مبادئ العقيدة في ضوء الوسطية
بهذا العنوان صدر العدد الرابع من سلسلة كتاب: "الأمة الوسط"، التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بالكويت، من تأليف الدكتور عبد العزيز الحميدي، أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى، الذي أودع كتابه معاني مهمة عن العقيدة الإسلامية في ضوء المنهج الوسطي، حيث تناول المنهج الوسطي في إثبات العقيدة الإسلامية وعرضها، والاعتدال والوسطية في تناول مسائل الخلاف، وتوج هذا الكتاب النافع بفصل عن المنهج الأمثل في عرض العقيدة.
أولا: المنهج الوسطي في إثبات العقيدة وعرضها:
يبين في البداية الدكتور الحميدي أن مفهوم العقيدة يشمل كل ما يتعلق باعتقاد القلب من أمور الدين، ولذلك فإنه من المهم بيان شمول العقيدة لكل متعلقاتها، والإيمان إذا أطلق في الكتاب والسنة فإنه يشمل القول والعمل، والذين يقولون : " العقيدة أولاً " ويفرقون بين فرائض الإسلام وواجباته من حيث الأهمية والأولوية ـ: لم يفهموا شمول العقيدة لجميع أمور الدين، ولو فهموا لعلموا أن قولهم : "العقيدة أولاً " هو بمعنى أن يقال : الإسلام أولاً، وإنما حملهم على هذا القول أنهم خصوا العقيدة ببعض مضامينها، فركزوا اهتمامهم على هذه الجوانب التي جعلوها هي العقيدة بكل مدلولاتها، وبدؤوا يحكمون على أقوال الناس وأعمالهم من خلال هذا المفهوم.
ويبين الدكتور الحميدي أن الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله لها أهمية خاصة، مفندا بعض الشبهات التي يقول بها من يزعمون أن الدعوة إلى ذلك قليلة الأهمية، محتجين بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا وهو في مكة إلى التوحيد، ولم يدع إلى إقامة الحكم بما أنزل الله عز وجل وهؤلاء مخطئون في هذا الرأي من عدة وجوه:
أولاً: لأن الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله عز وجل دعوة إلى التوحيد، ثانياً : أن الحكم بغير ما أنزل منكر، ومن واجب المسلمين الدعوة إلى إزالة المنكر بما لا يدعو إلى التطرف والغلو.
أسس تجنب التطرف في قضايا العقيدة:
وفي هذا السياق يتعرض الدكتور الحميدي إلى مقومات ما يجنبنا الغلو والتطرف في هذا الشأن فيتحدث عن إزالة المنكر وقضية التدرج ، وتجبر الحكام وموقف الدعاة من هذا التجبر، فعلى الدعاة أن يزيلوا آثار طغيانه من قلوب الناس بالتي هي أحسن، وللدعاة في رسل الله عز وجل أسوة حسنة في العمل على إزالة الطغيان المهيمن على العقول، وعليهم أن يتصدوا للباطل المهيمن على نفوس المسلمين، فيحاولوا القيام بتخلية قلوبهم من هذا الباطل، وملئها بتصور الحق واعتقاده، ثم العمل به بعد ذلك.
وهكذا يتضح أن من الخطأ قصر مفهوم العقيدة على بعض مضامينها، وإغفال المضامين الأخرى، ولقد تزامن الاهتمام بمسائل الخلاف في العقيدة مع الاهتمام بعلم الجرح والتعديل من علوم الحديث، فأصبح التوجه قائماً نحو هذين الفرعين من العلم، ونظراً لهذا الاهتمام الموجه، فقد طغى الاهتمام بمسائل الخلاف في العقيدة على بقية مسائل العقيدة ، وعلى علوم الدين الأخرى، وطغى الاهتمام بعلم الجرح والتعديل على بقية علوم الحديث.
وفي هذا السياق يبين الدكتور الحميدي شمول العبادة ؛ حيث تشمل أعمال القلوب، والشعائر التعبدية، وكل ما ترتب الثواب على فعله أو تركه، وبهذا تعرف العبادة بأنها :- فعل ما أمر الله سبحانه وتعالى أو أذن به، واجتناب ما نهى عنه من أجله عز وجل. وهذا القيد الأخير مهم؛ لأن النية الخالصة هي التي تحول العمل أو الترك إلى عبادة ، إذا كان مما أمر الله عز وجل به أو نهى عنه.
أي التعبد أفضل؟
وفي قضية العبادة يتعرض الدكتور عبد العزيز الحميدي إلى قضية تحدث عنها ابن القيم وهي أي أنواع العبادة أفضل، هل هو التجرد والزهد في الدنيا، أم التعبد بالشعائر الكبرى، أم بما يتعدى نفعه للغير، وينتهي ابن القيم كما يقول الحميدي إلى أن أفضل أنواع التعبد هو العمل على مرضاة الرب عز وجل في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته ، ففي وقت الجهاد :- جهاد ، وإن أدى إلى ترك الأوراد ، وفي وقت حضور الضيف:- القيام بحقه، وفي أوقات السحر:- الاشتغال بالصلاة والقرآن، فالأفضل في كل وقت وحال:- إيثار مرضاة الله عز وجل في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه، وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، هذا وليعلم أن التفاضل المذكور إنما هو في النوافل أما الواجبات فلابد من أدائها جميعاً.
ثانيا: الاعتدال والوسطية في تناول مسائل الخلاف في العقيدة:
وتحت هذا المحور من محاور البحث يبين أستاذ العقيدة في جامعة أم القرى أن الاعتدال والوسطية في تناول مسائل الخلاف في العقيدة يرتكز على أمور منها: ضرورة تثبيت دائرة واسعة من المتفق عليه في المسائل العقدية، وتحرير مواطن الخلاف في القضايا العقدية ، وبيان الموقف الوسطي في النظر إلى الخلافات العقدية، وذكر المقصود بعقيدة السلف، ورسم معالم السبيل الأنجح في تجاوز الخلافات العقدية وجمع الأمة على أصول الاعتقاد.
تثبيت دائرة واسعة من المتفق عليه
فعن تثبيت دائرة واسعة من المتفق عليه في المسائل العقدية يقرر الحميدي أن التركيز على مسائل الخلاف في العقيدة، بحيث تبنى عليها الأحكام على الناس، ويبنى عليها تصنيفهم، هو من المفاهيم القاصرة في هذا المجال، ومن هنا يتطرق الحميدي إلى الحديث عن الفرقة الناجية باعتبارها قضية خلافية يجب التحاكم فيها إلى النصوص فتفسَّر بمقتضى الدلالات الشرعية واللغوية، لا أن تفسر بمقتضى الواقع، وممن تنبه إلى فهم المراد بالفرقة الناجية وعدم قصرها على أمور العقيدة الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ حيث قال: " إن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص، كالجبرية والقدرية والمرجئة "، وإن تخصيص منهج الفرقة الناجية بالمسائل الاعتقادية تحكم لا دليل عليه، بل الأدلة تدل على أن هذا المنهج يشمل الدين كله. وعلى هذا، فإن المخالفة في مسائل الأصول هي التي تخرج المخالف من الانتماء إلى الفرقة الناجية سواء في قضايا العقيدة أو غيرها، يقول ابن تيمية ـ رحمه الله -: "وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع ، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة".
تحرير مواطن الخلاف في القضايا العقدية
وعن تحرير مواطن الخلاف في القضايا العقدية بين أنه في بداية القرن الرابع صار أهل السنة على اتجاهين: الأول : التمسك بظاهر النصوص الشرعية في إثبات معاني الصفات، مع تنزيه الله سبحانه وتعالى عن مشابهة المخلوقين، وقد سمي هؤلاء أهل الحديث. والثاني : التمسك بظاهر النصوص في بعض الصفات، مع تنزيه الله عز وجل عن مشابهة المخلوقين، وتأويل بعضها الآخر، لأنه في نظرهم يوهم التشبيه، وقد اشتهر بهذا المذهب الأشاعرة والماتريدية .
ويقرر الحميدي أنه من أعظم الأمور التي فرقت المسلمين إلى شيع وأحزاب : اختلاف بعض أهل العلم في أمور العقيدة، وما ترتب على ذلك من انتقادات واتهامات وبراءة أحياناً، وذلك لأن عامة المسلمين وطلاب العلم تبع لعلماء الدين، فإذا لم يجتمع العلماء فكيف يجتمع سائر المسلمين؟. ولقد حصل في هذا العصر من بعض طلاب العلم أنواع من السلوك الشاذ. مثل : عدم السلام على المخالف، وعدم الصلاة خلفه، وما يجري في البلاد الإسلامية من تطاحن بين بعض أفراد الجماعات الإسلامية بسبب الخلاف في أمور العقيدة وخاصة فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وإذا نظرنا إلى قضايا العقيدة وقضايا الفقه نعجب كيف اتسعت دائرة أفهام العلماء وتصوراتهم للخلاف في الأمور الفقهية، وإن كانت كبيرة تمس أصول هذا العلم وكلياته، بينما لم تتسع للخلاف في أمور العقيدة حتى في جزئياتها وفروعها ! مع أن قضايا العقيدة والفقه كلها داخلة في أمور الدين ، وكلها أمور تؤخذ من نصوص الكتاب والسنة.
الموقف الوسطي في النظر إلى الخلافات العقدية
وعن الموقف الوسطي في النظر إلى الخلافات العقدية يؤكد الحميدي أن الخلاف ذاته وجد بين الصحابة رضي الله عنهم، ولكن لم يكن له أثر في إضعاف جماعتهم ، لأنه لم يترتب عليه أحكام بالبدعة والضلال والفسوق والكفر، فقد يكون المخالف ـ كما يقرر ابن تيمية ـ مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه ، وقد لا يكون بلغه ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة ، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته.
المقصود بعقيدة السلف
أما المقصود بعقيدة السلف فيقرر الحميدي أن السلفية الكاملة تعني الاقتداء بالسلف الصالح في جميع أمور الدين العلمية والعملية . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أمور الدين في حديث جبريل عليه السلام حينما جاء الصحابة يعلمهم دينهم، حيث تحدث عن الإسلام والإيمان والإحسان وعلامات الساعة، وتأسيسا على ذلك فإن حديث جبريل شامل لمنهج السلف، فمن حقق هذه الأمور المذكورة وما يتبعها من فروع، فهو جدير باتباع منهج السلف رضي الله عنهم.
وفي لفتة هامة يقسم الحميدي السلفية ودعاتها ثلاثة أقسام: القسم الأول: يدعون إلى الاقتداء الكامل بالسلف الصالح في جميع أمور الدين، في المجالين العلمي والعملي، وهؤلاء هم أغلب علماء الأمة الإسلامية. القسم الثاني: يدعون إلى الاقتداء بالسلف الصالح في بعض محتوى المجال العلمي، وهو الاعتقاد، ويركز أصحاب هذا القسم على المسائل الخلافية الدائرة . القسم الثالث: يدعون إلى الاقتداء الجزئي في المجال العملي، وهو المسائل الفقهية، وتتلخص دعوتهم في ترك اجتهادات العلماء، والرجوع مباشرة في كل مسألة إلى الكتاب والسنة. ولا شك أن أصحاب القسم الأول هم دعاة السلفية الكاملة لتحقيقها مبدأ الشمولية في الدين.
السبيل الأنجح في تجاوز الخلافات العقدية
ويضع الدكتور الحميدي هنا منهاجا لتجاوز الخلافات العقدية أهمها: إخلاص العمل لله تعالى، وتوحيد الهدف والمنهج والاجتماع عليه، الاهتمام بأصول الدين وكلياته، والاهتمام بما اتفق عليه المسلمون، وإحسان الظن بالمسلمين وفتح طريق الأمل أمامهم، والإسرار بالنصيحة، والحذر من الفتنة في الدين، وعدم التعصب للجماعة، وضرورة العمل على وحدة الجماعات، وتعظيم حق الله عز وجل ودينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالمنهج الإسلامي، وعدم النزاع على الولايات، والصراحة والوضوح، وعدم تكفير المجتهد، و اتساع الصدور والبراءة من المخالفين، ولا مانع من اختلاف التعدد والتنوع لكن يمنع وينكر اختلاف التضاد والتقاطع.
ثالثا: المنهج الأمثل في عرض العقيدة الإسلامية
وينهي الدكتور عبد العزيز الحميدي كتابه بهذا الفصل المهم عن منهج أمثل في عرض العقيدة الإسلامية مبينا أن من أهم علامات نجاح الداعية أن يدرس واقع الانحرافات المعاصرة بتمعن وتعمق، مع فهم واقع المسلمين الفكري والسلوكي، ثم يركز على محاربة المخالفات السائدة في عصره .
وإن المنهج القويم في مجال التصحيح : هو أن ينظر العالم المصلح إلى الجوانب التي طغت فيها الجاهلية في عصره على معالم الإسلام، فيحاول إبرازها، ويكشف عوارها، ويقدم البديل الصالح، ويجلي منهج الإسلام وتوجيهاته السامية في هذا المجال.
وخدمة العقيدة في هذا المجال لا تتم إلا بالدعوة إلى الربط بين تكاليف الدين العملية، ومرتكزات العقيدة العلمية، والتلازم بين الاستقامة على أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه، وبين محاولة تقوية إيمان المسلمين وربطهم بعقيدتهم. واجتناب التحديث بما يجر إلى الفتن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق