الأربعاء، 24 يونيو 2009

العلاقات الإنسانية في ضوء الوسطية


سلسلة الأمة الوسط (3)
العلاقات الإنسانية في ضوء الوسطية
(علاقة المسلم بغير المسلم)
وصفي عاشور أبو زيد
wasfy75@hotmail.com

لما كان البشر أشرف المخلوقات، فإنه من الطبيعي أن يُولِي الإسلام قدراً كبيراً من الاهتمام بعلاقة الإنسان، سواء كان ذلك على مستوى الأسرة أم المجتمع أم الدولة أم الأمة أم الإنسانية جمعاء.
وشمول الإسلام وعالميته يقتضي كذلك أن يشمل هديُه تنظيمَ وترشيد علاقة المسلم بغير المسلم في حالتي السلم والحرب. لذلك فقد اهتم الفقهاء في الماضي والحاضر بهذه القضية وما يتعلق بها من أحكام، أصاب منهم من أصاب وأخطأ من أخطأ، وكلهم مأجور على اجتهاده إن شاء الله تعالى.
وفي إطار هذه النظرة الاجتماعية والإنسانية صدر كتاب: "العلاقات الإنسانية في ضوء الوسطية، علاقة المسلم بغير المسلم". للأستاذ الدكتور جمال بدوي، الذي يشير في مقدمته إلى أنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م كثرت الادعاءات بأن الكراهية وأعمال العنف وقتل الأبرياء ليست أموراً عارضة ولا تمثل انحرافاً عن تعاليم الإسلام، بل إنها تجد جذورها في تعاليم الإسلام وكتابه، وبالتالي فإن الإسلام بذاته يمثل خطراً على الحياة الإنسانية والسلام العالمي، وأنه مصدر لتفريخ ما سموه بالإرهاب العالمي.

هدف البحث ومنهجيته
والهدف من هذا البحث ـ كما يذكر مؤلفه ـ هو الرد على أهم الشبهات التي تثار بكثرة عن هذه القضية، قضية علاقة المسلم بغير المسلم، وذلك بغض النظر عن مصدر هذه الشبهات، بما في ذلك ما يثار ـ بحسن قصد ـ من بعض المسلمين أنفسهم.
ونهج البحث طريقة المنهج التكاملي في التناول حيث ركز في المقام الأول على نصوص القرآن الكريم، والاستئناس بأسباب النزول، ورد القليل من النصوص إلى الكثير، ورد المتشابه إلى المحكم وفهم ظني الدلالة من النصوص في إطار قطعيها، وكذلك الاستدلال بطرف من الأحاديث النبوية الشريفة ذات الصلة الوثيقة بالموضوع؛ حيث لا يتصور أن يكون هناك تناقض حقيقي بين نص قرآني وحديث نبوي لا غبار على صحته إسناداً ومتناً، فإن كان ثمة تناقض (ظاهري) فإن الأصل هو التوفيق بينهما، فإن تعذر ذلك فإن النص القرآني يظل هو الأصل والمصدر الأول، ذلك لتميزه بقطعية الثبوت المتواترة، وخاصة إذا كان هذا النص قطعي الدلالة، ولم ينس الاستفادة من تراث الفقهاء، في ضوء الإطار التاريخي والظروف التي أحاطت بذلك التراث.

البنية التحتية والمبادئ الأساسية في علاقة المسلم بغير المسلم
ويضع الدكتور جمال بدوي مبادئ أساسية وأصولا كلية بمثابة الأساس الذي تبنى عليه علاقة المسلم بغير المسلم، والمهاد الذي يتعايش كل منهما عليه، ومن أهم هذه المبادئ:
** الأصل أن الهدف من رسالة الإسلام هو الرحمة وتحقيق الخير للبشرية جمعاء ، بل لكل المخلوقات، وقد بين المصطفى r أن هذه الرحمة ليست رحمة أحدنا بصاحبه، بل بالناس كافة.
** أن من ثمار هذه الرحمة محبة الخير للبشر ودعوتهم للاستجابة لله وللرسول، أي الاستجابة لما يحييهم ويحقق لهم سعادة الدارين.
** أن المصطلح الإسلامي لنشر رسالة الإسلام هو : " الدعوة" ومن حق المدعو أن يقبل هذه الدعوة أو يرفضها ، لهذا يؤكد القرآن الكريم وتؤكد السنة النبوية على رفض الإكراه في الدين كوسيلة لتبليغ رسالة الإسلام.
** أن رفض قبول الدعوة لم يرد بشأنها عقوبة دنيوية، بل إن القرآن الكريم يوضح أن التعددية في المجتمعات الإنسانية، بما في ذلك التعددية الدينية، أمر وارد وأنه ليس من حق المسلمين ولا من واجبهم القضاء على هذه التعددية.
** أنه على الرغم من أن الرابطة العقدية والأخوة الإيمانية هي أسمى الروابط ، إلا أن هناك رابطة إنسانية أخرى، وأخوة بشرية تسع الناس جميعاً مسلمهم وغير مسلمهم. ويلاحظ أن كثيراً من الآيات القرآنية تبدأ بقوله تعالى : " يا أيها الناس " وليست " يا أيها الذين آمنوا" وهذه الآيات تتعلق عادة بالروابط الإنسانية الكبرى بغض النظر عن الجانب الإيماني.
** نبذ التعصب الديني بالتأكيد على وحدة الرسالة والرسل، وقبول الأنبياء جميعا، والإيمان بهم وبالوحي الذي نزل عليهم.
** تكريم البشر لمجرد أنهم بشر لقوله تعالى : (ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) الإسراء: 70. وموضع التكريم في هذه الآية هم " بني آدم " المسلم منهم وغير المسلم .
** أن الأصل في معاملة غير المسلم هي البر والقسط ما دام مسالماً، وآيتا سورة الممتحنة: 8-9، واضحتان في ذلك.
** العدل الشامل مع الجميع بما في ذلك غير المسلم . بل إن القرآن يدعو إلى العدل حتى مع الأعداء : (ولاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون). المائدة: 8.

رد الشبهات وتصحيح المفاهيم
وفي هذا الفصل يعالج الدكتور جمال بدوي حزمة من الشبهات التي ثار حولها لغط كبير، ولها صداها وأبعادها في الواقع الإسلامي المعاصر، وهي : مفهوم الجهاد، وظهور الإسلام، والكراهية وقتل الكفار حيثما وجدوا.

مفهوم الجهاد
أما عن مفهوم الجهاد فتتلخص هذه الشبهة في الادعاء بأن الجهاد هو " الحرب المقدسة " ضد معتنقي الأديان الأخرى ، واستباحة دمائهم وأموالهم وأنه في الوقت الذي قام فريق من علماء أهل الكتاب بشجب فكرة الحروب الدينية، التي وقع فيها أسلافهم في الماضي، فإن علماء المسلمين وعامتهم ما زالوا مستمسكين بهذه الفكرة التي لا تتناسب مع مقتضيات العصر الحديث ، ونتيجة ذلك هو أعمال العنف التي يرتكبها بعض المسلمين ضد الأبرياء من غير المسلمين، وضد بني جلدتهم وذلك باسم الإسلام ، وتحت راية الجهاد.
ويرد الدكتور بدوي على هذه الشبهة بأن تعبير " الحرب المقدسة " لم يرد في كتاب الله تعالى مرة واحدة، ولا نعلم بوروده في السنة النبوية، والتعبير إنما هو ترجمة حرفية للتعبير الإنجليزي Holy War وهو تعبير لا علاقة له بمفهوم الجهاد في الإسلام، كما أنه يتعارض مع المبادئ التي ذكرناها آنفا.
قد يشير إلى جهاد النفس وتزكيتها في سياق الحديث عن الصلاة وعمل الخير، كما في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . َجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ). الحج:77- 78.
وقد يشير الجهاد أحياناً إلى الجهاد السلمي في إطار المجتمع لإقامة العدل وإظهار الحق، فالقرآن يثني على المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، ويبين أن الإنفاق في سبيل الله صنف من أصناف الجهاد، كما في قوله تعالى: (فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً). النساء: 95.
لكن القرآن الكريم والسنة المطهرة يشيران كذلك إلى صنف ثالث من الجهاد وهو الجهاد الحربي في ميدان المعركة، وعادة ما يشار إليه بلفظة " القتال " واستقراء كتاب الله تعالى يبين أنه ليس لهذا الصنف من الجهاد إلا مبرران أو سببان : أولهما: هو دفع العدوان ، والثاني: هو منع الفتنة.

ظهور الإسلام
أما عن شبهة ظهور الإسلام فخلاصتها أن الإسلام باعتباره دين الحق لا بد أن يسود العالم ويحكمه ، بل منهم من يدعي أن ظهور الإسلام على سائر الأديان يعني ألا يبقى على ظهر الأرض إلا الإسلام ، وذلك لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ). التوبة: 33.
ويقرر الدكتور بدوي أنه تنطوي على أكثر من خطأ:
أنها لا تفرق بين ظهور الإسلام وظهور المسلمين، وهذان الأمران ليسا متلازمين بالضرورة فقد يكون المسلمون غير ظاهرين في الأرض، بل قد يكونون في حالة يرثى لها من الضعف والمهانة.
أنه من المعلوم من الناحية التاريخية أن الإسلام قد انتشر وظهر بصورة أعم وأقوى في فترات السلام وليس في فترات الحروب في ذاتها بدءاً بصلح الحديبية الذي نتج عنه إسلام أعداد كبيرة في عام ونصف تزيد كثيراً عمن أسلم منذ بداية البعثة ـ أي في نحو تسعة عشر عاماًـ
أن قصر فهم الظهور على المعنى العسكري والسياسي يعني التزام المسلمين وهم أقلية عددية في العالم( حوالي خمس العالم) بشن الحرب على باقي سكان العالم ، الحربي منهم والمسالم، مما يتناقض مع كثير من المبادئ التي ذكرناها.

الكراهية وقتل الكفار حيثما وجدوا
أما عن الشبهة الثالثة وهي شبهة الكراهية وقتل الكفار حيثما وجدوا، فخلاصتها أن الإسلام يدعو إلى كراهية غير المسلمين وينص على عدم مصادقة أهل الكتاب ، بل إنه يبرر قتالهم وأسرهم ونصب الكمائن لهم في كل مكان لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ). المائدة: 51.ولقوله تعالى (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) . التوبة: 5.
ويرد الدكتور جمال بدوي هذه الشبهة بأن آية آل عمران تستخدم لفظة " أولياء" وهي لفظة لا تعني الصداقة وحسن الجوار والمعاملة بالحسنى ، وهي مبادئ مستقرة في معاملة المسالم من غير المسلمين ، إنما تنصرف إلى طلب النصرة والاعتماد على الغير للدفاع على الأمة.
وقد تتبع الدكتور بدوي كل الآيات التي تنهى عن موالاة الكفار فوجدها أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأمور سلبية . فمنها ما تنهى عن اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين وخاصة إذا كان ذلك ابتغاء العزة عندهم . ومنها ما يتعلق بسلوكهم العدواني ضد المسلمين في اتخاذ الإسلام هزواً أو لعباً . ومنها ما يتعلق بموالاة الكفار في حالة الحرب بينهم وبين المسلمين كما هو معلوم من قصة حاطب ابن أبي بلتعة.
فالعلاقات الودية مع المسالمين من الكفار لا تعني المساومة على ثوابت العقيدة ، وإن القرآن الكريم يبيح زواج المسلم من الكتابية فتكون ربة بيته ، وشريكة حياته وأم أولاده وهي غير مسلمة ، وأن يكون أخوال أولاده وخالاتهم من غير المسلمين.
وأما آية (فاقتلوا المشركين) فالمقصود بها مشركو العرب، بل إن الآية السادسة من سورة التوبة تنص على إجارة من طلب الأمان من المشركين حتى يسمع كلام الله ثم إبلاغه مأمنه حتى ولو لم يسلم . وهذا ينقض القول بأن الشرك وحده سبب للقتال .
ومن مكامن الخطأ عند من يستدل بهذه الآية أنهم أغفلوا العلة في قتال المشركين أو على الأصح طائفة منهم ، وهي نقضهم للعهد ومبادأتهم المسلمين بالعدوان، وإذا صح جواز قتل الكافر، فلماذا فصّل القرآن و فصّلت السنة النبوية الشريفة في حقوق غير المسلمين. و خاصة أهل الذمة منهم ؟ و كيف عاشت الأقليات الدينية و نمت في ظل الإسلام في وقت كان للمسلمين من القوة و السلطان ما يمكنهم من إبادة هذه الأقليات و إزالة بقايا الأديان السابقة حتى يظهر الإسلام و يكون الدين كله لله كما فهم البعض؟
إن هذا البحث ـ كما يقول الدكتور بدوي ـ قد اقتصر على شبهات وأنه يعوزه التفصيل والتنقيح، إلا أن تعاقب الأحداث وتتابعها وكثرة ما ينشر في الغرب لتشويه صورة الإسلام ، وخاصة بعد أحداث سبتمبر 2001 يقتضي ردا موجزاً يمكن نشره على نطاق واسع بين المسلمين وغيرهم.
ولكن الخلاصة التي نحسب أنها واضحة أن هناك لبسا كبيرا حتى بين بعض أبناء الإسلام عن بعض القضايا الهامة التي تحتاج إلى مزيد من البحث والتمحيص والنقد . والمسلمون اليوم في حاجة إلى منهجية تضع الجزئيات في إطار الكليات والمتغيرات في إطار الثوابت ، والاجتهادات السابقة في إطار الظروف التاريخية التي لم تتح إيصال رسالة الإسلام إلى العالم إلا عن طريق إزالة القوى الظالمة التي بادأت المسلمين بالعدوان مما اقتضى التعامل معها في ميدان المعركة وتحرير من عانوا تحت حكمها ، ولا يسوغ في عصر أمكن للمسلمين فيه نشر رسالة الإسلام بشتى الوسائل المعاصرة وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمعات غير المسلمة ، لا يسوغ في العالم المعاصر أن يتمسك البعض ببعض الاجتهادات الفقهية التي ربما ناسبت عصرها ولكنها ليست من ثوابت شرع الله تعالى .

ليست هناك تعليقات: