الأربعاء، 24 يونيو 2009

الأسرة المسلمة في أوربا


سلسلة الأمة الوسط (10)
الأسرة المسلمة في أوربا


وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@hotmail.com


تعتبر الأسرة حجر الزاوية في بناء أي مجتمع بشري، وبناًء على ذلك، لابد من حفظ كيانها ودعم أسسها، من أجل تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وضمان التوازن النفسي للفرد في جميع مراحل حياته.
وتأكيداً لمكانة الأسرة وأهميتها، قام المنهج الإسلامي بتوفير كل الضمانات التي من شأنها أن تبني الأسرة على أسس متينة، وأن تضمن استقرارها وتأثيرها الإيجابي في مسيرة المجتمع ككل.
وإن الناظر في أوضاع المسلمين في أوروبا وفي الغرب عموماً، وما يحتاجونه من الأسباب الضرورية للحفاظ على هويتهم الإسلامية يدرك أن من أهم الأولويات التي يجب أن تتجه إليها الجهود، هي العناية بالأسرة المسلمة والعمل على رعاية خصوصياتها عبر الأجيال المتلاحقة.
من أجل هذا كان الكتاب العاشر من سلسلة الأمة الوسط بعنوان: "الأسرة المسلمة في أوربا بين تأثيرات البيئة الاجتماعية والعادات الموروثة"، للدكتور أحمد جاء بالله، ليرصد أهم مجالات التأثير البيئي على أوضاع الأسرة المسلمة في أوربا، والمتمثلة في النظرة إلى العلاقة بين الرجل والمرأة، والنظرة إلى الزواج والأسرة، والعادات الموروثة.

أهمية الحديث عن الأسرة في الغرب
يؤكد الدكتور أحمد أنه مما يوجب ضرورة العناية بالأسرة المسلمة في أوروبا عدة أمور منها: أن الأسرة المسلمة تعتبر المحضن الأول لتربية الأبناء تربية إسلامية، بل إنه يقع على عاتقها في البيئة الغربية الدور الأكبر في هذا المجال، وأن حداثة الوجود الإسلامي في أوروبا الغربية عموماً، وضعف إمكانياته ومحدودية مؤسساته التربوية والدعوية، يكاد يجعل الأسرة المسلمة موكولة إلى نفسها في القيام بدورها التربوي، وأن الأسرة المسلمة في أوروبا تعيش اليوم مرحلة انتقالية تحتاج فيها إلى دعم وتوجيه، فالجيل الأول من المهاجرين المسلمين الذين قدموا إلى المجتمعات الأوروبية واستقروا فيها، اصطحبوا معهم تراثاً تربوياً وعادات اجتماعية كانت هي منطلقهم في تربية أبنائهم، وهم لا يملكون غير ذلك الرصيد الذي جاءوا به، وكونهم يعيشون في الغالب في معزل عن المجتمع، ويجهلون الكثير من أعرافه وعاداته، فإن ذلك ولَّد لديهم حالة من الخوف على أبنائهم من أن يفقدوا خصوصياتهم الدينية والثقافية، فتجدهم في حالة من التهيب الدائم للدفاع عن أنفسهم من عوامل التأثير الخارجية، ولكنّ أبناءهم الذين التحقوا بالمدارس العامة واحتكّوا بالمجتمع من قرب، لا يجدون أنفسهم في نفس الموقف الذي عليه آباؤهم ومن هنا تنشأ كثير من الإشكاليات بين حرص الأسرة على ما تعتبره ضوابط ضرورية لحماية الأبناء وبين البحث عن التوازن لدى هؤلاء الأبناء وهم يحاولون التوفيق بين ولائهم للأسرة وقيمها وبين انتمائهم للمجتمع ومقتضيات ذلك.
فالتجربة التي تمرّ بها الأسرة المسلمة في أوروبا اليوم في مجال تربية الأبناء، سوف تؤسس لنموذج أو نماذج تربوية جديدة تعطي للأسرة المسلمة الأوروبية شخصيتها المتميزة ، وذلك من خلال إقامة التوازن الضروري بين مقتضيات الولاء الإسلامي ومقتضيات الاندماج الاجتماعي.

مجالات التأثير الاجتماعية
ويقرر الدكتور جاء بالله أن وجود أي أقليّة بشرية في مجتمع يغايرها في خصائصها الدينية والثقافية، سيجعل هذه الأقليّة عرضة للتأثر بالاتجاهات العامة في المجتمع، وقد لا يكون هذا التأثير قائماً بالضرورة على وعي وقناعة فكرية بالمؤثرات التي ينطبع بها الفرد، وإنما تكون هذه المؤثرات من العوامل التي تترك بصماتها في شخصيته ولو بدون إدراك لخلفياتها ومراميها.
ويزداد حجم التأثير الاجتماعي مع عامل الزمن، فكلّما امتدّ عيش الفرد في المجتمع كان نصيب التأثير فيه أكبر، وهو ما تقرره الدراسات الاجتماعية.
ويفصل جاء بالله أنه إذا أردنا رصد مجالات التأثير البيئي على أوضاع الأسرة المسلمة في أوروبا، فيمكننا الوقوف على الجوانب التالية:
أولا: النظرة إلى العلاقة بين الرجل والمرأة:
فمن المعروف أن تصور العلاقة بين الرجل والمرأة له الأثر الكبير على الأسرة؛ إذ إن الأسرة هي ذلك الكيان الاجتماعي الذي يقوم على تضافر جهود كل من الرجل والمرأة، وكلما كانت العلاقة بينهما قائمة على التكامل والتعاون كان لذلك انعكاساته الإيجابية على الأسرة .
وإن الناظر في الاتجاه الغالب في المجتمعات الأوروبية في هذا المجال، يجد أنه يقوم على أساسين:
الأول: التأكيد على مبدأ المساواة بين الجنسين، مساواة تامة في كل شيء ترفض الاعتراف ببعض الخصوصيات لكلا الجنسين، ومع أن شعار المساواة يرفع إلا أنه من الناحية العملية، نجد أنه لا يحترم في تحديد الأجور حيث تتقاضى المرأة أجراً أقل من أجر الرجل الذي يشغل نفس العمل الذي تقوم به المرأة .
والثاني: مسألة الحرية الجنسية: فالاتجاه السائد في أوروبا اليوم هو أنّ المرأة مثل الرجل يجب أن تعطى الحرية كاملة في التصرف في جسدها كما تشاء، وأنّ أيّ ضابط أخلاقي يؤدي إلى وضع قيود في مجال العلاقات الجنسية يجب استبعاده إذا كان يؤدي إلى تحديد اختيار الفرد لما يريده من سلوك .
ثانيا: النظرة إلى الزواج والأسرة:
ويلخص جاء بالله ما يتعلق بالزواج والأسرة في الاتجاه الأوربي في جوانب:
الأول: تهميش الزواج الرسمي وتطور أشكال الاقتران الحر "بين الجنسين"، ويعود هذا التراجع للزواج الرسمي في نظر جاء بالله إلى عدة أسباب من أهمها:
التحرر من مسؤولية الزواج التي قد تحدّ من حرية الفرد الذي يحب أن تكون له علاقات غرامية أو جنسية موازية مع من يريد، وارتفاع نسبة الطلاق التي جعلت البعض يفضلون "المعاشرة الحرة" التي لا تقوم على علاقة رسمية مع الطرف الآخر، واعتبار حالة "المعاشرة الحرة " بدون زواج رسمي مرحلة تجربة بين الرجل والمرأة يمكن أن تؤدي بهما إلى الزواج إذا قرّرا الاستمرار في العلاقة ، وكذلك بعض القوانين الخاصة بالضرائب والمساعدات الأجنبية التي تمنح امتيازات لغير المتزوجين أفضل مما يحصل عليه المتزوجون زواجاً رسمياً مسجلاً، من شأنها أن تغري البعض بتجنب الزواج الرسمي المسجل.
والثاني: تغليب جانب الحرية الشخصية على العيش في إطار العلاقة الزوجية.
والثالث تأخر فترة العزوبية لامتداد فترة الدراسة خصوصا مع تزايد نسبة البطالة في صفوف الشباب، ورغبة الفتيات في الوصول إلى أعلى الشهادات من أجل القدرة على منافسة الرجال في تحصيل أفضل مناصب العمل، وانتشار استعمال موانع الحمل التي تجعل الفتاة في مأمن من الوقوع في الحمل مع وجود الممارسة الجنسية، وتطور القوانين المبيحة للإجهاض في الدول الأوروبية، وظهور وتصاعد أشكال الزواج المثلي والاتجاه لتقنينه والاعتراف به،
والرابع: تفكك الأسرة، فارتفاع معدلات الطلاق حيث يصل في فرنسا مثلا إلى حدود 50 من عدد الزيجات، وخصوصاً في السنوات الأربعة الأولى من الزواج قد أدى إلى التفكّك الأسري وظهور أشكال جديدة من "الأسر" مثل : "الأسرة ذات الولي الواحد" ، والأسرة "المعادة التركيب".
وإن من الأسباب التي ساهمت في إضعاف مبدأ الزواج ، وأدّت إلى تصدّع كيان الأسرة التقليدي هو انفصال أمر إنجاب الأولاد عن أمر الزواج ، إذ لم يعدّ ضرورّياً لمن يرغب في أن يكون له أولاد أن يمرّ بالزواج، فيمكن للمرأة أن تختار أن تنجب من رجل ثم تعيش مع غيره، ومن أسباب التصدع في الكيان الأسري بسبب الطلاق ما يعود إلى تطور نمط العيش في المدن الكبرى حيث يضعف جانب الرقابة الاجتماعية، خلافاً لما هو موجود في البيئات القروية.

ثالثا: العادات الموروثة:
ومن هذه العادات التي تؤثر سلبا على الأسرة المسلمة في أوربا وتهدد استقرارها في نظر أحمد جاء بالله أمور ثلاثة:
الأول: النظرة الدونية للمرأة وسوء معاملتها بسبب ما يقع من الأزواج من سوء المعاشرة، أو بناءً على فهم خاطئ لبعض المبادئ الإسلامية ، كمبدأ القوامة، أو قضية تأديب المرأة بالضرب عند حصول النشوز، والتوسّع في تعريف النشوز إلى كل معارضة تبديها المرأة لزوجها حتى في أمور شكلية بسيطة وقد أدّى سوء المعاملة بين الزوجين إلى تصدّع في كيان عدد من الأسر المسلمة وينتهي الأمر بحصول الطلاق.
وتأتي بعض العوامل الإضافية لتساهم في الوصول إلى حالة التفكك الأسري، عن طريق الطلاق، من ذلك :
وصول الأولاد إلى مرحلة الرشد وثورتهم على ما عايشوه من سوء المعاملة من الآباء تجاه الأمهات إلى درجة أنّ الأبناء هم الذين يطالبون ، في بعض الحالات ، أمهم بطلب الطلاق من الأب
خروج المرأة للعمل خارج المنزل، وخصوصاً عند بطالة الزوج، وشعورها بالاستقلال المادي يجعلها تتوق إلى التحرر من ربقة زوج يسيء معاملتها.
لجوء بعض النساء إلى المرشدة الاجتماعية استنجاداً بها من سوء معاملة الأزواج، والتي توجهها إلى رفض سلوك الزوج وتشجعها على رفع قضيتها إلى السلطات التي ستحميها وتكفل لها المساعدات القانونية والمالية اللازمة .
زواج الرجل بزوجة ثانية دون علم زوجته الأولى وأبنائه الذين لا يكتشفون الأمر إلا بعد سنوات ، وقد يسبّب ذلك تضييقاً وحرماناً للأسرة من حقها في النفقة.
الثاني: التمييز في التربية بين الأبناء والبنات: وهي من العادات المنتشرة عند الكثير من الأسر المسلمة التقليدية ، أنها تتشدد في التعامل مع البنات وذلك حفاظاً عليهن من الانحراف مما يؤدي إلى نوع من النفور من قبل هؤلاء الفتيات قد يؤدي بهنّ أحياناً إلى الخروج عن الأسرة ، وذلك في نفس الوقت الذي يكون فيه التعامل متساهلاً مع الأبناء الذكور، فلا يسألون عن غيابهم خارج المنزل ولا عن مخالطتهم للأصدقاء والصديقات ، وهذا الاختلال في التعامل يكرس لدى الفتيات النظرة السلبية التي تروج عن الإسلام باعتباره يضيّق على المرأة ويعاملها بما لا يعامل به الرجل .
والثالث: مفهوم الولاية ومسألة إكراه البنات على الزواج: حيث يسيء بعض الأولياء فهم مبدأ الولاية فيحملون بناتهن على الزواج ممن لا يرغبن فيه وهذا يعود إلى أسباب منها:
ـ خوفهم على بناتهم من الانحراف خاصة إذا لاحظوا من البنت بوادر الطيش أو أحسّوا أنها ترغب بالزواج بمن لا يريدونه زوجاً لها.
ـ تزويج البنت من قريب يراد استقدامه إلى أوروبا من خلال الحصول على الإقامة بسبب الزواج أو تسوية أوضاع قريب لا يملك إقامة في البلد.
ـ الاعتبارات الأسرية أو القبلية أو الإقليمية التي تجعل بعض الأولياء يصرّون على تزويج بناتهم وفقاً لهذه الاعتبارات.

استنتاجات وتوصيات
وفي نهاية الكتاب يشير الدكتور أحمد جاء بالله إلى عدة استنتاجات وتوصيات أهمها:
ـ القيام بالدراسات الاجتماعية التي ترصد واقع الأسرة المسلمة في أوروبا وما تشهده من تحولات وتطورات وما تعاني من صعوبات وإشكالات.
ـ إعادة الاعتبار للمرأة المسلمة في محيطنا الإسلامي.
ـ التركيز في تعليم أبنائنا وشبابنا وتربيتهم على أهمية الأسرة، وعلى العناية بأمر الزواج وبيان أهدافه وآدابه ومراحله .
العناية باحتفالات الزواج ، ليكون الزواج حدثاً مهماً في حياة الشاب والشابة ، وإحياء سنة إعلان الزواج في المساجد لربطه بالبعد الديني .
ـ توجيه المسلمين لتأسيس مؤسسات اجتماعية تستقبل من يعانون من المشكلات الأسرية وتساعدهم على حلّها في إطار القيم الإسلامية .
ـ توجيه المسلمين إلى تأسيس هيئات تحكيمية في إطار قوانين البلاد الأوروبية لتتدخل عند حصول المشاكل الزوجية بغرض الإصلاح والتوفيق قبل اللجوء إلى القضاء.
ـ مراعاة من يتصدى للإفتاء من الهيئات والأفراد في شؤون الأسرة المسلمة في أوروبا، النظرة الشمولية إلى المسائل المعروضة قبل إصدار الفتوى بشأنها.
ـ وأخيرا: العناية بالدراسات المقارنة في موضوع الأسرة وتأسيس خطاب إسلامي يتوجه إلى الرأي العام الغربي ليوضح موقف الإسلام في هذا المجال وينفي عنه الشبه الباطلة ويقدم إسهاماته في إعادة التوازن للأسرة الإنسانية بشكل عام .

ليست هناك تعليقات: