الثلاثاء، 10 فبراير 2009

بين الآباء والأبناء ...تجارب واقعية


بين الآباء والأبناء ...تجارب واقعية

عرض/وصفي عاشور أبو زيد
يطالعنا الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا، الفقيه الأصولي، والسياسي القانوني، والمفكر الإسلامي بكتاب جديد يعبر عن اهتمام لم يعهده عليه قارئوه ومحبوه ومتابعو نشاطه، وهو مجال تربية الأبناء في كتابه بعنوان: "بين الآباء والأبناء، تجارب واقعية". الذي لا يعتبر ـ كما يقول هو ـ شرحا نظريا ولا تأملا فلسفيا في العلاقة بين الآباء والأبناء أو بين المربين والمتلقين عنهم، "ولكنه تجارب واقعية أكثرها شخصي رأيت ثمرتها القريبة فاطمأننت إلى صحتها في المدى البعيد، وعلمت أن الاحتفاظ بها لنفسي من الشح المذموم، فكتبتها متفرقة في أوقات متقاربة ومتباعدة". وهو عبارة عن مقالات نشرت في عدد من الإصدارات نقحها وأضاف إليها ثم جمعها في هذا الكتاب.

مداخل متعددة للإصلاح
ومن أهم ما جاء في الكتاب وأقوى ما ورد فيه مقدمته التي أودعها مدخلا مهما عن طريق الإصلاح والتغيير عبر عرضه لرؤى المصلحين واتجاهات الدعاة في مناهج الإصلاح والطريق الصحيحة لها.
فمنهم من يتجه وجهة إصلاح شئون المال والاقتصاد باعتباره عصب الحياة وقوامها، ومنهم من يوجه جهده الإصلاحي في اتجاه العمل السياسي والشعبي باعتبار أن حق الأمة في المشاركة في إدارة شئونها حق أصيل كفلته نصوص القرآن والسنة، وهناك من يجعل أكبر همه إصلاح أحوال الأسرة المسلمة خشية أن يصيبها ما أصاب الأسرة الغربية ـ في مجملها ـ من انهيار وتفكك، ومنهم من يرى توجيه جهده إلى إصلاح نظم الإعلام وأجهزته المتنوعة، باعتبار أن أثرها أكثر من أي جهاز آخر لوجودها في كل بيت، وينتهي الدكتور العوا إلى أنه ما من شك في أن معنى الإصلاح الذي نتطلع إليه يشمل ذلك كله، ويشمل غيره مما تتجه إليه همم الدعاة والمصلحين.

من أين يبدأ الإصلاح؟
ويطرح الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سؤالا مهما كثيرا ما يلح على النفس في هذا الصدد، وهو: من أين يبدأ الإصلاح؟ وإذا كنا نريد إصلاحا شاملا لا يدع من حياة الأمة جانبا إلا أصابه بماء الحياة، ورد إليه روح القوة والعزة، فكيف نبدأ خطتنا له؟ وأي أرض نستنبت فيه بذوره الأولى؟
وينتهي إلى إجابة حاسمة بعد تردد وتأمل طويلين إلى أن أساس النجاح في كل مخططات الإصلاح هو الإنسان، وأن المرحلة التي يتوجب علينا أن نوجه إليها جهودنا كي تؤتي ثمارها تبدأ بإصلاح التربية التي نمارسها مع أطفالنا وناشئتنا.
لكن الدكتور العوا يعترف بأن هذه الإجابة تعني في حقيقتها اتخاذ منهج صعب، وذي أمد طويل يغلب على الظن ألا يرى أصحابه ثمرته ولا يدركوا وقت قطافها لكنهم واثقون أن غرسهم ـ بإذن الله ـ مثمر، وأن شجرتهم ثابتة الأصل باسقة الفروع.
فأما أنه منهج صعب فلأنه يقتضي أن يغير الكبار من الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات والمسئولين في مختلف المواقع ـ في أنفسهم ما شابو عليه من منهج في معاملة الناشئة يتسم بالإهمال والإفراط في القسوة والشدة؛ ولأنه يقتضي مراجعة دائمة لمدى نجاحه وإخفاقه ومتابعة ما وصل إليه المربِّي والمربَّى من مراحل.
وأما أنه منهج طويل فلأنك إن بدأت به اليوم فلا تدري متى ترى ثمرته، فقد تنضجها عشر سنين أو عشرون أو تزيد عن ذلك.
ونتيجة طبيعية لصعوبة هذا الطريق وطول مداه فقد أعرض عنه كثير من الناس، وغفل كثير من المفكرين عن إيلائه ما يستحقه من اهتمام وتقدير بيد أنه ممكن ومجرب تجربة قابلة دائما للتكرار.

أهمية الآباء والأمهات
ويقرر د. العوا أنه إذا كانت التأثيرات كثيرة ومتنوعة على الأسرة فإن تأثير الآباء والأمهات أبقى وأفعل في نفوس الأولاد من كل تأثير سواه؛ ولذلك كان على دعاة الإصلاح أن يولوا هذا الجانب أهميته ولا يملوا من تكراره والإلحاح عليه، وأن يفعلوا ذلك فيمن يليهم من أهليهم وذوي قرباهم، وهكذا، حتى يستمر النفع بهذا المنهج ويؤتي أكله وثمرته.
وإذا كان البيت العربي يعاني معاناة لا يملك منصف أن ينكرها أو يغفل عنها جراء العوامل الخارجية من استعمار غربي وعداوة صليبية وطغيان مستمر وإعلام وصحافة تقدم الحقائق مشوشة متلبسة بالباطل، فإن ذلك لا يعتبر سببا كافيا يفسر ما وصلت إليه أوضاع الأسرة المسلمة التي لولا استسلمت لهذه التيارات، بل أخذت قيمها ومثلها ـ في كثير من الأحيان ـ منها، لما فعلت هذه العوامل فعلها في البيت العربي بمعنييه الكبير والصغير.
ومن هنا يؤكد د. العوا أن اتخاذ التربية بصورتها الأولية الأسرية طريقا للتغيير يقتضي استشعار كل أسرة مسئوليتها الكاملة عن الآفات المجتمعية السائدة كلها، ويقتضي تكاتف كل أسرة لمواجهة هذه الآفات المجتمعية في أبنائها وبناتها وأنفسها؛ ليخلص مجتمعها الصغير أولا من آثارها، ثم ليتكاتف البُرءَاءُ من المرض الاجتماعي لنشر العافية، بدلا من أن يسهموا بسكوتهم واستكانتهم في نشر البلاء واتساع نطاق الدواء.

طريقان للتغيير
ويوضح د. العوا أن للتغير هنا طريقين: الأول: خارجي، ويكون بمواجهة أصحاب هذه الآفات والمنكرات والأخذ على أيديهم ومنعهم من تثبيت أسباب التخلف والهوان اللذين نعانيهما، والثاني: طريق داخلي: بإعادة صياغة النفوس وصناعتها من جديد، بحيث ترفض الأمة ما يقدم إليها من أسباب الفساد والانحراف والتبعية والتخلف مهما حاول أصحابه تزيينه وتجميله.
ولأن الطريق الأول ليس ممكنا لكل أحد، ولا هو مأمون العواقب في كل مكان وفي كل حال يقرر د. العوا أنه لابد من سلوك الطريق الثاني الذي لا يكاد يعجز عنه إنسان أيا كان موقعه وأيا كانت دائرة تأثيره ومسئوليته، وهو طريق مضمون النجاح مهما كان صعبا وطويلا.

قسمات قرآنية ونبوية للمنهج
وحتى لا يكون الكلام مجردا بيَّن مفكرنا الإسلامي أن لهذا المنهج قسمات قرآنية ونبوية ظاهرة، فقد ربى القرآن الكريم أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على معانٍ وقسمات هي أهم ما نحتاج إليه لإعادة بناء الأمة العربية والإسلامية لتخرج من محنتها الحاضرة، ومن هذه القسمات:
ـ التوحيد؛ حيث إن القرآن الكريم يربي على التوحيد الذي يعني فيما يعنيه أن الإنسان ليس عبدا إلا لله تبارك وتعالى، والتربية على التوحيد علاج ناجع لكل أدواء القهر والطغيان والاستبداد وما يورثه ذلك من رياء ونفاق وغير ذلك.
ـ الصدق، فالقرآن يربي على الصدق؛ فقد أصبح الكذب آفة من آفاتنا الكبرى التي لا ينجو منها إلا من عصم الله، ولهذا يأمرنا القرآن بالصدق، ويحذرنا من الكذب سواء كان كذبا على الله أم على الناس.
ـ طهارة النفس وسلامة القلب، وهما جماع الفضائل كلها، وحجاب السيئات كلها، فتزكية النفس وسلامة القلب وردا كثيرا في القرآن الكريم.
ـ التحكم في الأهواء، فالقرآن يدعو إلى تحكم الإنسان في نفسه وأن يمنعها اتباع الهوى، ويبين جزاء ذلك ومثوبته عند الله.
وهكذا ربى القرآن الكريم على عشرت المبادئ وبين كثيرا من القسمات التي يجب أن نتبعها في طريق التربية والبناء، وقد صنع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الصنيع حينما وضع هذا الهدي موضع التنفيذ العملي والممارسات التطبيقية في واقعه بين أصحابه وأتباعه، فتحولوا من عبدة أوثان إلى أئمة توحيد، ومن وائدي بنات إلى أعظم حماة لحقوق الإنسان، ولم يهدم النبي شيئا من أوضاع العرب الجاهليين إلا ما كان فاسدا فسادا تاما، وكان مستعصيا على الإصلاح، وأبقى على ما لا يتعارض مع هذه القسمات.
كما أن للقيم التربوية أصولا سبعة تطالع الناظر في نصوص الإسلام يجب على الآباء والأمهات العناية بها، وهي: الإيمان، والتقوى، والإخوة، والرحمة، والإيثار، والعفو، والجرأة في الحق.
وما أحوج واقعنا المعاصر إلى أن ينهل من هذه القسمات وهذه القيم التربوية ليرأب الصدع ويسد الرتق الذي وقع بفعل التيارات الهدامة وبفعل إهمالنا ونسياننا لهذه القسمات، يقول الدكتور العوا في كلمات بليغة: "إن سفينة المجتمع العربي الإسلامي المعاصر قد جرَتْ بها أنواء سوء غريبة، فأخرجتها من مياه بحرها الطبيعي الذي تعهده وتعرف مسارها فيه، ونحن اليوم نتعامل مع سفينة أضر بجسمها طول السفر بلا هدى، والرسو في غير مرفإ، ومع الآثار النفسية السيئة التي تركها التيه في نفس ربانها، وفي نفوس ملاحيها وركابها على السواء، وإصلاح جسم السفينة يحتاج إلى نوع من الخشب الأصلي الذي صنع منه بناؤها. وإصلاحُ نفوس ربانها وملاحيها وركابها لا يكون إلا بدواء يناسب طبيعة الأرض ومكونات البيئة؛ ليؤتي أحسن الأثر في أدنى زمن ممكن".

تجارب واقعية
ومن أمتع ما في الكتاب وأهمه ـ وهو صلب الكتاب ـ ما أورده المؤلف من تجارب واقعية، يقصها ثم يبين ما فيها من سلبيات يجب تلافيها والتخلص منها، وما فيها من إيجابيات عبر مرحلة التربية والبناء يجب اتباعها والاهتمام بها.
ففي عصرنا يغلب طابع الانشغال على الآباء ـ والأمهات في كثير من الأحيان بحكم طبيعة العصر ـ ويترب على ذلك أن يكون هناك إهمال للأبناء بحجة عدم توفر الوقت، ويسوق د. العوا تجربته هنا بأن الآباء يجب في هذه الحال أن يستغلوا وقت الطعام، ووقت الذهاب للمدارس وغيرها مع الأبناء وأبناء الأصدقاء، فقد وجد ذلك فرصة طيبة لبث الثقافات والمعاني التربوية المهمة من خلال ما قصه، واكتشف خلال هذه الأوقات أن الصغار إذا لم يجدوا إجابات عند الكبار لما يشغلهم وقعوا في أمرين: إما أن يتلقوا الجواب من أقرانهم والذين لا يفوقونهم علما، واحتمال خطأ الإجابة وارد، وإما أن يخترعوا هم جوابا ويصدقوه على أنه الحقيقة، وربما كان خطأ مما يصعب علاجه وبخاصة إذا مرت عليه سنوات فأصبح لديهم كالعقائد الراسخة.
وعن العلاقة التي تربط الآباء بالأبناء يقرر د. العوا أنها لا يجوز أن تكون علاقة الشرطي بالمشتبه فيه، يلاحقه ويخطئه ويأمره وينهاه ويعنفه حتى تكون النتيجة أن يكثر خطؤه ويقل صوابه وتزداد صفحته سوادا وتقل أو تنعدم ثقته بنفسه، ولا يشعر الآباء أنهم بهذه الطريقة يفقدون علاقتهم بأبنائهم شيئا فشيئا الذين تصبح لهم خصوصيات لا يُطْلعون عليها آباءهم، وقد يكون منها ما يؤدي إلى مفاسد مستشهدا بقصة طالب غضب عليه أبوه لعدم تلبيته رغبته في الكلية التي أراد أن يملي عليه دخولها، ومع تفوق الطالب في دراسته فإن الأب ظل مقاطعا له لمدة اثني عشر عاما.
وهكذا يمضي مفكرنا في سرد ست عشرة تجربة مستخلصا منها ما ينفع الناس ويمكث في الأرض عبر قصص وتجارب واقعية مشوقة تشد القارئ؛ حيث يجد فيها المعاني والقيم والقسمات في أسلوب لا يغلق الكتاب معه إلا ريثما ينتهي منه؛ لأنه في حديث التجارب الشخصية حين تختلط حقائق الحياة بحكمة المجرب بنتائج الواقع بمفارقات المواقف والأحوال، فالمتعة التي يجدها القارئ متعة يندر أن تدانيها متعة أخرى.
والكتاب بهذه الصورة وتلك القيمة لا يسع أي أسرة أن تستغنى عنه، وقد وعد مؤلفه الكريم في طبعات قادمة بتناول فصول عن العلاقة التربوية بين الأجداد والأحفاد، والمعلمين والتلاميذ، وتجربة الزواج للمرة الثانية، وعن المسائل الحرجة والحساسة في التربية، لا سيما تربية الصغار.
ولا يجوز لأي أحد ـ كما يقول د. العوا ـ أن يقعد عن أداء نصيبه بحجة عدم القدرة على مواجهة التيار الغالب؛ لأن الواجب لا يسقط بترك الناس له، والقيم الصحيحة لا تموت بانحراف الناس عنها، والإرادة الصادقة لا تعجز عن مواجهة القوى المخالفة مهما بدت طاغية ومسيطرة في لحظة زمنية بعينها، وعلى المقتنع بذلك أن يبدأ بنفسه وبمن يليه من أبنائه وبناته وأهله، وأن يصنع ذلك كما لو لم يكن في المجتمع صالح أو مصلح سواه، وهذا هو الواجب الواقع على عاتق كل أحد.


ليست هناك تعليقات: