الأربعاء، 24 يونيو 2009

الإعلام وثقافة الوسط


سلسلة الأمة الوسط
الإعلام وثقافة الوسط (7)


وصفي عاشور أبو زيد
wasfy75@hotmail.com


يعتبر الإعلام وسيلة للتبشير كما أنه مرآة عاكسة للمجتمع، وأهل الصنعة يعرفون أنه يؤدي وظيفة التبشير من خلال وسائل ثلاث هي: الأخبار، والتثقيف، والترويح، ولكي يؤدي دوره في الدعوة للوسطية فينبغي أن يلتزم بذلك النهج في تلك الدوائر الثلاث.
ومن أجل هذا الموضوع الهام أصدر المركز العالمي للوسطية في سلسلته "الأمة الوسط" كتاب: الإعلام وثقافة الوسط، للكاتب المعروف الأستاذ فهمي هويدي.
ولأن الإعلام بتقدم فنونه وقوة تأثيره أصبح أحد العوامل بالغة الأهمية في تشكيل إدراك الناس، فغني عن البيان أنه يمكن أن يسهم في إذكاء العنف والترويج له. كما أنه يمكن أن يساعد على إشاعة التسامح والاعتدال والوسطية.

مصطلح الوسطية
ولأن مصطلح الوسطية صار فضفاضا بحيث تلفع به كثيرون، يؤكد المؤلف أنه لم يعد كافيا أن يعلن أي فرد أو جماعة عن التزامه بالوسطية، وإنما تعين علينا أن نسأل أية وسطية؟ وما هو موقفها من القضايا الحيوية المثارة في المجتمع؟. وهذا الاتساع في مفهوم المصطلح ليس مقصوداً على الوسطية فحسب، ولكنه بات يشمل أيضاً مختلف العناوين المثارة في زماننا، من الإسلامية إلى الليبرالية والعلمانية والتعددية وغير ذلك. إذ رغم أن العنوان يشير إلى وجهة معينة، فإنه غدا من المهم للغاية أن يتعرف المرء على الهدف المراد بلوغه في نهاية المطاف. ولا سبيل إلى التحقق من ذلك إلا من خلال أمرين يكمل بعضهما بعضاً، الأول يتمثل في ضبط المصطلح والاتفاق على تعريف له ، والثاني يكون باختبار ذلك المفهوم عند تنزيله على الواقع المعيش، ممثلاً في قضايا حيوية أو تحديات تواجه المجتمع.
ويعرف الأستاذ فهمي هويدي الوسطية بأنها موقف يتسم بالتوازن في التفكير والنظر، يقبض على الأصول ويقبل الاختلاف في الفروع ، وفي تحري التوازن المنشود، فإن الموقف المختار ينحاز إلى ما من شأنه التوسعة والتيسير على الناس حسب مقتضى الحال والزمان، وهو منطق يحتاج إلى بعض التفصيل.

مفهوم التوازن
ويبين هويدي أن التوازن الذي يعنيه ليس نقطة وسط بين الخير والشر أو الحق والباطل، ولكنه انحياز بالكلية إلى كل ما هو خير وحق مع الاعتراف بوجود الضد لكل منهما.
والتوازن أيضاً في الجمع بين الدين والدنيا، والمادية والمثالية، والواقع والخيال، وحق الفرد وحق الجماعة، والتقرب إلى الله من خلال الاستمتاع بالحلال وإشاعة النماء والخير في الكون.
والتوازن كذلك في استحضار وجود الله في مختلف جنبات الكون، باعتباره سبحانه وتعالى خالق الكون بمختلف كائناته ومفرداته. الأمر الذي يرتب بالضرورة حقوقاً لتلك الكائنات جميعها: البشر والنبات والحيوان والجماد. فتلك كلها حسب النص القرآني أمم أمثالنا. تتعبد لله ولكننا لا نفقه تسبيحهم.

أنواع الوسطية
ويرى هويدي أن هناك وسطية شاملة وأخرى جزئية، فالشاملة تنصب على زاوية النظر للكون والخلق ومنهج التعامل على مختلف الأنشطة، وهو يعنى بذلك التركيبة العقلية التي تتعامل مع الأشياء وتفسرها انطلاقا من المفاهيم والرؤى التي سبقت الإشارة إليها.
أمّا الوسطية الجزئية فتتمثل في تنزيل تلك المفاهيم والرؤى على أنشطة ومجالات بعينها، مثل الفكر الديني والنشاط السياسي أو المجال الإعلامي الذي يهتم به هذا البحث.
ويرى هويدي أن موضوع الفكر الديني هو الساحة الأكثر أهمية بل والأكثر سخونة في الوقت الراهن فسوف ولذلك فلابد له من وقفة؛ ذلك أن الوسطية في الفكر الديني وإن كانت لها ملامح يمكن استقاؤها مما سبق بيانه، إلا أن تقديرها يختلف باختلاف موقف المرء من التدين وفهمه له فهناك من يعتبر مجرد الالتزام بالفرائض والأركان تشددا وتطرفا وبعدا عن الاعتدال. وحين نتحدث عن الوسطية في التدين فينبغي أن نتعامل معها في حدود افتراض الالتزام بالأصول والفرائض. ولا مجال للحديث في هذا المجال مع من يرى مجرد التدين نوعا من التشدد أو التطرف.
ولا ينفي ذلك بطبيعة الحال أن ساحة التدين تحفل بصور شتى من التطرف الذي ينحاز إلى أكثر الآراء تشددا ومشقة على الناس، وهو أمر يمكن احتماله إذا كان ذلك اختيارا شخصيا، ولكن الحرج يبرز إذا ما حاول الذين شددوا على أنفسهم أن يفرضوا تشددهم على الآخرين أو أن يحاكموهم باختيارهم وبالآراء التي انحازوا إليها.

الوسطية والواقع
ويؤكد الأستاذ فهمي على أن الوسطية ليست موقعا فكريا منعزلا عن الواقع يسود ويتفاعل باتجاه إيجابي في كل الأحوال، وإنما العكس هو الصحيح تماما ، ذلك أن البيئة -قطرية كانت أم إقليمية– تؤثر في موقف الشخص أو الجماعة سلبا أو إيجابا.
ويبين أنه ثمة مقولة شائعة في الفكر السياسي ترى أن كل نظام يفرز المعارضة التي يستحقها، فالنظم الديمقراطية التي تتيح للناس حق المشاركة والمساءلة وتداول السلطة تعلم الناس التسامح والاعتدال. والنظم الاستبدادية بما تمارسه من قهر وقمع تعطي الناس دروسا يومية في الظلم وتنمي لديهم أسباب الغضب، مثلما تزرع في أوساطهم بذور العناد .
ويستدرك هويدي أنه لا يريد أن يبرئ سلوك الأفراد ويلقي بكامل المسؤولية على الظروف، لكنه يدعو إلى تفهم ذلك السلوك ويتساءل: لماذا يجنح الناس إلى التشدد في ظروف تاريخية معينة ، ويميلون إلى الاعتدال في ظروف أخرى، في نفس المجتمع وهو سؤال يثير الانتباه إلى العلاقة بين الأفكار والتاريخ، والتنويه إلى أن الأفكار كثيرا ما تكون استجابة للظرف التاريخي وتعبيراً عن التفاعل معه. وقصة الإمام الشافعي الذي اتخذ في مصر مذهبا مغايرا لمذهبه في العراق معروفة للكافة، وملابسات ظهور مدارس أهل الرأي في المناطق الزراعية وأهل النص أو الحديث في المناطق الصحراوية شاهد آخر على علاقة البيئة بالأفكار، كما أن انطلاق دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب لإبطال البدع في الجزيرة العربية خلال القرن التاسع عشر كانت استجابة للظرف التاريخي الذي كاد فيه انتشار البدع يؤثر على سلامة اعتقاد الناس. كما أن انطلاق حركة الإخوان المسلمين في عام 1928 بعد إلغاء الخلافة الإسلامية بما يؤكد تلك العلاقة بين الفكرة واستجابتها لمتطلبات الواقع ودواعيه.
فالوسطية إذن ليست رؤية فكرية يمكن أن تستند إلى التعاليم وتستلهم منها الرؤى والمفاهيم، لأن البيئة الثقافية والسياسية والاقتصادية التي يعيش في ظلها المرء تنعكس على موقفه، وتدفعه إمّا في اتجاه الوسطية أو نحو التطرف.
والوسطية أيضا موقف يعبر عنه الخطاب وتترجمه الممارسة، والخطاب مطلوب تبنيه في كل من مؤسسات التربية والتعليم والتوجيه والإعلام، كما أن الممارسة مطلوبة من جانب نظام الدولة والنخبة فيها، التي تقدم النموذج الذي يتربى عليه الناس ويحتذونه ويهتدون به.
ويشدد هويدي في هذا الصدد على دور الأطراف الأخرى من مناهج التعليم ومنابر الوعظ والإرشاد. وأزعم أن الإعلام لن يستطيع أن يؤدي دوره في تلك الدعوة النبيلة إلا إذا تكاتفت معه الجهات المسئولة عن التربية والتعليم وتلك التي تتولى دور الوعظ والإرشاد. وهذا كله لا يتأتى إلا إذا تحولت الوسطية من مسئولية أجهزة الإعلام إلى استراتيجية للدولة، تتبناها أجهزتها ومؤسساتها المختلفة في خطابها وتتمثلها في ممارساتها.

مقتضيات وسطية الإعلام
ومن هنا يؤكد الكاتب والمفكر الأستاذ فهمي هويدي أن وسطية الإعلام تقتضي إفساح المجال لعرض مختلف الرؤى والآراء والاجتهادات التي يحفل بها المجتمع؛ إذ حين يتبنى الإعلام وجهة نظر واحدة، أو يكون منبرا لتوجه سياسي أو فكري بذاته، إذا لم تكن منابره مملوكة لأحزاب بذاتها، فإن ذلك يفقد الوسيلة الإعلامية شرط الحيدة والنزاهة، وبذات القدر فيتعين عليها أن تتيح فرصة الحوار بين مختلف الآراء، الأمر الذي يسهم في تنوير الرأي العام وإثراء إدراك القراء، وفضلا عن أن استمرار ذلك الحوار من شأنه أن يعلم الناس كيف يتحاورون بالحجة وليس بالتراشق أو السلاح.
تقتضي تلك الوسطية أيضا ـ يضيف هويدي ـ أن تتبنى وسائل الإعلام موقعا متوازنا في دوائر انتماء الجماهير الوطنية والعربية والإسلامية والإنسانية، فلا يغذى انتماء على حساب آخر ولا تحرض دائرة على أخرى، وإنما تتوازى تلك الدوائر على نحو يسهم في تكوين الشخصية العربية السوية.
وفي ملحوظة مهمة يلفت هويدي النظر إلى أن قطاعاً لا يستهان به من الإعلام المرئي بوجه أخص تحول إلى وسيلة أسرفت كثيرا في تفكيك البنى الأخلاقية ومنظومة القيم الأخلاقية، والكل يعلم لا ريب كيف أن التليفزيون أصبح إحدى وسائل إشاعة الفاحشة بين الناس، ورسالة الفاحشة هذه غدت نمطا يطل علينا من مختلف أنحاء العالم.
وهذه الرياح الضارة والمسمومة تلقي على أهل الاختصاص في العالم العربي والإسلامي بمسئولية أكبر لأنها تمثل تحديا لطاقاتهم وخبراتهم ، ذلك أن الوسيلة الأنجع لمواجهة تلك الموجة تتمثل في أمرين، أولهما تحصين الأجيال الجديدة بالمناعة الكافية التي تجعلها قادرة على الاحتفاظ بثباتها وتوازنها أمام تلك الرياح العاتية، وثانيها سعي المسئولين عن وسائل الإعلام خصوصا المعنيين بأمر إنتاج البرامج والمسلسلات التليفزيونية إلى تحسين إنتاجهم وجعله أكثر كفاءة بحيث ينجذب إليه المشاهد العربي ولا ينصرف عنه إلى القنوات الأخرى.

تساؤل هام
وفي ختام بحثه يطرح الأستاذ فهمي هويدي تساؤلا مهما هو أن الوسطية قيمة عظمى لا ريب وبغيرها تختل أمور كثيرة في حياتنا كأفراد ومجتمعات، الأمر الذي يجعلها ضرورة يتعين الاعتصام بها وعدم التفريط فيها، لكننا إذا تساءلنا عن واجب الوقت وشعاره، فهل تكون الوسطية وحدها هي الرد؟
يقول: حتى أشرح سؤالي أقول إن الأمة العربية تتعرض لهجمة قوية في الوقت الراهن، تستهدف كيانها كله، ممثلا في انتمائها العربي والإسلامي بوجه خاص وتتوصل إلى ذلك بالاحتلال حينا وبالتفكيك الذي يمهد للاقتلاع حينا والإدماج في مشروع شرق الأوسطية، وفي غمار معركة كهذه هل نكتفي بالاعتصام بالوسطية فحسب، أم نقبض عليها بيد ونرفع باليد الأخرى شعارات المقاومة واستنفار طاقات الأمة لصد الغارات التي تستهدفها.
وما من شك في أن هذا ليس تساؤلا من كاتبنا الكبير بقدر ما هو تقرير لحقيقة يجب ألا تغيب عنا، وهي أن حديثنا عن الوسطية يجب أن يكون فاعلا في الواقع، وأن يكون بجوار التنظيرِ التطبيقُ، وبجوار الكلام العمل، ومع الخطابة الجهاد، وإلى جانب الدعوة للوسطية رفعُ شعار المقاومة واستنفار الطاقات.

ليست هناك تعليقات: