التقريب بين السنة والشيعة...عقبات ومعوقات
وصفي عاشور أبو زيد
رغم أن فكرة التقريب ـ نظريا ـ انطلقت من الجانب الشيعي بكلام المرجع الشيعي الإيراني تقي الدين القُمّيّ، وتشكلت عمليا قبل أكثر من خمسين عاما فيما عرف بـ "دار التقريب" بالقاهرة السنية ـ بلد الأزهر الشريف ـ وكتب كلا الطرفين أدبيات رسخت الفكرة وعمقتها، وشرعت لها طريقها نحو التفعيل، وقام الطرف السني بمبادرات كثيرة ـ أقول رغم أن الفكرة بدت شيعية فإن إيران لم تقم بدور عملي "ملموس" في أرض الواقع يبرهن على مصداقيتها في هذه الدعوى، بل قامت في العراق بما أثار سخط الجميع، وأضاع ثقة الأوساط السنية بشأن دعواها للتقريب، إلى أن كانت الأزمة الأخيرة بين رموز الشيعة، ورمز السنة الأكبر الشيخ يوسف القرضاوي.
ونتيجة طبيعية لضعف هذه المصداقية لا نبعد عن الصواب إذا قررنا أن هذه الفكرة لم تلق من النجاح أو تؤتِ من الثمار ما يتناسب مع ما بذل فيها من جهود وأدبيات ومؤتمرات وندوات، ولقاءات مباشرة وغير مباشرة.
ويرجع عدم نجاح هذه الفكرة ـ في تقديري ـ إلى وجود عقبات وموانع لم تفتح للنقاش بجرأة إلا مؤخرا، بل كان كل ما يطرح حول مبادئ الوحدة وآداب الحوار وكيفية إدارة الخلاف وغير ذلك، وحينما طرحت هذه العقبات للنقاش أثارت غضب الطرف الشيعي مما أدى إلى أزمة أشبه بالقطيعة والتدابر، وهذا يدل على أن الحقائق مرة، وطَرْقَها مستفز، والكلام المعسول والمجاملات والمواءمات لن تغني في هذا الملف كثيرا ولا قليلا.
وقبل أن أذكر بعض هذه العقبات لابد من التأكيد على أن الإسلام دين الوحدة، ولا آكد في الإسلام من هذه الفريضة التي شرع لها الشرع ما يوجدها ويؤكدها ويحافظ على وجودها واستمرارها، وحرم كل ما يمكن أن يقوض هذه الوحدة أو يصيبها بضعف أو ترهل، وأغلظ النكير على القائمين بهذا، وفي القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ما يبلغ حد التواتر بما يغني عن إيراده والاستشهاد به!.
ومن هنا إن أردنا للتقريب النجاح والعافية فلابد من إدراك العقبات والموانع لكي يكون لنا منها موقف عملي حقيقي ملموس؛ لننطلق بمقتضاها، ونعمل على سبل تذليلها، وطرق ومناهج التغلب عليها، بعيدا عن معسول الكلام ومسك العصا من المنتصف، وإلا فلا داعي لبذل مزيد من الجهد في هذا الملف، ولن يكون أمام جميع الأطراف إلا إغلاقه تماما، ورأيت أن أقسم هذه العقبات إلى جانبين، الأول: جانب نظري أصولي، والثاني: جانب فرعي عملي.
الجانب الأول: عقبات أصولية نظرية:
يزعم بعض من لهم جهود في ملف التقريب بين السنة والشيعة أنه ليس بينهم خلاف في الأصول، وإنما كل الخلاف بينهم في الفروع فقط، وشتان بين الخلاف في الأصول والخلاف في الفروع، وإلا فأين يقع تكفير الصحابة ـ عدا سلمان وعليا والحسن وجعفر وحمزة ـ وسبّ عائشة أم المؤمنين ووصفها بأنها "البقرة"، ولعن الشيخين أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وادعاء تحريف كتاب الله تعالي، وادعاء مقام الإمامة لأئمتهم الإثني عشر، وأنهم يعلمون الغيب ولا يموتون إلا بعلمهم ورضاهم، وحسبنا ما أورده في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يعد أبرز من تصدى لهم على مر التاريخ، وبيَّن عقائدهم في كتابه: "منهاج السنة النبوية".
ولقد نبعت هذه الخلافات القوية من أنهم لا يحتكمون في الاستدلال النظري إلى عدد من القواعد والأصول التي تفضي إلى نتائج عقلية يتفق عليها الجميع، ومن هذه القواعد:
أولا: القواعد اللغوية:
وهي منهج ثابت عند الجميع في دلالة الألفاظ على أحكامها، وفي الاستدلال عموما من القرآن والسنة:
ـ فلم يقل أحد قديما ولا حديثا في تفسير قوله تعالى: "وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ". الزخرف: 4. لم يقل أحد بأن "لعلي" هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنما هو وصف للكتاب في الآيات قبله: "حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ".
ـ ولم يقل أحد في قوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً". البقرة: 67. بأن البقرة هي السيدة المبرأة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
ـ ولم يقل أحد في تفسير قوله تعالى: "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ". طه: 12. بأن المقصود بـ "النعلين" هما أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما.
لم يقل أحد بهذا سوى الشيعة، وهي تأويلات لا يقرها الشرع، ولا يثبتها التاريخ، ولا تسمح بها السياقات اللغوية ودلالاتها واستعمالاتها بأي وجه من الوجوه.
ثانيا: الحقائق العقلية والمسلمات البدهية:
فما ثبت لأحد النظيرين يجب أن يثبت لنظيره الآخر، ومن ثم فما ثبت لجعفر يجب أن يثبت لأبي بكر، وهو سابق عليه إسلاما بيقين، وما ثبت لحمزة يثبت لعمر؛ لأن عمر أسبق للإسلام من حمزة بيقين، وأبو بكر سابق للجميع، فكيف يكون أبو بكر "نعلا" ـ حاشاه ـ وحمزة وجعفر من الصحابة ـ عندهم ـ وهو أسبق منهم جميعا للإسلام؟!.
ومن المسلمات العقلية ألا نعتمد روايات مرسلة عن مجاهيل، سواء كانت الجهالة في الذات أو الصفات، فلا يقال: "حدثني الثقة" وهذا الثقة غير معروف عندهم، ومختلف فيه بينهم؟ ولا نقول: "حدثني قلبي عن ربي"...الخ.
ثالثا: اعتماد المنهج التاريخي:
ذلك أننا حين نعتمد المنهج التاريخي وحقائقه التاريخية، واعتماده أمر يشترك فيه كل البشر فضلا عن أهل الديانات، ناهيك عن مذاهب داخل الإسلام، وبخاصة الشيعة والسنة.
وباعتماد المنهج التاريخي والأخذ بحقائقه سيثبت لنا ـ يقينا ـ أن المهاجرين والأنصار الذين قال الله فيهم: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ". التوبة: 100. لم يكونوا خمسة فقط بل كانوا أضعافا مضاعفة.
وكذلك سيثبت لنا ـ يقينا ـ أن من قال الله في شأنه: "فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا". التوبة: 40. هذا الصاحب هو أبو بكر رضي الله عنه.
فكيف نلعن ونكفر من رضي الله عنهم، ومن عاصروا الرسول، وعايشوا التنزيل، واستأمنهم الله تعالى على نقل الدين وحمل أمانته؟؟!
الجانب الثاني: عقبات فرعية عملية:
إذا كان ما سبق موانع وعقباتٍ نظريةً أصولية في الاستدلال والبرهان فإن ما نورده الآن من حديث هو عقبات عملية تطبيقية، ولن يصح حديث عنها أو انتقال لها إلا إذا تمت معالجة الموانع الأصولية في الاستدلال والقضاء عليها في ضوء ما سبق من قواعد وحقائق يجب اعتمادها، وإلا فلن يكون فروع بلا أصول، أو تطبيق بلا تأصيل، كما لا يكون بنيان بلا أساس.
وكل العقبات الفرعية هنا إنما هي نتيجة طبيعية للأصول التي بنوا عليها هذه الفروع، مثل الأسانيد المرسلة التي يبنون عليها أحكاما، ويفرعون عليها شرعا.
وقد وضعوا هذه المناهج الأصولية في استنباط عقائدهم وعباداتهم ليتفق هذا مع مذهبهم السياسي الذي كان حصاد وقائع تاريخية شديدة، لو رجعنا إلى عصر الإسلام الذهبي قبل هذه الأحداث لما وجدنا لهذه الفروع ولا الأصول أثرا في واقع المسلمين.
ولكي تنضبط الفروع الشرعية والتطبيقات العملية والعبادات الإسلامية عند السنة والشيعة على السواء يجب أن نعتمد قواعد يأتي منها:
أولا: ما ذكره شيخنا العلامة د. يوسف القرضاوي في كتابه: "مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية" من مبادئ وآداب في التعامل، مثل: حسن الفهم، وحسن الظن، والتركيز على نقاط الاتفاق، والتحاور في المختلف فيه، وتجنب الاستفزاز، وعدم التكفير بلا موجب، والبعد عن شطط الغلاة، والمصارحة بالحكمة، والحذر من دسائس الأعداء، والتلاحم في وقت الشدة.
ثانيا: ألا يعبد الله إلا بما شرع:
فلا يعبد الله بما يشرعه مراجع الشيعة عن الإمام الغائب، ولا عن الحاخامات ولا القساوسة والباباوات وأصحاب القداسات والنيافات، إنما يعبد بما جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرآنا وسنة صحيحة.
ثالثا: الأعمال قلوب وجوارح معا:
فالإسلام قول وعمل، والإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، وعليه فإن مبدأ التقية المعمول به عند الشيعة يجب أن يخضع لهذه القاعدة، التي تستخدم في الأصل ـ بضوابطها ـ بين المسلمين والكافرين فقط، وليست بين المسلمين بعضهم وبعض.
رابعا: عدم الخروج على الجماعة:
بمعنى أنه في الشعائر الكبرى لا يصح الخروج على الجماعة في بلد واحد وفي جماعة وطنية واحدة، ومثال هذا: ما يحدث في الصيام كل عام عند بدء شهر الصيام وعند انتهائه، أو عند استطلاع هلال رمضان، وعند استطلاع هلال شوال، فانتماءات الشيعة الإمامية في كل مكان إلى إيران حتى لو تقدمت أو تأخرت عن البلد التي يحيون فيها يوما أو يومين أو ثلاثة.
وكذلك في شعيرة الحج، وهي التي تجمع الأمة كلها من المشارق والمغارب، كان الشيعة قبل سنوات قليلة يقفون على عرفات في يوم مخالف لأهل السنة؛ انطلاقا من استطلاع الهلال عند إيران، إلى أن منعتهم السلطات السعودية من ممارسة هذا الشذوذ.
خامسا: وزن الأشخاص بميزان الله والحكم عليهم بالظاهر:
فلا ينبغي أن نخضع الناس لأحكام الأهواء والشهوات والانطباعات البشرية، إنما نحكم عليهم بميزان الحق؛ فمن غلبت حسناتُه سيئاتِه، وُهبت سيئاته لحسناته، قال سعيد بن المسيب ـ رضي الله عنه ـ : "ليس من عالم ولا شريف ولا فاضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله". [التمهيد: 11/170].
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: "ثم إن الكبير من أئمة العلم، إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، تُغفر له زلته، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". [سير أعلام النبلاء: 5/271، وانظر: 16/285].
وليس لنا أن نتدخل في نوايا الناس، وما بينهم وبين ربهم، بل نحكم عليهم بالظاهر ونكل إلى الله السرائر؛ ولهذا نهى الله تعالى عن الظن لأنه لا يغني من الحق شيئا، وهذه من القواعد العامة في الشريعة.
فبعد أن أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرية لتأديب أهل فدك، قال أسامة استغفر لي يا رسول الله. فرد عليه النبي حزينا: "قتلت رجلا يقول لا إله إلا الله؟ كيف أنت إذا خاصمك يوم القيامة بلا إله إلا الله؟!" فقال أسامة: يا رسول الله إنما تعوذ من القتل. فقال له الرسول: "هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا أم لا". وظل النبي يردد أمامه وهو حزين: "أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله" حتى قال أسامة: وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر له المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ــ وأمره بعتق رقبة. [راجع مثلا: السيرة النبوية لابن كثير: 4/435].
سادسا: الاعتراف بالمسئولية الفردية فيما يصدر عن الإنسان:
فليس عندنا في الإسلام كهنوت، ولا سلطة في الإسلام إلا للشرع؛ فلا أحد يستطيع أن يجادل عن غيره أو نفسه أمام الله، أو أن يغفر أو يأجر، أو يضمن لنفسه ـ فضلا عن غيره ـ النجاة من عذاب الله أو دخول الجنة، وإنما هذا موكول إلى الله تعالى يوم القيامة، وراجع إلى عفوه وفضله ورحمته، وفي القرآن الكريم ما يؤيد هذه القاعدة بوضوح.
قال تعالى: "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ". الأنعام: 94. وقال: "وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً" . مريم: 95. وقال: "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ". المدثر: 38.
حتى أعز الخلق وأحبهم إلى الله تعالى لا يملك ذلك فكيف يدعي مرجع أو قسيس أو حاخام هذا من دون الله؟، عن أبي هُرَيْرَةَ قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ. قالوا ولا أنت يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: لَا ولا أنا إلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا ولا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكم الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا وأما مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ". [صحيح البخاري: (5349). ج5/2147].
فينبغي التأكيد على هذا المبدأ حتى لا يخضع أحد لأحد، ولا يذل فرد لآخر مهما كانت منزلته الدينية ومكانته العلمية، إنما ليس بين الله وبين أحد من خلقه حجاب أو واسطة: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ". البقرة: 186.
سابعا: الصدق في التعاطي مع ملف التقريب:
فلا يصح أن يتكلم الشيعة مع السنة كلاما في المؤتمرات والملتقيات ثم هم يمارسون بعدها ما يناقض كلامهم معهم، ويؤيدون مبادئ نظرية ثم هم يمارسون تطبيقيات تكذب تأييدهم.
وإذا كان المرحوم الشيخ محمود شلتوت أصدر فتوى شهيرة تقضي بأنه يجوز للمسلم السني أن يتعبد على المذهب الشيعي الإمامي، ومعظم علماء السنة المعتدلين يرفضون تكفير الشيعة ـ إلا ما يوجب التكفير ـ فلماذا لم يصدر عن مراجع الشيعة أو أحدهم حتى الآن فتاوى وبيانات لقواعدهم بجواز التعبد على أحد مذاهب أهل السنة، وهي أربعة، إن أرادوا التقريب حقا؟ بل إننا نجد كلاما للمرجع الشيعي الأشهر محمد حسين فضل الله ينفي هذا؛ حيث أجاب على سؤال يقول: هل يجوز التعبد في فروع الدين بالمذاهب السنية الأربعة، وكذلك بقية المذاهب غير الشيعية؟ فكان جوابه بالنص: "جواب: «لا يجوز التعبد بأي مذهب إسلامي غير مذهب أهل البيت عليهم السلام؛ لأنه المذهب الذي قامت عليه الحجة القاطعة". [مسائل عقدية: 110].
لكنه حين يسأل عن ذلك أمام الملأ يبتعد عن محل السؤال، ويتحدث عن المشترك بين السنة والشيعة، وعن الاجتهاد الفقهي، وعن الخطوط الاجتهادية، ولا يتجرأ على إصدار فتوى مقابلة.
ولماذا أيضا لم يُصدر أحدهم بيانا أو فتوى يلزم بها أتباعه أو قواعده بحرمة سب الصحابة ولعن أبي بكر وعمر وعائشة؟ ولماذا لم يصدروا فتوى بأن الذي يقول بتحريف القرآن أو بأن فيه زيادة أو نقصا فإن هذا قول قد يخرج صاحبه من الملة؟؟! أم أن التصريح بهذا الكلام في المؤتمرات لذر الرماد في العيون فقط، وتبقى المراجع مع قواعدها على ما هي عليه؟!.
وبعد هذه العقبات الأصولية والتطبيقية يجب أن يكون هناك صدق في الأخذ بها، والتعاون فيها، وفي كل ما يخدم القضية من قواعد متفق عليها عقليا وإنسانيا إذا أردنا لها فلاحا ونجاحا وثمارا عملية واقعية ملموسة، وإلا فلا إخال هذه القضية ـ بدون الأخذ جديًّا بذلك ـ إلا في عداد المحنة والبوار!.
وصفي عاشور أبو زيد
رغم أن فكرة التقريب ـ نظريا ـ انطلقت من الجانب الشيعي بكلام المرجع الشيعي الإيراني تقي الدين القُمّيّ، وتشكلت عمليا قبل أكثر من خمسين عاما فيما عرف بـ "دار التقريب" بالقاهرة السنية ـ بلد الأزهر الشريف ـ وكتب كلا الطرفين أدبيات رسخت الفكرة وعمقتها، وشرعت لها طريقها نحو التفعيل، وقام الطرف السني بمبادرات كثيرة ـ أقول رغم أن الفكرة بدت شيعية فإن إيران لم تقم بدور عملي "ملموس" في أرض الواقع يبرهن على مصداقيتها في هذه الدعوى، بل قامت في العراق بما أثار سخط الجميع، وأضاع ثقة الأوساط السنية بشأن دعواها للتقريب، إلى أن كانت الأزمة الأخيرة بين رموز الشيعة، ورمز السنة الأكبر الشيخ يوسف القرضاوي.
ونتيجة طبيعية لضعف هذه المصداقية لا نبعد عن الصواب إذا قررنا أن هذه الفكرة لم تلق من النجاح أو تؤتِ من الثمار ما يتناسب مع ما بذل فيها من جهود وأدبيات ومؤتمرات وندوات، ولقاءات مباشرة وغير مباشرة.
ويرجع عدم نجاح هذه الفكرة ـ في تقديري ـ إلى وجود عقبات وموانع لم تفتح للنقاش بجرأة إلا مؤخرا، بل كان كل ما يطرح حول مبادئ الوحدة وآداب الحوار وكيفية إدارة الخلاف وغير ذلك، وحينما طرحت هذه العقبات للنقاش أثارت غضب الطرف الشيعي مما أدى إلى أزمة أشبه بالقطيعة والتدابر، وهذا يدل على أن الحقائق مرة، وطَرْقَها مستفز، والكلام المعسول والمجاملات والمواءمات لن تغني في هذا الملف كثيرا ولا قليلا.
وقبل أن أذكر بعض هذه العقبات لابد من التأكيد على أن الإسلام دين الوحدة، ولا آكد في الإسلام من هذه الفريضة التي شرع لها الشرع ما يوجدها ويؤكدها ويحافظ على وجودها واستمرارها، وحرم كل ما يمكن أن يقوض هذه الوحدة أو يصيبها بضعف أو ترهل، وأغلظ النكير على القائمين بهذا، وفي القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ما يبلغ حد التواتر بما يغني عن إيراده والاستشهاد به!.
ومن هنا إن أردنا للتقريب النجاح والعافية فلابد من إدراك العقبات والموانع لكي يكون لنا منها موقف عملي حقيقي ملموس؛ لننطلق بمقتضاها، ونعمل على سبل تذليلها، وطرق ومناهج التغلب عليها، بعيدا عن معسول الكلام ومسك العصا من المنتصف، وإلا فلا داعي لبذل مزيد من الجهد في هذا الملف، ولن يكون أمام جميع الأطراف إلا إغلاقه تماما، ورأيت أن أقسم هذه العقبات إلى جانبين، الأول: جانب نظري أصولي، والثاني: جانب فرعي عملي.
الجانب الأول: عقبات أصولية نظرية:
يزعم بعض من لهم جهود في ملف التقريب بين السنة والشيعة أنه ليس بينهم خلاف في الأصول، وإنما كل الخلاف بينهم في الفروع فقط، وشتان بين الخلاف في الأصول والخلاف في الفروع، وإلا فأين يقع تكفير الصحابة ـ عدا سلمان وعليا والحسن وجعفر وحمزة ـ وسبّ عائشة أم المؤمنين ووصفها بأنها "البقرة"، ولعن الشيخين أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وادعاء تحريف كتاب الله تعالي، وادعاء مقام الإمامة لأئمتهم الإثني عشر، وأنهم يعلمون الغيب ولا يموتون إلا بعلمهم ورضاهم، وحسبنا ما أورده في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يعد أبرز من تصدى لهم على مر التاريخ، وبيَّن عقائدهم في كتابه: "منهاج السنة النبوية".
ولقد نبعت هذه الخلافات القوية من أنهم لا يحتكمون في الاستدلال النظري إلى عدد من القواعد والأصول التي تفضي إلى نتائج عقلية يتفق عليها الجميع، ومن هذه القواعد:
أولا: القواعد اللغوية:
وهي منهج ثابت عند الجميع في دلالة الألفاظ على أحكامها، وفي الاستدلال عموما من القرآن والسنة:
ـ فلم يقل أحد قديما ولا حديثا في تفسير قوله تعالى: "وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ". الزخرف: 4. لم يقل أحد بأن "لعلي" هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنما هو وصف للكتاب في الآيات قبله: "حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ".
ـ ولم يقل أحد في قوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً". البقرة: 67. بأن البقرة هي السيدة المبرأة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
ـ ولم يقل أحد في تفسير قوله تعالى: "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ". طه: 12. بأن المقصود بـ "النعلين" هما أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما.
لم يقل أحد بهذا سوى الشيعة، وهي تأويلات لا يقرها الشرع، ولا يثبتها التاريخ، ولا تسمح بها السياقات اللغوية ودلالاتها واستعمالاتها بأي وجه من الوجوه.
ثانيا: الحقائق العقلية والمسلمات البدهية:
فما ثبت لأحد النظيرين يجب أن يثبت لنظيره الآخر، ومن ثم فما ثبت لجعفر يجب أن يثبت لأبي بكر، وهو سابق عليه إسلاما بيقين، وما ثبت لحمزة يثبت لعمر؛ لأن عمر أسبق للإسلام من حمزة بيقين، وأبو بكر سابق للجميع، فكيف يكون أبو بكر "نعلا" ـ حاشاه ـ وحمزة وجعفر من الصحابة ـ عندهم ـ وهو أسبق منهم جميعا للإسلام؟!.
ومن المسلمات العقلية ألا نعتمد روايات مرسلة عن مجاهيل، سواء كانت الجهالة في الذات أو الصفات، فلا يقال: "حدثني الثقة" وهذا الثقة غير معروف عندهم، ومختلف فيه بينهم؟ ولا نقول: "حدثني قلبي عن ربي"...الخ.
ثالثا: اعتماد المنهج التاريخي:
ذلك أننا حين نعتمد المنهج التاريخي وحقائقه التاريخية، واعتماده أمر يشترك فيه كل البشر فضلا عن أهل الديانات، ناهيك عن مذاهب داخل الإسلام، وبخاصة الشيعة والسنة.
وباعتماد المنهج التاريخي والأخذ بحقائقه سيثبت لنا ـ يقينا ـ أن المهاجرين والأنصار الذين قال الله فيهم: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ". التوبة: 100. لم يكونوا خمسة فقط بل كانوا أضعافا مضاعفة.
وكذلك سيثبت لنا ـ يقينا ـ أن من قال الله في شأنه: "فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا". التوبة: 40. هذا الصاحب هو أبو بكر رضي الله عنه.
فكيف نلعن ونكفر من رضي الله عنهم، ومن عاصروا الرسول، وعايشوا التنزيل، واستأمنهم الله تعالى على نقل الدين وحمل أمانته؟؟!
الجانب الثاني: عقبات فرعية عملية:
إذا كان ما سبق موانع وعقباتٍ نظريةً أصولية في الاستدلال والبرهان فإن ما نورده الآن من حديث هو عقبات عملية تطبيقية، ولن يصح حديث عنها أو انتقال لها إلا إذا تمت معالجة الموانع الأصولية في الاستدلال والقضاء عليها في ضوء ما سبق من قواعد وحقائق يجب اعتمادها، وإلا فلن يكون فروع بلا أصول، أو تطبيق بلا تأصيل، كما لا يكون بنيان بلا أساس.
وكل العقبات الفرعية هنا إنما هي نتيجة طبيعية للأصول التي بنوا عليها هذه الفروع، مثل الأسانيد المرسلة التي يبنون عليها أحكاما، ويفرعون عليها شرعا.
وقد وضعوا هذه المناهج الأصولية في استنباط عقائدهم وعباداتهم ليتفق هذا مع مذهبهم السياسي الذي كان حصاد وقائع تاريخية شديدة، لو رجعنا إلى عصر الإسلام الذهبي قبل هذه الأحداث لما وجدنا لهذه الفروع ولا الأصول أثرا في واقع المسلمين.
ولكي تنضبط الفروع الشرعية والتطبيقات العملية والعبادات الإسلامية عند السنة والشيعة على السواء يجب أن نعتمد قواعد يأتي منها:
أولا: ما ذكره شيخنا العلامة د. يوسف القرضاوي في كتابه: "مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية" من مبادئ وآداب في التعامل، مثل: حسن الفهم، وحسن الظن، والتركيز على نقاط الاتفاق، والتحاور في المختلف فيه، وتجنب الاستفزاز، وعدم التكفير بلا موجب، والبعد عن شطط الغلاة، والمصارحة بالحكمة، والحذر من دسائس الأعداء، والتلاحم في وقت الشدة.
ثانيا: ألا يعبد الله إلا بما شرع:
فلا يعبد الله بما يشرعه مراجع الشيعة عن الإمام الغائب، ولا عن الحاخامات ولا القساوسة والباباوات وأصحاب القداسات والنيافات، إنما يعبد بما جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرآنا وسنة صحيحة.
ثالثا: الأعمال قلوب وجوارح معا:
فالإسلام قول وعمل، والإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، وعليه فإن مبدأ التقية المعمول به عند الشيعة يجب أن يخضع لهذه القاعدة، التي تستخدم في الأصل ـ بضوابطها ـ بين المسلمين والكافرين فقط، وليست بين المسلمين بعضهم وبعض.
رابعا: عدم الخروج على الجماعة:
بمعنى أنه في الشعائر الكبرى لا يصح الخروج على الجماعة في بلد واحد وفي جماعة وطنية واحدة، ومثال هذا: ما يحدث في الصيام كل عام عند بدء شهر الصيام وعند انتهائه، أو عند استطلاع هلال رمضان، وعند استطلاع هلال شوال، فانتماءات الشيعة الإمامية في كل مكان إلى إيران حتى لو تقدمت أو تأخرت عن البلد التي يحيون فيها يوما أو يومين أو ثلاثة.
وكذلك في شعيرة الحج، وهي التي تجمع الأمة كلها من المشارق والمغارب، كان الشيعة قبل سنوات قليلة يقفون على عرفات في يوم مخالف لأهل السنة؛ انطلاقا من استطلاع الهلال عند إيران، إلى أن منعتهم السلطات السعودية من ممارسة هذا الشذوذ.
خامسا: وزن الأشخاص بميزان الله والحكم عليهم بالظاهر:
فلا ينبغي أن نخضع الناس لأحكام الأهواء والشهوات والانطباعات البشرية، إنما نحكم عليهم بميزان الحق؛ فمن غلبت حسناتُه سيئاتِه، وُهبت سيئاته لحسناته، قال سعيد بن المسيب ـ رضي الله عنه ـ : "ليس من عالم ولا شريف ولا فاضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله". [التمهيد: 11/170].
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: "ثم إن الكبير من أئمة العلم، إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، تُغفر له زلته، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". [سير أعلام النبلاء: 5/271، وانظر: 16/285].
وليس لنا أن نتدخل في نوايا الناس، وما بينهم وبين ربهم، بل نحكم عليهم بالظاهر ونكل إلى الله السرائر؛ ولهذا نهى الله تعالى عن الظن لأنه لا يغني من الحق شيئا، وهذه من القواعد العامة في الشريعة.
فبعد أن أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرية لتأديب أهل فدك، قال أسامة استغفر لي يا رسول الله. فرد عليه النبي حزينا: "قتلت رجلا يقول لا إله إلا الله؟ كيف أنت إذا خاصمك يوم القيامة بلا إله إلا الله؟!" فقال أسامة: يا رسول الله إنما تعوذ من القتل. فقال له الرسول: "هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا أم لا". وظل النبي يردد أمامه وهو حزين: "أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله" حتى قال أسامة: وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر له المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ــ وأمره بعتق رقبة. [راجع مثلا: السيرة النبوية لابن كثير: 4/435].
سادسا: الاعتراف بالمسئولية الفردية فيما يصدر عن الإنسان:
فليس عندنا في الإسلام كهنوت، ولا سلطة في الإسلام إلا للشرع؛ فلا أحد يستطيع أن يجادل عن غيره أو نفسه أمام الله، أو أن يغفر أو يأجر، أو يضمن لنفسه ـ فضلا عن غيره ـ النجاة من عذاب الله أو دخول الجنة، وإنما هذا موكول إلى الله تعالى يوم القيامة، وراجع إلى عفوه وفضله ورحمته، وفي القرآن الكريم ما يؤيد هذه القاعدة بوضوح.
قال تعالى: "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ". الأنعام: 94. وقال: "وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً" . مريم: 95. وقال: "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ". المدثر: 38.
حتى أعز الخلق وأحبهم إلى الله تعالى لا يملك ذلك فكيف يدعي مرجع أو قسيس أو حاخام هذا من دون الله؟، عن أبي هُرَيْرَةَ قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ. قالوا ولا أنت يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: لَا ولا أنا إلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا ولا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكم الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا وأما مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ". [صحيح البخاري: (5349). ج5/2147].
فينبغي التأكيد على هذا المبدأ حتى لا يخضع أحد لأحد، ولا يذل فرد لآخر مهما كانت منزلته الدينية ومكانته العلمية، إنما ليس بين الله وبين أحد من خلقه حجاب أو واسطة: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ". البقرة: 186.
سابعا: الصدق في التعاطي مع ملف التقريب:
فلا يصح أن يتكلم الشيعة مع السنة كلاما في المؤتمرات والملتقيات ثم هم يمارسون بعدها ما يناقض كلامهم معهم، ويؤيدون مبادئ نظرية ثم هم يمارسون تطبيقيات تكذب تأييدهم.
وإذا كان المرحوم الشيخ محمود شلتوت أصدر فتوى شهيرة تقضي بأنه يجوز للمسلم السني أن يتعبد على المذهب الشيعي الإمامي، ومعظم علماء السنة المعتدلين يرفضون تكفير الشيعة ـ إلا ما يوجب التكفير ـ فلماذا لم يصدر عن مراجع الشيعة أو أحدهم حتى الآن فتاوى وبيانات لقواعدهم بجواز التعبد على أحد مذاهب أهل السنة، وهي أربعة، إن أرادوا التقريب حقا؟ بل إننا نجد كلاما للمرجع الشيعي الأشهر محمد حسين فضل الله ينفي هذا؛ حيث أجاب على سؤال يقول: هل يجوز التعبد في فروع الدين بالمذاهب السنية الأربعة، وكذلك بقية المذاهب غير الشيعية؟ فكان جوابه بالنص: "جواب: «لا يجوز التعبد بأي مذهب إسلامي غير مذهب أهل البيت عليهم السلام؛ لأنه المذهب الذي قامت عليه الحجة القاطعة". [مسائل عقدية: 110].
لكنه حين يسأل عن ذلك أمام الملأ يبتعد عن محل السؤال، ويتحدث عن المشترك بين السنة والشيعة، وعن الاجتهاد الفقهي، وعن الخطوط الاجتهادية، ولا يتجرأ على إصدار فتوى مقابلة.
ولماذا أيضا لم يُصدر أحدهم بيانا أو فتوى يلزم بها أتباعه أو قواعده بحرمة سب الصحابة ولعن أبي بكر وعمر وعائشة؟ ولماذا لم يصدروا فتوى بأن الذي يقول بتحريف القرآن أو بأن فيه زيادة أو نقصا فإن هذا قول قد يخرج صاحبه من الملة؟؟! أم أن التصريح بهذا الكلام في المؤتمرات لذر الرماد في العيون فقط، وتبقى المراجع مع قواعدها على ما هي عليه؟!.
وبعد هذه العقبات الأصولية والتطبيقية يجب أن يكون هناك صدق في الأخذ بها، والتعاون فيها، وفي كل ما يخدم القضية من قواعد متفق عليها عقليا وإنسانيا إذا أردنا لها فلاحا ونجاحا وثمارا عملية واقعية ملموسة، وإلا فلا إخال هذه القضية ـ بدون الأخذ جديًّا بذلك ـ إلا في عداد المحنة والبوار!.
مجلة الوعي الإسلامي عدد صفر 1430هـ/ فبراير 2009م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق