الأربعاء، 24 يونيو 2009

كيف نختلف


سلسلة الأمة الوسط (12)
كيف نختلف؟


وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@hotmail.com

"كيف نختلف؟" لصاحبه المفكر الداعية الدكتور سلمان بن فهد العودة، هو الكتاب الثاني عشر من سلسلة الأمة الوسط التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بدولة الكويت متبنيا فيها الرؤية الوسطية في القضايا الفكرية بجوانبها المختلفة.
يفتتح الشيخ سلمان كتابه بأن أمة من الأمم لا تمتلك ما تملكه أمة الإسلام من تراث ضخم، فهي تملك القرآن الكريم أعظم كتاب في تاريخ البشرية، وتمتلك حديث النبي وسنته أفضل الهدي وأكمله، كما أنها صاحبة تاريخ طويل مليء بالعبرة والعظة التي ترشدنا إلى أهمية الاتحاد وجمع الكلمة.

أدب الخلاف بين التنظير والتطبيق
وكثيرا ما نسطر كتبا في أدب الخلاف، ونحسن فيها التنظير، لكن حين ننظر إلى واقعنا وسلوكنا نجدنا بعيدين بعدا كبيرا عن هذا التنظير الأدبي، فنجن بحاجة إلى من يحول هذا التنظير إلى سلوك عملي في تعاملنا وسلوكنا. ومن هنا يؤكد العودة على ضرورة تربية النشء على أدب الخلاف وتقرير مناهج خاصة بهذا الفرع الخلقي في مناهج التدريس في المدارس والجامعات وغيرها.
فالحوار يحتاج إليه الحاكم ليحفظ رعيته، ويحتاج إليه المعلم ليحفظ طلابه، ويحتاج إليه الأب تحببا إلى أولاده، والزوج حرصا على علاقة الزوجية وحفظ الأسرة فليس بالضرورة أن يخرج التلميذ نسخة مكررة من أستاذه، ولا الابن نسخة من أبيه، ولا الزوج يكره زوجته على طباعه أو أخلاقه، فمقاصد الحوار ثمر شخصية مستقلة لها رؤاها وآراؤها واستقلالها عن شخصية الآخر في ضوء مراعاة آداب الخلاف وانتهاج آلياته المثمرة ووسائله الناجحة.

ساحات الحوار
وانطلاقا لطبيعة الخلاف وآداب الحوار يؤكد العودة أن ساحات الحوار أصبحت متعددة ومتنوعة، وأصبح الفضاء المفتوح الذي أثمرته الفضائيات ومواقع الإنترنت وساحات الحوار فيه، والتعليقات غير المتناهية على المقالات والأبحاث ـ مفعما بطرائق الخلاف وتنوع درجات مراعاة الآداب والمنهجية المطلوبة في إجرائه.
وكذلك مجالس الناس أصبحت اليوم عامرة بالمتناقضات، ولم يعد مجديا تسفيه الآخرين مهما تكن ضحالة أفكارهم، بل لابد من الاستماع إليهم، ومنحهم الأهمية ومقارعة الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة.
وفي هذا الجو المفتوح أدركت الحكومات أن أسلوب المنع والحظر لم يعد مجديا، وأن الحل الوحيد هو النزول إلى الميدان، وانتهاج الحوار وسيلة ومقابلة الأفكار منهجا للوصول بالمجتمعات إلى بر الأمان.

سلبيات الحوار الإلكتروني
لكن أصبح هناك تجاهل كبير لدائرة المتفق عليه، وعمل واسع على دائرة المختلف فيه، وترتب على ذلك سلبيات كثيرة في هذا الحوار الإلكتروني، ومن هذه السلبيات:
ـ تغليب جانب العدائية على جانب التلاقي والاتفاق بمجرد أن نختلف في أمر ولو من الأمور الجزئية.
ـ الخلط بين الموضوع والشخص في نقاش قضية من القضايا ، فلا نستطيع مناقشة الفكرة مع الاحتفاظ بالتقدير الكامل لصاحبها مما يحول الساحات إلى محيط للفضائح والتراشق واتهام للنيات.
ـ تدني لغة الحوار، فتجد السب والشتم والتجريح واستخدام بعض الألفاظ النابية بعيدا عن الحجة والبرهان والهدوء والموضوعية.
ـ القعقعة اللفظية، التي يوهم صاحبها بها أنه أتى بما لم يأت به أحد، وأنجز انتصارات عظيمة على غيره، فإذا المقال إطاحة بالآخرين ممن يختلفون معه دون تحقيق علمي أو إحاطة بالموضوع من جميع جوانبه.
ـ الأحادية، وهو سياسة ما أريكم إلا ما أرى، ورأي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب.
ـ التسطيح والتبسيط، بمعنى أن الأشياء العميقة التي يشق علينا فهمها نعدها مخالفة للحق والسنة، بينما الأشياء السطحية نتناطح فيها وتنتفخ فيها أوداجنا بنوع من الصفاقة والإحراج، فنتهم غيرنا باتهامات نكراء عبر أحكام لا تنبغي على الخلق إلا من الله تعالى، والمصيبة الكبيرة أنها قد تكون في حق إمام أو عالم أو داعية، وهذا كله على مرأى من أمتنا، بل على مرأى ومسمع من أعداء أمتنا الذين يتابعون بدقة ما نكتب وما ننطق.

الخلاف ليس شرا
ويؤكد د. العودة أن الخلاف سنة ربانية في الخلق، فقد شاءت إرادة الله أن يختلف الناس في الألوان والأشكال واللغات والطباع والميول والعقول والأفهام، ومن هنا فإن الكون وبقاء الحياة لا يكون بتحقيق رغبة فئة خاصة من الناس على حساب الآخرين، وإلا لكانت كل فئة تريد أن تقضي على أختها، وكل أمة تريد نقيض ما تريده الأمة الأخرى.
لكن الشرع وضع لنا أسسا وآدابا وأخلاقا لاستيعاب هذا التنوع والاختلاف لما فيه صلاح الحياة وعمارة الأرض حتى أمر الإسلام بالإحسان إلى الحيوانات العجماوات، بل الجمادات، فضلا عن شرعه الإحسان في المعاملة بين الزوجين، والإحسان في الدعوة، وتأليف القلوب وتحبيب الخير والإيمان إلى الناس كافة.
فلابد من الاختلاف بين الناس، وقد اختلف أصحاب النبي والتابعون والأئمة والعلماء والدعاة، بل اختلف الأنبياء كما اختلف موسى وهارون، وموسى والخضر، لكن لم يمنعهم جميعا هذا الخلاف من التواصل والتعاون على البر والتقوى؛ فالناس يختلفون لاختلاف عقولهم وأفكارهم، واختلاف طباعهم ونفسياتهم، واختلاف درجة تجردهم وإخلاصهم، واختلاف حجم المعلومات الموجودة عندهم.

أخلاقيات الخلاف
وما دام الخلاف سنة من السنن، ومكرمة من مكارم هذا الدين فلابد له من أخلاقيات تضبط مساره حتى يؤتي ثماره، وقد ذكر الشيخ العودة ثلاثة آداب في بعضها عناصر أخرى وتفصيل حسن:
ـ عدم التثريب بين المختلفين، بمعنى ألا يشعر الإنسان أنه أتقى من الآخر أو أكثر إخلاصا منه، أو أصدق إيمان، أو أوسع علما، فأفهام الرجال تتفاوت، وليست وحيا يتعبد به، كما أن المدارسا لحركية ليست هي الإسلام، وإن كانت ترجع إلى الإسلام وتنطلق منه.
ـ الإنصاف، وهو خلق عزيز يقتضي أن تنزل الآخرين منزلة نفسك في المواقف، وقد ذكر الشيخ الجليل لهذا الخلق قواعد، منها: أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا باليقين، وأن الخطأ في الحكم بالإيمان أهون من الخطأ في الحكم بالكفر، وأنه لا تأثيم ولا هجران في مسائل الاجتهاد، ويجب التحفظ عن تكفير فرد بعينه أو لعنه، والأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر، وتسلط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات.
ـ استعمال الرفق والصبر والمداراة واحتمال الأذى، وعدم الانتقام والتشفي والانتصار للنفس، ومقابلة السيئة بالحسنة، فالكلمة الطيبة والابتسامة الصادقة والإحسان إلى الآخرين بالقول والفعل من أسباب زوال العداوة وتقارب القلوب.
ـ عدم التعصب للمذهب أو للطريقة أو الشيخ أو الجماعة أو الطائفة أو الحزب، وقد يكون التعصب والغلو والمبالغة أحيانا لأقوام هم أشد ما يكونون بعدا وكراهية لهذا الأمر، ولكنهم قد يبتلون بمن يتعصب لهم أو يغلو فيهم.
ومع كل هذه الآداب يذكر مفكرنا الكبير أمثلة من التاريخ والواقع المعاصر تشهد لها وتؤيدها، كما يورد نقولا عن العلماء وتجارب في القديم والحديث تؤصل معنيها وتعمق دلالاتها.

إدارة الخلاف
فإذا كان للخلاف آداب وأخلاق يجب التزامها، فلابد من إدارته عبر ضوابط وقواعد، وهو علم أصبح يدرس اليوم، وتمتلئ رفوف المكتبات بالمطبوع والمترجم والقديم والجديد من مصنفاته، وذكر الشيخ أهم رؤوس هذه الضوابط:
ـ الاعتصام بالكتاب والسنة.
ـ الحوار، ولا يكون إلا بين مختلفين، سواء داخل الدين، أو بين دين وآخر.
ـ الشورى، وهو مما أمر الله به، وترسيخه على كل المستويات: الأسرة، المجتمع، الدولة، ومشاركة الناس في رسم مصيرهم ومستقبلهم هو من الضرورات التي لا مناص منها اليوم.
ـ تفعيل دائرة المتفق عليه، وهي قاعدة المنار الذهبية: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه". ونحن لا نتكلم عن أعدائنا في الأصول بهذه القاعدة لكن نتكلم داخل داخل دائرة أتباع القرآن وأتباع السنة.
ـ تشجيع الاجتهاد وتوفير المناخ الملائم لخصوبة العقول ونموها وإبداعها، فإن جو الحرية الشرعية هو المكان الذي تزدهر فيه الأفكار الصحيحة، أما المصادرة والتضييق فهو الذي يميت الفكر ويقتل الإبداع، وما أبعد الفرق بين الإبداع والابتداع.
ـ تشجيع النقد البناء والمراجعة الهادفة للأوضاع، سواء كانت أوضاعا سياسية تتعلق بالدول، أم أوضاعا اجتماعية تتعلق بالموروثات عند الناس، أم أوضاعا دعوية تتعلق بمقررات الدعاة وأنماط عملهم وأساليبهم، فمراجعة هذه الأساليب والطرائ والأوضاع بهدوء وتجرد وتدرج يأخذ بأيدينا إلى طريق النجاح والفلاح.
ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من سمات المؤمنين كما جاء في القرآن والسنة، وله ضوابطه المعروفة، منها: لا إنكار في مختلف فيه، ولا ينكر مقلد على مقلد، ومراعاة فقه المصالح والمفاسد ، ومراعاة التدرج في الإنكار وغير ذلك.
ـ الوضوح والمكاشفة وعدم التعتيم أو التقليل من شأن الخلاف، فلابد من الاعتراف بالاختلاف ووجوده حتى يتم ضبطه وتوجيهه وجهته الصحيحة التي نجني من ورائها ثماره المرجوة.
ـ الفهم الصحيح وتجاوز مشكلات الاتصال، فإن كثيرا من الخلافات ربما تكون بسبب إشاعة مغرضة، أو قول لم يثبت منه لصاحبه، أو بسبب انطباع سيئ لم يكن مبنيا على علم صحيح، فما أحوج المختلفين أن يفهم بعضهم بعضا بعيدا عن ردود الأفعال وخرص الظنون.

حديث افتراق الأمة
وينهي الشيخ الدكتور سلمان العودة كتابه بإلقاء الضوء على حديث له أبعاده المهمة في هذه القضية، ولفهمه الفهم السليم ووضعه في إطاره الصحيح أثر كبير في عدم إشاعة الفرقة بين المسلمين، ألا وهو الحديث المشهور عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِى مَا أَتَى عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً لَكَانَ فِى أُمَّتِى مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِى إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِى النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا وَمَنْ هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِى".
وهو حديث لا يكاد يتكلم أحد عن الاختلاف والفرقة إلا ذكره، وقد ضعفه بعضهم وقواه آخرون لكن أدلة المصححين له أقوى، لكن ينبغي أن نذكر بأشياء:
ـ أن النبي عليه السلام نفسه قرر أن هذه الأمة أمة مرحومة.
ـ أن هذه الأمة هي أفضل الأمم عند الله تعالى.
ـ أن النبي حكم لهذه الأمة أن نصف من يدخلون الجنة من أتباعه عليه السلام.
ـ أن الله تعالى عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهت عليه.
ـ أن الله تعالى رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت على أمم قبلها.
واستشكال جمع من أهل العلم كثرة الفر في هذه الأمة يرد عليه بطول عمر الأمة، وأن تفرقها أهون شرا من تفرق غيرها.
وليس معنى افتراق الأمة إلى هذه الفرق أن كلها كفار أو مشركون، ولكنهم مسلمون مؤمنون، وقد يكون فيهم المنافق والكافر، لكن فيهم الكثير من أهل الإيمان والإسلام، وإن كان عندهم نوع من الاختلاف ونوع من التقصير، وهذا ما رجحه ابن تيمية والشاطبي، وغيرهم.


ليست هناك تعليقات: