مناقشة للأستاذ الدكتور خالد فهمي
تأجيل الحج وعلاقته بحفظ الدين[08/10/2009][17:35 مكة المكرمة]
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد
قرأت مقالاً على موقع (إخوان أون لاين) بعنوان "توحش العلمانية" لفضيلة الأستاذ الدكتور خالد فهمي أستاذ علم اللغة بكلية الآداب جامعة المنوفية بمصر، يتحدث فيه عن أن قرار تأجيل الحج لبعض الفئات العمرية لا يخلو من توحش للعلمانية..! كما أنه قرار يستبطن حالة العولمة وتنفيذ مخططات الغرب في حرمان المسلمين من تحصيل مقاصد الحج السياسية والاقتصادية!، وأن هذا يعدُّ تعطيلاً للشريعة، وتهوينًا لمكانة البيت الحرام في قلوب المسلمين!.
كما أنه يرى- من خلال تساؤلاته التي طرحها في المقال- أنه ينبغي أن نُقدِّم حفظ الدين على حفظ النفس، ومن ثَمَّ فتأجيل الحج من أجل الحفاظ على النفوس البشرية يعدُّ إهدارًا لحفظ الدين، وتقديمًا لما ينبغي أن يُؤخر، وتأخيرًا لما يجب أن يُقدم.
والتساؤل الاستنكاري الذي أورده فضيلة الدكتور خالد عن الشيخ جمال قطب، والذي استنكر فيه عدم تحرك الإدارة في اتجاه منع الجماهير التي تملأ مدرجات ملاعب كرة القدم؟ ولماذا لم نسمع دعوة تدعو إلى إغلاق دور السينما والمسارح؟ أقول: كان ينبغي أن يكون هذا بالفعل، وهو استنكار في محله، لكنه لا يمنعنا من التحري الصحي والشرعي في مسألة كالحج، ولا يدعونا إلى الائتساء بما يُفعَل في الملاعب والمسارح، ولا ربط بين هذا السلوك و"توحش" العلمانية.
وحين قرأت المقال وجدت لديَّ رغبة في التعليق عليه، فبدأت كتابة التعليق، ولكن طال الكلام، فقلت: لا بأس أن يطول، ويكون مناقشة لما جاء فيه، وحوارًا حول المسألة، ومن ثَمَّ أبدأ مباشرةً في مناقشة المقال فأقول:
ربط تأجيل الحج بالخضوع لإملاءات الغرب
الملاحظة الأولى التي ذكرها فضيلته في مقاله ملاحظة مبالغ فيها؛ حيث رأى "أن ثمة مرادًا للعولمة في إخفاء هذا المشهد الجامع للحجيج في أرض المناسك المعظمة؛ لأن بعدًا نفسيًّا مهمًّا يتسلل من ورائه للجماهير الغربية يعيد التذكير من كل عام بآثار الفتوحات الإسلامية التي رفعت الأذان في قلب أوروبا في زمنٍ ما"؛ حيث تتبدى فيها نظرية المؤامرة بأوسع وأكمل معانيها، والنظام المصري ليس بهذا الذكاء الذي يساير فيه الغرب بهذا الشكل بقدر ما هو إرباك في إدارة الأزمة نتيجة العشوائية التي يُوقع فيها النظامُ مصرَ بكل قضاياها.
وكذلك الملاحظة الثانية التي رأى فيها "أن ثمة مرادًا يقف في خلفية التهوين من مكانة الأراضي المقدسة لتستعمل ورقة ضغط على النظام الحاكم في المملكة العربية في الجزيرة العربية من قبل الغرب المساعد للصهاينة لدفعها دفعًا نحو التطبيع"؛ فمكانة المسجد الحرام لا يمكن الاقتراب منها لأنها في قلب كل مسلم، والنظام السعودي ليس بحاجةٍ للإكراه على التطبيع لأن التطبيع يجري على قدمٍ وساق، وكذلك هناك مبالغة واضحة في إقحام العلمانية وتوحشها في هذا السياق؛ لأنه زج بالقضية في غير ميدانها من وجهة نظري.
ولا يشفع لفضيلة الدكتور أنه ساق هذه التأملات على سبيل الاحتمال أو الظن، أو أن أحدًا لا يستطيع أن يدفع عن عقله تلك الاحتمالات؛ فهذا حمل للمسألة على محمل سيئ من محاملها، وأدَّى هذا الظن إلى لمز علماء السلطة وتحميلهم المسئولية.
على أننا هنا لا ندعو إلى حسن الظن بالأنظمة العربية، فضلاً عن النظام المصري، أو ندافع عن علماء السلطة بقدر ما هو وضع للأمور في نصابها، وقراءتها من خلال سياقاتها ما دمنا نتحدث عن نازلةٍ من النوازل.
حفظ الدين أم حفظ النفس؟
أما مسألة تعطيل الشريعة، فهل تأجيل الحج عامًا كاملاً يعدُّ تعطيلاً للحج، فضلاً عن تعطيل الشريعة؟ رغم أن ما حدث هو منع أعمار معينة من أداء الفريضة لمصلحةٍ راجحة، وهو ما فعله عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- حين رفع تطبيق حد السرقة لمصلحةٍ راجحة.
أما مقارنة حفظ الدين بحفظ النفس، وأيهما يقدم عند التعارض، فينبغي أن نسأل عددًا من الأسئلة ليستبين لنا الأمر:
أولاً: ما سبق تقريره وهو هل تأجيل الحج لمدة عام- حتى لو افترضنا تأجيله كليةً لجميع الأعمار في عام واحد- يعد تعطيلاً للشريعة وإهدارًا لحفظ الدين؟ الجواب بالنفي: لا؛ لأن الدين موجود وقائم، ولن يضيره تأجيل فريضة عامًا كاملاً ما دام هذا التعطيل مبنيًا على مصلحة يقينية تجعل تأجيل الفريضة في أحد الأعوام أمرًا سائغًا من الناحية الشرعية، ثم إن الحج ليس عامًا واحدًا لكل البشرية في كل عصورها وكل أعمارها، وإنما هو متاح ومشروع كل عام في أشهرٍ معلومات.
ولا شك أن تيقن هذه المصلحة ينبني على أمرين:
الأمر الأول: كلمة الأطباء ومنظمات الصحة العالمية والمتخصصين والخبراء في هذا المجال، والتي يجب أن تقضي بأن خطورة الاجتماع في ظل انتشار هذا المرض أمر متيقن، ومن ثَمَّ فالاجتماع بهذه الملايين لا ينفك عن انتشار له أكثر، وهو مما يؤدي إلى حالات إصابات جديدة، فضلاً عن الوفيات، مع تعذر تلافي ذلك حتى لو اتخذت الدول الإجراءات والتدابير الوقائية كافة.
والأمر الثاني: كلمة علماء الشريعة الذين يُصدرون فتاويهم في هذه النوازل بناءً على كلمة الأطباء والمتخصصين؛ ففي مثل هذه المسائل تنبني كلمة العلماء على تقارير الخبراء.
ثانيًا: لو افترضنا جدلاً أن في تأجيل الحج في أحد الأعوام تعطيلاً للشريعة وهو ما يصادم كلية كبيرة من كليات مقاصد الشريعة، وهي كلية حفظ الدين، فهل يصح تقديم حفظ النفس- وهي كلية أخرى من كليات المقاصد- على حفظ الدين؟ علمًا بأن حفظ الدين في منظومة الكليات الضرورية مقدم- عند أكثر الأصوليين- على حفظ النفس؟.
والواقع أن هذه مسألة خلافية بين الأصوليين أورد الخلافَ فيها الدكتور علي جمعة في كتاب "المدخل"، وأورده أيضًا- ربما بتوسع أكثر- الدكتور جمال عطية في كتابه "نحو تفعيل مقاصد الشريعة"، وعلمتُ من أخينا الدكتور خالد حنفي مدرس أصول الفقه بجامعة الأزهر، ورئيس هيئة العلماء في ألمانيا، أنه يُعِدُّ بحثًا حول الاختلاف في ترتيب الكليات الضرورية وأثره في اختلاف الفقهاء".
ما المقصود بحفظ الدين؟
على أن تعارض حفظ الدين مع حفظ النفس ينبغي أن نقرر فيه معنى مهمًّا، وهو أن الأمر ليس متعلقًا بجزءٍ من الدين أو جزءٍ من الجزء، أو شعيرة من الشعائر، وإنما هو متعلق بأصل الدين وتفويته جميعًا، وليس بشعيرةٍ أو عبادة أو معاملة أو أمر يقوم عليه الحاكم؛ وذلك حينما يكون لمصلحة متيقنة أو راجحة.
وهذا ما قرره الإمام الآمدي، وهو يتحدث عن الترجيحات العائدة لصفة العلة؛ حيث قال كلامًا ضابطًا يحسن أن نورده بكامله هنا لتوضيح الأمر وتجليته؛ قال في الترجيح السابع عشر: "أن يكون مقصود إحدى العلتين حفظ أصل الدين ومقصود الأخرى ما سواه من المقاصد الضرورية، فما مقصوده حفظ أصل الدين يكون أولى نظرًا إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين وما سواه من حفظ الأنفس والعقل والمال وغيره فإنما كان مقصودًا من أجله على ما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)﴾ (الذاريات).
ويذكر الآمدي وارداتٍ حول هذا الرأي قائلاً: "فإن قيل بل ما يفضي إلى حفظ مقصود النفس أولى وأرجح؛ وذلك لأن مقصود الدين حق الله تعالى ومقصود غيره حق للآدمي، وحق الآدمي مرجح على حقوق الله تعالى مبني على الشح والمضايقة، وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة من جهة أن الله تعالى لا يتضرر بفوات حقه، فالمحافظة عليه أولى من المحافظة على حق لا يتضرر مستحقه بفواته، ولهذا رجحنا حقوق الآدمي على حق الله تعالى بدليل أنه لو ازدحم حق الله تعالى وحق الآدمي في محل واحد وضاق عن استيفائهما بأن يكون قد كفر وقتل عمدًا عدوانًا فإنا نقتله قصاصًا لا بكفره، وأيضًا فإنا قد رجحنا مصلحة النفس على مصلحة الدين؛ حيث خففنا عن المسافر بإسقاط الركعتين وأداء الصوم، وعن المريض بترك الصلاة قائمًا وترك أداء الصوم، وقدمنا مصلحة النفس على مصلحة الصلاة في صورة إنجاء الغريق، وأبلغ من ذلك أننا رجحنا مصلحة المال على مصلحة الدين حيث جوزنا ترك الجمعة والجماعة ضرورة حفظ أدنى شيءٍ من المال، ورجحنا مصالح المسلمين المتعلقة ببقاء الذمي بين أظهرهم على مصلحة الدين حتى عصمنا دمه وماله مع وجود الكفر المبيح".
ثم يدفع هذه الواردات ويردها فيقول "قلنا أما النفس فكما هي متعلق حق الآدمي بالنظر إلى بعض الأحكام فهي متعلق حق الله تعالى بالنظر إلى أحكام أُخر؛ ولهذا يحرم عليه قتل نفسه والتصرف بما يفضي إلى تفويتها، فالتقديم إنما هو لمتعلق الحقين ولا يمتنع تقديم حق الله وحق الآدمي على ما تمحض حقًّا لله...
وأما التخفيف عن المسافر والمريض فليس تقديمًا لمقصود النفس على مقصود أصل الدين بل على فروعه وفروع الشيء غير أصل الشيء، ثم وإن كان فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر، وكذلك صلاة المريض قاعدًا بالنسبة إلى صلاته قائمًا وهو صحيح، فالمقصود لا يختلف.
وأما أداء الصوم فلأنه لا يفوت مطلقًا، بل يفوت إلى خلف وهو القضاء وبه يندفع ما ذكروه من صورة إنقاذ الغريق وترك الجمعة والجماعة لحفظ المال أيضًا وبقاء الذمي بين أظهر المسلمين معصوم الدم والمال ليس لمصلحة المسلمين، بل لأجل اطلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين ليسهل انقياده ويتيسر استرشاده؛ وذلك من مصلحة الدين لا من مصلحة غيره". انتهى كلام الآمدي.
(راجع: الإحكام في أصول الأحكام: 4/338-340. تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي. دار الصميعي. الرياض. طبعة أولى. 1424هـ).
يتضح من كلام الآمدي أن المقصود بحفظ الدين هو أصل الدين، وأن يُفَوَّتَ مطلقًا، وليس مجرد شعيرة من شعائره أو فريضة من فرائضه يمكن أن تُقضَى أو تُستدرك في عام قادم أو أيام أُخر؛ نظرًا لمراعاة مصلحة متيقنة أو راجحة.
ومن هنا فتأجيل الحج عامًا كاملاً لكل الأعمار؛ فضلاً عن أعمار محددة لمصلحة متيقنة أو راجحة لا يعني إهدار الدين، ولا يتعارض مع حفظ الدين؛ لأن المقصود بحفظ الدين إنما هو أصل الدين.
ضرورة اتخاذ التدابير الوقائية
ولا يعني هذا تقليلاً من شأن أي شعيرة أو أي جزءٍ من أجزاء الدين، وإنما هو إعمال لمبدأ المصالح والمفاسد، وتحصيل أعظم المصلحتين، ودفع أكبر المفسدتين، فالشريعة كلها مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد.
ومن هنا وجب على الجهات الرسمية المعنية بهذا الأمر أن تتخذ كل الوسائل المانعة من انتشار هذا الوباء توقيرًا لشعائر الله، وأن تقوم بكل التدابير الوقائي التي تقي من انتقاله أو انتشاره تعظيمًا لفرائض الدين؛ وذلك عبر الكشف الطبي للداخل والخارج، والأدوية الوقائية كالتطعيم وغيره، حتى يتم الوقاية والاطمئنان على حجاج بيت الله في أكبر تجمع عالمي في العام كله.
فإن قامت الجهات المعنية بهذا كله، وتبين- بما لا يدع مجالاً للشك، وبما تستنفد معه كل وسيلة ممكنة "فاتقوا الله ما استطعتم"- أن هذه الإجراءات لن تحول بين هذا التجمع والإصابة بهذا الوباء فلا حرج- حينئذٍ- من تأجيل الحج لفئاتٍ معينة يسهل انتقال المرض إليها بسبب ضعف المناعة أو أسباب أخرى يقررها الخبراء، أو إن كان الوباء قويًّا يصل إلى جميع الناس في هذا التجمع بما يتعذر معه نجاعة التدابير الوقائية فليس هناك حرج من تأجيل الحج في عام من الأعوام حفظًا للنفوس البشرية، ولا يعد هذا تعارضًا مع حفظ الدين؛ لأن أصل الدين قائم ويمكن أن يؤدي الحج في أعوام لاحقة، والله أعلم.
----------
* باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية
http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=54832&SecID=391
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق