التبصر بالواقع ودوره في فهم النصوص
[22/06/2010][10:49 مكة المكرمة]
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد
لإدراك فقه الواقع أهمية لا تقل خطورة عن فقه المآلات أو المقاصد أو الأولويات؛ إذ إن كل الرسالات السابقة على الإسلام جاءت تعالج واقعًا معينًا، ولم تكن بمعزل عن واقعها الذي يتميز بالتغير والتحول والتجدد والتنوع والاختلاف، وكذلك جاءت رسالة الإسلام لتصلح الناس وتسعد حياتهم في ظلاله.
وقد عرَّف الدكتور ناصر العمر فقه الواقع بقوله: "علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة من العوامل المؤثرة في المجتمعات والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل"(1).
وهذا الفقه له أهمية عند الحاكم والمفتي، يقول ابن القيم عن ذلك وأهميته: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر.
فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يُعدم أجرين أو أجرًا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله..... ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله"(2).
ثم إن المتأمل في أحكام الإسلام وآيات القرآن يجد منها ما أنزل في مكة، ومنها ما أنزل في المدينة، وهذا دليل على مراعاة الواقع الذي يحياه الناس.
ولقد راعى الشارع الحكيم أحوال الناس؛ فلم يفرض عليهم المواجهة المسلحة من أول الأمر، ولم يحرم عليهم الخمر مرة واحدة، ولم يفرض عليهم الصيام مرة واحدة، ولكن كان هذا كله- وغيره- عبر مراحل وتدرج حتى يتقبل الناس شرع الله تعالى؛ لأنه هو الذي خلق، وهو يعلم من خلق؛ متى يستجيبون ومتى لا يستجيبون: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾ (الملك).
إن فقهاءنا السابقين جاءوا في عصر فكانت لهم اجتهاداتهم الخاصة بعصورهم، ومن المشهور أن أصحاب أبي حنيفة- رضي الله عنهم- أفتوا بغير ما أفتى به شيخهم في كثير من المسائل، وقالوا في هذا: "هذا اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان"، مع أن ما بين أبي حنيفة وتلاميذه لم يكن طويلاً بل كان عقدًا أو عقدين، وقالوا: لو عاش أبو حنيفة ورأى ما رأينا لقال بما نقول به.
ولما نزل الشافعي إلى مصر وترك العراق غير بعض معالم مذهبه، وأفتى بفتاوى مغايرة لما كان عليه مذهبه، واشتهر بأن له مذهبين: مذهبًا قديمًا، ومذهبًا جديدًا؛ وما هذا إلا مراعاة لتغير المكان والزمان واعتبارًا للأشخاص والحال.
ومن المعروف أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والشخص والمآل، وهذا كله اعتبار لفقه الواقع، قال ابن القيم في كلمة صارت علمًا يُهتدَى به: "فصلٌ في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: هذا فصل عظيم النفع جدًّا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله- صلى الله عليه وسلم- أتم دلالة وأصدقها"(3).
هذا كله يدلك على مدى اهتمام الشرع بالواقع، ومدى تفاعل فقهائنا السابقين مع واقعهم، وأنهم استفرغوا جهدهم لاستهداء الشرع لهذا الواقع ومشكلاته، وعلينا أن نجتهد كما اجتهدوا؛ لنستنزل لواقعنا ومشكلاته من هدايات الشرع ما يجعلنا على طريق مستقيم وصراط قويم.
ثمرات الاهتمام بفقه الواقع:
ولعل من آثار الاهتمام بفقه الواقع اليوم أن يقينًا من الجفاء عن الشرع أو الغلو فيه، ويجعل العلماء مدركين تمامًا لطبيعة العصر الذي نعيشه؛ فلا يجلبون آراء واجتهادات ناسبت عصورًا معينةً، ثم يعتسفونها لواقعنا وهي لا تناسبه، وهذا ما يؤكد حاجة الأمة إلى علماء مجتهدين؛ ليجتهدوا لعصرهم، كما اجتهد من قبلهم لعصورهم.
ومن ثمرات الاهتمام بفقه الواقع أن يدرك الشباب المسلم الملتزم والمتحمس لدينه أن الواقع قد تغير عما كان عليه قبل عقد وقبل عقدين فضلاً عن زمن الخلافة الراشدة، وأصبحنا الآن نعيش في زمن الدولة الحديثة التي أفرزت حدودًا لها أحكامها، ومزقت الأمة إلى دويلات، كل دولة لها شئونها، ولها سياساتها، ولها مشروعاتها المنعزلة عن غيرها، وهذا كله يفرض علينا تساؤلات وقضايا سياسية وشرعية، تحتاج إلى اجتهاد جديد.
ومن أبرز ما يتصل بهذا هو قضية الجهاد، وفي كل أزمة تقع- أفغانستان، العراق، فلسطين- نرى ونسمع مثلاً عن الشباب المتحمس أنه يريد أن يتسلل ليصل إلى هذه البلاد المعتدى عليها، وينضم هناك للمقاومة ليظفر بالشهادة، ويشرف بمقاومة العدو دون نظر لما يمكن أن يؤدي إليه هذا المسلك من مفاسد خاصة وعامة.
فإدراك فقه الواقع، وتغير العصر، وتطور الأوضاع يجعل المسلم أكثر وعيًا، ويجعل شباب الأمة أعمق فهمًا، وأكثر ترشيدًا؛ فيتصرفون التصرفات المناسبة التي تجمع- قدر الإمكان- بين قضاء الواجبات، وعدم إهمال تغيرات الواقع وتطورات الزمان.
-----------
*باحث شرعي بالمركز العالمي للوسطية- الكويت
1- فقه الواقع: (10)
2- إعلام الموقعين: (1/87- 88)
3- إعلام الموقعين: (3/3)
http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=66871&SecID=0
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق