الأربعاء، 24 يونيو 2009

وسطيةُ الإسلامِ وأمتِه في ضَوْء الفقهِ الحضاري


وسطيةُ الإسلامِ وأمتِه في ضَوْء الفقهِ الحضاري


وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@hotmail.com


من الحقائق التي لا يماري فيها عالم عادل، أن بين الإسلام والحضارة التي أقامها في مواطن أمته ومنطلقات إشعاعه، من التفاعل والتلازم، ما لا يوجد له مثيل بين أي دين آخر، وحضارة عايشت ظهوره وامتداده.

حول هذا المعنى يصدر الكتاب السابع عشر من سلسلة الأمة الوسط التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بالكويت، لمؤلفه الكبير الأديب والمفكر عمر بهاء الدين الأميري، الذي يتساءل في مقدمته عن السر الكامن في الإسلام؟ وما تلك الطاقة التي تجعل فيه بثاً حضارياً فذًا أكثر من سواه، بحيث نجده حقًا روح الحضارة الإسلامية، وباعث حياتها وعامل انتشارها ومدد ازدهارها؟

“وسطية الإسلام" تجلت في عقيدته أولا فلم تشرد بها الروحيات في تجريدها المغرق، ولا أثقلتها الماديات في كثافة مفرطة عطلت معناها السلوك الحضاري يوجب إخراج الفقه من حيِّز البحث النظري وتكوين الملكة والخبرة الشخصية إلى حيز الإفادة العلمية

والسر في هذا ـ كما يقول شاعر الإنسانية المؤمنة ـ أن قاعدة الإسلام الأولى – الأزلية الأبدية- هي الاعتقاد الراسخ بالله الحق، الخالق الأحد الصمد، الحي الباقي الذي لا يحور – لا في ذاته ولا في صفاته – مهما تغير الزمان وتبدل المكان، مع اتباع مستلزمات هذا الاعتقاد من قواعد وشرائع أمهات، ومن مناهج وفعاليات.

إن حضارة تؤسَّس على هذه القاعدة الراسخة، تتكامل بقيمتها وتنطلق من معطياتها لجديرة بأن تأخذ بيد إنسانها وتشد أزره، ليحمل الأمانة، ويؤدي الرسالة، ويعمر الأرض. وما من شك في أن الأمة الإسلامية تمر بمخاض كبير في هذا العصر سيتولد عنه وعد الله تعالى بنشر الدين والتمكين له، وإن كل عمل فكري إيماني أو جهادي حركي يسهم في تحقيق هذا الوعد الإلهي، لمن شأنه أن يدرج الإنسان المسلم على صراط الله المستقيم، ليتلاقى مع إخوانه الآخرين على صعيد واحد من السعي ابتغاءً ومضاءً إلى أن يتحقق وعد الله العليم الحكيم.

الفقه الحضاري

في ضوء من هدي هذا الفقه الحضاري يعالج الأميري وسطية الإسلام وأمته؛ وقد عرف الأميري الحضارة في البداية لغة واصطلاحا، فالحاضرة في اللغة ضد البادية، أما في الاصطلاح: فهي عند بعضهم: مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي في الحضر، وهي عند آخرين: الحصيلة الشاملة للمدنية وللثقافة، فهي مجموعة الحياة في صورها وأنماطها المادية والمعنوية.

ويعرفها ابن خلدون في كلمتين مختصرتين، فالحضارة عنده هي "غاية العمران"، وهذا الفهم والبيان في زمانه، سَبْق - بل فتح- لا مراء فيه، ولكن مفهوم الحضارة في عصرنا قد امتد إلى ألوان من المعنى هي أبعد وأوسع مما رآه ابن خلدون في عصره وفي بيئته العربية، وفي انتقالها الاجتماعي والسياسي والمدني، من البادية إلى الحضر، فلفظ الحضارة في مفهومه العام والحديث المعاصر بصفة خاصة، قد أصبح أكثر اتساعًا مما يدل عليه اللفظ في مفهومه اللغوي والتقليدي.

وقد تنوعت وتباينت آراء العلماء المعاصرين في تعريف الحضارة ليس هذا موضع إيرادها ، لكن أديبنا عرفها تعريفا مستخلصا من التصور الإنساني بأنها: " ليست قوة مستقلة تحكمها قوانينها الداخلية الخاصة بها، والمستقلة عن الإنسان تمامًا؛ بل على العكس، فالحضارة مأخوذة عن سلوك الإنسان وخاضعة لتغيير الإنسان، وإذ لم تكُ الحضارة طبيعية بل هي من صنع الإنسان، كان الفرد حرًّا في تغييرها". وأما الحضارة الإسلامية فيعرفها بأنها: "هي الكيان الإنساني العام الذي أقامته الأمة الإسلامية ولا تزال على هدي دينها، في منطلقات وجودها وإشعاعها" .

ومن هنا تفترق الحضارة الإسلامية عن سواها؛ لأن إنسان الإسلام الذي أقامها ومارسها، مندمج بالإسلام، صادر عنه، عامل على إقامته في الحياة، فهو حر فعال، ولكن في الانطلاق من قواعد الإسلام وتصوراته الحضارية الربانية، وتبعًا لذلك لا يستطيع الفقيه الحضاري المسلم أن يوافق على حصر اصطلاح الحضارة للدلالة على المنجزات المادية والصناعية، وهكذا تكون الحضارة في فهمه: كياناً إنسانياً عاماً، ذا شخصية اعتبارية معنوية.

ويستعرض الأميري الآيات التي احتوت على مادة: "ف. ق. هـ" في القرآن الكريم ، ويتأمل فيها، ويقرر أنه إذا كان استعمال "الفقه" في الآيات يشمل أحيانًا معاني عديدة، فذلك من قبيل الاشتراك اللفظي الشائع في لغة العرب، ولكن دلالته تبقى متقاربة على كل حال، والذي يهمنا منه هو تركيز دلالته على معنى الوعي العميق الجامع النابع من القلب وما يرمز إليه، وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسم كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، فلا ينفك القرآن المجيد، والحديث الشريف يدعونا إليه من التفكر.. والتدبر.. والنظر.. واستخلاص العبر، ويربط به الإيمان بالله وخشيته واتباع هداه كنتيجة منطقية لمقدمات طبيعية.

الفقه في الدين هو الفقه الحضاري

ويقرر الأميري أن "الدين" في قاموس العربية واستعمال القرآن الكريم، ليس ما يعبر عنه باللغات الأجنبية بـ "Religion” بل هو أوسع من ذلك وأجمع وأشمل وأحكم بكثير؛ إنه "الدستور" حسب مصطلحات العصر.. وعندما يعمم ويمتد عن حدود الزمان والمكان، كما في قوله سبحانه: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ"، فهو الدستور العام للوجود الإنساني.
ثم يقول: "وهكذا أصبح «الفقه الحضاري » لديَّ كما أسلفت القول: اصطلاحًا جديدًا لمنهج سديد في البحث والعلم والفهم والسلوك، يوفر الضمانات اللازمة لمعرفة الحقيقة الجلية، وممارسة الحياة السوية".

عناصر الفقه الحضاري: وإذا كان الفقه الحضاري عند الأميري عبارة عن دستور عام للوجود الإنساني، فقد وضع له عناصر أربعة تبرز جوانب هذا الفقه وتحدد معالمه:
أولها: الاستيعاب الحضاري: الاستيعاب لصفة الدراسة الحضارية بشكل عام، هل هي وصفية أم تاريخية أم تقويمية، ثم للقضايا والقيم والأفكار المطروحة للبحث والنظر من كل الجوانب؛ من حيث أصلها وأجواؤها وملابساتها وتفرعاتها وسائر الخيوط المترابطة بها، من قريب أو بعيد؛ وذلك لاستيفاء الدرس، ورُشْد التخطيط في الحال، وسلامة التصرف في المآل... وهذا الجانب هو المهم والأعم للاستيعاب الحضاري.

ثانيها: النظر الحضاري: ويمكن اعتباره خصوصًا من عموم الاستيعاب؛ لتعميقه ولتسديده وترشيده والجمع فيه بين الشمولية والدقة؛ لإمداد المعني بالأمر بضمانات الصحة والصواب بالنسبة للدارسات النظرية، وبالحكم الراجح للإمكانات الفعلية، والتقدير الدقيق للمتطلبات الوافية بالنسبة للقضايا العملية.

وثالثها: الإدراك الحضاري: وهو حصيلة العنصرين السابقين: الاستيعاب والنظر، ويكون لوضع القضية المدروسة في سلمها الصحيح، ومرتبتها اللازمة؛ أهمية.. ومنزلة.. وجدوى.. وإمكان في مجالات العمل.

ورابع العناصر وآخرها: السلوك الحضاري: وهو إخراج الفقه الحضاري من حيِّز البحث النظري، وتكوين الملكة والخبرة الشخصية إلى حيز الإفادة العلمية، فرديًّا وجماعيًّا وممارسة في الحياة؛ فيكون السلوك الحضاري في صواب وسلامة التفكير، وفي سداد وجدوى العمل..

الإسلام في ضوء الفقه الحضاري

ويتناول الأميري هنا الإسلام بوصفه دستورا للحياة الإنسانية الواعية الهادية؛ فالشعور الديني في الإنسان هو المنبع الأول لهداه، وأفكاره الأخلاقية، وتصوراته الإنسانية، وفعاليته الحضارية، وإن تحقق الكمال الفعلي للخلق لا يكون إلا باتباع المخلوقات هدى خالقها؛ امتثالا لأمره، وإذعانًا وطاعة له، وقد أصبح الإسلام في ضوء الفقه الحضاري علمًا على دينه العالمي الممتد، دستورًا عامًا شاملاً، ومنهجًا ربانيًّا هاديًا، مستوعباً الحياة:

* عقيدته، وشعاره الوحدانية
* نبيه ورسوله وإمامه محمد صلى الله عليه وسلم
* أصله ووحيه من عند الله.
* مدونته: القرآن المجيد.
* رعيله الأول المسئول: مؤمنو العرب.
* شعبه وجماهيره: المسلمون كافة. * ساحة دعوته وهدايته: العالم أجمع.
* مسلّماته العقائدية: الحقيقة الصادقة للأديان السماوية كلها.
* وجهته الحقيقية: وجه الله جل وعلا.
* قبلته: الكعبة المشرفة في المسجد الحرام.
* تحيته: السلام. * فطرته الأم: الكرامة الإنسانية.
* ميزانه في الأكرمية: التقوى.
* أخلاقه: بين العدل والفضل مع المخلوقات كافة.
* هتافه: الله أكبر، ولله الحمد، والعزة لله.

وله أسسه ومنطلقاته وتصوراته ومناهجه في الإدارة والاقتصاد والفلسفة، وسائر مجالات الفكر ومرافق الحياة، ومنطلقات العمران.

وسطية دين الإسلام

يقرر الأميري أن كل دين تتكون بنيته من: "عقيدة – وشريعة – وسلوك"، وقد تجلت "وسطية الإسلام" في عقيدته أولا، فلم تشرد بها الروحيات في تجريدها المغرق، ولا أثقلتها الماديات في كثافة مفرطة عطلت معناها، وهي وسط في الأخلاق الاجتماعية، لا ينأى بها تطرف عن الانفتاح على الناس، ولا تشذ ولا تشتد في معاملة الآخرين، وتجعل العدل أدنى مراتب التعامل الإنساني، وأما الفضل فلا حدود له..

معالم وسيطة الإسلام

ويستعرض الأميري معالم هذه الوسيطة وأنواعها كما تصدرت بها الأمة الإسلامية وكانت جديرة بها كما يلي:

وسطية حضارية: فهي وسطية حضارية، وهكذا تكون "وسطية" الإسلام ابتداء "وسطية حضارية"، وشهادة أمته على الناس دنيوية، قبل أن تنتهي أخروية.

وسطية في المكان وآثارها: وهي وسطية في المكان، فهي وسط في موقعها الجغرافي المهم؛ حيث كانت مهبط الوحي وأرض الإسلام، ومهد الأمة الإسلامية الأولى؛ وهي الوسط بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، وهي مركز الوصل بين أفريقيا وآسيا وطرف ممتد من أوربا، وهي الرباط البري بين الطرق المائية، ومن هذه البيئة الوسط انتشر الإسلام شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا بالبر والبحر على حدٍّ سواء.

وسطية في الزمان: ولم يأت الإسلام القمة في آخر عمر الأرض، ونهاية الزمان؛ حيث يتقاصر مدى الانطلاق الحضاري، ولا أهمل عقيدة الرسالات السالفة، بل جلاَّها على حقيقتها الواحدة، وعمد إلى نفس هذه الحقيقة الأم الكبرى "الوحدانية"، فوطَّدها على أساس إلهي ثابت.

وسطية النظام الاقتصادي: لقد سرت وسطية الإسلام بالفعل إلى نظامه الاقتصادي، فأقامته على أساس إنساني مثالي؛ من العلم والعمل، والبحث والسعي، والتنافس في الخير والتعاون عليه، مع الصدق والتسامح والرحمة في التعامل والتبادل.

انطلق الإسلام في إقامة نظامه الاقتصادي من نفس المنطلق الذي تصدر عنه كل جوانب كيانه وقواعد بنيانه، لقد احترم حق الملكية الفردية شريطة مشروعيتها في الأصل، وسلامة ممارستها، بحيث لا تمس حقوق الأفراد، ولا تتعارض مع مصلحة الجماعة، واعتمد الإسلام التجارة الحرة في غير الضرر والحرام، وندد بمن يكنز المال دون أداء حقه، وهدده ونادى: بأن "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون "، وجعل فيه فوق حق بيت المال بالزكاة، حق الإمام، بأن يأخذ في حالات العسرة العامة، أو الخطر المحدق بالأمة أو الضرورات الاجتماعية، كل ما يحتاجه الأمر من أموال الناس، ولكن بالعدل وبالعقل، ومن كلٍّ حسب قدرته.

وقد كانت وسطية "الإسلام القمة" الثابتة على القصد مع خصائصه الحضارية الفذة، العامل الأكبر في منحه القدرة، وحمله مسؤولية التصدي لمشوهي الأديان السماوية ولأصحاب العقائد والمذاهب الوثنية أو الوضعية، السابقة والقائمة واللاحقة.

وسطية الإسلام في ضوء الفقه الحضاري

وينهي الأميري كتابه بالحديث عن وسطية الإسلام في ضوء الفقه الحضاري، ويقرر أن زبدة القول كله عن وسطية الإسلام في ضوء الفقه الحضاري: أننا إذا استوعبنا أمرها استيعابًا حضاريًّا شاملاً، ثم نظرنا في جزئياتها ودرسناها جزئية جزئية لأدركنا أنها تشمل الحياة في كل جوانبها ومعانيها، وأنها تترك آثارها في نفسية المسلم الحق، فيستشعر دائمًا العزة بالله من جانب، والتواضع له ولعباده، والمسؤولية أمامه من جانب آخر، وبالتالي فهي تترك آثارها في الأمة الإسلامية جمعاء، رفعة ودماثة، وحملاً للأمانة بشكل يمكِّن لحضارتها من الانتشار والازدهار، فضلا عما كونته هذه الوسطية للأمة الإسلامية من محورية في البشرية كافة، استقطبت المواهب والكفاءات والخبرات، وجزت عنها أكرم الجزاء، ووظفتها للنفع الإنساني العام.

وهكذا نالت مزيتها، وحازت جدارتها الفذة التي ترتبت عليها وانبثقت عنها صدارتُها في الوجود الإنساني ومسؤوليتها عن ريادة البشرية، وبذل عطاء الإسلام هداية ودراية، ونعمة ورحمة للعالمين.

هناك تعليقان (2):

القاهرة يقول...

عروض طيبة ... بارك الله فيك أبا آلاء

وصفي أبو زيد يقول...

شكر الله لك أخي محمد متابعاتك الدقيقة وتعليقاتك الطيبة