الثلاثاء، 22 يناير 2008

التفكير في الموت يهدد إيماني ـ استشارة إيمانية


ف - السعودية
الاسم
التفكير في الموت يهدد إيماني !؟
العنوان
أمراض القلوب
الموضوع
لا أعلم كيف أبدأ بسرد مشكلتي، ومن أين أبدأ مشكلتي، التي جعلتني في حالة أرق دائم، لا أستطيع أن أحيا حياة طبيعية، وأثرت في تصرفاتي مع صديقاتي، وهي أني دوما أفكر في الموت، أتصور ماذا سيحدث لي إن أنا مت، وكيف سيكون حسابي؟.

وجعلني تفكيري بهذه الطريقة لا أستمتع بالحياة، ولا بالنعم التي أنعمها الله علي، وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى، فأنا لا ينقصني شيء والحمد لله، ولكن كلما أفكر فيها، وأفكر كيف أستغلها يأتي الموت أمامي، وأقول لنفسي: هذا كله لا يفيدني في الآخرة، وينتهي بنهاية الدنيا.

وقد جعلني هذا الأمر انطوائية، فكلما فكرت أن أبني علاقات صداقة جديدة تذكرت أنني سأموت، ولن تفيدني صديقاتي شيئاً، مع أني أحيانا أكون بحاجة إلى من يعينني، ويصرف بالي عن هذه الأوهام، ويعينني على فعل الخير، إلا أن عدم خبرتي في بناء الصداقات تعيقني.

أضف إلى ذلك خوفي من الموت، ورغبتي في الانقطاع عن الدنيا، مما جعلني أتصور بأنه لا بد أن أهرب من الدنيا، وأعتزل لأعيش في مكان يخلو من البشر، كالجبل مثلا لأعبد فيه ربي ليل نهار، دون أن تشغلني الدنيا بما فيها من أفراح وأتراح.

والغريب أن تفكيري المتواصل في الموت لم يدفعني لكي أقوي إيماني وأزيد من عبادتي بل أضيع الوقت كله في التفكير في الموت، دون أن أستغله في عمل دنيوي أو أخروي، كما أنني أخشى أيضا أن يخطف الموت قريباً لي، أو عزيزاً على قلبي، لدرجة لا أستطيع معها الصمود، فأنهار أو أموت من الحزن فتسوء خاتمتي والعياذ بالله.

فأنا لا أملك الصبر، وأنهار عند أول ضائقة تعصف بحياتي، لذا فأنا محتاجة لتقوية إيماني بحيث أستطيع الصمود فيما لو حصل أمر مكروه، لا قدر الله، ولا أعرف الطريق إلى ذلك، ولا أعلم كيف أقوي أيماني؟، وما الذي يجعلني أعيش حياة طبيعية، مثل سائر البشر.

أرجو الرد بأسرع وقت، فالوقت يمضي، وما زالت حياتي على نفس المنوال ؟

السؤال
فريق الاستشارات الإيمانية
المستشار
الرد
يقول الأستاذ وصفي عاشور أبو زيد، باحث شرعي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة :

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه واتبع هداه، وبعد،،،،

لابد في البداية من تقرير مجموعة من الحقائق التي تريح المسلم إيمانياً، وبالتالي نفسياً، ومنها :

**أن الموت هو حقيقة الحقائق في هذا الوجود التي يهرب منها ويتناساها كل إنسان، وقد أوصى النبي، صلى الله عليه وسلم، بالإكثار من ذكره؛ لما في ذلك من ترقيق للقلب وتزهيد في الدنيا، وإلجام للنفس أن تقع فيما حرم الله. كما أن كثرة ذكر الموت تعود بثلاث فوائد: تعجيل التوبة، والرضا بالقليل، وعدم مزاحمة أهل الدنيا في دنياهم، وفي المقابل فإن نسيان الموت والغفلة عنه يورث أشياء ثلاثة: قسوة القلب. وتسويف التوبة، وحب الدنيا، ومَن تعلق قلبه بها أورثته شغلاً لا يفرغ منه أبدًا، وهمّا لا ينصرف عنه أبدًا. وعدم رضًا لا ينفك عنه أبدًا ولو ملك كنوز الأرض.

**أن الموت ليس شرا، وإنما هو انتقال من دار الفناء إلى دار الحق والبقاء، ومن مخالطة الخلق إلى مجاورة الحق والنظر إلى وجهه الكريم، ولو كان شرا ما كتبه على أحب الخلق إليه محمد صلى الله عليه وسلم: "إنك ميت وإنهم ميتون". و جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا محمد عش ما شئت فإنك ميت, واعمل ما شئت فإنك مجزي به, وأحبب ما شئت فإنك مفارقه...". ولما خُير، عليه السلام، عند قبض روحه بين البقاء في الدنيا والرفيق الأعلى قال: "بل الرفيق الأعلى". ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.

** العزلة مطلوبة للمسلم وذكر الموت مطلوب ومسنون، لكن لا يعني هذا اعتزال الناس وكراهية البقاء في الدنيا، بل ذكر الموت يجب أن ينعكس بالإيجاب على سلوك المسلم، ويجعله مقبلا على الحياة ليعمل فيها كل خير، ويُحَصِّل كل ما يدخر له الأجر والثواب عند الله، فهو ميدان منافسة ومسارعة إلى الخيرات، وليس ميدان انعزال وإحجام عن الحياة والأحياء، وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم، : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم". رواه الترمذي(2507)، وابن ماجه(4032) من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما.

**مخالطة الناس والحياة لا يجوز أن تستغرق المسلم لدرجة أن ينسى الغاية من وجوده، وينسى الله والدار الآخرة، بل ينبغي التوازن بين هذا وذاك، الموازنة بين الروح والجسد، بين الحمأ المسنون والنفخة من روح الله، بين الاستجابة لمطالب البدن، وتلبية أشواق الروح، ويكون كما وصف أحد الحكماء حالة الأنس بالله وشواهدها، فقال عن المسلم: "هو منفرد في جماعة ومجتمع في خلوة، وغريب في حضر وحاضر في سفر، وشاهد في غيبة وغائب في حضور، مخالط بالبدن منفرد بالقلب، مستغرق بعذوبة الذكر". فهو يخالط الناس ويجتمع بالحياة لكن لا ينسى غايته، ومراده و مطلوبه الأعلى.

** كما أن ذكر المسلم للموت واستحضاره للآخرة لا يصح أن يُستغرق فيه لدرجة القنوط والانعزال التام، والشعور باليأس والإحباط، وعدم الرغبة في رؤية أحد أو مقابلة أحد، أو ممارسة الحياة الطبيعية، فلا رهبانية في الإسلام، وإنما ربانية ووسطية، بين الإفراط والتفريط، وبين الطغيان والإخسار: "وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان".

ولكي تخرجي من الحالة التي تعيشينها، يجب أن تتفكري في الحقائق السابقة وتعيدي فيها التفكير، والنظر مرات ومرات، بالإضافة لبعض الوسائل، منها :

* أن تتفكري في نعم الله الكثيرة عليك ـ كما جاء في رسالتك ـ فكم من الناس لا يستطيع المشي، وكم من الناس فاقد للبصر، وكم من الناس لا يستطيع قضاء حاجته، وكم منهم لا يجد ما يقيم به صلبه، وقد أنعم الله عليك بالأمن والكفاية والعافية، وهذا يستدعي منك أن تقومي بواجب شكره علي هذه النعم، والشكر عمل وانخراط في الحياة كما قرر القرآن: "اعملوا آل داود شكرا".

* أن تبعدي عن فكرك هذه الوساوس الشيطانية، والتي وصفتيها بأنها: "أوهام"؛ لأنك مؤمنة بالله ورسوله واليوم الآخر، وتحبين لقاء الله، وتطلبين من الله الرضا والجنة، فكيف بمن هذه حالة أن يلعب به الشيطان ويوقعه في شركه وحبائله؟ ويكون ذلك بدوام ذكر الله والتفكر في الحقائق الكبرى، وإدراك أننا ما خلقنا إلا للابتلاء والاختبار والعبادة وعمارة الأرض.

* أن تحاولي مصاحبة الأخيار الأبرار من الأخوات المسلمات اللائي يساعدنك في إبعاد هذه الوساوس والأوهام عن عقلك، فتتعاونوا جميعا على البر والتقوى، وابعدي تماما عن قرناء السوء أو من يفهمون حقيقة الموت فهما سلبيا، فالطبع سراق، والمرء على دين خليله.

* إذا مات لك حبيب أو عزيز فتأسي في ذلك بموت رسول الله، وصحابته من بعده والصالحين من السلف الصالح من بعدهم، والأنبياء من قبلهم، وتذكري أجر الصبر على المصيبة، وهو ثلاث جوائز: صلوات من الله، رحمة من الله، هداية من الله، مصداقا لقوله تعالى: " وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ". وأن الصابرين يحبهم الله، ويحظون بمعية الله، ويُوَفَّوْن أجرهم بغير حساب، فملاحظة هذا الثواب تريح المسلم وتجعله راضيا بقضاء الله، وقد عثرت امرأة فدميت إصبعها فضحكت، فقيل لها: أتضحكين وقد دميت إصبعك؟ فقالت: "إنما أخاطبك على قدر عقلك، حلاوة الأجر أنستني مرارة الألم". واعلمي أن ابتلاء الله للإنسان فيه الخير كل الخير، فربما كنت بعيدة عنه فأراد أن يقربك منه، والله دائما يحب من العبد أن يسأله وأن يدعوه وأن يتضرع إليه، فقدر الله خير على كل حال.

* حال المسلم في كل الأحوال سعادة سرور؛ لأنه يتقلب في قدر الله الذي لا يأتي إلا بكل خير، سواء في السراء أو الضراء، وهو ما دعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعجب، حين قال: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له". رواه مسلم.

وقد قال ذو النون المصري: "إن المؤمن إذا آمن بالله واستحكم إيمانه خاف الله، فإذا خاف الله تولدت من الخوف هيبة الله، فإذا سكن درجة الهيبة دامت طاعته لربه، فإذا أطاع تولد من الطاعة الرجاء، فإذا سكن درجة الرجاء تولد من الرجاء اشتياق أداّه الشوقُ إلى الأنس بالله، فإذا أنس بالله اطمأن إلى الله، فإذا اطمأن إلى الله كان ليله في نعيم، ونهاره في نعيم، وسره في نعيم، وعلانيته في نعيم".

فاملئي قلبك بحب الله وحب رسوله، وحب الناس وحب الحياة وحب الموت، وسددي وقاربي و أبشري، والله يحفظك ويرعاك. وتابعينا بأخبارك لنطمئن عليك.

طالعي أيضاً :
تمني الموت هربا من المعاصي
إيماني ضائع وأفكاري مشتَّتة!
هاجس الموت يطاردني في الأحلام

ليست هناك تعليقات: