الثلاثاء، 22 يونيو 2010

توحش العلمانية


توحش العلمانية


بقلم: د। خالد فهمي



رعى الفقهاء المسلمون عبر التاريخ مستجدات الحادثات، وتعاطوا معها حتى استقرَّ فقه النوازل فرعًا مهمًّا في أدبيات هذا العلم الشريف عند المسلمين.

وليس من شك في أن تقدير قيمة النازلة يزداد خطرًا إذا ما اشتبك مع ما يمكن أن يقود إلى تعطيل بعض الشريعة، ولا سيما أن لله مرادًا ومقصدًا من حفظِ دينه واستقرارِ شريعته وتنامي تشريعها وتعظيمها.

وعلى خلفية هذا المدخل فإن المسلم المعاصر يحتاج إلى شيء من الرؤية في قراءة المشهد المتعاطي مع أزمة إنفلونزا الخنازير من قِبل الإدارة الحكومية في مصر، ولا سيما بعد صدور قرار مجلس الوزراء بتأجيل الدراسة، كما صرحت الصحف كافةً في أعدادها الصادرة يوم الجمعة 21/9/1430هـ= 11/9/2009م، ومن قبله صدور قرار منع فئات عينتها الحكومة المصرية من العمرة والحج.

وهو الأمر الذي لا يصح معه أن نقرر أن تعامل الإدارة المصرية مع الأزمة كان تعاملاً مجتمعيًّا يركن إلى جانب النصيحة والإرشاد؛ ذلك أنها اتخذت قرارات مانعة لعددٍ من الفئات العمرية من الخروج للحج والعمرة.

والقارئ لخلفيات إدارة الأزمة لا يستطيع أن يمنع نفسه من توارد عددٍ من الملاحظات المهمة، وهي تتبدى خلف هذه الأزمة وخلف شكل التعاطي معها، وأنا أستأذن القارئ الكريم في سردها في هيئة فقرات كما يلي:

أولاً: لا يستطيع أحد أن يمنع ذهنه من تصور إسهامٍ متفاوت التقدير في حجمه لما يُسمَّى بأجواء النظام العالمي الجديد بمعنى أن ثمة تصورًا حاضرًا في الذهن يرعى شيئًا من إرادة الغرب للتقليل من المشهد المتولد عن موسم اجتماع المسلمين في الأراضي المقدسة؛ أي أن يكون المنظمات الدولية المعينة بمتابعة الأزمة يعكس مرادًا ظاهرًا للقضاء أو للتخفيف من آثار المشهد الناتج عن اجتماع الحجيج في صعيدٍ واحدٍ في غير ما مكان من أماكن المناسك، وهو ما يعكس وعيًا بمقاصد الحج السياسية، وهو ما يصدقه ما تواتر من إرادة هذه المقصد في مثل هذه المناسك.. ألم يكن خروج النساء الحُيَّض إلى العيد لتكثير سواد المسلمين ولشهود الخير وجماعة المسلمين؟.

ثم ألم يُجوِّز الشرع تزيين السلاح في مواجهة الأعداد مع سابق المنع الكلي لاستعمال الذهب والفضية بدافع كسر قلب العدو والنيل منه.

إن من المهم جدًّا أن نلمح- ولو احتمالاً- أن ثمة مرادًا للعولمة في إخفاء هذا المشهد الجامع للحجيج في أرض المناسك المعظمة لأن بعدًا نفسيًّا مهمًّا يتسلل من ورائه للجماهير الغربية يعيد التذكير من كل عام بآثار الفتوحات الإسلامية التي رفعت الأذان في قلب أوروبا في زمنٍ ما.

إن ضرب موسم الحج بما هو نسك ذو وجه سياسي ربما يكون غرضًا عالميًّا.

ثانيًا: ربما يكون إغراقًا منا في التأمل والقراءة أن نقرر أن ثمة مرادًا يقف في خلفية التهوين من مكانه الأراضي المقدسة لتستعمل ورقة ضغط على النظام الحاكم في المملكة العربية في الجزيرة العربية من قبل الغرب المساعد للصهاينة لدفعها دفعًا نحو التطبيع أو ما هو بمنزلة التطبيع.

ومن جانبٍ آخر فإن قراءة اقتصاديات الحج بما هي رافد من أهم الروافد الداعمة للاقتصاد السعودي فإذا ما تم إحراز نجاح في التأثير السلبي في هذا الاقتصاد أمكن أن يتقدم الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وإسرائيل) خطوةً أخرى في إرباك النظام السعودي الحاكم مهما كانت الرؤى حوله اتفاقًا واختلافًا.

وهذا الوجه المنضوي تحت هاتين الفقرتين الأولى والثانية؛ مما سميناه بضرب المقصدين السياسي والاقتصادي للحج كان ظاهر معلن في سياق قوله تعالى ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)﴾ (الحج)، ذلك أن التعليل الوارد في الآية الكريمة دائر حوله مركز ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾، وهو تعبير واسع يشمل هذه المداخل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا شك أن العلمانية الغربية وما يتبعها من نسخ عربية تستهدف الفتك بهذه المنافع.

ثالثًا: ثمة ملحظ ثالث في سياق تأمل هذه الأزمة يجب التوقف أمامه، وهو أن تاريخ المسلمين لم يعرف على امتداده ما يسمى بتعطيل الشريعة أو منع نسك هو في رتبة الركن، صحيح أن حفظ النفس الإنسانية مقصد كلي عن مقاصد الشريعة الغرَّاء، لكن الشريعة في سعيها وحرصها على تأمين هذه النفس وصيانتها تتحرك وصوب عينيها حفظ الدين وعدم تضييع الشريعة.

وهو الأمر الذي يتبدى من وراء التحول عن القيام إلى العقود أو الاضطجاع في الصلاة لمَن هو غير قادر على القيام، ومن تأجيل الصيام لمن لا يقدر عليه إلى أيام أخرى يسعه الصيام فيها.

إن السوابق التاريخية التي مرَّت على الأمة لم يصاحبها دعوة من قبل العلماء أو الحكام الإسلاميين بتعطيل فريضة في حجم فريضة الحج، فكم من طاعونٍ فاتكٍ أصاب غير بلد إسلامي بدءًا من عام الرمادة وطاعون عمواس، وانتهاءً بطاعون الكوليرا سنة 1947م، الذي ضرب مصر، وفي أيام الحملات الصليبية وما صاحبها من قطع طرق المواصلات الإقليمية والعالمية.. أقول في كل هذه السوابق التاريخية لم نسمع دعاة إلى تعطيل الشريعة باسم وباء واسع الانتشار حقيقةً، غير واسع الفتك أيضًا.

رابعًا: ثم إن هناك مسألةً أخرى لم يقف أمامها هؤلاء الدعاة ويمحضوها فكرهم، وهي مع الإقرار بتوافر أجواء تتهدد الأمن الإنساني من جزء سعة انتشار هذا الوباء، وهو ما يصب مباشرةً في باب المقصد الكلي المتعلق بحفظ النفس فأين المقصد الكلي المتعلق بحفظ الدين، أن أي حكومة في أي بلدٍ مسلم مسئولة عن أمرين معًا هما حراسة الدين وحراسة مصالح الناس، وإذا كان التوجه نحو المنع الجزئي أو الكلي من الحج والعمرة مثلاً بفرض حفظ النفس الإنسانية فأين الممارسات القاضية بحفظ الدين وحراسة الشريعة، وعند التعارض إن صح وجوده فأين تراتب المقاصد الكلية؟ هل حفظ الدين مقدم أم مؤخر في مواجهة حفظ النفس.

وإذا صحَّ لنا أن نتوسع في المقارنة فإننا نتوسع في إطلاق الأسئلة متابعةً منا لما أطلقه الشيخ جمال قطب في لقاءٍ جمعنا به الصديق العزيز الدكتور رفعت سيد أحمد في مركز يافا للدراسات والبحوث بعد دعوة كريمة للإفطار يوم الخميس 20 رمضان 1430هـ =10 سبتمبر 2009م، وهو محق تمامًا في إطلاقها.. لماذا لم تتحرك الإدارة في اتجاه منع الجماهير التي تملأ مدرجات ملاعب كرة القدم؟ ولماذا لم نسمع دعوة تدعو إلى إغلاق دور السينما والمسارح؟ إنني- والكلام لي- أرى في هذه الخطوة من قبل الإدارة المصرية ما يعكس توحش العلمانية وتوحش رموزها المقربة من دوائر اتخاذ القرار.

ومن الحق أن نقرر- محذرين- أن الاقتراب من دائرة تعطيل بعض الشرائع وإن أحرز نصرًا للدوائر العلمانية فإنه نصرٌ زائفٌ من فصيلة الانتصارات المدمرة المخيفة المرعبة المهددة للأمن والسلام الاجتماعيين؛ لأنه نصر رخيص يتهدد دين الناس.

خامسًا: ثمة بُعد آخر يتبدَّى لنا من خلف قراءة تداعيات الأزمة، وهو البعد المتعلق بمدى توافر أجواء حسن الظن بالمؤسسة الدينية الرسمية بما فيها الأزهر الشريف ودار الإفتاء، وإليك بعض علامات هذا التوجس.

كيف نُفسِّر سكوت المؤسسة الدينية الرسمية تجاه هذه الأزمة؟ وكيف نُفسِّر صمتها في مواجهة عدم دعوة رجالها لاستطلاع آرائهم من قِبل مجلس الوزراء المصري؟!!.

ثم هل يمكن أن نُصدِّق أن رجال صناعة الفتوى الرسمية في مصر الذين انحازوا بأخرة إلى القرار الحكومي القاضي بمنع بعض الفئات السنية من الحج والعمرة، وبتأجيل الدراسة فقط دون منعٍ لتجمعات المشاهدين في الملاعب ودور السينما والمشاهدات المسرحية وغيرها.. أقول هل يمكن أن نُصدِّق أن رجال صناعة الفتوى الرسمية في مصر لا يعرفون فارقًا ما بين الوباء والطاعون حتى يستشهد كبراؤهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه "إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا كنتم بها فلا تخرجوا منها" (متفق عليه).

والثابت المستقر عملاً بجمع السنة جوازًا الخروج بشرط عدم الفرار لمنطوق عددٍ من الأحاديث المقيدة بقيد الفرار، وهو ما يُثير أسئلةً كثيرةً حول تغييب هذا القيد الذي يجوز مع اعتباره الخروج والدخول للشغل على حدِّ تعبير الفقهاء، وهو الأمر المعتبر في الخروج للحج والعمرة والمعتبرات الشرعية.

ونحن هنا في حاجةٍ إلى أن نسأل عن الفارق بين الطاعون والوباء، ومع القول بالتسوية فهل صحَّ عن أحدٍ منع الخروج مطلقًا؟ وإن كان فماذا نفعل في المرويات الصحيحة المقيدة بقيد المنع من الخروج بسبب الفرار؟

إن تساؤلات كثيرة هذه أمثلة عليها تعيد التساؤل مرةً أخرى حول ما شاع زمانًا طويلاً عما سمي باسم فقهاء السلطة ومفتي السلطات، كيف صحَّ أن تغيب هذه الاعتبارات في التكييف المعاصر فقهيًّا؟!!.

إن شيئًا ما من أزمة الثقة تسكن قلوب الجماهير حول رجال صناعة الفتوى الرسمية في مصر، وهذه بعض مسوغاتها.

ويبقى في النهاية أسئلة كثيرة حول الإسهام العلماني في إشعال جذور الجرأة على شعائر الإسلام؛ ذلك أنه إن كان صحيحًا أن إنفلونزا الخنازير ارتقت لتكون طاعونًا، وهو غير صحيح جملةً وتفصيلاً.. فلماذا غُيِّب الرأي الفقهي القاضي بتجويز الخروج لغير الفرار، وإن كانت مصر دار وباء عام فلماذا لم تمنع السفر للعمل والدخول للسياحة؟!.

إن المتابع القارئ لخلفيات إدارة أزمة إنفلونزا الخنازير في اشتباكها على قرارات المنع الجزئي للحج والعمرة وما يتعلق بها أيضًا من قرارات داخلية يشمُّ رائحة توحش علماني يسكن أروقة اتخاذ القرار في مصر.

على أنه من الحق أن نقرر تبعًا لما قرره الشيخ جمال قطب والدكتور عبد التواب مصطفى أن النظام المصري أحسن في شيءٍ ينبغي أن يُذكر له نظريًّا، وهو دعوته لمنظمة الصحة العالمية أن تقرر المعايير الفنية وراء ما إذا كان هذا المرض داعيًا إلى اتخاذ إجراءات مانعة أم لا؟.

لكن ذلك الإقرار بهذه النقطة الإيمانية لا تستطيع أن تعمر في مواجهة كل علامات التوحش العلماني الذي يجر البلاد نحو مربع الجرأة على الشريعة، وكل رجائنا ألا تتورط الحكومة المصرية فتدخل في نفقٍ شديدِ الإظلام على مداخله لافتة تُعلن إنه قد بدأت مرحلة تعطيل المناسك والمنع من أداء الفرائض.

باسم الأمن والسلام الاجتماعي، وباسم واجب حراسة الدين، وباسم ضرورة استبقاء سمعة المؤسسة الدينية الرسمية ندعو الجميع إلى أن يصونوا الشريعة ويحسنوا إلى الدين والناس.
---------
كلية الآداب جامعة المنوفية

ليست هناك تعليقات: