الأربعاء، 24 يونيو 2009

الوسطية مطلبا شرعيا وحضاريا

سلسلة كتاب الأمة الوسط(1)ـ
الوسطية مطلبا شرعيا وحضاريا

وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@Hotmail.com


من المناشط الفكرية التي قدمها المركز العالمي للوسطية بدولة الكويت أنه أصدر سلسلة كتب قيمة تحت عنوان: "كتاب الأمة الوسط" بلغت عشرة كتب حتى الآن، تتناول قضايا عديدة وشائكة مثل: العلاقات الإنسانية، والأسرة المسلمة في أوربا، والأقليات المسلمة والتأصيل الفقهي لقضاياها، ومعايير الوسطية في الفتوى، والتعصب والعنف، وغير ذلك، انطلاقا من فكر الوسطية في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولقد شارك في هذه السلسة ـ ويشارك ـ كوكبة من رموز الأمة ومفكريها ودعاتها منهم: د. عبد المجيد النجار، والدكتور جمال بدوي، والدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور عبد العزيز الحميدي، والشيخ عبد الله بن بية، والدكتور أحمد الراوي.

أهمية تحديد المصطلحات
وقد قدم الدكتور عصام البشير ـ الأمين العام للمركز العالمي للوسطية ـ لهذه السلسة بمقدمة معبرة، ومما جاء فيها: "إن تحديد المصطلحات، وبيان مضامينها ، وضبط مدلولاتها، واستيفاء متعلقاتها، يعد أمراً بالغ الحيوية في زمان اهتزت فيه القيم، واضطربت فيه المعايير، وتاهت ـ فى معظم الأحيان- معالم الطريق نحو قيم العدل والخير والتسامح، ومما لا شك فيه أن من أشد هذه القضايا الكلية المعاصرة ملامسة لواقع أمتنا، وأكثرها إلحاحاً إلى إبراز إطارها الشرعي والفكري والعقلي والمعرفي والعملي هي (الوسطية) ذلك لأنها منهج شرعي، فيها مناط الخيرية، وعليها ينهض بناء الشهود الحضاري. بيد أن ترنح المسار الفكري بين الغلو والاعتساف من جهة ، ولاستلاب والتسيب من جهة أخرى ، يوجب علينا وقفة تأمل ، لتصحيح خلل المفاهيم وعوج المواقف. من هنا كانت عناية وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت بالوسطية - ومفهوماً وممارسة-تحتل مكاناً بارزاً في خطتها وبرامجها وأنشطتها.
ومن ثمرات هذه العناية قيام المركز العالمي للوسطية ليكون إشعاعاً يتوهج في مسيرة البناء الحضاري لأمتنا، لتعميق منهج الوسطية مصطلحاً ومفهوماً وضوابط ومعايير، من خلال مدارسة فكرية منهجية لمختلف أطياف الدعاة والعلماء، لبسط رؤية مجمعية في ضوء التزام ثوابت الشرع، ورعاية متغيرات العصر وتأكيد المرجعية التي تعزز وحدة الصف، وتقارب الخطى، وتجسد أدب الخلاف وتعمل على توسيع دائرة المشترك الحضاري، وتعين على قيام شراكة إنسانية صحيحة وعادلة تفي بمتطلبات التفاعل الإيجابي مع مراعاة حفظ الهوية، وتجيء سلسلة "الأمة الوسط" التي يتوالى صدورها تباعاً إسهاماً من أهل الفكر والعلم والدعوة في تعزيز هذا المنهج المرتبط بالأصل والمتصل بالعصر، آملين أن يكون وميضاً في ضبط موازين السير الحضاري، وتعميق مسارات جذور ه، راجين في تنوع الرؤى والأفكار ما يعين على إنضاج المفاهيم ، ويثري مسالكها".

الوسطية مطلبا شرعيا وحضاريا
ويفتتح الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي هذه السلسلة بالكتاب الأول تحت عنوان: " الوسطية مطلبا شرعيا وحضاريا"، بين فيه بدايةً أن هناك أمورا كثيرة تدعونا إلى إلقاء الضوء على أهم معطيات الإسلام وخصائصه، وأبرز مزاياه، ألا وهي الوسطية والاعتدال في كل شيء؛ حيث اجتذب هذا الدين السمح أنظار الناس المعتدلين في المشارق والمغارب، وما يزال ينمو بقوته الذاتية، ويتكاثر أتباعه إلى يوم القيامة، وسيظل شرع الله تعالي ملاذا للمجتمعات، وملجأ للعقلاء، ومنطلقا للمناهج الإصلاحية، كلما احتدمت الأزمات، واستحكمت المشكلات، وتكاثرت الهموم والقلاقل والاضطرابات، وضاق الناس بتصرفات الحمقى والجهلاء، أو المستكبرين والمتسلطين على رقاب الآخرين، ففي الإسلام السمح العلاج والإنقاذ، وبه تصلح البشرية ويعم الرخاء والخير والاستقرار والسلم والأمان، ومن خلاله يتحقق التقدم والازدهار، سواء في الآفاق السياسية أو الاقتصادية، وأداء الخدمات والمهارات الفنية الجديدة والوظيفية، من غير إفراط ولا تفريط، ولا تشدد ولا تساهل.

مفهوم الوسطية.
ويلقي الدكتور الزحيلي الضوء على مفهوم الوسطية وتعريفها بأنها توسط واعتدال واقتصاد، فالوسطية في العرف الشائع في زماننا تعني الاعتدال في الاعتقاد والموقف والسلوك والنظام والمعاملة والأخلاق، وهذا يعني أن الإسلام بالذات دين معتدل غير جانح ولا مفرط في شيء من الحقائق، فليس فيه مغالاة في الدين، ولا تطرف أو شذوذ في الاعتقاد، ولا تهاون ولا تقصير، ولا استكبار ولا خنوع أو ذل أو استسلام وخضوع وعبودية لغير الله تعالى، ولا تشدد أو إحراج، ولا تساهل أو تفريط في حق من حقوق الله تعالى ولا حقوق الناس، وهو معنى الصلاح والاستقامة، مع الاعتراف بحرية الآخرين، لا سيما الحرية الدينية، دون تعسير أو إرهاق، وتصفية النفس من الأحقاد وإضمار العداوة للآخرين والكراهية والبغضاء، لأن الناس كلهم خلق الله، واقتضت حكمة الله أن يكون فيهم المؤمن والكافر، والبر والشقي أو الفاجر، والمحسن والمسيء والمؤمن المستقيم والمنافق، والعادل والظالم، والمتكبر والمتواضع، والحليم المتأني (أو الرفيق) والشديد الغليظ، والجميل والقبيح، والمستقيم ومحب الخير والشرير، وكل ذلك من مظاهر تكامل الكون والنوع البشري، ونحو ذلك من الأوصاف المتضادة، والسمات المتعارضة.
والحق أن هناك توسعا من الدكتور وهبة الزحيلي في مفهوم الوسطية يخرج بالماصدق عن حدود المفهوم، فإذا كانت الوسطية هي الاعتدال والاقتصاد دون غلو ولا تفريط، ودون طغيان أو إخسار، فإن معاني الحرية وتصفية النفس من الأحقاد وإضمار العداوة والبغضاء للآخرين لا تدخل ضمن مفهوم الوسطية وإن تماست معها من بعض الجوانب، أو التقت معها في الآثار والنتائج.

لماذا مطلبًا شرعيًا وحضاريًا؟
ويبين الدكتور الزحيلي حيثيات كون الوسطية مطلبا شرعيا وحضاريا بأنها حق وخير وعدل؛ ليتحقق التكامل والانسجام بين الأوضاع، والتعاون بين الجميع، ويصير الإخاء والإقدام على العمل أساس كل تقدم ورفاهية، كما أن حالة الوسطية تؤدي إلى أداء الواجبات وحقوق الله تعالى وحقوق الناس، فلا تقصير في واجب، ولا إهدار لحق، ولا تقصير في الأداء، كما أنه لا تظالم أو تناحر ولا صراع أو تنافس غير شريف، ولا تناقض في السلوك والممارسات الاجتماعية، ولا تعقيدات أو أمراض نفسية أو اجتماعية، لأن كل إفراط أو شذوذ يؤدي إلى الاضطراب، وكل تفريط في أداء واجب يكون سبباً في إثارة المنازعات والخصومات، وإغراق المحاكم بالدعاوي وتعطيل الأوقات، وتجميد الأحوال، فالحياة الهادئة لا تصلح بغير توسط في الأمور، وإن التوفيق بين متطلبات الدين وشؤون الدنيا والمصالح العامة والخاصة أمر مرهون بتوافر القدرة على إنجاز المهام كلها.

آثار الوسطية على المجتمع
وإذا ما طبقنا الوسطية في شئوننا وحياتنا كان لها آثار على الأفراد وعلى المجتمع بالتبع، فللوسطية آفاق بعيدة المدى، لأنها إيجابية النفع، فتكاد السلبيات أو الأخطاء تنعدم أو تكون في طريقها إلى الذوبان والتلاشي، وذلك لما تفرزه من آثار اجتماعية ملموسة، من إشاعة المحبة، وتنامي المودة، والابتعاد عن التعصب، والأحقاد، وتوفير الثقة للآخرين وإحسان التعامل معهم، وصارت أحوال الأسرة والمجتمع في طمأنينة وشعور بالاستقرار، وتفرغ للإنجاز والعطاء، والتزام الحق والعدل، والبعد عن الشر والفتنة والفساد في الأرض.
فما من مشكلة اجتماعية تثور إلا وكان سببها شذوذا في التخطيط والعمل، أو انحرافا عن المقصد الشريف. أما حال الوسطية فتكون من أهم الأسباب الداعية إلى الاستقرار والوئام، وإسعاد الفرد والجماعة، وتقدم المدنية وازدهار الحضارة.

معايير الوسطية في العبادة والعقيدة.
وحتى يكون هناك مقياس ومعيار للوسطية نعرفها به فلا يدعي كل أحد الوسطية أو تطلق الوسطية على كل معنى في العبادة أو العقيدة يضع الدكتور وهبة معايير ومقاييس تقاس بها الوسطية وتحاكم إليها في العبادة أو العقيدة.
ومن أهم هذه المعايير: ملازمة السماحة والاعتدال في التكليف، بحيث لا يشق التكاليف على النفوس، وترك المغالاة في الدين أو التشدد والتعمق فيه، لأن الغلو في كل شيء يترتب عليه في النهاية السآمة والضجر، ثم إهمال الواجب.
والوسطية تتطلب انسجام العقول مع التكاليف، فكل ما يتعارض مع الحكمة والعقل، يكون محدثا هزة أو فتورا أو بعدا عن العمل، وهذا ينطبق على كل من العبادة والعقيدة.
أما العقيدة فأساس رسوخها في النفس أن يقتنع العقل بها ، ويتوفر الرضا بها والاطمئنان لمعطياتها وإدراك آثارها وفضائلها، وعقيدة المسلمين تنسجم مع جميع القدرات العقلية، ويأوي الإنسان إليها ويعتمد عليها حين الوقوع في الشدائد أو الابتلاء بمرض ونحو ذلك، وقد كان النبي إذا حزبه أمر يهرع إلى الصلاة، ويهرع الناس وقت الشدائد إلى الدعاء والابتهال، فلا يجد المؤمن ملاذا في وقت الشدة إلا بالعبادة التي تملأ نفسه رضاً وطمأنينة وحباً وسكينة.
كما أن العقيدة الإسلامية وسط بين القائلين بالثنوية والجاحدين لوجود الله أو من يعبدون غير الله، فهي تدعو بكل بساطة وقبول عقلي بأن الله واحد لا شريك له، وأنه الخالق لا إله إلا هو، ولذلك بادر أهل الحكمة والفكر والعلم والاعتدال إلى الاعتقاد بما جاء في قوله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم" [آل عمران: 18]. وأكدت السنة النبوية الإقرار بالوحدانية ووجوب الشهادة في أحاديث كثيرة منها: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ...".

تأصيل هذه المعاني من خلال القرآن والسنة.
ويؤصل الدكتور الزحيلي هذه المعاني موردا بعض ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من آيات وأحاديث وردت في التوسط والاعتدال في مجال العبادات، وفي المعاملات المالية والعلاقات الاجتماعية، وفي المحبة والمودة والموعظة والإرشاد.
فمما جاء في العبادات: قوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا" [التغابن: 16] وحديث النبي:"إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا" متفق عليه ومعنى ((سددوا)) اقصدوا السداد من الأمر، وهو الصواب، ومعنى ((قاربوا)) اطلبوا المقاربة وهي القصد أو الاعتدال في الأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير، ونهى النبي عن الترهب قائلا: "أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". أخرجه البخاري ومسلم.
ومما جاء في المعاملات المالية والعلاقات الاجتماعية: أنها قائمة في الإسلام على التراحم والتعاون والعفو وإغاثة الملهوف والتفريج على أهل الكروب والأزمات لقوله تعلى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [الأنبياء: 107] وقوله سبحانه "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" [الأعراف: 199]. وقال صلى لله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" أخرجه أحمد ومسلم. وقوله: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" أخرجه مسلم.
ومما جاء في المحبة والمودة والموعظة والإرشاد: قوله تعالى: "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" [النحل: 125]. عن أبي وائل قال كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا. رواه البخاري ومسلم.

ليست هناك تعليقات: