د।البر يرد على॥ إنفلونزا الخطاب الشرعي
أ। د. عبد الرحمن البر / 13-05-2009
قرأت على موقع مدارك في إسلام أون لاين مقالا بعنوان (الخنازير وإنفلوانزا الخطاب الشرعي..!) للباحث الشرعي وصفي عاشور أبو زيد بشأن خطاب الدعاة بخصوص موضوع إنفلونزا الخنازير، ومع أن الفكرة العامة التي يريد إيصالها للمتلقي فكرة مقبولة بشكل عام، إلا أن لي على صياغة الفكرة بعض الملاحظات التي أرجو أن يتسع لها صدره، فإن أُصِبْ فيها فالفضل لله وحده، وإن تَنَلْ قبولَه فهذا ما أرجوه ، وإلا فهو رأي أبديه؛ ابتغاء الحق، والله من وراء القصد.
أولا: نبرة النقد فيها حدَّةٌ زاعقة لا تساعد المخطئ على قبول النصيحة إن صح عنده صوابها ولقيت اقتناعا عنده، وهذا – فيما أرى - خلاف أدب النصيحة الشرعية، وهي ـ نبرة المقال ـ أدْعى إلى التنازع منها إلى التقارب ، وهو ما لا أظن أنه خطر ببال الكاتب أصلا. وأنا أدرك ـ من خلال معرفتي به وقراءتي له ـ أنه متهيئ نفسيا وعقليا وشرعيا تماما لقبول تعدد الآراء ووجهات النظر ، وليست وجهة النظر المخالفة لرأيه بالضرورة مما يستدعي التنديد والإنكار، أيا ما كانت النتائج المترتبة على تعدد وجهات النظر.
طالع: الخنازير وإنفلونزا الخطاب الشرعي وأقول للكاتب: أرجو أن تراجع هذه العبارات في المقال (إنفلونزا الخطاب الشرعي - لم أسترح- ساءني وأحزنني بقدر ما استفزني ورفع عندي ضغط الدم- هذا الخطاب السطحي- ، وينساق إلى حيث لا عقل ولا علم "ولا هدى ولا كتاب منير"।- فيا لله ويا للعالمين من هذا المنطق॥!- لماذا لا نتريث...إلخ - هل علمتم ـ أيها العلماء والدعاة...- الخطاب التقريري السلبي ـ فضلا عن السطحي- - ببعدنا عن الرصانة والتمهل والوعي في الخطاب الشرعي، وتعويمنا له، وعدم علميته وافتقاره إلى الوضوح، ورميه للأفكار المرسلة بدون إيضاح، وتسرُّعِنا بالحديث عن الحكمة والحرمة- نظلم أنفسنا ونظلم غيرنا ونظلم الإسلام الذي نزعم أننا دعاته وعلماؤه، وفي النهاية نحن الذين نوقع بالإسلام ودعوته أضخم الخسائر وأفدح الخطايا، ونجني على الدين جناية كبرى، وتصاب الدعوة على أيدينا بهزائم شديدة، وأخيرا نعطي الذرائع لغير المسلمين بالهجوم على المسلمين ودينهم..وإلى الله المشتكى). هذه عبارات (من وجهة نظري) بعيدة عن النقد الموضوعي والتناول العلمي، وأقرب إلى الإساءة منها إلى النقد، ولو صدرت ضد من تحمل له خصومة شخصية لكان في إيرادها لوم أخلاقي ، فكيف إذا صدرت في حق دعاة نعرف صدق دوافعهم ، وبعضهم مني ومنك في مقام الشيخ والمربي والمعلم؟.
ثانيا: ما العيب أن تستغل الحادثة لبيان عظمة الإسلام الذي حرم تناول لحم الخنزير وشحمه، وهل الذين كتبوا في الموضوع كانوا يردون على المسلمين الرافضين لتحريم لحم الخنزير! حتى تعيب عليهم بأنه لا أحد من المسلمين يرفض تحريم لحم الخنزير ، مما يجعل إثارة الموضوع غير ذات معنى (من وجهة نظرك) .
ثم من أدراك أن بعض المسلمين لا يجادل في هذا ؟ أليس من بيننا من يجادل في كثير من المسلمات والبدهيات، ويرفض أن يتدخل الدين في طعامه وشرابه، وفي نظامه الاجتماعي ونظامه الاقتصادي ونظامه السياسي، بل ونظامه الأخلاقي، ويرى أنه ينبغي ألا يتجاوز دور الدين جدران المساجد والزوايا، وألا يعدو حنايا القلب والضلوع إلى الواقع الحي المعيش؟ هل تنكر أن في الأمة من يحمل هذا الفكر؟ هل لاحظت أن أحد المعلقين على مقالتك أورد مقالا في الموضوع يكاد أن يكون غزلا في الخنزير للدكتور خالد منتصر، وهو أحد الذين ينافحون عن هذه الفكرة التي ذكرتُ لك، وأحد الذين يحملون لواء التشويه لكل ما هو جميل في ديننا وتاريخنا، ولواء التحسين والتجميل لكل ما ينتجه الآخرون ؟ ومالي أستطرد في أمر أنت من أخبر الناس به وأعلم الناس بدعاته! .
عموما إن كان يُقبل منك أن تبدي وجهة النظر تلك ، فعليك أن تقبل برحابة صدر أن يقول الآخرون ما يرونه مناسبا من غير تخطئة ولا إنكار، فهذا رأي، والرأي مشترك كما قال عمر الفاروق رضي الله عنه ।
ثالثا: ألا ترى أنك بالغت في النقد ونسيت أن تضع أيدي القراء على الطريقة المثلى التي يجب أن يتبعها الدعاة والأئمة في تناول هذا الموضوع الذي شغل الدنيا كلها، أم أنك ترى أن الدعاة كان ينبغي عليهم الانعزال عن هذا الصخب وإهمال الحديث عن هذا الموضوع، أو كان عليهم أن يكتفوا بدعوة الناس إلى الدعاء بأن يرفع الله هذا البلاء عن البشرية، أم ترى أنهم كان ينبغي أن يأخذوا دور الأطباء ويكتفوا بتحذير الناس من اكتساب أسباب حصول هذا الوباء ويضعوا لهم سبيل التصرف إذا أصاب الفيروس بعض الناس، ويعلموهم طريقة الاتصال بالأطباء وبالمستشفيات لدى اشتباههم في مصاب ما !
أليس دور العلماء والدعاة ـ يا أخي الحبيب ـ هو النظر في الأسباب الشرعية لنزول البلاء والدعوة إلى تجاوز أسباب الغضب الإلهي؟। ألا ترى أن وصف ذلك بالسطحية فيه فجاجة وتعالٍ أعلم أنه لم يدر بخلدك! ثم ما هو التراجع بالتحديد في هذا الخطاب؟ ما هو الشيء الذي كان الخطاب قد تقدم إليه ثم عاد للتراجع عنه؟
رابعا: كيف يكون هذا الخطاب الذي يحذر من مخالفة أمر الله، ويرد المصائب والكوارث التي تنزل بالعباد إلى هذا منساقا إلى حيث لا عقل ولا علم ولا هدى ولا كتاب منير؟ أليس هذا هو حديث القرآن عما يصيب البشرية من كوارث ومصائب (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) [الشورى/30] (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) [آل عمران/165] (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ )[الرعد/31] (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) [النساء/79] (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) [سبأ/9] (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ) [الأنعام/43] إلخ عشرات الآيات التي تقرر هذا المعنى الواضح البين ।
خامسا: ما وجه العجب في التفريق بين المؤمن وغير المؤمن فيما ينزل بهما من بلاء؟ هاك حديثا أخرجه أحمد في مسنده عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ مَوْتِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: « رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلْفَاجِرِ ». فما العجب إذاً؟ أليس المؤمن يرضى بقضاء الله ويصبر على بلائه فينال الحسنى، والكافر يتسخط ويلتمس أسباب النجاة عند غير الله فيضل ويشقى؟
ألم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الطاعون شهادة للمؤمن الذي يموت بسببه، فهل كذلك الكافر الذي يهلك في الطاعون؟ أليس الطاعون من الكوارث العامة؟
ألم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين قتلى المسلمين وقتلى المشركين حين ناداه أبو سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال، فقال : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار؟ .
على كل حال هذا موضوع طويل ، ولعلي في فرصة قريبة أكتب ـ إن شاء الله ـ مقالا ضافيا في الفرق بين البلاء النازل على الكفار والابتلاء الحاصل للمؤمنين، وأسرد فيه الأدلة الشرعية والمنطقية على هذا التفريق.
على أنه قد أدهشني قولك (وإذا ما أصاب أحدًا من غير المسلمين مرضٌ فإنما هو عقاب الله الماحق وجزاؤه العادل، وإذا أصيب أحدٌ من المسلمين بالمرض نفسه فإنما هو حب الله له، وتخفيف لذنوبه، ورفع لدرجاته، ويستشهد لهذا بنصوص كثيرة في سرعة البرق فور وقوع الأمر... فيا لله ويا للعالمين من هذا المنطق!) ما وجه العجب في هذا حتى تضع علامة التعجب في آخر الجملة أيها الحبيب؟ ! يا ترى هل النصوص التي يستشهد بها غير صحيحة، أم أنها فهمت خطأ ، أم أنها غير مقبولة؟ أم ماذا؟
وما الذي يمنع أن يكون الأمر كذلك- وهو كذلك فعلا- مع كونه إنذارا للبشرية جمعاء؟ هل ثمة تناقض عقلي أو شرعي في كون البلاء إنذارا للبشرية كلها، وفي نفس الوقت هو ابتلاء وتمحيص للمؤمنين وتكفير لخطاياهم، وتقريب لهم من الله بصبرهم عليه وبلجوئهم إلى الله وتضرعهم له، وهو في نفس الوقت قارعة تصيب الكافرين أو تحل قريبا من دارهم؛ عقابا لهم على كفرهم وعنادهم لآيات الله وتكذيبهم لرسله؟ أرى شخصيا أنه لا تناقض على الإطلاق، والله أعلم ।
سادسا: أما قولك (إننا لا نطمع أن تدخل البشرية كلها في الإسلام، وما ينبغي لعاقل أن يفكر في هذا) فأكثر إدهاشا! فهل صار طمعنا محدودا، وصارت أمانينا متواضعة إلى هذا الحد؟ أنا أسألك: هل كان سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطمع أن يدخل الناس جميعا في الإسلام؟ أم كان لا يطمع في ذلك ولا يفكر فيه وهو أعقل العقلاء؟ فلا أرى أن ثمة مانعا من الطمع في هداية الخلق جميعا لدين الحق، ولا مانع أيضا من التفكير في ذلك والتخطيط له بقدر الإمكان.
ربما قصدت أن هذا احتمال بعيد الحدوث بسبب من قراءة التاريخ ورصد الواقع وطبيعة الصراع بين الحق والباطل (ولو شاء الله لهدى الناس جميعا) فما دام ذلك في مشيئة الله فلا بأس من الطمع فيه أو التمني له، مع عدم العيش في خيالات وأحلام ، ومع رؤية الواقع كما هو والعمل بما يناسب طبيعة العصر والناس ...إلخ.
ولهذا فلا بأس من استغلال الأحداث والحوادث لتذكير الناس بالحق، ودعوة الخلق إليه، بل هذا هو واجب الدعاة، وهم لا يفعلون ذلك شماتة في الخلق، ولكن نصحا لهم وإرشادا।
سابعا: أما قولك (ويجب أن نفرق بين نواميس الله التي تحكم الكون وتسيره، وبين ما يحدث لنا بما كسبت أيدينا، كما يجب الوعي بما لا مدخل لنا في تغييره، وما لنا دور في دفعه والتعامل معه)، فمع كونه قولا صحيحا وجيها، فإن إيراده في هذا السياق وبهذه الصورة يثير التساؤل التالي: هل إنفلونزا الخنازير وقبلها إنفلونزا الطيور والأزمة المالية العالمية، وتغيرات مناخ الأرض ، وأمثال ذلك يقع في نواميس الله التي تسير الكون أم تدخل فيما تكسب أيدي الناس، وهل هي مما لنا دخل في تغييره، أم ليست كذلك؟
وسؤال آخر: أليس من نواميس الله عقاب المكذبين وأخذ المجرمين بما كسبت أيديهم؟ وأيضا : أليس من نواميس الله رفع البلاء عمن يدركون خطأهم، ويرجعون إلى الصواب ويدينون دين الحق؟ (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين).
ألم يدرك فرعون يوما أن الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات من لدن رب العالمين، فطلب من موسى أن يدعو ربه برفعها مع وعد بالإيمان فرفعها الله (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف/134-136] نعم، حين استكبر هو وجنوده أغرقهم الله।
ثامنا: هل كل الذين تناولوا الموضوع من الدعاة تناولوه بسطحية وسذاجة، وأهملوا ما ذكره العلم وما قرره الأطباء مسلمين وكافرين فيما يتعلق بالخنزير وبالمرض ؟ ألم يكن فيهم من اعتدل (من وجهة نظرك) وتريث وعرف الحقائق قبل أن يقدم خطابه؟ . ألست معي في أن التعميم خطأ منهجي في النقد والتحليل؟.
لقد اعتدتَ في مقالاتك النقدية القيمة أن تذكر الوجوه المختلفة للقضية التي تتناولها ، إلا أنني أراك في هذا الموضوع على الخصوص لم يشغلك إلا (الدعاة السطحيون) وكأنما كان هذا حال كل الدعاة والأئمة الذين تناولوا الموضوع।
تاسعا: توقعت وأنا أقرأ المقال أنك ستقدم تحليلا عاقلا متزنا متكاملا للموضوع يكون نموذجا للدعاة في التناول ، متضمنا المفردات والمحاور التي يجب طرقها وتقديمها للجمهور ، إلا أن توقعي ذهب أدراج الرياح حين وصلت إلى خاتمة المقال ولم أجد شيئا من ذلك، والطلب لا يزال قائما: أن تقدم منهجا عمليا واقعيا يجمع بين حقائق الشرع ومقتضيات العقل، ونتائج العلم ، بصورة وعظية مقبولة।
عاشرا: أما بخصوص إنفلونزا الطيور التي لم يحرمها الله تعالى، فإن الخطورة الأساسية في هذا الموضوع -بحسب ما ذكر العلماء المتخصصون- هي في اقتراب الطيور من الخنازير؛ لأن الخنزير حاضن أساسي لهذه الفيروسات، وإذا ما اجتمع فيروس إنفلونزا الطيور مع إنفلونزا الخنازير مع الأنفلونزا البشرية، فإن الخنزير يطور هذه الفيروسات أو يحورها ليخرج منها فيروسا خطيرا لا تعرفه البشرية، ولم تعد له علاجا، وهو ما حدث الآن؟ كما سبق أن قال الدعاة والعلماء إن انتشار إنفلونزا الطيور هو أيضا بسبب معاصي العباد وبما كسبت أيديهم ، وأن ما حصل من جنون للبقر هو كذلك بما كسبت أيدي الناس، وليس لكونها محرمة.
أما الخنازير فإني أسألك: أليست تربية البشر لها بهذه الصورة الكبيرة بعد أن قرر العلماء المتخصصون بأن لحومها ليست ذات قيمة غذائية، وأنه يحمل أكثر من أربعمائة وتسعين مرضا، وأن له دورا أساسيا في تحوير بعض الفيروسات الخطيرة...إلخ ما كشف عنه العلم وصار من اليقينيات العلمية التي لا مجال للتردد فيها، أليس هذا العمل من البشرية مشاقة لله ، ومعصية تستحق أن ينزل بسببها البلاء؟ .
إذا قيل – كما ادعى الدكتور خالد منتصر في مقالته التي نشرت في المصري اليوم ونشرت تعليقا على مقالك- : إن لهذا الحيوان الذي وصفه الله بأنه رجس (أو لحم خنزير فإنه رجس) فضلا على البشرية في إمداده بحيوانات للتجارب أو في إمدادها بالأنسولين أو بصمامات القلب أو غير هذا من الدعاوى، أقول: إن صح هذا فهل اكتفت البشرية باستخدامه في المجالات التي يمكن أن تحقق المنفعة؟
ومع ذلك فاسمح لي أن أقول – ولمن شاء أن يخالفني في رأيي - : إن ما وصفه الله بالرجس لا يتصور أن يكون منه منفعة حقيقية ذات قيمة، أيا كان ما كشفه العلم، وأنه لو كشف لنا العلم ما كشف من (مزايا) لهذا الحيوان فلن يخرج (في نظري) عن كونه رجسا لا خير فيه।
ولهذا فاسمح لي أن أختلف معك في قولك (لماذا لا نتريث في حديثنا الدعوي والشرعي حتى نطالع الخطاب العلمي والتجريبي اليقيني ورؤيته في هذا الأمر حتى لا ينبني كلامنا انبناء خاطئا يذهب أدراج الرياح عند أول معلومة علمية؟)
فلم يكشف العلم عن شيء يمكن أن يغير وصف الله لهذا الحيوان بأنه رجس، بل الحقائق العلمية التي تعرفها جيدا تؤكد أن حديث الدعاة عن نزول البلاء بسبب معاصي العباد ليس حديث خرافة ، ولكنه حديث حق لا ريب فيه।
حادي عشر: أما قولك (ومن هنا لا يصح أن نربط التحريم بالدودة الشريطية وغيرها من الأمراض) فأنا أسألك سؤالا من نوع السؤال الذي وجهته للدعاة في مستهل مقالك: مَنْ مِنَ الدعاة ربط التحريم بالدودة الشريطية؟ وهل إذا أراد الداعية أن يكشف وجها من وجوه الحكمة يكون قد ربط بين الْحُكم والحِكمة؟ أليس كل الدعاة يقولون بتحريم الخنزير ولو كان أنقى من ماء الغمام، وخاليا من أي ضرر؟
ما الداعي إذاً للبند "خامسا" في خاتمة مقالك؟।
ثاني عشر: أما أسئلتك في "سادسا" في نهاية مقالك، فهي أسئلة مشروعة، وكان الأفضل أن توجه الأسئلة للعلماء ليجيبوا عليها ، لا أن تقدمها في صورة لوم وفي صورة تهكمية توحي بأن العلماء أشبه بالغائبين عن الوعي؟
ولقد اتصل بي أحد الإخوة، وقدم نفسه على أنه صحفي يكتب تقريرا لموقع إسلام أون لاين عن هذا الموضوع، وسألني كل هذه الأسئلة، وأجبت عنها، ولا أدري إن كان هذا التقرير قد نشر أو لم ينشر، وفيما أجبت به: أنه قد ثبت يقينا – بحسب ما قاله العلماء المختصون- أن الخنزير هو مصدر هذا المرض، ولم أقرأ – في حدود اطلاعي- من خالف ذلك، فإن كان لديك شيء من هذا فأطلعني عليه।
ثالث عشر: وأما الإعدام الجماعي للخنازير ؛ دفعا للضرر المتوقع فأمر مشروع ، بل واجب شرعي؛ حماية للصحة العامة، وإن كان مالكها مسلما فلا يعوض؛ لأنه عمل عملا غير مشروع ، ولا يعد ملكه للخنازير مالا معتبرا، وأنت أعلم بهذا .
أما إن كان مالكها غير مسلم يبيح له "دينه" تملكها فإنه يُعَوَّض عن هذه الخنازير ؛ لأنها بالنسبة له مال محترم، فتعدم الخنازير حماية للصحة العامة، ويعوض أصحابها غير المسلمين حماية لأموالهم.
وبالمناسبة فهذه هي الفتوى التي سبق أن أفتيت بها بالنسبة للطيور حين ثار الحديث عن إنفلونزا الطيور ، فقلت: إذا خشي من انتشار الوباء من مزارع الطيور فإن الطيور تعدم ويُعَوَّض أصحابها।
وفي الختام فإنني أرى أن الدعاة لم يبعدوا عن الرصانة والوعي في الخطاب الشرعي، ولم يكن كلامهم ـ في مجمله ـ مفتقرا إلى الوضوح، ولا مستندا إلى الأفكار المرسلة، ولا متسرعا حين تحدث عن حِكَم التحريم، وأن من الظلم للدعاة والعلماء أن يُرْمَوْا بكل هذه الألفاظ والأوصاف الشديدة، وأن ينسب إليهم الجناية على الدين، والتسبب في هزيمة الدعوة...إلخ । فهم قدموا وجهة نظرهم وفهمهم للموضوع، واجتهدوا في ذلك ما وسعهم، من غير أن يخالفوا حكما شرعيا، أو يتنكبوا منهجا علميا، أو يهجموا على ما لا يحسنون، وسيان أن يقبل الغرب منهم هذا أو يرفض، ما داموا لا يقصدون وجه الغرب، بل يقصدون وجه الله، وبيان الحقيقة، ولمن شاء أن يقدم الموضوع بطريقة أخرى، ويبقى هذا الاختلاف في إطار الرأي، والرأي مشترك.
وأخيرا أضع بين يديك ويدي القراء ما عنَّ لي بعد أن قرأت مقالك، راجيا لي ولك الخير، فإن أكن أصبت فالحمد لله، وإن تكن الأخرى ففي صدرك من السعة ما يحتملني، وفي حسن قصدي ما يشفع لي عند الله، وعندك إن شاء الله.
--------------------------------------------------------------------------------
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق