الثلاثاء، 15 يناير 2008

هجرة الدعاة وهجرة الرعاة

وصفي عاشور أبو زيد
مع بزوغ فجر العام الهجري الجديد 1429هـ، ومع انتشار حالة من الاسترخاء لدى كثير من "دعاة" العصر يصدر كتاب: "هجرة الدعاة أم الرعاة" لمؤلفه الأستاذ الدكتور صلاح الدين سلطان المستشار الشرعي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمملكة البحرين، وهو الكتاب الثامن ضمن سلسلة "قضايا اجتماعية وإسلامية" التي يصدرها المجلس.
طالع:
النص الكامل للكتاب
وفي بدايته يتساءل سلطان عن دوافع المسلمين للهجرة الأولى في الإسلام، إلى الحبشة وإلى المدينة، ومنها إلى كل بقاع الأرض، قائلا: "لم أجد إلا رغبة صادقة في نقل هذا الدين العظيم من الاستضعاف إلى التمكين، وإخراج العالم من وهدة الشرك إلى قمة الإيمان، ومن الذل لغير الله إلى العزة بالإسلام، ومن الفقر إلى العباد إلى الغنى برب العباد، واستبان لي جلياً الفرق الهائل بين هجرتنا وهجرتهم، بين سفرنا وسفرهم، حركتنا وحركتهم، بين هجرة الدعاة والرعاة".
ويبين المؤلف الفوارق الأساسية بين هجرة الدعاة وهجرة الرعاة مستعرضا بعض المظاهر لهؤلاء وأولئك فيقول: "هجرة الدعاة تمكين للإسلام وعمارة الدنيا والآخرة، أما هجرة الرعاة فتمكين للنفس والهوى وركون إلى الدنيا، هجرة الدعاة تضحية وحركة وعطاء، وهجرة الرعاة أنانية وأثرة واسترخاء، هجرة الدعاة همة عالية نحو رضا الله والجنة، وهجرة الرعاة همة نحو عيشة هنية، ولقمة طرية، وحلة رخية، وامرأة بهية، ووفرة مادية، هجرة الدعاة حولت أرض الشرك إلى دار إسلام لا تغرب عنها الشمس، انطلقت من مكة والمدينة إلى العراق والشام وفارس ومصر والمغرب العربي والأندلس والهند والسند، وما وراء النهر والبحر".
لكن سرعان ما تراجع الفتح، وانحسرت أشعة شمس الإسلام عن هذه البقاع، فـ "خفت نور الإيمان، واستأسد الشيطان، وركن المسلمون إلى الترف وإشباع الهوى وتثبيت الملك والسلطان، وعادت النوبة والقوة إلى الشيوعيين والهندوس وعباد الصلبان. وصار المسلمون اليوم أتباعا في بحر هائج بالفتن بلا شطآن، (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ) [الأنعام:من الآية71]، وظل الدعاة يدعونهم إلى الهدى منهج الرحمن. لعل فجراً جديدا يطل بنوره على كل إنسان".
لمسة وفاء
ويقدم المؤلف في هذا الكتاب بالإضافة إلى التفريق بين هجرة الدعاة والرعاة، نماذج من الفتوحات الكبرى التي اختصرها من مقالات ودراسات المتخصصين، حيث إن جيل الرعاة ليس عنده وقت حتى للمختصرات من جهاد وهجرة الدعاة، معتمدا بشكل رئيس على مقالات تلميذه المرحوم الأستاذ الباحث أحمد تمام لسهولة عبارته ودقة اختياراته، وأملا في أن يضاعف الله له الأجر ويجري له الثواب، وهي لمسة وفاء ولفتة تربوية قلما نجدها اليوم وبخاصة أنها من أستاذ لتلميذه، بعد أن تعودنا أن يكون الوفاء من التلميذ للأستاذ، ومن الابن لأبيه وأمه.
بين هجرة وهجرة

يستعرض الدكتور صلاح سلطان التطور الهائل في الاتصالات والمواصلات في حياة البشر، وكيف أن الإنسان يستطيع الآن أن يقطع آلاف الأميال في ساعات معدودة، لكنه يتساءل في هذا السياق: "هل هذه الحركة أو الهجرة من بلد إلى آخر، ومن أرض إلى أخرى، ومن بيت إلى آخر، ومن عمل إلى غيره، هل هي من هجرة الدعاة أم الرعاة".
ويجيب عن هذا السؤال بتوضيح أهم الفوارق بين الهجرتين في ثلاثة عشر فارقا، يفصل فيها ما نقلناه قبل قليل:
1ـ هجرة الدعاة نظرهم إلى رحمات السماء، وهجرة الرعاة نظرهم إلى خشاش الأرض.
2ـ هجرة الدعاة يرجو صاحبها رضا ربه، وهجرة الرعاة يرجو إشباع رغباته ونزواته.
3ـ هجرة الدعاة تزرع الأرض الصحراء لتكون واحة غناء، وهجرة الرعاة يأكلون كل خضراء، ويتركونها صحراء جرداء.
4 ـ هجرة الدعاة تعمير، وهجرة الرعاة تدمير.
5ـ هجرة الدعاة تمكين للإسلام وفعل الخير ونفع الغير، وهجرة الرعاة تمكين للنفس، وأنانية في جلب الخير، وإن تضرر الغير.
6ـ هجرة الدعاة تضحية لأجل رضا الله ونشر الإسلام، وإن ترك الإنسان العيش الرغيد، وهجرة الرعاة تضحية بالواجبات والقيم والمُثل من أجل لقمة طرية، وزوجة بهية، وعيشة هنية.
7ـ هجرة الدعاة لا تفرق بين أرض ذات ثراء، وفقر وشقاء، فالأرض لله يورثها من يشاء، والدعوة واجبة في جميع الأرجاء، وهجرة الرعاة بحث عن كل أرض فيها غنى وثراء، وغرس ونماء، كي يقطف الثمار، ويلتقط الأزهار، وإن غفل عن العودة إلى العزيز الغفار.
8ـ هجرة الدعاة نهم على العلم الذي يرفعه في السماء، ويمكنه لدينه في الأرض، وهجرة الرعاة (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7].
9ـ هجرة الدعاة تحفها أخلاق ذوي المكارم والمروءات، لا يغير جلده مهما اشتدت الأزمات، وهجرة الرعاة تبدل الأخلاق وفقا للمغانم، ولا تكترث بالمكارم، وقد تجترئ على المحارم.
10ـ هجرة الدعاة تقبل المغارم مع قوة العزائم، وهجرة الرعاة تسعى إلى المغانم، مع انهيار العزائم.
11ـ هجرة الدعاة نور يمشي به الدعاة بين الناس من كل لون وجنس، وهجرة الرعاة معاص وذنوب ورجس.
12ـ هجرة الدعاة عفة عن السفاسف والشبهات والنجاسات، وهجرة الرعاة خسة ووحل وتخبط في ظلمات المحرمات.
13ـ هجرة الدعاة يبحثون عن هداية الناس إلى طريق الله تعالى، وهجرة الرعاة يبحثون في الأماكن السياحية الراقية لاسترخاء يطولُ أو يقصر، ناسين هموم أمة عدا عليها كل عنيد.

هجرة الدعاة
وحتى تتضح الصورة - وبالمثال يتضح المقال - ويتكشف المشهد أمام القارئ يستعرض المؤلف صورا تسعة من هجرة الدعاة في تاريخنا المشرق:
1ـ على رأسها هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان فيها من معاناة وإغراءات حتى وصل إلى المدينة ليبدأ في الإعمار والبناء للرجال والنساء والشيب والشباب، واستعدوا جميعا إلى تكاليف بناء الدولة وعزة الإسلام، فكانت الغزوات تلو الغزوات والسرايا بعد السرايا، وعاش يتنقل بين أرجاء المدينة وبدر وأحد والخندق، وفتح مكة وحنين وخيبر في غزوات وسرايا زادت عن الخمس والثلاثين، في أقل من عشر سنين، بما يعني أن حياته صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تعرف إلا الهجرة والجهاد والحركة الدائبة لنشر الإسلام في العالمين، مما يوجب استعادة هذه الروح الحركية الجهادية القوية لاستعادة ما استعبد من بلاد، وهداية من ضل من العباد، وإلا صرنا بحق أكذب الناس على الله سبحانه.
2ـ هجرة الدعاة إلى العراق والمدائن؛ حيث فتحُ أبي بكر للعراق بعد حركة الردة المعروفة ثم فتح الأنبار ودومة الجندل والمدائن.
3ـ هجرة الدعاة إلى الشام وفلسطين.
4ـ هجرة الدعاة إلى مصر.
5ـ هجرة الدعاة إلى المغرب؛ حيث ليبيا وتونس والجزائر والمغرب.
6ـ هجرة الدعاة إلى الأندلس.
7ـ هجرة الدعاة إلى بلاد السند والهند.
8ـ هجرة الدعاة إلى ما وراء النهر، وفيها هجرتهم إلى أذربيجان وأرمينيا وخراسان، وبخارى، وسمرقند.
9ـ وأخيرا هجرة الدعاة إلى القسطنطينية.
وهكذا يستعرض بنا المؤلف كل هذه الصور كاشفا عن أبرز الأحداث التي توضح الهدف من الكتاب عبر أئمة الجهاد من الصحابة والفاتحين المسلمين أمثال: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعقبة بن نافع، وموسى بن نصير، وطارق بن زياد.
ثم يعقب بعد كل صورة بعبارة تبين كيف كانت هجرتهم لنشر دين الله في الأرض، وكيف كان جهادهم وبلاؤهم وتضحيتهم، مقارنا هذا كله بحالة الاسترخاء التي يعيشها رعاة يحملون لقب الدعاة، ثم يقول في كلمات أخاذة معبرة لا ينقصها البيان الساحر: "هذه صفحات من نور الله تحتاج أن تغير نفوسا عاشت لا تعرف سوى اليأس والإحباط، والركون إلى الذين ظلموا، والخوف من بطشهم والانبهار بعددهم وعدتهم، مع ما يحملون من أحقاد وضغائن لغيرهم.
فهذا محمد الفاتح يقول من وراء أستار قبره: فليثق المسلمون في ربهم، وليثق القادة في شعوبهم، وليثق الشباب في قدراتهم، ولنتحرك جميعا - دون إبطاء - نحو إيمان عميق، وترابط وثيق، وعمل دقيق، لا يعرف الملل، ولا يتطرق إليه كلل، وإبداع في الآلات والمعدات؛ لنأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع، ونطور آلتنا العسكرية مما نبدع، ولنغير قوانيننا لتكون كما أمر ربنا وشرّع، وآنئذ ستعود أوربا مسلمة كما كانت على يد القائد محمد الفاتح المبدع، وسنكون أكثر سماحة مع من حاربونا، عفواً نعيد به سيرة سلفنا الصالح، ونورًا يشرق على الأرض ويسطع".

دعاة أم رعاة؟
وحتى لا يكون الكلام تنظيريا وسردا تاريخا وكفى - مع ما في طريقة السرد ومنهج العرض من استنهاض للهمم واستبقاء للربانيين من الدعاة - يرفع الداعية الدكتور صلاح سلطان هذه الصفحات المشرقة ليحاكم إليها صفحة واقعنا، متسائلا بعد عقد هذه المقارنة: هل نحن دعاة أم رعاة؟
وللإجابة على هذا السؤال يطرح أمام القارئ عشرة أسئلة ليجيب عنها بنفسه ويحدد هل هو من الدعاة أم من الرعاة، ومنها:
* إن كنت من عمار بيت الله من الفجر إلى العشاء، فهذا من صفات الدعاة، وإن كنت ممن يعمر المجالس والمشاهد دون المساجد، فأنت من الرعاة.
* إن كنت ممن يسعى نحو الغنائم الباردة في أذكار واردة أو حلقات علم شاهدة تأخذ بعقلك وقلبك إلى ذكرى الآخرة وعمارة الدنيا، فأنت على صفة من صفات الدعاة، وإن كنت من أصحاب الغنائم الهابطة، تغزو الأسواق بلا ضابط شرعي أو ميزان، حركتك وسفرك للدراهم والدنانير والدولارات، فأنت من الرعاة لا الدعاة.
وهكذا يعقد مقارنة عبر عشرة أسئلة يقارن فيها بين حال وحال، وهي تقترب مما سبق بيانه في المقارنة بين هجرة وهجرة؛ ليصل القارئ إلى تقييم نفسه وتحديد ما إذا كان من الدعاة أم من الرعاة.
من حال إلى حال
كيف نرتقي من حال الرعاة إلى حال الدعاة؟ هذا ما يختم به المؤلف كتابه لتكتمل الصورة، ويتضح الدواء بعد تشخيص الداء، عبر جدول في نهاية الكتاب ضم الانتقال من 77 حالة للرعاة إلى مثلها كي نبدأ طريقنا إلى حال الدعاة، ومن ذلك:
الارتقاء من زيارة المساجد إلى عمارتها، ومن القراءات العشوائية إلى الدراسات المنهجية، ومن العصبية الذميمة إلى الأخوة الحميمة، ومن الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن فقه الفتاوى الفردية إلى فقه المجامع الفقهية، ومن الفقر والمسكنة إلى الغنى والمرحمة، ومن العزوبة الحارقة إلى الزوجية الرائقة، ومن ردود الأفعال العشوائية إلى الخطط المستقبلية، ومن السلبية إلى الإيجابية، ومن كتمان الحق إلى إظهاره، ومن السكوت على المنكر إلى إنكاره، ومن إلف المعصية إلى تغيير المنكر، ومن الأنانية والأثرة إلى الإيثار.
وهكذا يمضي بنا من حال إلى حال حتى يكمل سبعة وسبعين حالا، لابد إذا أردنا أن نرقى لحال الدعاة أن نتخلص من مقابلها في حال الرعاة، ثم يقول: "هذه هي الخطوات الأولى لهجرة الدعاة، فيها هجر ما نهى الله عنه، والتزام ما أمر به، وآنئذ ستتغير أوضاع آلمت كل حرّ، وأغرت كل غرّ، وجلبت كل ضُرّ، لكن أملاً عريضاً أن يعم البر ويتضاعف الخير، وتعود الأرض تسمع آذان الفجر، وتغريد الطير، تردد معنا أنغام الذكر، وألحان الشكر، وآيات النصر كما قال الله تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر:45]".
والكتاب يتميز بالجمع بين الحس الشرعي، والتجربة الدعوية الحركية، والبعد التربوي الإيماني، فهو يقنع العقل ويمتع القلب ويحرك الوجدان، وقد استعان مؤلفه في عرض الحقائق بالرسم البياني والخرائط والجداول وغير ذلك، فهو كتاب لا يسع دعاة العصر إلا مطالعته والإفادة منه.
موقع إسلام أون لاين

ليست هناك تعليقات: