الثلاثاء، 22 يونيو 2010

نصوص الشرع بين التقاليد الراكدة والوافدة


نصوص الشرع بين التقاليد الراكدة والوافدة

[18/05/2010][11:56 مكة المكرمة]



بقلم: وصفي عاشور أبو زيد


من أخطر المناهج التي تؤدي إلى الانحراف غلوًّا أو تقصيرًا أن نجعل الواقع والموروث الثقافي الذي نشأ عليه الفرد مصدرًا للحكم على التصرفات والأفعال والرؤى بالصحة والبطلان، أو الحلال والحرام.
ولا يقل خطورةً عن الموروث الثقافي الراكد أن يجعل الفرد العادات والتقاليد الوافدة هي الأساس والمنطلق في الرؤى والتصورات وبناء الأحكام على السلوكيات والتصرفات بالتحليل والتحريم، وهذا يقتضي أن نفرد بالحديث كل واحدة منها لنبين مآلاتها وخطورتها:

أولاً: التقاليد الراكدة والموروث الثقافي:

حين ينشأ المسلم في بيئةٍ من البيئات، ويتربى على عادات وتقاليد معينة يترسخ في ذهنه أن هذا هو الصواب وما عداه هو الباطل.

أسباب اتباع الراكد:

ولسيادة هذا الفكر مجموعة من الأسباب نجملها فيما يلي:

1- الكسل الفكري وتسليم زمام العقل للموروث الثقافي الموجود.

2- عدم مراجعة المسلمات الموروثة- التي يحسبونها مسلمات- بين الحين والآخر؛ فضلاً عن غيرها.

3- ندرة العلماء الكبار الثقات الراسخين الذين يرجع إليهم في استيضاح هذه المعضلات.

4- ثقافة الأمية والجهل السائدة في مجتمعاتنا العربية والتي تجعل المسلم على ما نشأ عليه دون تغيير.


وهذه منهجية متبوعة منذ قديم، قالها صناديد الكفر حين ظهرت دعوة الإسلام، ودعاهم النبي- صلى الله عليه وسلم- لها، وقد أورد القرآن الكريم مقولاتهم حول اتباع آبائهم، واستنكار ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وغيره من الأنبياء، ومن ذلك:

- ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170)﴾ (البقرة).

- ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (104)﴾ (المائدة).

- ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)﴾ (يونس).

- ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)﴾ (الأنبياء).

- ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)﴾ (الشعراء).

- ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)﴾ (لقمان).

- ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)﴾ (الزخرف).

وهكذا نجد مساحة هذا الأمر واسعة في القرآن الكريم مما يعطي إشارةً إلى خطورة الأمر وأهميته في الحال والمآل، فالتقليد الأعمى سببٌ في الضلال والعمى، ومانع من موانع التوفيق والهدى، ويغلق أمام العقل روافد الإيمان الصحيح، ويعطل القلب عن اعتقاد العقيدة السليمة عبر إعمال الفكر والتأمل والنظر، وقد قال الإمام ابن الجوزي يرحمه الله: "اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل؛ لأنه إنما خُلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أعطى شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة".

مخاطر اتباع الراكد:

وترك ما كان على ما كان، والاعتقاد بأن هذا الموروث- بصوابه وخطئه- هو الصواب المطلق وما دونه هو الباطل، وأن هذا الموروث هو المصدر الذي يستمد منه التحليل والتحريم- هذا له خطورته بلا شك ومآلاته السلبية على الفرد والمجتمع، ومن ذلك:

1- الخلل العقدي الذي يقع في عقيدة المسلم بفعل التقليد الذي يورث الجهل، وبخاصة في عقيدة الولاء والبراء؛ لأن المقلد سوف يوالي ويعادي على العادات والثقافة الموروثة بعيدًا عن محكمات الشرع.

2- تحليل الحرام وتحريم الحلال، ومخالفة الشرع بنصوصه وفهمه السليم.

3- الإمعان في التخلف العلمي والفكري والحضاري.

4- الانغلاق والتقوقع على الموروث وعدم الانفتاح على الصالح والنافع من الوافد.

5- إعطاء صورة سيئة عن الإسلام مما يعزز من وصْف الإسلام بالإرهاب والتطرف.

6- ذهاب الأجيال الناشئة ضحايا لهذا الانغلاق مما يوفر بيئة خصبة للتربية على العنف والتكفير.


بهذه الصورة يتضح لنا خطورة اعتماد الموروث الثقافي والفكري والعقدي والعبادي منهجًا في التفكير والممارسة بعيدًا عن مظلة الشرع وحاكمية النصوص الشرعية من قرآن كريم وسنة صحيحة.


ثانيًا: التقاليد الوافدة:

وكما أن للانغلاق على الراكد من الموروث الفكري والثقافي خطره في طبيعته وآثاره، فإن للانفتاح على الثقافة الوافدة دون ضابط من أصولنا، أو مرجعية من شرعنا أيضًا مخاطر وآثارًا كبيرةً ربما تزيد في طبيعة خطورتها وجسامة آثارها عما يترتب على التقاليد الراكدة.


أسباب اتباع الوافد:

ولهذا الاستلاب الذي يحدث للبعض أسبابه أيضًا كما أن للانغلاق على التقاليد الراكدة أسبابه، ومن هذه الأسباب:

1- عدم التأصيل الشرعي المناسب الذي يقي الإنسان من الوقوع في براثن الوافد، وتمييز ما يقبل منه وما يرفض.

2- قلة العلماء الثقات الذين يُرجع إليهم عند الاختلاف في القضايا الكبرى لبيان الصحيح من الباطل، والحلال من الحرام.

3- النشأة والتربية التي ينشأ عليها الفرد قد تخيل إليه أن الانفتاح على كل جديد مهما كان هو التحضر والمدنية وأن التمسك بالأصول والمبادئ هو التخلف والرجعية.

4- المناهج التعليمية التي ربما لا تزرع فيه منذ الصغر كيف يتعامل مع الوافد- والراكد أيضًا- بضوابط وشروط معينة، ولا تنمي فيه العقل والفكر بقدر ما تعوده على الحفظ والتلقين.

5- التعصب والتشدد في رفض كل ما هو وافد، والعكوف على الراكد فقط، فإن هذا يورث ويولِّد تيارًا آخر مضادًّا له في الاتجاه ينادي بقبول كل ما هو وافد، ورفض كل ما هو راكد؛ فغلو التفريط دائمًا يكون مقابلاً لغلو الإفراط، والعكس صحيح.


آثار اتباع الوافد:

ومن النتائج والآثار السيئة والخطيرة الناتجة على هذا الانفتاح غير المنضبط ما يلي:

1- الانعتاق بعيدًا عن مظلة الإسلام، وقد يدخل صاحبه في دائرة الكفر.

2- ضياع الهوية والقضاء عليها تمامًا، ونسيان الأصول والأخلاق الإسلامية.

3- النظر بازدراء ودونية لكل ما هو أصيل وتراثي على أنه لم يعد صالحًا لهذا العصر.

4- تمييع الشخصية المسلمة، ووضعها في مأزق حضاري في الاختيار بين الوافد الذي يبدو متحضرًا ومتقدمًا حتى لو كان مخالفًا لثوابتنا، وبين القديم الموروث الصالح الذي قد يبدو غير مناسب، وهو غير متعارض مع ثوابتنا، ومن أسباب حدوث ذلك العرض الخطأ للدين، والخطاب الإسلامي الذي يحتاج لمراجعة وتطوير.

5- انطلاق الأجيال الناشئة بعيدًا عن حظيرة الإسلام، بقيمه وأخلاقه، وعاداته وموازينه، واتباع منهجيات أخرى ماسخة للهوية، وقاضية على الدين والخلق.


ثالثًا: المنهج الوسطي هو طوق النجاة:

ولا يشك أحد في أن المنهج الوسط هو التعامل من خلال الشرع لا في ضوء الراكد ولا الوافد، فيتخذ المسلم من شريعته- بقرآنها وسنتها الصحيحة- مرجعًا أعلى يستقي منه العقائد والأحكام، ويأخذ منه التصورات والأفكار، ويعادي عليه ويوالي عليه، ويكون ضابطًا له في حركة الأخذ والرد، والقبول والرفض، فما وافق ديننا قبلناه، وما خالفه رفضناه، وما كان فيه حق وباطل ميزنا حقه عن باطله فقبلنا حقه ورددنا باطله.

وهذا المنهج الوسط في التعامل مع الوافد والراكد يقينَا- يقينًا- من التطرف في الفكر، والعنف في السلوك، والجنوح في الممارسة، ويصحح صورتنا في العالم كله، والتي أصبحت تطارد كل مسلم اليوم على أنه رمز للعنف والإرهاب والتدمير والتخريب، كما أنه يجعلنا نقيس الأمور بمقياس حساس وقسطاس مستقيم، ونضع الأمور في نصابها، فلا نقدم ما من حقه التأخير، ولا نؤخر ما من حقه التقديم، بل يوضع كل شيء في عدلِ مكانه وحاقِّ موضعه.


معالم المنهج الوسطي في فهم النصوص:

وحتى لا يكون الكلام فضفاضًا نضع بعض المعالم التي تعيننا على تلمس المنهج الوسطي في فهم النصوص، والتي أهمها ما يلي:

1- فهم النص مجردًا دون أن يطغى عليه موروث أو وافد، أو ترغيب أو ترهيب.

2- فهم النصوص في ضوء ملابساتها وظروفها وبيئاتها.

3- التفريق في النصوص بين ما هو خاص وعام، ومطلق ومقيد.

4- فهم النصوص في ضوء عللها وحكمها ومقاصدها.

5- التفريق في النصوص بين ما هو واقعة عين لا تتعدى غيرها وبين ما هو مطلق مطرد.

6- التشبث والتمسك بالثوابت، والمرونة في المتغيرات.

7- التشدد في الأصول والكليات، والتسامح في الفروع والجزئيات.

8- التفريق في فهم النصوص بين الحقيقة والمجاز.

9- الترحيب بكل ما يؤيده النص حتى لو كان وافدًا، ورفض كل ما يتعارض معه حتى لو كان موروثًا.

10- الرجوع للعلماء المشهود لهم بالحجة الشرعية والخشية القلبية فيما أُشكل في الفهم أو التطبيق.



أحسب أننا بهذه المعالم العشرة- وبالطبع هناك غيرها- نستطيع أن نصل إلى رؤية وسطية في التعامل مع النصوص وفهمها؛ تجعلنا نعتز بالموروث دون انغلاق، وتمكننا من الانفتاح على الوافد دون ذوبان، وهي رؤية تجعل النص هو الحَكَم في الأخذ والرد، وفي القبول والرفض، وليس ما ورثناه أو ما استوردناه.

------------------

* الباحث الشرعي بالمركز العالمي للوسطية- الكويت

http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=65022&SecID=0

ليست هناك تعليقات: