الثلاثاء، 10 فبراير 2009

مكانة "العرض" في المقاصد الشرعية

نظرة جديدة في مقاصد الشريعة الإسلامية
مكانة "العرض" في المقاصد الشرعية
بقلم/
وصفي عاشور أبو زيد
باحث في العلوم الشرعية ـ كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة

تنحصر مقاصد الشريعة الإسلامية في تحقيق مصالح الخلق العاجلة والآجلة ودفع الضرر عنهم، وذلك بكفالة ضرورياتهم، وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم.
وقد نظر علماؤنا السابقون في الأحكام الشرعية نظرة استقراء، وتأملوا عللها وحكمها التشريعية فوجدوها قررت مبادئ عامة وأصولا كلية استنبطوا منها مقاصد الشريعة.
وتعتبر مقاصد الشريعة من أهم الوسائل في استنباط الحكم الشرعي، بل لا نبالغ إن قلنا: إن المقاصد الشرعية أهم ما ينبغي معرفته ومراعاته عند عملية الاجتهاد التنزيلي؛ ذلك أن كل الأصول الفقهية ـ عدا الكتاب والسنة ـ مختلف فيها، فإذا ذهب الفقيه في عملية التنزيل إلى حكم من الأحكام عن طريق أصل من الأصول المختلف فيها ربما لا يسلمها له غيره ممن يخالفه في الأصل المعتمد عليه للتوصل إلى هذا الحكم، أما المقاصد فلا يختلف فيها أحد، فمن المستبعد أن يختلف أحد في حرمة دم المسلم ونفسه وماله وغير ذلك من مقاصد؛ ولهذا فإن الاعتماد على مقاصد الشريعة يؤدي ـ بشكل كبير ـ إلى عصمة المجتهد من الزلل؛ فضلا عن أنه يؤدي إلى حكم يسلم له به الجمهور الأعظم.
وقد قسم علماء الأصول مقاصد الشريعة ـ من خلال استقراء الأحكام الشرعية الكلية والجزئية ـ إلى ثلاثة أقسام، هي: الضروريات، والحاجيات والتحسينيات.
فعرَّفوا الضروري بأنه ما تقوم عليه حياة الناس ولابد منه لاستقامة مصالحهم، وإذا فُقد اختل نظام الحياة، ولم تستقم مصالحهم، وعمت فيهم الفوضى والمفاسد.
وعرَّفوا الحاجيات بأنها ما يحتاج إليه الناس لليسر والسعة، واحتمال مشاق التكليف وأعباء الحياة، وإذا فقدوه لا تتعرض حياتهم للخطر ولا للفوضى، إنما يقعوا في الضيق والحرج، فهي أمور ترفع عنهم الحرج وتخفف عنهم ليتحملوا مشاق التكليف.
أما التحسينيات فقد عرَّفوها بأنها ما تقتضيه المروءة والفطر السليمة والطباع المستقيمة والأذواق الرفيعة؛ حتى تسير الأمور على أقوم السبل، وإذا فقدوها لا يقعون في ضيق أو حرج، إنما تكون حياتهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر المستقيمة.

وقسم أهل المقاصد الضروريات إلى خمسة أشياء أطلقوا عليها اسم "الكليات الخمس"، هي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وأحيانا يكون النسل مرادفا للعرض عند كثير من الأصوليين.
وأول من أشار إلى هذا التقسيم ـ أعني التقسيم الثلاثي وتقسيم الضروريات إلى كلياتها الخمس ـ هو أبو المعالي إمام الحرمين الجويني، كما يعلم أهل هذا الشأن(
[1]).
ومما لا ريب فيه أن ريادة أي عالم أو أصالة أي باحث تتجلى في عدم سبقه لما قال، وترديد من يجيء بعده لما قاله، وهذا ما حدث مع الإمام الجويني تماما، فقد ردد الغزالي ما قاله الجويني، وكذلك الرازي والآمدي والعز بن عبد السلام وابن تيمية وغيرهم.
حتى هيأ الله لهذا العِلْم الإمام الشاطبي، فقفز به قفزة هائلة في كتابه الفريد "الموافقات" فاعتبر بحق "أبو المقاصد" الذي له منها القدح المعلى، وإليه فيها المنتهى.
ثم يظهر على خط التاريخ المقاصدي الإمام محمد الطاهر بن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية" الذي أضاف فيه إلى علم المقاصد إضافات مهمة.
ثم أتت بعد ذلك دراسات المتخصصين المعاصرين، والأطروحات الجامعية للدارسين التي تسعى إلى سد الفجوة الكبيرة في هذا العلم الجليل، مثل الدكتور يوسف حامد العالم، والدكتور أحمد الريسوني، والدكتور حمادي العبيدي، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور علي جمعة، وغيرهم.

والمسألة التي أتحدث فيها هنا هي "العرض"، ولست أعني به "النسل" أو "النسب" كما يستخدمه كثير من أهل المقاصد، إنما أعني به ما يتصل بسمعة المسلم ويدور حول ما يسمي بـ "الشرف"، هل هو من مقاصد الشريعة؟ وإذا كان من مقاصدها ففي أي الثلاثة يقع، هل هو ضروري أم حاجي أم تحسيني؟.
ولا شك أن حفظ العرض يعتبر من المقاصد الشرعية المقررة عموما، فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تعرضت للأمر بحفظه، والنهي عن كل ما يؤدي إلى الإساءة لسمعة المسلم، وإشاعة الفاحشة في المجتمع، وتتبع عورة المؤمن ـ أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن تذكر، لكن القضية أن المقاصديين اختلفوا في كون حفظ العرض من الضروريات أم لا؟.

وفيما يلي أورد آراء المؤيدين وآراء المعارضين، وذلك للأمانة العلمية ثم أعقب بعد ذلك متحريًا الحياد والموضوعية، تاركًا المسألة إلى حيث تسير بها الأدلة والبراهين.

أولاً: رأي المـؤيديــن:
يعد تاج الدين السبكي ممن أثبتوا العرض ككلية سادسة في الضروريات يقول ـ رحمه الله: "والضروري: حفظ الدين فالنفس فالعقل فالنسب فالمال والعرض"(
[2]).
ويشرح شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري كل واحدة ثم يقول عند العرض: "أي حفظه المشروع له عقوبةُ القذف والسب، وهذا زاده الأصل (هكذا) كالطوفي على الخمسة السابقة المسماة بالمقاصد والكليات التي قالوا فيها إنها لم تبح في ملة من الملل. وعطفي للعرض بالفاء أولى من عطف الطوفي له بالواو..."(
[3]).
ومن هذا النص يتضح أن الطوفي ممن أيدوا ذلك إلا أنه ـ كما يقول أبو يحيى ـ عطف بالواو بدلاً من الفاء، وقد عطفها أبو يحيى الأنصاري بالفاء عمدا وهو يشرح، أما السبكي في "جمع الجوامع" فقد عطفها بالواو، وقال الشارح: "وهذا ـ يعنى العرض ـ زاده المصنف كالطوفي، وعطفه بالواو إشارة إلى أنه في رتبة المال، وعطف كلاً من الأربعة قبله بالفاء لإفادة أنه دون ما قبله في الرتبة"(
[4]).
وذكرها قبل الطوفي الإمام القرافي يحكيها عمن قبله فيقول: ".... الكليات الخمس وهي: حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال، وقيل الأعراض"(
[5]).
وكما هو واضح من هذه النقول أنهم لم يعتمدوا على برهان ولا حجة، ولم يفصلوا في القول ويعرضوا لما يقرره، إنما اكتفوا بذكر المسألة فقط، مع الإيحاء بالتشكيك أحيانا وعدم الرضا، كما في قول القرافي والسبكي.

رأي المعـارضـين:
الجمهور الأعظم من المقاصديين على عدم ذكر العرض من الضروريات؛ فلم يذكره الغزالي، ولا إمام الحرمين، ولا الشاطبي، ولا الآمدي، ولا ابن عاشور، ولا غير من ذكرنا من المؤيدين(
[6]).
بل إننا نرى الإمام ابن عاشور يعارض ذلك، وينفي أن يكون العرض كلية سادسة للضروريات، يقول: "وأما حفظ العرض في الضروري فليس بصحيح، والصواب أنه من قبيل الحاجي، وأن الذي حمل بعض العلماء مثل تاج الدين السبكي في جمع الجوامع على عَدِّه في الضروري هو ما رآه من ورود حد القذف في الشريعة، ونحن لا نلتزم الملازمة بين الضروري وبين ما في تفويته حد؛ ولذلك لم يعده الغزالي وابن الحاجب ضروريًا"(
[7]).
وقال أحد الدارسين(
[8]): "والحقيقة أن جعل العرض ضرورة سادسة إنما هو نزول بمفهوم هذه الضروريات... وهل صون الأعراض إلا خادم لحفظ النسل"([9]).
هذا تقريبا كل ما قيل في هذه المسألة، ولا شك أن الناظر في الرأيين يجد الرأي المعارض مدعوما بالأدلة شيئا ما، بخلاف رأي المؤيدين فلم يذكروا دليلا ولا برهانا.

منـاقشـة وترجيــح:
يقرر الإمام الجليل محمد الطاهر بن عاشور أن الذي حمل بعض العلماء مثل تاج الدين السبكي على القول باعتبار العرض من الضروريات هو وجود الحد، ثم ينفي أن يكون الحد هو ما نعول عليه في اعتبار الشيء ضروريًا.
ونقول: إذا لم نعتمد الحدود ونعول عليها في اعتبار أمر ما ضروريًا أم غير ضروري، فعلى أي شيء نعتمد، وإلى أي شيء نرجع؟!!
إن الله ـ وهو العليم ـ لا يحد حدا لجريمة أو معصية ما إلا إذا بلغت من الخطورة والمكانة مبلغا بحيث لا تقل ـ بحال من الأحوال ـ عن أن تكون شيئًا ضروريا، والذي يتأمل نصوص القرآن والسنة يجد ذلك واضحًا.
فقد شرع الله حد الردة للمحافظة على الدين، وشرع حد القصاص للمحافظة على النفس، وشرع حد الخمر للمحافظة على العقل، وشرع حد الزنا للمحافظة على النسل، وشرع حد السرقة للمحافظة على المال، وشرع حد القذف للمحافظة على العرض.
يقول تعالى في حد القذف: "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن لله غفور رحيم. والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرء عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين". سورة النور: 4-9.
وهذه هي الأمور الضرورية التي شرع الله لها الحدود إذا اختلت صارت الحياة مضطربة أو شبيهة بغابة تموج بالأنعام إن لم تنعدم، فلا تتحقق الإنسانية إلا بهذه الأمور، ولا تكتمل كرامة الإنسان إلا بالمحافظة عليها، وإلا تفتقد الإنسانية في الحياة كل معنى كريم.
ويعترض الدكتور الريسوني، وحجته في ذلك أن العرض ليس إلا مكملاً لحفظ النسل وخادمًا له.
والحق أن هذا ليس بوجه اعتراض؛ لأن المقاصد الشرعية التي قررها الأصوليون كلٌّ منها مكمل للآخر وخادم له، ففي الضروريات مثلا نجد المال خادما للنسل والنفس، والنسل خادما للنفس، وكل ذلك خادما للدين، وأما الحاجيات فهي خادمة للضروريات، والتحسينات خادمة للحاجيات، وهكذا فكل مرتبة منها تخدم الأخرى وتكملها.
وكيف يكون العرض من الحاجيات، وتزهق الأنفس والأموال دونه، كما يقرر ذلك الإمام الشوكاني ـ بحق ـ حيث يقول بعد ذكر الكليات الخمسة: "وقد زاد بعض المتأخرين سادسا، وهو حفظ الأعراض، فإن عادة العقلاء بذل نفوسوهم، وأموالهم دون أعراضهم، وما فُدي بالضروري فهو بالضرورة أولى، وقد شرع في الجناية عليه بالقذف الحد، وهو أحق بالحفظ عن غيره، فإن الإنسان قد يتجاوز عمن جنى على نفسه، ولا يتجاوز عمن جنى على عرضه، ولهذا يقول قائلهم:
تهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول"(
[10]).

والعرض في اللغة هو: "ما يمدح به ويذم من الإنسان، سواء كان في نفسه، أو سلفه أو من يلزمه أمره"(
[11]) أي أنه بتعبيرنا المعاصر: الكرامة والسمعة.
وينبغي أن نفرق هنا ـ حتى لا تختلط الأمور ـ بين العرض والنسل، أو بين حد القذف، وحد الزنا، فحد القذف إنما هو جزاء لإشاعة الفاحشة بين المؤمنين قولاً، أما حد الزنا فهو جزاء لمن قام بهذه الجريمة فعلا؛ وإلا لما جعل الله لكل واحد حدا خاصا به، وهذا المعنى ينبغي أن يقرر حتى لا يقول قائل بتداخلهما، أو يخلط بينهما.
وليت شعري إذا ضاعت كرامة الإنسان وساءت سمعته في المجتمع الذي يحيا فيه، كم تكون قيمته؟!
فلا يتصور أن يحيا الإنسان حياة كريمة ـ كما أراد الله لنا وطلب منا ـ في مجتمع اعتُدي فيه على عرضه بالقذف، وساءت فيه سمعته بالكلام.
إن الله ـ تعالى ـ عندما خلقنا جعلنا على أحسن صورة: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). التين: 4.
وعند الجزاء يوم القيامة يجازينا بأحسن ما كنا نعمل: (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله). النور: 38.
وأمرنا أن نقول الأحسن: (وقل لعبادي يقول التي هي أحسن). الإسراء: 53.
وحثنا على اتباع أحسن القول، بل مدح من يفعل ذلك، وبشرهم، ونوه بهم بإضافتهم إليه سبحانه: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه). الزمر: 18.
ولما كتب الله لموسى في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء قال له: (فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها). الأعراف: 145.
كما أن الجدال لا يكون إلا بالتي هي أحسن: (........ وجادلهم بالتي هي أحسن).النحل: 125.
وكذلك المعاملة بين الناس: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة). المؤمنون: 96.
والتصرف في مال اليتيم، بل القرب منه: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا التي هي أحسن). الأنعام: 152، والإسراء: 34.
حتى رد التحية: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها). سورة النساء: 86.
بل خلق الله الموت والحياة جميعا لذلك فقال: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا). الملك: 2.
فهل يرضى الله منا ـ بعد أن قرر "الأحسنية" في كل شيء ـ إلا أن نعمل أحسن العمل، ونقول أفضل القول، ونحيا أكرم حياة؟!
لقد قال الإمام ابن عاشور في نفس الكتاب الذي نفى فيه كون العرض ضروريا. بعد أن قال إن الضروريات لا يستقيم النظام بإخلالها وتؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاشٍ قال: "ولست أعني باختلال نظام الأمة هلاكها واضمحلالها؛ لأن هذا قد سلمت منه أعرق الأمم في الوثنية والهمجية، ولكني أعني به أن تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها"(
[12]).
ولعل الذي جعل العرض يدور حوله هذا الخلاف هو عدم تحديد معناه، فتحديد المعنى يتوقف عليه هذا الحكم؛ إذ كيف نحكم على شيء غير محدد المعنى؟
من أجل ذلك يجب تحديد معنى العرض، وهو ما نقلناه في التعريف اللغوي السابق حيث السمعة والكرامة: وقد تتصل السمعة بالاتهام بالزنا، وقد تصل إلى إشاعة صفات سيئة في الإنسان.
فأما إن وصل الاعتداء عليه ـ أي العرض ـ بالقذف بالزنا فعندئذ يعتبر من الضروريات، بل لعله ـ في هذه الحالة ـ يقدم على المال والنفس؛ لأن النفس تذهب دون ذلك، وهذا ما كان يعنيه الإمام الشوكاني فيما نقلناه عنه آنفا، وهذا ما نزل فيه حد القذف، ونزلت فيه عشر آيات كاملة في شأن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ فيما عرف باسم "حادث الإفك" وأكثر من عشر آيات في توابع الحادث ومكملاته.

ومما يقوي اليقين في اعتبار العرض ضروريا بهذا المعنى أن الله توعد الذي تولى كبر هذا الحادث وترويجه بعذاب عظيم (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم). النور: 11.
وقرر الله عظم هذا الذنب حين قال: (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم). النور:15.
وتوعد الذين يحبون شيوع الفاحشة في المؤمنين بإطلاق(
[13]) فقال: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة). النور: 19.
بل إننا نرى الله يلعنهم ـ واللعن هو الطرد من رحمة الله ـ ويتوعدهم بالعذاب العظيم (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين). النور: 23 ـ 25.
ولا يكون التوعد بالعذاب الأليم أو العظيم، ولا يكون الطرد من رحمة الله إلا لأمر جلل، وخطب جسيم، أقل شيء يوصف به أنه كبيرة من الكبائر.
ولا ريب أن المجتمع في هذه الحالة يسوده نوع من الشك والاضطراب، ويكتنفه شعور بالحزن والقلق، مما يدني به إلى حياة لا توصف بأنها حيوانية، فضلا عن أن تكون حياة إنسانية كريمة.
ولنستمع إلى الأستاذ سيد قطب ـ عليه رحمة الله ـ وهو يصف أحوال المجتمع، ويصور ما وصل إليه من حزن وقلق، يقول: "هذا الحادث ـ حادث الإفك ـ قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق، وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وعلق قلب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق، وزوجه، وقلب صفوان بن المعطل ـ شهرا كاملا(
[14]) ـ علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق.
وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق، وفي ظل تلك الآلام الهائلة.. ومحمد الإنسان يعاني ما يعانيه الإنسان، في هذا الموقف الأليم، يعاني من العار، ويعاني فجيعة القلب، ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة، الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق"(
[15]).

ولعلنا نلحظ عتاب الله للمؤمنين في طريقة الصياغة القرآنية في قوله: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين". النور: 12. فالسياق يقتضي: "لولا إذ سمعتموه ظننتم....)، فهذا ـ كما يسميه البلاغيون ـ أسلوب التفات، وهو يخدم الغرض المراد، وهو أن الله أراد أن يشعرهم بأنهم ـ حين تلقفت ألسنتهم هذا الحديث الذي آذى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبا بكر وعائشة، ولم يبادروا إلى نفيه أو تكذيب قائليه ومروجيه قد تنكبوا ـ وهم المؤمنون ـ الصراط السوي والنهج الأمثل الذي تقتضيه صفة الإيمان.

وفي هذه الحالة أيضًا ـ أعني حالة القذف بالزنا ـ نستطيع أن نفهم قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا... كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"(
[16]). فقرن النبي بين الدم والمال والعرض.
وهناك رواية أخرى للحديث يتقدم العرض فيها على الدم: "كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه..."(
[17]).
بل إننا نجد رواية ثالثة يقدم العرض فيها على الدم والمال: "المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه"(
[18]).

فليس من المعقول أن يقرن النبي ـ وقد أوتي جوامع الكلم ـ بين شيئين أحدهما حاجي، والآخر ضروري، أو يقدم الحاجي على الضروري!
بهذا يتبين أن حفظ العرض بهذا المعنى إنما هو من الضروريات "الست"، إن لم يلي الدين ويسبق النفس.
وإذا أضيف إلى ذلك تقرير النبي هلاك من وقع في عرض أخيه، ووقوعه في الحرج تأكد المعنى، واتضحت ضرورية العرض، يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "يا عباد الله! وضع الله الحرج إلا من اقترض عرض امرئ مسلم ظلما، فذلك الذي حرج وهلك"(
[19]).

أما إن كان معنى العرض متصلا بصفات لإنسان معينة، وهو ما يتعلق بالسخرية والغيبة والنميمة... الخ، فهذا أمر لا ينهض أن يلحق بالضروريات، إنما هو من قبيل الحاجي؛ لأنه لا تزهق دونه نفس ولا مال، فحين يقال مثلا فلان يمشي بين الناس بالنميمة، أو فلان بخيل أو فلان حسود أو حاقد... الخ، لا يترتب عليه ما يترتب على العرض بالمعنى الأول.
ومع ذلك فقد شدد الله في هذا كله، وأغلظ النكير على فاعليه، حتى تتحقق المثالية والكمال المنشود للمجتمع المسلم، فيحيا نقيا طاهرًا من القلق والشك والاضطراب، متمتعًا بأكرم المعاني الإيمانية، وأنبل المشاعر الإنسانية.
ومن ذلك ما ورد في سورة الحجرات يقول ـ تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن أن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم). الحجرات: 11 ـ 12.
فلا يخفى النكير بالتنفير الذي يطالعنا في هذا التشبيه المقزز، تشبيه من يغتاب أخاه بمن يأكل لحمه ميتا.
ويدخل في هذا المعنى الآيات التي تلت حادث الإفك، وهي بمثابة المكملات للعرض؛ ولذلك ثنى الله به، من آداب دخول للبيوت، وغض للبصر، وغير ذلك(
[20]).

والحق أن هذه المسألة لا تزال في حاجة إلى كلمة المتخصصين الراسخين من أهل الأصول والمقاصد؛ حتى تترسخ وتتقرر، ولأنها ليست واضحة في تراثنا الأصولي المقاصدي، فلم أر أحدًا من علمائنا ـ حسب اطلاعي ـ حسمه بكلام أكيد أو تحقيق مبين هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم أجد عند من أثبتوا العرض أدلة تقوم على ساق أو تنتهض لأن تضع العرض في الحاجيات بله الضروريات، فالقرافي يقول: "وقيل الأعراض" وهي عبارة ـ بصيغتها للمجهول ـ تثير الشك والارتياب، وتاج الدين السبكي يجعل العرض معطوفا بالواو بعد أن عطف باقي الكليات بالفاء مما يشي بالضعف وعدم الاعتبار ونفي الانفراديه والاستقلالية، مع قيام آيات هائلة في القرآن الكريم وأحاديث نبوية تشير إلى هذا الأمر وتؤكده.
([1]) انظر البرهان للجويني: 2/901-952 بتحقيق د. عبد العظيم الديب. دار الوفاء. ط: ثانية. 1412هـ/1992م، وراجع: نظرية المقاصد عند الشاطبي: 38-41، د. أحمد الريسوني. طبع المعهد العالمي للفكر الإسلامي. ط. ثانية. 1401هـ.

([2]) جمع لجوامع بحاشية البناني: 2 / 280، طبع الحلبي الطبعة الثانية 1356هـ ـ 1937م.
([3]) غاية الوصول شرح لب الأصول: 124، لأبي يحيى زكريا الأنصاري. طبع الحلبي. بدون تاريخ
([4]) جمع الجوامع بحاشية البناني: 2 / 280.
([5]) شرح تنقيح الفصول للقرافي:391، تحقيق د.طه عبد الرءوف سعد. دار الفكر. الطبعة الأولى.1393هـ ـ 1973م.
([6]) يستثنى من ذلك الإمام الشوكاني: فله كلام يؤيد به العرض سيأتي ذكره.
([7]) مقاصد الشريعة: 82. تونس. طبع الشركة التونسية للتوزيع. بدون تاريخ.
([8]) هو الدكتور أحمد الريسوني.
([9]) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي: 51.
([10]) إرشاد الفحول: 2/629، بتحقيق د. شعبان إسماعيل. طبع دار السلام. القاهرة، ط أولى: 1418هـ، والبيت للمتنبي، وقال السموأل بن عادياء ـ وهو اليهودي ـ:
إذا المرء لم يدنس من اللوم عرضه فكل رداء يرتديه جميل
([11]) المعجم الوسيط 2 / 616. مجمع اللغة العربية.ط. ثالثة. بدون تاريخ.
([12]) مقاصد الشريعة: 79.
([13]) إنما قلت بإطلاق حتى لا يقول قائل إن الكلام خاص بالنبي ولا يتعدى غيره، وهذا كلام باطل لأن دلالات الآية لا تتحمل ذلك، وقد يعترض أيضًا على توعد مَن روَّج الحادث أو عظم الذنب عند الله بقول: إن ذلك متعلق بالنبي ولولا ذلك ما حدث هذا التوعد ولا ذلك التعظيم، وهذا أيضًا كلام باطل من وجهين الأول: أن الله رتب على الحادث أحكاما بألفاظ عامة للمؤمنين، والثاني: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
([14]) وذلك أن الوحي انقطع عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الشهر.
([15]) في ظلال القرآن: 4 / 2495 ـ 2499 دار الشروق.
([16]) رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة كما في صحيح الجامع الصغير للألباني: 7242.
([17]) رواه الترمذي، عن أبي هريرة راجع جامع العلوم والحكم لابن رجب من 408، 409 تحقيق الدكتور محمد بكر إسماعيل. دار إحياء الكتب العربية.
([18]) رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة كما في صحيح الجامع الصغير للألباني: 7242.
([19]) رواه أحمد، والبخاري في الأدب الفرد، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم عن أسامة بن شريك. كما في صحيح الجامع: 7812.
([20]) انظر: سورة النور: 27 ـ 31.
مجلة الوعي الإسلامي

ليست هناك تعليقات: