورأى ما رأينا لقال بما نقول به.

ولما نزل الشافعي إلى مصر وترك العراق غير بعض معالم مذهبه، وأفتى بفتاوى مغايرة لما كان عليه مذهبه، واشتهر بأن له مذهبين: مذهبًا قديمًا، ومذهبًا جديدًا؛ وما هذا إلا مراعاة لتغير المكان والزمان واعتبارًا للأشخاص والحال.
ومن المعروف أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والشخص والمآل، وهذا كله اعتبار لفقه الواقع، قال ابن القيم في كلمة صارت علمًا يُهتدَى به: "فصلٌ في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: هذا فصل عظيم النفع جدًّا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله- صلى الله عليه وسلم- أتم دلالة وأصدقها"(3).

هذا كله يدلك على مدى اهتمام الشرع بالواقع، ومدى تفاعل فقهائنا السابقين مع واقعهم، وأنهم استفرغوا جهدهم لاستهداء الشرع لهذا الواقع ومشكلاته، وعلينا أن نجتهد كما اجتهدوا؛ لنستنزل لواقعنا ومشكلاته من هدايات الشرع ما يجعلنا على طريق مستقيم وصراط قويم.


ثمرات الاهتمام بفقه الواقع:
ولعل من آثار الاهتمام بفقه الواقع اليوم أن يقينًا من الجفاء عن الشرع أو الغلو فيه، ويجعل العلماء مدركين تمامًا لطبيعة العصر الذي نعيشه؛ فلا يجلبون آراء واجتهادات ناسبت عصورًا معينةً، ثم يعتسفونها لواقعنا وهي لا تناسبه، وهذا ما يؤكد حاجة الأمة إلى علماء مجتهدين؛ ليجتهدوا لعصرهم، كما اجتهد من قبلهم لعصورهم.

ومن ثمرات الاهتمام بفقه الواقع أن يدرك الشباب المسلم الملتزم والمتحمس لدينه أن الواقع قد تغير عما كان عليه قبل عقد وقبل عقدين فضلاً عن زمن الخلافة الراشدة، وأصبحنا الآن نعيش في زمن الدولة الحديثة التي أفرزت حدودًا لها أحكامها، ومزقت الأمة إلى دويلات، كل دولة لها شئونها، ولها سياساتها، ولها مشروعاتها المنعزلة عن غيرها، وهذا كله يفرض علينا تساؤلات وقضايا سياسية وشرعية، تحتاج إلى اجتهاد جديد.

ومن أبرز ما يتصل بهذا هو قضية الجهاد، وفي كل أزمة تقع- أفغانستان، العراق، فلسطين- نرى ونسمع مثلاً عن الشباب المتحمس أنه يريد أن يتسلل ليصل إلى هذه البلاد المعتدى عليها، وينضم هناك للمقاومة ليظفر بالشهادة، ويشرف بمقاومة العدو دون نظر لما يمكن أن يؤدي إليه هذا المسلك من مفاسد خاصة وعامة.

فإدراك فقه الواقع، وتغير العصر، وتطور الأوضاع يجعل المسلم أكثر وعيًا، ويجعل شباب الأمة أعمق فهمًا، وأكثر ترشيدًا؛ فيتصرفون التصرفات المناسبة التي تجمع- قدر الإمكان- بين قضاء الواجبات، وعدم إهمال تغيرات الواقع وتطورات الزمان.

-----------

*باحث شرعي بالمركز العالمي للوسطية- الكويت

1- فقه الواقع: (10)

2- إعلام الموقعين: (1/87- 88)

3- إعلام الموقعين: (3/3)

http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=66871&SecID=0

فقه المآلات وفقه الأولويات

فقه المآلات وفقه الأولويات
[02/06/2010][22:05 مكة المكرمة]



بقلم: وصفي عاشور أبو زيد

فقه الأولويات وفقه الموازنات وفقه الواقع وفقه المقاصد وفقه السنن(1)، هذه الأنواع من الفقه لها أهمية خاصة في ترشيد الشباب المسلم وتوجيهه نحو الاعتدال، والتوازن بما يحقق محكمات الشرع، ولا يهمل متطلبات العصر، ولا يعني إطلاق هذه الأنواع من الفقه والدعوة إلى الاهتمام بها والتركيز عليها أمرًا قد يُبعدنا عن الأصول أو الكليات، بل إننا بغير مراعاة هذا الفقه نبعد كثيرًا عن روح الشرع، وننعزل بعيدًا عن الحياة والأحياء، وما جاء الدين لنعيش به في الماضي، إنما جاء لنستهديه لمشكلات عصرنا كما استهداه من قبلنا لمشكلات عصرهم، وسوف نقتصر هنا على نوعين فقط؛ لما لهما من صلة مباشرة بموضوعنا، وللاهتمام بهما من نجاعة وقوة في الوقاية والعلاج، وهما فقه المآلات وفقه الأولويات، وقد تحدَّثنا من قَبْل عن فقه المقاصد، ونتحدث لاحقًا عن فقه الواقع.

أولاً: فقه المآلات
اعتبار المآلات التي تئول إليها الأفعال والأقوال والتصرفات أمرًا مطلوبًا شرعًا، بل لعله من المقاصد المهمة التي ينبغي مراعاتها؛ لأن إطلاق الأحكام الشرعية والحديث في الشرع دون مراعاة لمآلاته إنما هو نوعٌ من العبث، وأقصر الطرق إلى الضلال المبين.

وقد قال الله تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: من الآية 108)، فنهى الله تعالى عن هذا السب مراعاة للمآل الذي سيئول إليه، وهو سبُّ الله تعالى وجل.
وعن عبد الله بن الزبير يقول: حدثتني خالتي (يعني: عائشة) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بِشِرْكٍ، لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشًا اقتصرتها؛ حيث بنت الكعبة"(2)، فراعى النبي صلى الله عليه وسلم ما يئول إليه هدم الكعبة، وسبب ذلك أن القوم حديثو عهد بالإسلام.

وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- يقول: كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار!، وقال المهاجري: يا للمهاجرين!، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما هذا". فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار!، وقال المهاجري: يا للمهاجرين!، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة". قال جابر: وكانت الأنصار حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر، ثم كثر المهاجرون بعد، فقال عبد الله بن أبي: أوقد فعلوا؟!! والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه، لا.. حتى يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"(3).

وهنا خشي النبي صلى الله عليه وسلم من مآلات قتل المنافقين، وهي الحملة الإعلامية المسعورة التي ستُحدث بلبلةً وتُعطي صورةً مشوهةً عن الإسلام ونبي الإسلام، فتحسَّبَ لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُقدم على هذا التصرف مراعاةً لمآلاته.

وعن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل، قال: "يا معاذ!"، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ!"، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ!"، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله؛ إلا حرمه الله على النار"، قال: يا رسول الله! أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: "إذًا يتكلوا"(4).

فقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم من مآل البشارة؛ أن يترتب عليها اتكال الناس وقعودهم عن العمل، وعدم اجتهادهم في العبادة.

ولقد تنبَّه الإمام الشاطبي لخطورة المآلات، وأهمية اعتبارها، فقال في كلام مفصَّل منضبط: "النظر في مآلات الأفعال مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا، سواءٌ كانت الأفعال موافقةً أو مخالِفَةً، وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصادرةِ عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نَظَرِهِ إلى ما يئول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُسْتَجْلَبُ، أو لمفسدةٍ تُدْرَأُ..، ولكنّ له مآلاً على خلاف ما قُصِدَ فيه، وقد يكون غيرَ مشروعٍ لمفسدةٍ تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكنَّ له مآلاً على خلاف ذلك، فإذا أُطْلِقَ القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أُطْلِق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدةٍ تساوي أو تزيد، فلا يصحُّ إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجالٌ للمجتهد صَعْبُ الْمَوْرِد، إلا أنه عَذْبُ المذاق، مَحْمُودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة"(5).

ولقد قرَّر الإمام ابن القيم ما قاله الإمام الشاطبي عند حديثه عن حكم الوسائل المؤدية للمقاصد، فقال: "القول المفضي إلى المفسدة قسمان:

أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها، كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه، وفساد الفراش ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد، وليس لها ظاهر غيرها.
والثاني: أن تكون موضوعةً للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب، فيُتخذ وسيلة إلى المحرم، إما بقصد أو بغير قصد منه.

فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدًا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدًا به الربا، أو يخالع قاصدًا به الحنث، ونحو ذلك. والثاني: كمن يصلي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسبُّ أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله ونحو ذلك.

ثم هذا القسم من الذرائع نوعان:
أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته، والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته.

فهاهنا أربعة أقسام:
الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة، الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قُصد بها التوسل إلى المفسدة، الثالث: وسيلة موضوعة للمباح، لم يُقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبًا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم.

ومثال الثالث: الصلاة في أوقات النهي، ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وتزين المتوفى عنها زوجها في زمن عدتها، وأمثال ذلك.

ومثال الرابع: النظر إلى المخطوبة والمستامة، والمشهود عليها، ومن يطؤها ويعاملها، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك، فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه، بحسب درجات في المصلحة، وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريمًا، بحسب درجاته في المفسدة."(6).

ومن الواضح من كلام الفقهاء هنا، ومن النصوص الشرعية قبل ذلك أن فقه المآلات واضح وبيِّن ومؤصل ومهتم به، ومع هذا ظل هذا الفقه الخطير غائبًا، مثلاً عمن يزاولون أعمال العنف الذين يخربون بها المجتمعات، ويسفكون بها الدماء، ويهدِّدون بها أمن الأوطان والنسيج الاجتماعي فيها.


آثار اعتبار المآلات:
ومن شأن الاهتمام بهذا الفقه أن يجعل عندنا نظرة مستقبلية تمنعنا من الإقدام على فعل أو تصرف تفوق مضرَّتُه مصلحته، ويحملنا على أداء فعل أو تصرف ترجح مصلحته على مفسدته.

كما أن من شأنه أن يضبط حركة المجتمع، واجتهاد الفقهاء، واختيار الآراء، وترجيح الأقوال، وترشيد التخطيط الإستراتيجي، والتفكير المستقبلي بما يمثل وقاية من الجنوح إفراطًا أو تفريطًا.

ثانيًّا: فقه الأولويات
لفقه الأولويات أهمية كبيرة أيضًا مثل باقي أنواع الفقه (مقاصد، أولويات، واقع، سنن، موازنات..إلخ)، فهو يبين فقه مراتب الأعمال، وأيها يجب أن يُقَدم، وأيها يجب أن يُؤَخر، ويبين فقه النسب بين الأحكام، أيها واجبٌ وأيها مستحبٌّ، وأيها محرمٌ، أيها يستحق الاهتمام، وأيها لا يستحق، أيها حان وقته، وأيها يمكن تأخير الحديث عنه ليس تقليلاً من شأنه وإنما مراعاة لواجب الوقت، وهكذا.

وما أحوج أمتنا اليوم إلى هذا النوع من الفقه، بعد أن أصبحت تكبِّر الصغير، وتصغر الكبير، وتهوِّن العظيم، وتعظِّم الحقير، وتقدم ما من حقه التأخير، وتؤخر ما من حقه التقديم؛ فاختل فيها فقه مراتب الأعمال والنسب بينها اختلالاً كبيرًا.

فترى الاهتمام بالمظهر أكثر من المخبر، وبالأسماء أكثر من المسميات، وبالعناوين أكثر من المضامين، وبالتوافه أكثر من العظائم؛ فإذا مات الفنان أو الراقصة أو لاعب الكرة تقوم الدنيا ولا تقعد، فتُعقد الندوات، وتُكتب المقالات، وتتكلم الشاشات والإذاعات والصحف والمجلات، أما إذا مات العالم والداعية والمربي فلا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا!

ولقد قرَّر القرآن الكريم أن الأعمال ليست سواء، قال سبحانه: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ﴾ (التوبة: من الآية 19).

وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان شعبًا، منها أعلى ومنها أدنى، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"(7).

وإن الناظر في أحكام الإسلام وفي كل مجالاته وأبوابه الفقهية والخلقية والعقيدية، يجد فيها الأهم والمهم، والواجب والفرض، والمندوب والمستحب، والمكروه والمحرم وهكذا.

فهناك أولويات في العقيدة، وهناك أولويات في العبادات، وهناك أولويات في المعاملات، وهناك أولويات في الدعوة والإصلاح، وهناك أولويات في العلم وتحصيله، وهناك أولويات في العمل ومراتبه، وهناك أولويات في الفتوى، وفي كل مجال من مجالات الإسلام والحياة نجد أولويات.

وقد فصل في هذا كله شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الرائد عن الأولويات، والدكتور محمد الوكيلي عن فقه الأولويات أيضًا، الذي تعمَّق في هذا الفقه، وقد أصبح للأولويات اهتمام خاص عند دعاة العصر وعلمائه.


آثار اعتبار الأولويات:
ولا يخفى ما للاهتمام به من آثار طيبة على العقيدة والعبادة والدعوة والإصلاح، بل إن له أثرًا لا يُنكر على ترشيد العمل الإسلامي، وتعزيز الاعتدال والتوازن عند شباب الصحوة، وحسبنا ما قرره شيخنا القرضاوي في مقدمة كتابه عن هدفه من هذه الدراسة حين قال: "وتحاول هذه الدراسة أن تلقي الضوء على مجموعة من الأولويات التي جاء بها الشرع وقامت عليها الأدلة، عسى أن تقوم بدورها في تقويم الفكر، وتسديد المنهج، وتأصيل هذا النوع من الفقه، وحتى يهتدي بها العاملون في الساحة الإسلامية والمنظِّرون لهم، فيحرصوا على تمييز ما قدَّمه الشرع وما أخَّره، وما شدَّد فيه وما يسَّره، وما عظَّمه الدين وما هوَّن من أمره، لعل في هذا ما يحد من غلو الغالين، وما يقابله من تفريط المفرِّطين، وما يُقرِّب وجهات النظر بين العاملين المخلصين"(8).

فمتى أدرك الشاب أولويات دينه وأولويات واقعه فلن يُقْدِم على أعمال ليست من واجب الوقت؛ فضلاً عما من شأنه أن يزعزع أمن المجتمعات مثلاً، ويهدد سلامتها، ويسفك دماءها.
-------------
*الباحث الشرعي بالمركز العالمي للوسطية- الكويت.

الحواشي:

(1) هذه الأنواع من الفقه ينبه إليها ويؤكد عليها دائمًا شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، وينيط بها نهضة الأمة العلمية والعملية.
(2) صحيح مسلم: كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها.
(3) صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب: قوله: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}.
(4) صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا.
(5) الموافقات: 5/440. تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان. دار ابن عفان. الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.
(6) إعلام الموقعين: 3/163. تحقيق طه عبد الرءوف سعد. دار الجيل. بيروت. 1973م.
(7) صحيح مسلم: كتاب الإيمان. باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء، وكونه من الإيمان.
(8) مقدمة كتاب فقه الأولويات. د. يوسف القرضاوي. طبع مكتبة وهبة.
http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=65970&SecID=0

إلى شيوخ الفتنة والإرجاف.. الصمت أو اللعنة


إلى شيوخ الفتنة والإرجاف.. الصمت أو اللعنة!!
[03/01/2009][13:19 مكة المكرمة]






وصفي عاشور أبو زيد



في الوقت الذي تنتفض فيه شعوب الأرض- مسلمين وغير مسلمين- منددةً بالمجازر الصهيونية في غزة، وتدين العالم الرسمي شرقًا وغربًا شمالاً وجنوبًا، وفي الوقت الذي يمارس فيه الكيان الصهيوني أبشع أنواع الإبادة والتخريب والتدمير، وفي الوقت الذي يحتاج فيه أهل غزة التأييد والنصرة التي أكَّدها القرآن، وشدد عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت الذي يستشهد فيه عالم السنة وعلوم الحديث المجاهد الدكتور نزار ريان، وقد أقام الحجة على علماء الأمة ودعاتها- أقول في هذه الأوقات العصيبة واللحظات الفاصلة في تاريخ الأمة يخرج علينا بعض مَن أسموا أنفسهم "دعاة" يلقون باللوم على حماس، وأن الصواريخ التي تضربها "لا تخرم حيطة"، وأنه لا شرعيةَ للتعبير عن الرفض والتنديد بما يجري من مجازر عبر التظاهر السلمي، بل زاد- فض الله فاه- "أنه يجب علينا أن نلزم بيوتنا وسوف يحقق الله النصر!!".

هذا ما يقوله- للأسف الشديد ويا للعار- أحد "الرعاة"- بالراء لا بالدال- مُخَذِّلا ومرجفًا ومحدثًا فتنةً وبلبلةً في وقت لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تعلو فيه كلمة فوق كلمة الجهاد بمعناه الواسع، ووالله لو كنتُ حاكمًا أو قاضيًا لأمرتُ- على الفور- بالحجر عليه وتعزيره تعزيرًا شديدًا بأقصى ما يسمح به التعزير في الفقه الإسلامي؛ لأن هذا يفتن أمة، ويبيع قضية، ويربك صف المسلمين، ويخون الله ورسوله والمؤمنين.

ما هذا الفقه الأعرج، والفكر الأحول؟ ومن أين أتى أصلاً هذا الفقه "المستنير" الذي لم نسمع به إلا من عبد الله بن أبي بن سلول يوم أحد؟!.. أي دعوة تلك التي يمارسها هؤلاء القوم، ومن الذي أطلق عليهم "دعاة"؟ إنهم ليسوا دعاة إلى الله، وإنما دعاة إلى الاستنعاج والاستنواق، ودعاة إلى الفتنة والخذلان والإرجاف في صفوف الأمة.


وأود أن أسأل هؤلاء الرعاة: "هل لو دخل أحد دارك واغتصب زوجتك وقتل أبناءك ستدخل في غرفة من غرف البيت وتغلق عليك بابها، منتظرًا نصر الله تعالى؟ وماذا لو هتك عرضك أنت؟، هل ستستسلم له ليهتك عرضك وينزع شرفك؟ هل ستلقي باللائمة على زوجتك أو أحد بناتك وأبنائك الضحايا إن وقفوا له بعصا أو هراوة وهو يملك الأسلحة المتطورة؟ فما بالك إن كان المغتصب شعبًا بأكمله، ومقدسات للمسلمين، وقضية أمة، وإبادة شعب؟!!


وما معنى ما جاء عَنْ سَالِمٍ عَنْ عبد الله بن عمر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ ..." الحديث. (متفق عليه، واللفظ لمسلم).


قال ابن حجر: "قوله لا يظلمه: هو خبر بمعنى الأمر، فإن ظلم المسلم للمسلم حرام. وقوله ولا يسلمه: أي لا يتركه مع مَن يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم". (فتح الباري: 5/97).


إن هذه النوعيات من "الرعاة" لا تخرج عن أن تكون أحد رجلين: إما أن يكون جاهلاً أحمق، أو عميلاً مأجورًا، ولا ثالث لهما عندي!!.


لقد تحدَّث القرآن الكريم عن غزوة أحد فما عنَّف أحدًا من المسلمين، ولا لامهم أو أغلظ النكير عليهم مع أن بعضهم قد خالف نصًّا للنبي صلى الله عليه وسلم صحيح الثبوت صريح الدلالة: "احْمُوا ظُهُورَنَا فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلا تَنْصُرُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا غَنِمْنَا فَلا تَشْرَكُونَا". (مغازي الواقدي: 1/229).

إن هذا التعويق لا يجوز شرعًا ولا قانونًًا ولا شهامةً ولا رجولةً ولا إنسانيًّا أن يكون من مسلم فضلاً عن رجل يدعي أنه داعية، وقد قال الله تعالى:﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)﴾ (الأحزاب).


ولا يتجاوز هذا أن يكون تخذيلاً وإرجافًا لصف الأمة، وقد قال تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)﴾ (الأحزاب).


فليس بعد نفي الإيمان وإحباط العمل، ولحوق اللعنة، ووجوب الأخذ والتقتيل عقاب، فليتق الله هؤلاء الرعاة، ولتتق الله قنوات الإرجاف الفضائية التي تخرج علينا بهذا الإجرام وتلك الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ حتى لا يقع القائمون عليها تحت طائلة نفي الإيمان وإحباط العمل، والطرد من رحمة الله.

-------------

* باحث في العلوم الشرعية- Wasfy75@yahoo.com

http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=43810&SecID=391

الإعمار "الفكري" لقطاع غزة



الإعمار "الفكري" لقطاع غزة
[16/04/2009][09:11 مكة المكرمة]



بقلم: وصفي عاشور أبو زيد




ما زال الصراع قائمًا في قضية غزة، ولم تضع الحرب أوزارها، فإن كانت نار القذائف توقفت- وما توقفت- فإن نار إعمار البنية التحتية لم تتوقف؛ حيث تُعقد له المؤتمرات، وتُدار له الندوات، وتجاهد من أجله الأفراد والمؤسسات والأنظمة والحكومات، والنظام العالمي يجتمع وينفضَّ من أجل القضية؛ يريد أن يُخْضع إرادة المقاومة لشروط يمليها عليها كي يتم التمويل الدولي لإعمار وإغاثة غزة.


ولعلي لا أكون مبالغًا إن قلت: إن هناك نوعًا آخر من الإعمار يجب التنبُّه له والعناية والاهتمام به، وهو نوعٌ لا يقل خطورةً وأهميةً ونتيجةً وآثارًا،- إن لم يزد- عن الإعمار الذي ننشغل به على أهميته، ألا وهو الإعمار الفكري.



وأعني بالإعمار الفكري أمرين:

الأول: معالجة النواحي الفكرية لقضية غزة، والرد على الشبهات التي تُثار حولها مما يكون له الأثر في وضع القضية موضعًا واقعيًّا ومناسبًا، ويعجِّل مسيرة الإعمار المادي.


والثاني: الإعمار التعليمي والثقافي للمؤسسات التعليمية والثقافية والشرعية، عبر الوسائل التي سنذكرها بعد قليل.


ذلك أن القصف الفكري والإعلامي أشدُّ فتكًا وخطورةً ومآلاً من قصف الصواريخ والطائرات، وأن تصحيح المفاهيم وإبلاغ الدعوة وإقامة الحجة وإزالة الشبهة في هذه القضية أولى وأهم؛ لأنه يعتبر المدخل الطبيعي للإعمار المادي، فإذا تكونت القناعات، واتضحت القضية في العقول بما لا يحمل شبهة ولا تكون معه حاجة لحجة؛ فإن طريق الإعمار المادي يكون ممهودًا وميسورًا متى قويت العزائم وصدقت النيات.


والواقع أن المتابع لِكَمِّ الشبهات التي تثار في قضية غزة، والباطل الذي ينقلب حقًًّا، والحق الذي ينقلب باطلاً، ومدى الجهد المبذول في تشويه صورة المقاومة، والمؤامرات التي تُحكَم من أجل إجهاد المقاومة وتقليب الشعب عليها.. أقول إن المتابع لهذا كله وغيره يدرك حقيقةً مؤكدةً؛ مقتضاها أننا بحاجة لما يمكن أن يسمى بـ"الإعمار الفكري"، وتجييش جيوش له توازي- أو تزيد على- ما يتم تجنيده من أجل الإغاثة المادية، وإعمار البنية التحتية لقطاع غزة.

ولكي يكون كلامنا عمليًّا وواقعيًّا لا بد من اقتراح مجموعة من الوسائل التي تعالج هذا الموضوع؛ مبادرةً وتوضيحًا وردًّا وتوثيقًا، ويمكن أن تتبنَّى هذا المشروع أي هيئة أو مؤسسة من المؤسسات المعنية بالقدس وفلسطين عبر تكوين لجنة داخلية أو ما شابه أو إنشاء هيئة جديدة تختص بهذا الأمر لتقوم بما يلي:

أولاً: التركيز على الملف الإعلامي لقضية فلسطين؛ بحيث يصنع خطابًا إعلاميًّا مبادرًا بتوضيح القضية بكل أبعادها الجزئية والكلية، والخاصة والعامة، وبهذا يصعب على أيِّ مرجف أو سيئ النية أن يقوم بإلقاء حباله وعصيه؛ لأنها حينئذ لن تجد البيئة المهيأة لتقبل هذا السحر، وترويج هذا الإفك الذي تلقفه عصا موسى قبل أن يلقى.



ثانيًا: رصد وحصر جوانب الخطاب الإعلامي المضادّ، الذي نمسي ونصبح على قصفه ولا ننزعج له كما كنا ننزعج مع قصف الصواريخ، وتصنيف هذه الافتراءات والشبهات.


ثالثًا: تُعرَض هذه الافتراءات والشبهات على العلماء والمفكرين؛ كلٌّ في مجال تخصصه؛ ليقوم بتوضيحها وتحريرها وبيان مصدرها وأسبابها وأغراضها، والقيام بالردِّ عليها وتفنيدها؛ ردًّا شافيًا شاملاً كافيًا مقنعًا.

رابعًا: إقامة توأمة بين المؤسسات الدعوية في فلسطين ومؤسسات الدعوة في البلاد الأخرى؛ كي يتم تأهيل الدعاء وإعداد العلماء.

خامسًا: إقامة توأمة بين الجامعات بمختلف تخصصات كلياتها في فلسطين وجامعات عالمية مثل جامعة الأزهر، وغيرها من جامعات؛ لاستيعاب أعداد طلاب فلسطين الذين هُدِمت جامعاتهم ومؤسسات تعليمهم؛ ليكملوا دراستهم ويواصلوا مشوارهم.


سادسًا: إرسال علماء ورموز دعاة لجبر النقص وسدّ الخلل، واستكمال الجانب التعليمي والعلمي والدعوي.


هذه- وغيرها- وسائل وكيفيات لهذا الإعمار المهم والخطير في طبيعته وجوهره ومآلاته؛ يمكن أن تقوم بها أفراد وهيئات ومؤسسات وحكومات؛ سعيًا للإعمار الإنساني في توازٍ مع الإعمار المادي والبيئي، وبناء الإنسان الصالح وإعماره تربويًّا وعلميًّا وثقافيًّا هو الخطوة الأولى لإعمار العالم بقيم الحق والخير والعدل والجمال.

---------
http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=47790&SecID=391