وحدة الأمة في رمضان.. مقصدًا شرعيًّا
وصفي عاشور أبو زيد
تحقيق الوحدة بين أبناء الأمة المسلمة من كبرى مقاصد هذا الدين، ومن أجل هذا أوجب الإسلام كل ما من شأنه أن يحقق هذه الوحدة ودعا إليه وحض عليه، وبيَّن عظيم الآثار وكريم العواقب التي تترتب على إتيان الواجبات التي تحقق للأمة وحدتها، وتضمن لها سلامتها وعافيتها، قال تعالى: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ". الأنبياء: 92. وقال: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ". المؤمنون: 52. وقال: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ...". آل عمران: 103. وقال: "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً". النساء: 175.
كما نهى ـ بل حرم ـ عن كل ما يمكن أن يفرق الأمة، ويفت في عضدها، أو يفرق جمعها، أو يوهِّن جسدها، أو يبطئ حركتها، وأبرز جسيم النتائج ووخيم المآلات التي تترتب على ارتكاب تلك المحظورات التي تفرق جمع الأمة وتفْرطُ عقدها المنظوم، قال تعالى: "وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ". آل عمران: 105. وقال: "وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". الأنفال: 46. وقال عز من قائل: "أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ". الشورى: 13.
الشعائر الكبرى ووحدة الأمة
وتعتبر الشعائر الإسلامية الكبرى من صلاة وزكاة وصيام وحج من أبرز التدابير الشرعية التي وضعها الشارع لتعزيز هذه الوحدة، وتأكيد القوة، والعمل على استمرارها وامتدادها في واقع الأمة الحاضر والمستقبل، وهذا يحتاج إلى تأصيل وتفصيل في مقام آخر.
فالصلاة يؤديها المسلمون بشعائر واحدة من قيام وركوع وسجود وتكبير وتسليم، والزكاة لا يخفى دورها في تحقيق الوحدة والقوة والتماسك الاجتماعي، والحج هو المؤتمر الحاشد والتجمع الأكبر الذي يمثل الحد الأدنى من استبقاء هذه الوحدة كل عام، وكذلك كل العبادات الأخرى التي تحض على التكافل والتماسك والتداعي والإحساس بمشاعر المسلمين وحاجاتهم في كل مكان ليتحقق ما رواه مسلم بسنده عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد. إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"([1]).
رمضان من شعائر الوحدة
وإذا كان الحج عبادة جامعة ومجمعة يجتمع المسلمون فيها ليناقشوا ويتابعوا ما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، فما من شك في أن شهر رمضان أو فريضة الصيام تمثل إحدى الركائز الأساسية والتدابير الشرعية التي شرعها الله تبارك وتعالى لإيجاد هذه الوحدة وتعزيزها والعمل على بقائها واستمرارها، ورغم أنها لا تتكرر إلا مرة واحدة في السنة فإن لها أثرا في النفوس بعد الشهر وقبله بما يملأ ما بين الرمضانين ـ لا تمحوه أيام العام جميعا.
وتحقيق هذه الوحدة في الصوم باعتبارها مقصدا شرعيا له من المعاني والأحكام ما يُوجِد هذه الوحدةَ ويقوِّيها، ويعمل على استمرارها وينمّيها، ومن أهم ما يمثل هذه الوحدة في رمضان ما يلي:
أولا: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته:
فالأمة كلها من الخليج الهادر إلى المحيط الثائر تتطلع ـ على قلب رجل واحد ـ إلى هلال رمضان، ولكل بلد مراسم لاستقبال هذا الشهر الفضيل من تعليق الزينة وفرحة الأطفال وتهليل الكبار وانشراح الصدور وراحة النفوس وبهجة الأرواح، روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"([2]).
وكذلك في هلال شوال كل الأمة تتطلع إلى ذلك اليوم بمشاعر واحدة، وفرحة غامرة، بإتمام الشهر، واستقبال العيد، وتزاور الناس.
وما من شك في أن الاختلاف الذي يحدث كل عام بين بلاد المسلمين التي تشترك في جزء من الليل في رؤية الهلال أمر يخالف تحقيق وحدة الأمة رغم أنه من الأمور الظنية في الفقه الإسلامي، والخلاف فيه وارد، غير أن هناك من الأمور النظرية والاتفاقات بين الدول ما يضمن وحدة هذه الرؤية، ومن ثم وحدة الأمة، لكن ربما تتدخل أمور سياسية ومهاترات شخصية تحول بين الأمة وبين الاجتماع على هذا الأمر.
ثانيا: التعبد فيه على نسق شعائري واحد:
فالمسلمون يصومون لرؤية الهلال، ويتسحرون كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم، ويبدأ الصوم من أذان الفجر، ويلزم المسلمُ خلال النهار الحلالَ الطيب من الأفعال والأقوال، ويبتعد عن الحرام الخبيث من الأقوال والأفعال، ويفطرون مع أذان المغرب، ويصلون التراويح، ويقبلون على القرآن، وهكذا.
كل هذه الشعائر أو الطقوس التعبدية يأتيها المسلمون جميعا بطريقة واحدة وعلى نسق واحد، فلا يوجد نسق للأغنياء دون الفقراء، وليست هناك طريقة للأقوياء دون الضعفاء، بل الكل في ميزان واحد، وعلى نسق واحد، وبشعائر واحدة.
وهذا من شأنه أن يُوجِدَ الوحدةَ بين المسلمين، ويعمق شعورهم بالتقارب والتفاهم، مهما اختلفت أجناسهم ولغاتهم وألوانهم، فكل الموازين والنعرات والقبليات والطبقيات تسقط أمام هذا النسق الواحد عند أداء هذه الشعيرة العظيمة.
ثالثا: تذويب الفوارق الطبقية من خلال مراسم الجود:
ليس هناك من أيام في العام كله تنطلق فيها عجلة البر كما يكون في أيام رمضان، وليست هناك مياه تجري في نهر من الأنهار كما تجري مياه الخير والمعروف في نهر رمضان المبارك.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان "أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة"([3]).
ومن هذا المورد أيضا صدقة الفطر، فقد روى مالك بسندِ سلسلةِ الذهب عن نافعٍ عن ابن عمر قال: "أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نُخرج صدقة الفطر عن كل صغير وكبير وحرٍّ وعبد، صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من شعير أو صاعاً من قمح، وكان يأمرنا أن نُخْرِجَها قبل الصلاة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقْسمها قبل أن ينصرف إلى المصلّى، ويقول: أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم"([4]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرَّفثِ، وطُعمةً للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"([5]).
وهذا الجود، المفروض منه والمندوب إليه، من شأنه أن يُحدث لونًا من ألوان الحراك الشعائري نحو بلورة الوحدة بين مجتمع المسلمين.
رابعا: الصبر على أذى الناس وعفة اللسان:
وهذا من واجبات الصوم؛ أن يحفظ المسلم الصائمُ بطنَه عن الحرام، وجوارحه عن المعاصي، وفكره من الهواجس السيئة، ولسانه عن فحش القول وبذيء الألفاظ، وأن يصبر على أذى الناس وعواقب مخالطتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم"([6]).
قال المناوي: "ومِنْ ثَمَّ عَدُّوا من أعظم أنواع الصبر: الصبر على مخالطة الناس وتحمل أذاهم، واعلم أن اللّه لم يسلطهم عليك إلا لذنب صدر منك فاستغفر اللّه من ذنبك، واعلم أن ذلك عقوبة منه تعالى، وكن فيما بينهم سميعاً لحقهم أصم عن باطلهم نطوقاً بمحاسنهم صموتاً عن مساوئهم"([7]).
وفي رمضان يحسُنُ بالمسلم أن يضبط نفسه أكثر ويصبر أكثر؛ طلبًا للأجر وتأليفًا للقلوب وتصحيحًا للصيام، روى البخاري بسنده عن أبي صالح الزيات أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم..."([8]).
والله تعالى يقول: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ". فصلت: 34.
يقول صاحب الظلال في تفسيرها: "وليس له أن يرد بالسيئة، فإن الحسنة لا يستوي أثرها كما لا تستوي قيمتها مع السيئة والصبر والتسامح، والاستعلاءُ على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء، ومن الجماح إلى اللين".
وهذا كله يوحد الصفوف وينقي الصدور ويُصفّي النفوس ويؤلف القلوب ويجمع الأمة، وهو بعض آثار الصيام وبركاته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
خامسا: تعميق الإحساس بالآخر:
والإحساس بالآخر مبدأ إسلامي أصيل بل إنساني عام، اعتنى به الإسلام بشكل عام، وفي رمضان بشكل خاص؛ فصيام الأغنياء يشعرهم بحاجة الفقراء، وصيام الأقوياء يشعرهم بحالة الضعفاء، وصدقة الفطر ترضي الفقير، وتنزع من نفسه فتيل الموجدة والحقد على غيره من المسلمين، حتى الفقير الذي اجتمع لديه ما يكفيه ومن يعول يوما وليلة وجب عليه أن يخرج زكاة الفطر ليتعود على الجود والإنفاق وأن تكون يده هي العليا ولو مرة واحدة في العام، وليشعر أيضا بحاجة غيره ممن هم أشد منه فقرا.
وهكذا فالإسلام يريد من كل المسلمين أن يكونوا معطائين، وأن تكون يدهم هي العليا دائما، ولا يخفى ما في ذلك من توحيد بين صف الأمة وتقوية شوكتها، وسلامة نسيجها العام، كما نرى في هذه التدابير التواصل والالتحام، والتعاطف والانسجــام والالتئام.
ورحم الله أديب العربية والإسلام الأستاذ مصطفى صادق الرافعي حين قال: لو أنصفك الناس يا رمضان لسمَّوك (مدرسة الثلاثين يومًا)!.
([1])صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب. باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم.
([2])صحيح البخاري: كتاب الصوم . باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا).
([3])صحيح البخاري: بدء الوحي. باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
([4])موطأ مالك: كتاب الزكاة . باب زكاة الفطر.
([5])سنن أبي داود: كتاب الزكاة. باب زكاة الفطر.
([6])مسند الإمام أحمد. المجلد الثاني. مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما.
([7])فيض القدير: الجزء السادس. فصل في المحلى بأل من حرف الميم.
([8])صحيح البخاري: كتاب الصوم. باب: هل يقول إني صائم إذا شتم.
وصفي عاشور أبو زيد
تحقيق الوحدة بين أبناء الأمة المسلمة من كبرى مقاصد هذا الدين، ومن أجل هذا أوجب الإسلام كل ما من شأنه أن يحقق هذه الوحدة ودعا إليه وحض عليه، وبيَّن عظيم الآثار وكريم العواقب التي تترتب على إتيان الواجبات التي تحقق للأمة وحدتها، وتضمن لها سلامتها وعافيتها، قال تعالى: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ". الأنبياء: 92. وقال: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ". المؤمنون: 52. وقال: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ...". آل عمران: 103. وقال: "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً". النساء: 175.
كما نهى ـ بل حرم ـ عن كل ما يمكن أن يفرق الأمة، ويفت في عضدها، أو يفرق جمعها، أو يوهِّن جسدها، أو يبطئ حركتها، وأبرز جسيم النتائج ووخيم المآلات التي تترتب على ارتكاب تلك المحظورات التي تفرق جمع الأمة وتفْرطُ عقدها المنظوم، قال تعالى: "وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ". آل عمران: 105. وقال: "وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". الأنفال: 46. وقال عز من قائل: "أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ". الشورى: 13.
الشعائر الكبرى ووحدة الأمة
وتعتبر الشعائر الإسلامية الكبرى من صلاة وزكاة وصيام وحج من أبرز التدابير الشرعية التي وضعها الشارع لتعزيز هذه الوحدة، وتأكيد القوة، والعمل على استمرارها وامتدادها في واقع الأمة الحاضر والمستقبل، وهذا يحتاج إلى تأصيل وتفصيل في مقام آخر.
فالصلاة يؤديها المسلمون بشعائر واحدة من قيام وركوع وسجود وتكبير وتسليم، والزكاة لا يخفى دورها في تحقيق الوحدة والقوة والتماسك الاجتماعي، والحج هو المؤتمر الحاشد والتجمع الأكبر الذي يمثل الحد الأدنى من استبقاء هذه الوحدة كل عام، وكذلك كل العبادات الأخرى التي تحض على التكافل والتماسك والتداعي والإحساس بمشاعر المسلمين وحاجاتهم في كل مكان ليتحقق ما رواه مسلم بسنده عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد. إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"([1]).
رمضان من شعائر الوحدة
وإذا كان الحج عبادة جامعة ومجمعة يجتمع المسلمون فيها ليناقشوا ويتابعوا ما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، فما من شك في أن شهر رمضان أو فريضة الصيام تمثل إحدى الركائز الأساسية والتدابير الشرعية التي شرعها الله تبارك وتعالى لإيجاد هذه الوحدة وتعزيزها والعمل على بقائها واستمرارها، ورغم أنها لا تتكرر إلا مرة واحدة في السنة فإن لها أثرا في النفوس بعد الشهر وقبله بما يملأ ما بين الرمضانين ـ لا تمحوه أيام العام جميعا.
وتحقيق هذه الوحدة في الصوم باعتبارها مقصدا شرعيا له من المعاني والأحكام ما يُوجِد هذه الوحدةَ ويقوِّيها، ويعمل على استمرارها وينمّيها، ومن أهم ما يمثل هذه الوحدة في رمضان ما يلي:
أولا: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته:
فالأمة كلها من الخليج الهادر إلى المحيط الثائر تتطلع ـ على قلب رجل واحد ـ إلى هلال رمضان، ولكل بلد مراسم لاستقبال هذا الشهر الفضيل من تعليق الزينة وفرحة الأطفال وتهليل الكبار وانشراح الصدور وراحة النفوس وبهجة الأرواح، روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"([2]).
وكذلك في هلال شوال كل الأمة تتطلع إلى ذلك اليوم بمشاعر واحدة، وفرحة غامرة، بإتمام الشهر، واستقبال العيد، وتزاور الناس.
وما من شك في أن الاختلاف الذي يحدث كل عام بين بلاد المسلمين التي تشترك في جزء من الليل في رؤية الهلال أمر يخالف تحقيق وحدة الأمة رغم أنه من الأمور الظنية في الفقه الإسلامي، والخلاف فيه وارد، غير أن هناك من الأمور النظرية والاتفاقات بين الدول ما يضمن وحدة هذه الرؤية، ومن ثم وحدة الأمة، لكن ربما تتدخل أمور سياسية ومهاترات شخصية تحول بين الأمة وبين الاجتماع على هذا الأمر.
ثانيا: التعبد فيه على نسق شعائري واحد:
فالمسلمون يصومون لرؤية الهلال، ويتسحرون كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم، ويبدأ الصوم من أذان الفجر، ويلزم المسلمُ خلال النهار الحلالَ الطيب من الأفعال والأقوال، ويبتعد عن الحرام الخبيث من الأقوال والأفعال، ويفطرون مع أذان المغرب، ويصلون التراويح، ويقبلون على القرآن، وهكذا.
كل هذه الشعائر أو الطقوس التعبدية يأتيها المسلمون جميعا بطريقة واحدة وعلى نسق واحد، فلا يوجد نسق للأغنياء دون الفقراء، وليست هناك طريقة للأقوياء دون الضعفاء، بل الكل في ميزان واحد، وعلى نسق واحد، وبشعائر واحدة.
وهذا من شأنه أن يُوجِدَ الوحدةَ بين المسلمين، ويعمق شعورهم بالتقارب والتفاهم، مهما اختلفت أجناسهم ولغاتهم وألوانهم، فكل الموازين والنعرات والقبليات والطبقيات تسقط أمام هذا النسق الواحد عند أداء هذه الشعيرة العظيمة.
ثالثا: تذويب الفوارق الطبقية من خلال مراسم الجود:
ليس هناك من أيام في العام كله تنطلق فيها عجلة البر كما يكون في أيام رمضان، وليست هناك مياه تجري في نهر من الأنهار كما تجري مياه الخير والمعروف في نهر رمضان المبارك.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان "أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة"([3]).
ومن هذا المورد أيضا صدقة الفطر، فقد روى مالك بسندِ سلسلةِ الذهب عن نافعٍ عن ابن عمر قال: "أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نُخرج صدقة الفطر عن كل صغير وكبير وحرٍّ وعبد، صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من شعير أو صاعاً من قمح، وكان يأمرنا أن نُخْرِجَها قبل الصلاة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقْسمها قبل أن ينصرف إلى المصلّى، ويقول: أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم"([4]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرَّفثِ، وطُعمةً للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"([5]).
وهذا الجود، المفروض منه والمندوب إليه، من شأنه أن يُحدث لونًا من ألوان الحراك الشعائري نحو بلورة الوحدة بين مجتمع المسلمين.
رابعا: الصبر على أذى الناس وعفة اللسان:
وهذا من واجبات الصوم؛ أن يحفظ المسلم الصائمُ بطنَه عن الحرام، وجوارحه عن المعاصي، وفكره من الهواجس السيئة، ولسانه عن فحش القول وبذيء الألفاظ، وأن يصبر على أذى الناس وعواقب مخالطتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم"([6]).
قال المناوي: "ومِنْ ثَمَّ عَدُّوا من أعظم أنواع الصبر: الصبر على مخالطة الناس وتحمل أذاهم، واعلم أن اللّه لم يسلطهم عليك إلا لذنب صدر منك فاستغفر اللّه من ذنبك، واعلم أن ذلك عقوبة منه تعالى، وكن فيما بينهم سميعاً لحقهم أصم عن باطلهم نطوقاً بمحاسنهم صموتاً عن مساوئهم"([7]).
وفي رمضان يحسُنُ بالمسلم أن يضبط نفسه أكثر ويصبر أكثر؛ طلبًا للأجر وتأليفًا للقلوب وتصحيحًا للصيام، روى البخاري بسنده عن أبي صالح الزيات أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم..."([8]).
والله تعالى يقول: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ". فصلت: 34.
يقول صاحب الظلال في تفسيرها: "وليس له أن يرد بالسيئة، فإن الحسنة لا يستوي أثرها كما لا تستوي قيمتها مع السيئة والصبر والتسامح، والاستعلاءُ على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء، ومن الجماح إلى اللين".
وهذا كله يوحد الصفوف وينقي الصدور ويُصفّي النفوس ويؤلف القلوب ويجمع الأمة، وهو بعض آثار الصيام وبركاته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
خامسا: تعميق الإحساس بالآخر:
والإحساس بالآخر مبدأ إسلامي أصيل بل إنساني عام، اعتنى به الإسلام بشكل عام، وفي رمضان بشكل خاص؛ فصيام الأغنياء يشعرهم بحاجة الفقراء، وصيام الأقوياء يشعرهم بحالة الضعفاء، وصدقة الفطر ترضي الفقير، وتنزع من نفسه فتيل الموجدة والحقد على غيره من المسلمين، حتى الفقير الذي اجتمع لديه ما يكفيه ومن يعول يوما وليلة وجب عليه أن يخرج زكاة الفطر ليتعود على الجود والإنفاق وأن تكون يده هي العليا ولو مرة واحدة في العام، وليشعر أيضا بحاجة غيره ممن هم أشد منه فقرا.
وهكذا فالإسلام يريد من كل المسلمين أن يكونوا معطائين، وأن تكون يدهم هي العليا دائما، ولا يخفى ما في ذلك من توحيد بين صف الأمة وتقوية شوكتها، وسلامة نسيجها العام، كما نرى في هذه التدابير التواصل والالتحام، والتعاطف والانسجــام والالتئام.
ورحم الله أديب العربية والإسلام الأستاذ مصطفى صادق الرافعي حين قال: لو أنصفك الناس يا رمضان لسمَّوك (مدرسة الثلاثين يومًا)!.
([1])صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب. باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم.
([2])صحيح البخاري: كتاب الصوم . باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا).
([3])صحيح البخاري: بدء الوحي. باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
([4])موطأ مالك: كتاب الزكاة . باب زكاة الفطر.
([5])سنن أبي داود: كتاب الزكاة. باب زكاة الفطر.
([6])مسند الإمام أحمد. المجلد الثاني. مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما.
([7])فيض القدير: الجزء السادس. فصل في المحلى بأل من حرف الميم.
([8])صحيح البخاري: كتاب الصوم. باب: هل يقول إني صائم إذا شتم.
مجلة الوعي الإسلامي عدد رمضان 1429هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق