الأربعاء، 24 يونيو 2009

معـــايير الـوسطــية فـي الفـــتوى


سلسلة كتاب "الأمة الوسط" (5)
معـــايير الـوسطــية فـي الفـــتوى


وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@hotmail.com


الكتاب الخامس في سلسلة كتاب "الأمة الوسط" التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بالكويت هو: "معايير الوسطية في الفتوى" لفضيلة العلامة الشيخ عبد الله بن بيَّه، وقد تضمن الكتاب أربعة مباحث وخاتمة.

أهمية الكتاب
ولأن معنى الوسطية لابد من ضبط مضمونه كان تعريفه لها في البداية، ومن ناحية أخرى زاوج بين الوسطية وأمر خطير له أبعد الأثر وأعظم الخطر في حياة الأمة وهو الإفتاء، فما أكثر ما توقع الفتاوى الضالة جماهير الأمة في بلبلة وفوضى واضطراب قد يؤدي إلى فتنة تهدد وحدة النسيج الاجتماعي للمجتمعات.
وكثير من المفتين يذهب بجماهيره مذهب التشدد ظنا منه أن الأخذ بالأحوط هو الأولى في كل الحالات، آخذا الناس بالعزيمة في كل وقت حاملهم على ما يحمل عليه نفسه، وفريق آخر ذهب بالجماهير مذهب التسيب أو التيسير غير المنضبط الذي تندرس معه معالم الشريعة ما لم يراع ضوابط التيسير ومعايير الوسطية، ومن هنا جاء هذا الكتاب ليمثل بذلك أهمية كبيرة.

الوسطية والفتوى
عرَّف الشيخ بن بيه الوسطية، ثم تحدث عن الوسطية في الفتوى، وعن الوسطية قال: الوسطية هي الميزان والموازنة والتوازن بين الثبات والتغير بين الحركة والسكون هي التي تأخذ بالعزائم دون التجافي عن الرخص في مواطنها، وهي التي تطبق الثوابت دون إهمال للمتغيرات، تتعامل مع تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع، تقيم وزناً للزمان ولا تحكمه في كل الأحيان، تفرق بين المتماثلات وبين المتباينات، إعمال للحاجات وللمصالح وعموم البلوى والغلبة وعسر الاحتراز، ونعني بالوسطية هنا المقارنة بين الكليّ والجزئيّ والموازنة بين المقاصد والفروع والربط الواصب بين النصوص وبين معتبرات المصالح في الفتاوى والآراء فلا شطط ولا وكس.
ويعرف الشيخ بن بيه الوسطية في الفتوى مستعيرا ما قاله الإمام الشاطبي في الموافقات: "المفتى البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال".
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلفِ الحملُ على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين، وبهذا يكون الشيخ قد عرف الوسطية بشكل عام، والوسطية في الفتوى بشكل خاص.

معـــايير الـوسطــية فـي الفـــتوى
بعد وضع النقاط على الحروف شرع الشيخ الجليل في وضع معايير تضبط مفهوم الوسطية في الفتوى حتى لا يميل الحال بالمفتي ذات اليمين وذات الشمال، وقد وضع الشيخ أربعة قواعد تعيير للوسطية في الفتوى، وتفصيلها على النحو التالي:

أولا: قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان
وهذه قاعدة جليلة في تغير الفتوى، وهي عند فقهائنا باتفاق، وقد جاءت مجلة الأحكام العدلية بعنوان: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان"، وهي قاعدة ليست على إطلاقها فليست كل الأحكام تتأثر بتغير الزمان فوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج وبر الوالدين والكثير من أحكام المعاملات والأنكحة وكذلك فإن المنهيات القطعية كالاعتداء على النفس والأموال والأعراض وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأكل أموال الناس بالباطل ومنها الغش والخيانة ومحرمات عقود الأنكحة ومحرمات عقود البيوع المشتملة على الربا أو الغرر الفاحش أو الجهالة فكل تلك لا تستباح إلا بالضرورات التي تبيح المحظورات.
وبصفة عامة فمحرمات المقاصد التي تعني أن العقد يشتمل على المفسدة التي نهى الشارع عنها لا تجيزها الحاجة، وبالعكس من ذلك فإن محرمات الذرائع التي يتوصل بها إلى المفسدة وواجبات الوسائل التي يتوصل بها إلى مصلحة فإنها تتغير بتغير الزمان لأنها تدور مع المصالح جلباً والمفاسد درءاً فإذا رجحت مصلحة على المفسدة التي من أجلها كان الحظر فإن النهي يستحيل تارة إلى تخيير وتارة إلى طلب.
والذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية وأما القطعيات من الأحكام فلا تتغير فلا يمكن أن تتغير المواريث بدعوى أن المرأة أصبح لها شأن ولا يمكن أن يتغير تحريم ربا النسيئة في بلاد الإسلام ولا تحريم أكل الميتة والخنزير، وهذا هو الذي يضمن الوسطية في الفتوى بين الإبقاء على المقطوع به والتطور في المجتهد فيه.

ثانيا: قاعدة العرف
اتفق على هذه القاعدة أيضا علماء المسلمين أن الفتوى تتغير بتغير العرف، مع الحفاظ أيضا على الأصول والكليات والقطعيات، وفي اعتبار العرف يقول الشيخ بن بيه فيما نقله عن القرافي في الفرق الثامن والعشرين: بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها: وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجْره عليه وأفته به دون بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحاً مستغنية عن النيّة.
قال ابن عابدين: (ثم أعلم)أن كثيراً من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة كما قدمناه من إفتاء المتأخرين بجواز الاستئجار على تعليم القرآن وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة مع أن ذلك مخالف لما نص عليه أبو حنيفة ومن ذلك تحقق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول الإمام بناء على ما كان في عصره إن غير السلطان لا يمكنه الإكراه ثم كثر الفساد فصار يتحقق الإكراه من غيره فقال محمد باعتباره، وأفتى به المتأخرون.

ثالثا: قاعدة النظر في المآلات
والنظر في المآلات يجعل المفتي بعيدا عن الغلو أو التشدد، إذ لو أهمل النظر إلى المآلات لوقع فيما يخالف الصراط المستقيم ، وقد كان الإمام الشاطبي من أوفى من شرح هذا المدلول الاصطلاحي كما يقول الدكتور عبد المجيد النجار ونص الشاطبي: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جار على مقاصد الشريعة.
وهكذا فإن الصحابة فهموا مقصد الشارع والمقاصد هي المعاني التي تعتبر حكما وغايات التشريع فتصرفوا طبقا لذلك فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يترك تغريب الزانى البكر مع وروده في الحديث حيث قضى عليه الصلاة والسلام بجلده مائة وتغريب سنة وذلك لما شاهد من كون التغريب قد يؤدي إلى مفسدة أكبر وهى اللحاق بأرض العدو وقال لا أغرّب مسلماً، وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: كفى بالنفي فتنة، وأيضا فإن عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ لمّا تولى الملك أجّل تطبيق بعض أحكام الشريعة فلمّا استعجله ابنه في ذلك أجابه بقوله : أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذا فتنة.

رابعا: قاعدة تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع
وتحقيقُ المناط في الأنواع واتفاقُ الناس عليه في الجملة مما يشهد له كما تقدم، وقد فرَّع العلماء عليه؛ كما قالوا في قوله تعالى: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" المائدة آية رقم 33.
إن الآية تقتضي مطلق التخيير، ثم رأوا أنه مقيَّدُ بالاجتهاد؛ فالقتل في موضع، والصلب في موضع، والقطع في موضع، والنفي في موضع، وكذلك التخيير في الأسارى من المَنِّ والفداء.
وكذلك جاء في الشَّريعة الأمرُ بالنِّكاحِ وعدُّوه من السُّنن، ولكن قسَّموه إلى الأحكام الخمسة، ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظراً نوعياً فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي فالجميع في معنى واحد، والاستدلال على الجميع واحد، ولكن قد يُستبعدُ ببادئ الرأي وبالنظر الأول؛ حتى يتبيَّن مغزاه ومورده من الشَّريعة، وما تقدم وأمثاله كافٍ مفيدُُ ُ للقطع بصحة هذا الاجتهاد، وإنما وقع التنبيه عليه لأن العلماء قلما نبهوا عليه على الخصوص، وهذا هو تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع وهو من دقائق علم الفتوى.

وأخيراً
فإن الوسطية هي موقف بين موقفين في فهم النصوص والتعامل معها وهي اتجاه بين اتجاهين بين ظاهرية مفرطة وباطنية مفرطة يتلخص كلام الشاطبي فيه فيما يلي:
أولاً: الاتجاه الظاهري الذي لا يهتم بالمعاني وإنما يقتصر على ظواهر النصوص وهم يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص.
والاتجاه الثاني: يرى أن مقصد الشارع ليس في الظواهر ويطرد هذا في جميع الشريعة لا يبقى في ظاهر متمسك وهؤلاء هم الباطنة وألحق بهؤلاء من يغرق في طلب المعنى بحيث لو خالفت النصوص المعنى النظري كانت مطرحة.
والذي ارتضاه هو الاتجاه الثالث الذي شرحه بقوله: والثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعاً، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمّه أكثر العلماء الراسخين؛ فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع.
وهي موقف وسط في التعامل مع المقاصد والنصوص الجزئية فقد تباينت آراء الباحثين حول المقاصد من مبالغ في اعتبارها متجاوز لحدود عمومها حيث جعله قطعياً وجعل شمولها مطرداً غافلاً أو متجاهلاً ما يعتري العموم من التخصيص وما ينبري للشمول من معوقات التنصيص، فألغوا أحكام الجزئيات التي لها معان تخصها بدعوى انضوائها تحت مقصد شامل.
ومن مجانب للمقاصد متعلقاً بالنصوص الجزئية إلى غاية تلغي المقاصد والمعاني والحكم التي تعترض النص الجزئي وتحد من مدى تطبيقه وتشير إلى ظرفيته فهي كالمقيد له والمخصص لمدى اعتباره إلى حد المناداة بإبطال المصالح.
والمنهج الصحيح وسط بين هذا وذاك يعطيِ الكلي نصيبه ويضع الجزئي في نصابه، وقد انتبه لهذه المزالق الشاطبي رحمه الله تعالى حيث حذر من تغييب الجزئي عند مراعاة الكلي ومن الإعراض عن الكلي في التعامل مع الجزئي.


ليست هناك تعليقات: