الثلاثاء، 10 فبراير 2009

استجلاء صور رحمة الله تعالى في زمن الظلم والجبروت

استجلاء صور رحمة الله تعالى في زمن الظلم والجبروت
وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@hotmail.com
في ظل ما نراه من إجرام صهيوني على غزة هاشم، وما خلفه من أشلاء ودماء، وصرخات وآهات، ويتامى وأرامل، يصاحبه صمت دولي وعالمي رسمي بل تواطؤ ومباركة، رغم انتفاضة الشعوب والأمم، حتى الكافر منها، بل حتى بعض اليهود والحاخامات رفضوا واستنكروا هذه الوحشية في القصف، والإجرام في القتل، ومع هذا يضرب الكيان الصهيوني عرض الحائط بكل هذه الأصوات التي نادت بوقف العدوان ونددت بما يجري، وأعرض عن القوانين الدولية والقرارات العالمية، والتنديد الرسمي والانتفاضة الشعبية، مواصلا قصفه وإجرامه وقتله للأطفال والشيوخ والنساء والصحفيين والأطباء والمؤسسات المدنية والإغاثية، بحجة أنه يتصرف وفق مصالح شعبه وحفظ أمنه القومي، ولا عزاء للمدنيين، ولا اعتبار للنداءات العالمية والقرارات الدولية.
أقول في ظل هذا كله نريد أن نستروح في ظلال رحمات الله تعالى، ونسترجع مدى سعة هذه الرحمة، ونتدارس صورها وطبيعتها وأبعادها، استكمالا لما بدأناه من حديث عن الرحمة، ومقارنة بين هذا الإجرام الذي نشاهده، وبين مقتضى رحمة الله تعالى وما تستوجبه معتمدا في بيانها على كلام المفسرين وبخاصة في ظلال القرآن، وتتجلى رحمة الله تعالى في صور عديدة نذكر منها ما يلي:

الصورة الأولى: إرسال الرسل وإنزال الكتب
فلم يشأ الله تعالى أن يترك البشر هملا أو يدعهم سدى، فكان من رحمته أن أرسل لهم الرسل رحمة بهم وحرصا عليهم وإرشادا لهم، ولو لم تكن هذه الرسالة عامة للناس كافة لكان للناس - ممن سيأتون من أجيال وأمم - حجة على الله . فانقطعت هذه الحجة بالرسالة العامة للناس وللزمان، " رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ". النساء: 165. وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ..". التوبة : 61. فوصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للمؤمنين يريد الخير لهم.
وقال عنه: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ". الأنبياء : 107. ولقد أرسل الله رسوله رحمة للناس كافة ليأخذ بأيديهم إلى الهدى ، وما يهتدي إلا أولئك المتهيئون المستعدون . وإن كانت الرحمة تتحقق للمؤمنين ولغير المؤمنين . .
إن المنهج الذي جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم منهج ـ كما يعبر صحاب الظلال ـ يُسعد البشرية كلها ويقودها إلى الكمال المقدر لها في هذه الحياة .
ولقد جاءت هذه الرسالة للبشرية حينما بلغت سن الرشد العقلي : جاءت كتاباً مفتوحاً للعقول في مقبل الأجيال ، شاملاً لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل ، مستعداً لتلبية الحاجات المتجددة التي يعلمها خالق البشر ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .
ولقد وضع هذا الكتاب أصول المنهج الدائم لحياة إنسانية متجددة . وترك للبشرية أن تستنبط الأحكام الجزئية التي تحتاج إليها ارتباطات حياتها النامية المتجددة ، واستنباط وسائل تنفيذها كذلك بحسب ظروف الحياة وملابساتها ، دون اصطدام بأصول المنهج الدائم .
وكفل للعقل البشري حرية العمل ، بكفالة حقه في التفكير ، وبكفالة مجتمع يسمح لهذا العقل بالتفكير . ثم ترك له الحرية في دائرة الأصول المنهجية التي وضعها لحياة البشر ، كيما تنمو وترقى وتصل إلى الكمال المقدر لحياة الناس في هذه الأرض .
ولكن ها هي ذي شيئاً فشيئاً تحاول أن تصل ولو نظرياً إلى شيء مما طبقة الإسلام عملياً منذ نيف وثلاث مائة وألف عام .
وغير هذا وذلك كثير يشهد بأن الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية وأن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما أرسل رحمة للعالمين . من آمن به ومن لم يؤمن به على السواء . فالبشرية كلها قد تأثرت بالمنهج الذي جاء به طائعة أو كارهة ، شاعرة أو غير شاعرة؛ وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة ، لمن يريد أن يستظل بها ، ويستروح فيها نسائم السماء الرخية ، في هجير الأرض المحرق وبخاصة في هذه الأيام .
وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها . وهي قلقة حائرة ، شاردة في متاهات المادية ، وجحيم الحروب ، وجفاف الأرواح والقلوب.

وأما إنزال الكتب فهو رحمة من الله تعالى، فليس من المتصور أن يرسل الله الرسل دون أن ينزل معهم المنهج الذي يدعون الناس إليه، فكان من هنا إنزال الكتب رحمة بالرسل ورحمة بالبشرية كلها.
قال تعالى عن ألواح موسى: "وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ". الأعراف: 154.
ففي هذه الألواح هدى ، وفيها رحمة لمن يخشون ربهم ويرهبونه؛ فتتفتح قلوبهم للهدى، وينالون به الرحمة . . والهدى ذاته رحمة . فليس أشقى من القلب الضال ، الذي لا يجد النور . وليس أشقى من الروح الشارد الحائر الذي لا يجد الهدى ولا يجد اليقين . . ورهبة الله وخشيته هي التي تفتح القلوب للهدى؛ وتوقظها من الغفلة ، وتهيئها للاستجابة والاستقامة . . إن الله خالق هذه القلوب هو الذي يقرر هذه الحقيقة . ومن أعلم بالقلوب من رب القلوب؟

وقال عن التوراة: "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ" المائدة: 44.
فالتوراة - كما أنزلها الله - كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل ، وإنارة طريقهم إلى الله . وطريقهم في الحياة. . وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد. وتحمل شعائر تعبدية شتى. وتحمل كذلك شريعة: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا، للذين هادوا ، والربانيون والأحبار، بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء}.
أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونوراً للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب . ولكن كذلك لتكون هدى ونوراً بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله ، وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج.
وقال عن الإنجيل: "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ". المائدة: 46.
فقد آتى الله عيسى بن مريم الإنجيل ، ليكون منهج حياة ، وشريعة حكم . . ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعاً إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة . وقد جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، فاعتمد شريعتها - فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة . . وجعل الله فيه هدى ونوراً ، وهدى وموعظة . . ولكن لمن؟ { للمتقين } . فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة ، هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور؛ وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور . . أما القلوب الجاسية الغليظة الصلدة ، فلا تبلغ إليها الموعظة؛ ولا تجد في الكلمات معانيها؛ ولا تجد في التوجيهات روحها؛ ولا تجد في العقيدة مذاقها؛ ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب . . إن النور موجود ، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة ، وإن الهدى موجود ، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة ، وإن الموعظة موجودة ، ولكن لا يلتقطها إلا القلب الواعي .
وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونوراً وموعظة للمتقين ، وجعله منهج حياة وشريعة حكم لأهل الإنجيل . . أي إنه خاص بهم ، فليس رسالة عامة للبشر - شأنه في هذا شأن التوراة وشأن كل كتاب وكل رسالة وكل رسول.
وقال عن القرآن: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ .وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ". النمل: 76-77. وقال: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا". الإسراء: 82. ففي القرآن شفاء ، وفي القرآن رحمة ، لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان ، فأشرقت وتفتحت لتلقي ما في القرآن من روْح ، وطمأنينة وأمان .
في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة . فهو يصل القلب بالله ، فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن؛ ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة؛ والقلق مرض ، والحيرة نصب ، والوسوسة داء، ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان . . وهي من آفات القلب تصيبه بالمرض والضعف والتعب ، وتدفع به إلى التحطم والبلى والانهيار . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير . فهو يعصم العقل من الشطط ، ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة ، ويكفه عن إنفاق طاقته فيما لا يجدي ، ويأخذه بمنهج سليم مضبوط ، يجعل نشاطه منتجاً ومأموناً . ويعصمه من الشطط والزلل . كذلك هو في عالم الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليماً معافى ويدخر طاقاته للإنتاج المثمر . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء الجماعات ، وتذهب بسلامتها وأمنها وطمأنينتها . فتعيش الجماعة في ظل نظامه الاجتماعي وعدالته الشاملة في سلامة وأمن وطمأنينة . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وهكذا إرسال الرسل وإنزال الكتب يمثل رحمة بكل شيء، رحمة بالرسل، ورحمة بالناس، ورحمة بالرسالات، رحمة في الدنيا، ورحمة في الآخرة.

الصورة الثانية: إنزال المطر
ومن صور رحمة الله تعالى إنزال المطر ، قال تعالى: "وهو الذي يرسل الرياح ، بشراً بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ، فأخرجنا به من كل الثمرات". الأعراف: 57.
إنها آثار الربوبية في الكون . آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير . وكلها من صنع الله؛ الذي لا ينبغي أَن يكون للناس رب سواه . وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد .
وفي كل لحظة تهب ريح . وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً . وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء .
ولكن ربط هذا كله بفعل الله - كما هو في الحقيقة - هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة ، كأن العين تراه .
إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته . والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون - فما كان الكون لينشئ نفسه ، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه! - ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون - ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله - إنما يقع ويتحقق - وفق الناموس - بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع . وأن الأمر القديم بجريان السنة ، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة . فإرسال الرياح - وفق النواميس الإلهية في الكون - حدث من الأحداث ، يقع بمفرده وفق قدر خاص .
والحياة على هذه الأرض كلها تعيش على ماء المطر إما مباشرة ، وإما بما ينشئه من جداول وأنهار على سطح الأرض . ومن ينابيع وعيون وآبار من المياه الجوفية المتسربة إلى باطن الأرض منه ، ولكن الذين يعيشون مباشرة على المطر هم الذين يدركون رحمة الله الممثلة فيه إدراكاً صحيحاً كاملاً . وهم يتطلعون إليه شاعرين بأن حياتهم كلها متوقفة عليه ، وهم يترقبون الرياح التي يعرفونها تسوق السحب ، ويستبشرون بها؛ ويحسون فيها رحمة الله إن كانوا ممن شرح الله صدورهم للإيمان .
والرياح ، مهما قيل في أسبابها الفلكية والجغرافية ، تابعة للتصميم الكوني الأول ، الذي يسمح بجريانها على النحو الذي تجري به ، حاملة السحب من مكان إلى مكان ، مبشرة بالمطر الذي تتجلى فيه رحمة الله ، وهو سبب الحياة .
وقال تعالى: "وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ، وينشر رحمته ، وهو الولي الحميد". الشورى: 28. وهذه لمسة أخرى كذلك تذكرهم بجانب من فضل الله على عباده في الأرض . وقد غاب عنهم الغيث ، وانقطع عنهم المطر ، ووقفوا عاجزين عن سبب الحياة الأول . . الماء . . وأدركهم اليأس والقنوط . ثم ينزل الله الغيث ، ويسعفهم بالمطر ، وينشر رحمته ، فتحيا الأرض ، ويخضر اليابس ، وينبت البذر ، ويترعرع النبات ، ويلطف الجو ، وتنطلق الحياة ، ويدب النشاط ، وتنفرج الأسارير ، وتتفتح القلوب ، وينبض الأمل ، ويفيض الرجاء . . وما بين القنوط والرحمة إلا لحظات . تتفتح فيها أبواب الرحمة . فتتفتح أبواب السماء بالماء . . { وهو الولي الحميد } . . وهو النصير والكافل المحمود الذات والصفات . .
واللفظ القرآني المختار للمطر في هذه المناسبة . . { الغيث } . . يلقي ظل الغوث والنجدة ، وتلبية المضطر في الضيق والكربة . كما أن تعبيره عن آثار الغيث . . { وينشر رحمته } . . يلقي ظلال النداوة والخضرة والرجاء والفرح ، التي تنشأ فعلاً عن تفتح النبات في الأرض وارتقاب الثمار . وما من مشهد يريح الحس والأعصاب ، ويندّي القلب والمشاعر ، كمشهد الغيث بعد الجفاف . وما من مشهد ينفض هموم القلب وتعب النفس كمشهد الأرض تتفتح بالنبت بعد الغيث ، وتنتشي بالخضرة بعد الموات .

الصورة الثالثة: تسخير الكائنات
ومن رحمة الله بالإنسان وتيسيره له أن سخر له كل ما في السموات وما في الأرض، قال تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ". الجاثية: 13.
فسخر لنا الأنعام فقال: "5.وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَّمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
6.وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ". النحل: 5-7.
وسخر لنا من رحمته الفلك في البحر فقال: "رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا". الإسراء: 66.
وسخر لنا من رحمته أيضا الليل والنهار فقال: "73.وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". النمل: 73.
إن هذا المخلوق الصغير . . الإنسان . . يحظى من رعاية الله سبحانه بالقسط الوافر ، الذي يتيح له أن يسخر الخلائق الكونية الهائلة ، وينتفع بها على شتى الوجوه . وذلك بالاهتداء إلى طرف من سر الناموس الإلهي الذي يحكمها ، والذي تسير وفقه ولا تعصاه! ولولا هذا الاهتداء إلى طرف السر ما استطاع الإنسان بقوته الهزيلة المحدودة أن ينتفع بشيء من قوى الكون الهائلة؛ بل ما استطاع أن يعيش معها؛ وهو هذا القزم الصغير ، وهي هذه المردة الجبابرة من القوى والطاقات والأحجام والأجرام .
والبحر أحد هذه الجبابرة الضخام التي سخرها الله للإنسان ، فهداه إلى شيء من سر تكوينها وخصائصها؛ عرف منه هذه الفلك التي تمخر هذا الخلق الهائل ، وهي تطفو على ثبج أمواجه الجبارة ولا تخشاها! { لتجري الفلك فيه بأمره } . . فهو سبحانه الذي خلق البحر بهذه الخصائص ، وخلق مادة الفلك بهذه الخصائص ، وجعل خصائص الضغط الجوي ، وسرعة الرياح وجاذبية الأرض . . وسائر الخصائص الكونية الأخرى مساعدة على أن تجري الفلك في البحر . وهدى الإنسان إلى هذا كله فأمكنه أن ينتفع به ، وأن ينتفع كذلك بالبحر في نواح أخرى : { ولتبتغوا من فضله } كالصيد للطعام وللزينة ، وكذلك التجارة والمعرفة والتجربة والرياضة والنزهة؛ وسائر ما يبتغيه الحي من فضل الله في البحار .
سخر الله للإنسان البحر والفلك ، ليبتغي من فضل الله؛ وليتجه إليه بالشكر على التفضل والإنعام ، وعلى التسخير والاهتداء : { ولعلكم تشكرون } . . وهو يوجه قلبه بهذا القرآن إلى الوفاء بهذا الحق ، وإلى الارتباط بذلك الأفق ، وإلى إدراك ما بينه وبين الكون من وحدة في المصدر ووحدة في الاتجاه، إلى الله . .
ومن تخصيص البحر بالذكر إلى التعميم والشمول . فلقد سخر الله لهذا الإنسان ما في السماوات وما في الأرض ، من قوى وطاقات ونعم وخيرات مما يصلح له ويدخل في دائرة خلافته : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } . .
فكل شيء في هذا الوجود منه وإليه؛ وهو منشئه ومدبره؛ وهو مسخره أو مسلطه . وهذا المخلوق الصغير . . الإنسان . . مزود من الله بالاستعداد لمعرفة طرف من النواميس الكونية . يسخر به قوى في هذا الكون وطاقات تفوق قوته وطاقته بما لا يقاس! وكل ذلك من فضل الله عليه . وفي كل ذلك آيات لمن يفكر ويتدبر؛ ويتبع بقلبه وعقله لمسات اليد الصانعة المدبرة المصرفة لهذه القوى والطاقات.

الصورة الرابعة: رفع البلاء
ومن صور رحمة الله أنه يرفع البلاء عن الناس، قال تعالى عن هود: "72.فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ". الأعراف: 72.
وقال عن صالح: "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ". هود: 66.
وقال عن شعيب: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ". هود: 94.
"وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ". الأنبياء: 83- 84.
في اللحظة التي توجه فيها أيوب إلى ربه بهذه الثقة وبذلك الأدب كانت الاستجابة ، وكانت الرحمة ، وكانت نهاية الابتلاء: {فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر ، وآتيناه أهله ومثلهم معهم}.
رفع عنه الضر في بدنه فإذا هو معافى صحيح. ورفع عنه الضر في أهله فعوضه عمن فقد منهم ، ورزقه مثلهم. وقيل هم أبناؤه فوهب الله له مثليهم. أو أنه وهب له أبناء وأحفاداً.
{رحمة من عندنا} فكل نعمة فهي رحمة من عند الله ومنة. {وذكرى للعابدين}. تذكرهم بالله وبلائه ، ورحمته في البلاء وبعد البلاء . وإن في بلاء أيوب لمثلاً للبشرية كلها؛ وإن في صبر أيوب لعبرة للبشرية كلها . وإنه لأفق للصبر والأدب وحسن العاقبة تتطلع إليه الأبصار.
والإشارة {للعابدين} بمناسبة البلاء إشارة لها مغزاها. فالعابدون معرضون للابتلاء والبلاء . وتلك تكاليف العبادة وتكاليف العقيدة وتكاليف الإيمان. والأمر جد لا لعب. والعقيدة أمانة لا تسلم إلا للأمناء القادرين عليها، المستعدين لتكاليفها وليست كلمة تقولها الشفاه، ولا دعوى يدعيها من يشاء. ولا بد من الصبر ليجتاز العابدون البلاء.

الصورة الخامسة: رفع الحرج
ومن صور رحمة الله بعباده أنه يرفع عنهم الحرج، وهذا واضح جدا في التشريع، تشريع العبادات، والمعاملات، وكل ما في معناه.
فلقد أحل الشرع أكل الميتة للمضطر، وهناك إعذار المرضى والضعفاء عن الجهاد، والتخفيف عن كبار السن والمرضى برفع الصيام عنهم وإيجاب الفدية، وأوضاع الصلاة المختلفة لأصحاب الأعذار والمرضى، ورفع الزكاة عمن لم يبلغ ماله النصاب، والحج عن غير المستطيع، وهكذا.

الصورة السادسة: قبول التوبة
ومن صور رحمة الله بعباده أنه يقبل توبتهم ويتوب عليهم ويرحمهم لا سيما إن عملوا صالحا وأصلح من بعد ظلمه، فقد تاب الله على آدم فقال: "فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". البقرة: 37. وقرر الله أنه غفور رحيم لمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فقال: " فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". المائدة: 39.
وذكر أن من رحمته قبول توبة عباده: "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". التوبة: 104.
وهو استفهام تقريري يفيد: فليعلموا أن الله هو يقبل التوبة؛ والله هو يأخذ الصدقة ، والله هو يتوب ويرحم عباده . . وليس شيء من هذا لأحد غيره سبحانه . . » وأن نبي الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزوة معه؛ وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك ، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك إلى الله تعالى ذكرُه دون محمد .
وقال تعالى مناديا عباده، ويا له من نداء ندي حبيب: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". الزمر: 58.
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية . كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة . دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله . إن الله رحيم بعباده . وهو يعلم ضعفهم وعجزهم . ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه . ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد . ويأخذ عليهم كل طريق . ويجلب عليهم بخيله ورجله . وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه . وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده . وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم . .
يعلم الله سبحانه عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون؛ ويوسع له في الرحمة؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط . وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط ، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم}.
وليس بينه وقد أسرف في المعصية، ولج في الذنب، وأبق عن الحمى، وشرد عن الطريق ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية، وظلالها السمحة المحيية. ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة. التوبة وحدها. الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون}.

الصورة السابعة: منح الإنسان ذرية صالحة
ومن صور رحمة الله بعباده أنه يمنحهم ذرية صالحة طيبة، قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام: "ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب". ص: 43.
وتقول بعض الروايات : إن الله أحيا له أبناءه ووهب له مثلهم ، وليس في النص ما يحتم أنه أحيا له من مات . وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين . وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية . مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدراك .
والمهم في معرض القصص هنا هو تصوير رحمة الله وفضله على عباده الذين يبتليهم فيصبرون على بلائه وترضى نفوسهم بقضائه .
فأما قسمه ليضربن زوجه. فرحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته وصبرت على بلائه وبلائها به ، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده . فيضربها به ضربة واحدة . تجزئ عن يمينه ، فلا يحنث فيها: {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث}..
هذا التيسير ، وذلك الإنعام ، كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء: {إنا وجدناه صابراً ، نعم العبد ، إنه أوّاب}..

فهل بعد هذه الرحمة رحمة؟ وهل بعد هذه الصور صور؟ أليس في هذا مزدجر ومعتبر لقادة العالم الذين يقودونه إلى حافة الهاوية والدمار والخراب والتقتيل والتشريد؟
إن الله تعال لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يراجع في شيء، ولا يصادر في تشريع أو حكم سواء كان أمرا أو نهيا، ومع هذا فرض على نفسه شيئا، وحرم على نفسه شيئا آخر.
فرض الله على نفسه الرحمة فقال: "كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ". الأنعام: 12. وقال: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ". الأنعام: 54.
وحرم على نفسه الظلم، فعن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال "يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما. فلا تظالموا". [من حديث رواه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب. باب تحريم الظلم].
إن ما يجري من حولنا اليوم ليُسقط كل دعاوى السلام والحوار والتقارب والتعايش، ولا يُبقي إلا لغة واحدة: هي لغة القوة، ويلغي كل الطرق ولا يُبقى إلا طريقة واحدة: هي طريقة المصالح. فليرجع العالم إلى رشده، ولتتبنى قيادات الإرهاب سبيل الرحمة، وإلا سيكون البديل الإرهاب والعنف والدمار والخراب!!.
مجلة العالمية شهر صفر 1430هـ/فباير 2009م

ليست هناك تعليقات: