بقلم: وصفي عاشور أبو زيد
فقه الأولويات وفقه الموازنات وفقه الواقع وفقه المقاصد وفقه السنن(1)، هذه الأنواع من الفقه لها أهمية خاصة في ترشيد الشباب المسلم وتوجيهه نحو الاعتدال، والتوازن بما يحقق محكمات الشرع، ولا يهمل متطلبات العصر، ولا يعني إطلاق هذه الأنواع من الفقه والدعوة إلى الاهتمام بها والتركيز عليها أمرًا قد يُبعدنا عن الأصول أو الكليات، بل إننا بغير مراعاة هذا الفقه نبعد كثيرًا عن روح الشرع، وننعزل بعيدًا عن الحياة والأحياء، وما جاء الدين لنعيش به في الماضي، إنما جاء لنستهديه لمشكلات عصرنا كما استهداه من قبلنا لمشكلات عصرهم، وسوف نقتصر هنا على نوعين فقط؛ لما لهما من صلة مباشرة بموضوعنا، وللاهتمام بهما من نجاعة وقوة في الوقاية والعلاج، وهما فقه المآلات وفقه الأولويات، وقد تحدَّثنا من قَبْل عن فقه المقاصد، ونتحدث لاحقًا عن فقه الواقع.
أولاً: فقه المآلات
اعتبار المآلات التي تئول إليها الأفعال والأقوال والتصرفات أمرًا مطلوبًا شرعًا، بل لعله من المقاصد المهمة التي ينبغي مراعاتها؛ لأن إطلاق الأحكام الشرعية والحديث في الشرع دون مراعاة لمآلاته إنما هو نوعٌ من العبث، وأقصر الطرق إلى الضلال المبين.
وقد قال الله تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: من الآية 108)، فنهى الله تعالى عن هذا السب مراعاة للمآل الذي سيئول إليه، وهو سبُّ الله تعالى وجل.
وعن عبد الله بن الزبير يقول: حدثتني خالتي (يعني: عائشة) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بِشِرْكٍ، لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشًا اقتصرتها؛ حيث بنت الكعبة"(2)، فراعى النبي صلى الله عليه وسلم ما يئول إليه هدم الكعبة، وسبب ذلك أن القوم حديثو عهد بالإسلام.
وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- يقول: كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار!، وقال المهاجري: يا للمهاجرين!، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما هذا". فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار!، وقال المهاجري: يا للمهاجرين!، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة". قال جابر: وكانت الأنصار حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر، ثم كثر المهاجرون بعد، فقال عبد الله بن أبي: أوقد فعلوا؟!! والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه، لا.. حتى يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"(3).
وهنا خشي النبي صلى الله عليه وسلم من مآلات قتل المنافقين، وهي الحملة الإعلامية المسعورة التي ستُحدث بلبلةً وتُعطي صورةً مشوهةً عن الإسلام ونبي الإسلام، فتحسَّبَ لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُقدم على هذا التصرف مراعاةً لمآلاته.
وعن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل، قال: "يا معاذ!"، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ!"، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ!"، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله؛ إلا حرمه الله على النار"، قال: يا رسول الله! أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: "إذًا يتكلوا"(4).
فقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم من مآل البشارة؛ أن يترتب عليها اتكال الناس وقعودهم عن العمل، وعدم اجتهادهم في العبادة.
ولقد تنبَّه الإمام الشاطبي لخطورة المآلات، وأهمية اعتبارها، فقال في كلام مفصَّل منضبط: "النظر في مآلات الأفعال مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا، سواءٌ كانت الأفعال موافقةً أو مخالِفَةً، وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصادرةِ عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نَظَرِهِ إلى ما يئول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُسْتَجْلَبُ، أو لمفسدةٍ تُدْرَأُ..، ولكنّ له مآلاً على خلاف ما قُصِدَ فيه، وقد يكون غيرَ مشروعٍ لمفسدةٍ تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكنَّ له مآلاً على خلاف ذلك، فإذا أُطْلِقَ القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أُطْلِق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدةٍ تساوي أو تزيد، فلا يصحُّ إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجالٌ للمجتهد صَعْبُ الْمَوْرِد، إلا أنه عَذْبُ المذاق، مَحْمُودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة"(5).
ولقد قرَّر الإمام ابن القيم ما قاله الإمام الشاطبي عند حديثه عن حكم الوسائل المؤدية للمقاصد، فقال: "القول المفضي إلى المفسدة قسمان:
أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها، كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه، وفساد الفراش ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد، وليس لها ظاهر غيرها.
والثاني: أن تكون موضوعةً للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب، فيُتخذ وسيلة إلى المحرم، إما بقصد أو بغير قصد منه.
فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدًا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدًا به الربا، أو يخالع قاصدًا به الحنث، ونحو ذلك. والثاني: كمن يصلي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسبُّ أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله ونحو ذلك.
ثم هذا القسم من الذرائع نوعان:
أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته، والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته.
فهاهنا أربعة أقسام:
الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة، الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قُصد بها التوسل إلى المفسدة، الثالث: وسيلة موضوعة للمباح، لم يُقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبًا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم.
ومثال الثالث: الصلاة في أوقات النهي، ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وتزين المتوفى عنها زوجها في زمن عدتها، وأمثال ذلك.
ومثال الرابع: النظر إلى المخطوبة والمستامة، والمشهود عليها، ومن يطؤها ويعاملها، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك، فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه، بحسب درجات في المصلحة، وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريمًا، بحسب درجاته في المفسدة."(6).
ومن الواضح من كلام الفقهاء هنا، ومن النصوص الشرعية قبل ذلك أن فقه المآلات واضح وبيِّن ومؤصل ومهتم به، ومع هذا ظل هذا الفقه الخطير غائبًا، مثلاً عمن يزاولون أعمال العنف الذين يخربون بها المجتمعات، ويسفكون بها الدماء، ويهدِّدون بها أمن الأوطان والنسيج الاجتماعي فيها.
آثار اعتبار المآلات:
ومن شأن الاهتمام بهذا الفقه أن يجعل عندنا نظرة مستقبلية تمنعنا من الإقدام على فعل أو تصرف تفوق مضرَّتُه مصلحته، ويحملنا على أداء فعل أو تصرف ترجح مصلحته على مفسدته.
كما أن من شأنه أن يضبط حركة المجتمع، واجتهاد الفقهاء، واختيار الآراء، وترجيح الأقوال، وترشيد التخطيط الإستراتيجي، والتفكير المستقبلي بما يمثل وقاية من الجنوح إفراطًا أو تفريطًا.
ثانيًّا: فقه الأولويات
لفقه الأولويات أهمية كبيرة أيضًا مثل باقي أنواع الفقه (مقاصد، أولويات، واقع، سنن، موازنات..إلخ)، فهو يبين فقه مراتب الأعمال، وأيها يجب أن يُقَدم، وأيها يجب أن يُؤَخر، ويبين فقه النسب بين الأحكام، أيها واجبٌ وأيها مستحبٌّ، وأيها محرمٌ، أيها يستحق الاهتمام، وأيها لا يستحق، أيها حان وقته، وأيها يمكن تأخير الحديث عنه ليس تقليلاً من شأنه وإنما مراعاة لواجب الوقت، وهكذا.
وما أحوج أمتنا اليوم إلى هذا النوع من الفقه، بعد أن أصبحت تكبِّر الصغير، وتصغر الكبير، وتهوِّن العظيم، وتعظِّم الحقير، وتقدم ما من حقه التأخير، وتؤخر ما من حقه التقديم؛ فاختل فيها فقه مراتب الأعمال والنسب بينها اختلالاً كبيرًا.
فترى الاهتمام بالمظهر أكثر من المخبر، وبالأسماء أكثر من المسميات، وبالعناوين أكثر من المضامين، وبالتوافه أكثر من العظائم؛ فإذا مات الفنان أو الراقصة أو لاعب الكرة تقوم الدنيا ولا تقعد، فتُعقد الندوات، وتُكتب المقالات، وتتكلم الشاشات والإذاعات والصحف والمجلات، أما إذا مات العالم والداعية والمربي فلا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا!
ولقد قرَّر القرآن الكريم أن الأعمال ليست سواء، قال سبحانه: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ﴾ (التوبة: من الآية 19).
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان شعبًا، منها أعلى ومنها أدنى، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"(7).
وإن الناظر في أحكام الإسلام وفي كل مجالاته وأبوابه الفقهية والخلقية والعقيدية، يجد فيها الأهم والمهم، والواجب والفرض، والمندوب والمستحب، والمكروه والمحرم وهكذا.
فهناك أولويات في العقيدة، وهناك أولويات في العبادات، وهناك أولويات في المعاملات، وهناك أولويات في الدعوة والإصلاح، وهناك أولويات في العلم وتحصيله، وهناك أولويات في العمل ومراتبه، وهناك أولويات في الفتوى، وفي كل مجال من مجالات الإسلام والحياة نجد أولويات.
وقد فصل في هذا كله شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الرائد عن الأولويات، والدكتور محمد الوكيلي عن فقه الأولويات أيضًا، الذي تعمَّق في هذا الفقه، وقد أصبح للأولويات اهتمام خاص عند دعاة العصر وعلمائه.
آثار اعتبار الأولويات:
ولا يخفى ما للاهتمام به من آثار طيبة على العقيدة والعبادة والدعوة والإصلاح، بل إن له أثرًا لا يُنكر على ترشيد العمل الإسلامي، وتعزيز الاعتدال والتوازن عند شباب الصحوة، وحسبنا ما قرره شيخنا القرضاوي في مقدمة كتابه عن هدفه من هذه الدراسة حين قال: "وتحاول هذه الدراسة أن تلقي الضوء على مجموعة من الأولويات التي جاء بها الشرع وقامت عليها الأدلة، عسى أن تقوم بدورها في تقويم الفكر، وتسديد المنهج، وتأصيل هذا النوع من الفقه، وحتى يهتدي بها العاملون في الساحة الإسلامية والمنظِّرون لهم، فيحرصوا على تمييز ما قدَّمه الشرع وما أخَّره، وما شدَّد فيه وما يسَّره، وما عظَّمه الدين وما هوَّن من أمره، لعل في هذا ما يحد من غلو الغالين، وما يقابله من تفريط المفرِّطين، وما يُقرِّب وجهات النظر بين العاملين المخلصين"(8).
فمتى أدرك الشاب أولويات دينه وأولويات واقعه فلن يُقْدِم على أعمال ليست من واجب الوقت؛ فضلاً عما من شأنه أن يزعزع أمن المجتمعات مثلاً، ويهدد سلامتها، ويسفك دماءها.
-------------
*الباحث الشرعي بالمركز العالمي للوسطية- الكويت.
الحواشي:
(1) هذه الأنواع من الفقه ينبه إليها ويؤكد عليها دائمًا شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، وينيط بها نهضة الأمة العلمية والعملية.
(2) صحيح مسلم: كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها.
(3) صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب: قوله: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}.
(4) صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا.
(5) الموافقات: 5/440. تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان. دار ابن عفان. الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.
(6) إعلام الموقعين: 3/163. تحقيق طه عبد الرءوف سعد. دار الجيل. بيروت. 1973م.
(7) صحيح مسلم: كتاب الإيمان. باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء، وكونه من الإيمان.
(8) مقدمة كتاب فقه الأولويات. د. يوسف القرضاوي. طبع مكتبة وهبة.
http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=65970&SecID=0
الثلاثاء، 22 يونيو 2010
فقه المآلات وفقه الأولويات
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق