الثلاثاء، 17 يونيو 2008

التعددية الدعوية بين القبول والرفض


قـراءة في كـتاب
التعددية الدعوية بين القبول والرفض
إعداد - وصفي عاشور أبو زيد

أودع الله لهذا الكون سنناً عامة، وقوانين ثابتة، أمرنا بتدبرها والاستفادة منها وتسخيرها في مجالات الحياة جميعا، ومن هذه السنن الكونية سنة التنوع والتعدد، وقد جعل الله التعدد والتنوع نعمةً من نعمه علينا، وآية من آياته العظيمة في هذا الكون؛ حيث اختلاف الليل والنهار، واختلاف النخل والزرع والثمرات "وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ"، واختلاف الألسنة والألوان، كما عبر القرآن الكريم عن هذا في أكثر من موضع، أما الله تعالى فقد اختص بالوحدانية والانفراد،: "قلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لهُ كُفُوًا أحَدٌ".
وإن الناظر في الساحة الدعوية، يجد أن ظاهرة التعدد والتنوع قد شملتها، ويرى الاتجاهات الدعوية في هذا العصر قد برزت بشكل كبير وواضح، ويرى مواقف الناس عامة والدعاة منهم خاصة متباينة من هذه الظاهرة الدعوية، فمن قائل بمشروعيتها ومستحسن لها، ومن قائل بمنعها ومستهجن لها، فظهرت آراء متعددة الوجهات، كل يؤيد ما ذهب إليه ويدلل على موقفه.
وقد أدى هذا التباين في وجهات النظر إلى سلبيات كثيرة على العمل الإسلامي، حتى وصل الأمر إلى ما هو عليه في واقعنا الحالي، من التفرق والتشتت والتنافر، بل والمخاصمة أحيانا، فظهرت الفتن والعقبات، مما أبطأ بمسيرة الدعوة الإسلامية، وترك المجال لأعدائنا ليحققوا بعضا من طموحاتهم ومطامعهم.
وأمام هذا الواقع المؤلم، وقف شباب الصحوة الإسلامية وقفة الحائر من ظاهرة التعددية الدعوية، والتي شكلت ـ بواقعها الحالي ـ عقبة كؤوداً في وجه الدعوة الإسلامية، متسائلا عن مشروعيتها، وعن كيفية التعامل معها، وعن الموقف الصحيح الذي يجب اتخاذه منها، ومن المصيب ومن المخطئ، وكيفية تجنب الآثار السلبية، التي أدت إليها هذه المواقف المتباينة من ظاهرة التعددية الدعوية.
ومن هنا تبدو الحاجة ملحة إلى دراسة هذه الظاهرة الدعوية، وتوضيح ماهيتها ومظاهرها، ومناقشة الآراء حولها، وربطها بالظواهر الكونية الطبيعية، وبيان مدى انسجامها معها، ومن ثم تأصيلها ووضع الضوابط التي تكفل حسن التعامل معها وتوظيفها لصالح الدعوة الإسلامية.
وفي ضوء ما سبق صدرت مؤخرا دراسة جديدة بعنوان: "التعددية الدعوية، دراسة منهجية شاملة: نشأتها وتطورها ومظاهرها، ومواقف الناس منها، وإيجابياتها، وسلبياتها". لمؤلفها الأخ الداعية الدكتور معاذ محمد أبو الفتح البيانوني، ابن العالم والداعية المعروف، وهي في أصلها رسالة أكاديمية حصل بها صاحبها على الماجستير في الدعوة والثقافة الإسلامية، من جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، بجمهورية السودان، ونشرتها دار إقرأ عام 1427هـ/2006م.
تمهيد ومنطلقات
وقد قدم الدكتور معاذ بين يدي دراسته تمهيدا بين فيه أن الملة والدين هما أصل العقيدة، وهما لا يتعددان، وأما الشرائع والمناهج والأساليب فمتعددة ومتنوعة داخل الدين الواحد؛ ولذلك فملة الأنبياء كلهم واحدة، فلا يضر التنوع في الشرائع والمناهج والأساليب والوسائل، أما التنوع في الأديان والملل فهو من التناقض الممنوع، وأوضح أن الحق أمر نسبي فالحق بالنسبة لله سبحانه وتعالى واحد لا يتعدد، وهو الحق المطلق ويقابله الباطل، وأما الحق بالنسبة للمجتهدين وعامة الناس فهو متعدد ومتنوع، وهو ما أُطلق عليه اصطلاح الصواب ويقابله الخطأ، أو ما انقسم إلى فريقين عرف الأول بـ "المصوبة"، والثاني بـ "المخطئة"، وقد أحسن الباحث إذ جعل هذه المسألة من مقدمات بحثه.
وعرَّف التعددية الدعوية بأنها: "تنوع الاتجاهات الدعوية القائم على أساس تنوع المناهج والأساليب والوسائل في تبليغ الإسلام للناس وتعليمهم إياه وتطبيقه في واقع الحياة".
وهي ليست أمرا طارئا على الدعوة الإسلامية، بل إن لها جذورا تاريخية، ابتداء من التعددية العلمية والتربوية، وانتهاء بالتعددية بصورتها الحالية غير أن بروز ظاهرة التعددية الدعوية بشكلها الحالي كانت لها دواع كثيرة على رأسها غياب خلافة الدولة الإسلامية، وهدفها جميعا إرضاء الله تعالى ونصرة دينه، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
مظاهر التعددية الدعوية
للتعددية الدعوية مظاهر كثيرة لا يمكن حصرها؛ لأنها تشمل كل عمل يؤسس لخدمة الإسلام، في مختلف مجالات الحياة، فيمكن أن يتعدد بتعدد مجالاتها؛ فهناك الاتجاهات الاجتماعية، والاتجاهات الاقتصادية، والاتجاهات التبليغية، والاتجاهات التربوية، والاتجاهات التعليمية، والاتجاهات الجهادية، والاتجاهات الخيرية، والاتجاهات السياسية، والاتجاهات الفكرية، والاتجاهات الشمولية التي اهتمت بكل هذه الاتجاهات، وكل اتجاه من هؤلاء يغلب على اهتمامه في الفكر والحركة ما ينطبق على مسماه.
موقف الرفض للتعددية الدعوية وأدلته
وقد انقسم العلماء والدعاة إزاء قضية التعددية موقفين: موقفا يرفض هذه التعددية ويراها شرا ومرضا وبلاء على الأمة، وموقفا يراها ظاهرة صحية وخيرا على الأمة الإسلامية وصحوتها المباركة، وللقائلين بالمنع من التعددية الدعوية والرافضين لها أدلتهم واجتهاداتهم، وهم يمثلون وجهة نظر مرجوحة في نظر الباحث، واتجاها محددا في الساحة الدعوية.
ومن أبرز القائلين بهذا الاتجاه الشيخ حسين بن محسن بن علي جابر صاحب كتاب "الطريق إلى جماعة المسلمين"، والشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين، والدكتور فتحي يكن(
1 ) الذي يعتبرها ظاهرة مَرَضية، والدكتور صالح الفوزان، وهؤلاء وغيرهم من أصحاب هذا الاتجاه منهم من تناول الأمر بشكل علمي على أساس من الأدلة ومناقشتها والاجتهاد فيها وبيان الرأي حولها، ومنهم من تناول الموضوع بشكل يبعد تماما عن العلمية والموضوعية، فهو أشبه بالهجوم العاطفي الأهوج بدلا من النقاش العلمي الهادئ الرصين.
وتتبلور أدلة هذا الاتجاه في نوعين من الأدلة: أدلة نقلية، وأدلة عقلية.
فأما النقلية فالآيات والأحاديث التي توجب لزوم جماعة المسلمين والتزام الوحدة والحض عليها ، والآية المصرحة بأن حزب الله هم الغالبون، والآيات التي تحذر من الاختلاف والفرقة والشقاق والتنازع، والحديث الذي يقول بافتراق الأمة إلى بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ونصوص أخرى في هذا المعنى.
وأما الأدلة العقلية فتتلخص في أن للتعددية الدعوية آثار سلبية وأن مفسدتها غالبة على مصلحتها، وأن التعدد يوحي بالتناقض والاختلاف، وأن التعددية الدعوية وسيلة لتعجيل ضربات أمنية للدعوة الإسلامية، وأن هذا التعدد يوقع المسلم في حيرة أيها الصواب وأيها الخطأ، فضلا عن أن هذه التعدديات لم تكن على عصر النبي حسب رأيهم.
وقد رد الباحث على هذه الأدلة ردا علميا، وهو يسير كما هو ظاهر من طبيعة الأدلة سواء كانت نقلية أم عقلية، ولعل أبرز ما جاء في رده أن ما جاء من النصوص الشرعية دالا على الوحدة الإسلامية حُمل على الأصول الشرعية والثوابت القطعية التي ليس للاجتهاد والرأي فيها مجال، وهي التي تمثل الحد الأدنى من القواسم المشتركة لجمع شمل المسلمين، وتمثل كذلك وحدتهم العامة، وأي خروج عن هذه القواطع إنما هو خروج عن ملة الإسلام، فهي نصوص محمولة على الملة والدين، وكذلك النصوص التي تحرم التفرق والتنازع محمولة على الملة والدين كذلك.
موقف القبول للتعددية الدعوية وأدلته
وأما القائلون بمشروعية التعددية الدعوية، والمستحسنون لها، لهم أدلتهم واجتهاداتهم كذلك، وهم يمثلون وجهة نظر أخرى راجحة في نظر الباحث، واتجاه محدد في الساحة الدعوية.
ومن أبرز من قال بهذا الاتجاه ورآها ظاهرة صحية الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور محمد عمارة والدكتور محمد أبو الفتح البيانوني، وكان بإمكان الباحث أن يزيد هذه الجزئية ثراء بإيراد أسماء كثيرين يؤيدون هذا الاتجاه، بدلا من اقتصاره على هؤلاء الأعلام، وقد أصبح هذا الفريق هو الغالب اليوم في واقع الدعوة الإسلامية.
وقسم الباحث أدلتهم إلى نقلية وعقلية كذلك، فمن الأدلة النقلية الآيات والأحاديث التي تحذر من الافتراق في الدين والملة، فهي دليل على مشروعية التعدد في الاجتهادات؛ إذ لما علم الله أن دواعي الاختلاف في هذه الأمة موجودة حذر من أمرين: الاختلاف الذي يكون في غير محله حيث توجد الواضحات القاطعات، والبغي في الاختلاف المشروع واتخاذه وسيلة للتفرق واتباع الهوى، وقوله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم".
وما رواه أبو داود بسنده عن العرباض بن سارية أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعظهم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا، فقال: "أوصيكم ونفسي بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
فهذا دليل على جواز التعدد ومشروعيته، وأنه غير مناف لوحدة الأمة؛ ذلك أن سنة الخلفاء الراشدين وما كان عليه الصحابة اجتهادات متعددة وآراء مختلفة، فكم من مرويات تؤكد اختلافهم، وتعدُّد أقوالهم ومواقفهم، فهم أنوار ومصابيح يسع كل مجتهد أن يقتبس من هديهم وأنوارهم، وفي ذلك توسعة على المسلمين ورحمة بهم.
ومن الأدلة العقلية التي استدل بها هذا الفريق أن الكون قائم على التعدد والتنوع وأن التعدد والتنوع سنة من سنن الله في خلقه، كما أن التعدد منسجم مع شمول الإسلام وعالميته، وأن أي جماعة لا يمكن أن تقوم بمهام الدعوة وحدها، وأن في التعددية نماء وحفاظا على الدعوة الإسلامية، فإذا أصيبت إحدى هذه الجماعات الدعوية قامت الأخرى لتسد هذه الثغرة التي تركتها، وما أكثر ما تجهض أو تُضعَف الحركات الإسلامية اليوم وبخاصة في الدول المستبدة المتسلطة، إضافة إلى أن عصرنا هو عصر التخصص في جميع المجالات، ولذك تعددت الجامعات في تخصصاتها، والكليات في أقسامها، فلا عجب أن تهتم كل جماعة بجانب تبرع فيه وتخدم الإسلام من خلاله غير متضاربة ولا متعارضة مع غيرها من الجماعات، إلى غير ذلك من أدلة في هذا البحث القيم.
ضوابط للتعددية الدعوية
فإطلاق القول بالمنع أو بالمشروعية للتعددية الدعوية إطلاق فيه نظر، ويحتاج إلى دراسة وتدقيق، فلا إفراط ولا تفريط، بل الوسطية والاعتدال في ذلك؛ أن نقبل التعددية الدعوية بضوابط مقيدة لها، وقد وضع الفريق المؤيد لها ضوابط وحدودا لابد من مراعاتها للقول بجواز التعدد والتنوع واستحبابه، ومن هذه الضوابط:
أولا: مراعاة الثوابت الأساسية العامة للإسلام التي هي الجامع الذي يجمع المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم الدعوية وانتماءاتهم الحزبية، والتي لا يمكن الخروج عنها بحال من الأحوال، ومن هذه الثوابيت: وحدة العقيدة، ووحدة الغاية "مرضاة الله تعالى ونصرة دينه"، ووحدة المصادر والموارد "كتاب الله وسنة رسوله".
ثانيا: حصر الخلاف في نطاق المسموح به في الاجتهاد بحيث لا يكون في الثوابت المذكورة ولا يعيق النشاطات الأخرى.
ثالثا: صياغة منهج حركي واضح؛ لأن العمل الإسلامي ليس ارتجاليا إنما هو عمل منهجي علمي دقيق.
رابعا: مراعاة كافة الجوانب الدعوية، فمن برع وتخصص في جانب من الجوانب يلزمه أن يحيط بالحد الأدنى من الجوانب الأخرى؛ لأنه من الصعب الفصل التام بين مجالات الدعوة المختلفة، ومن ناحية أخرى فإن في إحاطتهم بالحد الأدني من الجوانب الأخرى تَفهُّمًا لما تقوم به الحركات الأخرى في اتجاهات أخرى مما يجنبنا الصراع والتضارب.
خامسا: أن يكون التعدد تخصُّصيا وتكامليا متضافرا، ويتم توزيع المهام على الشركاء في العمل الدعوي، مما يؤدي بمجموعهم إلى الكمال المنشود، والشمول المطلوب.
سادسا: التفريق بين المجالات التي يسمح فيها بتعدد المواقف والمجالات التي تتطلب موقفا موحدا من جميع الدعاة بالرغم من تعدد الاجتهادات والآراء حولها؛ فالتعدد وإن كان سنة كونية فإن هناك ظروفا وأوضاعا توجب على الجميع اتخاذ موقف واحد والقول برأي واحد وبخاصة في قضايا الأمة المصيرية.
سابعا وأخيرا: أن يكون انتماء أفراد دعوة معينة إلى المبادئ والأفكار لا إلى الأشخاص والأسماء؛ لأن الأمر إذا أصبح ولاء وانتماء للأشخاص يكون تحزبا وتعصبا مذموما، وهو ما يؤدي إلى الخروج عن المبادئ المرسومة له، فتذهب ثمراته وتكثر سلبياته، إضافة إلى أنه لا عصمة لبشر، ولا تؤمَن على حيٍّ فتنة.
إيجابيات التعددية الدعوية
وتحت هذا العنوان يذكر الدكتور معاذ مجموعة من الإيجابيات للتعددية الدعوية في ساحة العمل الإسلامي، منها: التعاون على تحقيق الأهداف المشتركة، وإحياء نظرة التكامل والتعاون بين فصائل العمل الإسلامي على كافة اتجاهاته، وضمان شمول الدعوة الإسلامية لكافة الاتجاهات الدعوية المطلوبة واستمرارية العمل، وذلك بإحياء نظرة التخصص في العمل الدعوي، واستيعاب أكبر عدد من المسلمين في العمل الإسلامي، وإحياء الهمة والجودة في العمل الدعوي، وفسح المجال للتجارب الدعوية المتنوعة، وبروز روح التطوير والتجديد في مسيرة العمل الإسلامي، مما يناسب الأماكن المتعددة والأحوال المختلفة، وشيوع روح التنافس الإيجابي والتسابق في الخيرات، إضافة إلى أن التعددية الدعوية تطبيق عملي لجواز الاختلاف في الآرء وتعدد وجهات النظر.
سلبيات التعددية الدعوية
وفي مقابل الإيجابيات للتعددية الدعوية لا شك أن هناك سلبيات لها كما هي طبيعة كل عمل، ومن هذه السلبيات:
طغيان الحزبية بين الأفراد العاملين في حقل الدعوة وانتشار التعصب المذموم، مما يؤدي إلى احتكار الصواب ورؤية الآخر عدوا له فيتم إقصاؤه من خلال طغيان فكرة جماعة المسلمين والانتقال من الولاء للمبادئ والأفكار إلى الأشخاص والأسماء، والاهتمام بالكم بدلا من الكيف بالحرص على إدخال أكبر عدد ممكن لدعوتهم دون نظر للتربية والتكوين، وضعف النقد الذاتي والتنبه لفقه المراجعات.
ومن السلبيات كذلك عدم التنسيق في العمل الدعوي بين كافة الاتجاهات الدعوية مما يضيع الجهود ويبعثرها، ومنها: تكرار الكثير من الأخطاء التي وقع فيها الآخرون بحكم ضعف الاستفادة من تجارب الآخرين في كثير من الحركات الإسلامية، كذلك وقوع العديد من المسلمين في الحيرة والاضطراب تجاه هذه النشطاطات والتيارات الدعوية أيها صواب وأيها خطأ، وأيها يعبر عن مضمون الإسلام وأيها لا يعبر؛ وذلك نتيجة لسوء الواقع العملي لهذه الحركات، ولعدم استيعاب هؤلاء المسلمين لمبدأ التعدد والتنوع، وكذلك من السلبيات إسناد المناصب القيادية في بعض الأحيان لمن ليسوا أهلا لها، إما بسبب جمودهم وعدم مرونتهم، أو بسبب تحمسهم والسير وراء عواطفهم، وغالبا ما يظهر ذلك فيما يسمى بطبقة القيادات الوسطى.
منهاج التعامل مع التعددية الدعوية
ومن خلال ما سبق من إبراز لجوانب الإيجاب وجوانب السلب استطاع الباحث أن يضع منهاجا للتعامل مع التعددية سواء كان التعامل بين بعضها وبعض أم في ظل غياب الدولة الإسلامية أو وجودها، وكذلك من خلال صيغ وتجارب للتعامل مع التعددية الدعوية.
ومن أبرز المعالم لتزكية الإيجابيات وتلافي السلبيات تحقيق الإخلاص والتجرد لله تعالى ومراجعة النفوس والنيات والمقاصد، وإحياء مفهوم الأمة الإسلامية بإطارها العام الشامل لجميع الحركات والأنشطة الدعوية؛ إذ الدعوة الإسلامية ليست حكرا على تيار بعينه، وتحقيق مبدأ النقد الذاتي البناء وإحياء فقه المراجعات الذي به تتقدم الحركات وتتطور الدعوات، والاعتراف بالتعددية الدعوية والقناعة بضرورتها، وإحياء نظرة التخصص في العمل الدعوي، والتبصير بحقيقة مفهوم الاختلاف بين المسلمين والوعي بفقهه ومراعاة آدابه، وترسيخ مبدأ الشورى بين الدعاة على مختلف اتجاهاتهم للتنسيق فيما بينهم والاجتماع على أصول عامة تكون أرضا مشتركة يلتقي عليها الجميع، وإفشاء الحوار بين العاملين في الحقل الإسلامي بحيث يكون هذا الحوار منضبطا بآدابه وأخلاقه وقواعده حتى يؤتي ثمراته المرجوة، والتركيز على الثوابت والكليات والتعاون عليها لتكون هي الحد الأدني للالتقاء عليها مع إعذار بعضنا بعضا فيما يجوز فيه الخلاف، ومع ذلك يجب إحياء فقه الأولويات وفقه الموازنات وفقه مراتب الأعمال، وهي من الأمور المهمة التي تقارب المسافات بين العاملين في ساحة الدعوة وتجعلهم منسجمين في واقعهم.
ويؤكد الباحث أن التعددية الدعوية ليست مرتبطة بقيام الدولة الإسلامية الراشدة أو غيابها، وإنما تتعلق بوجود الدواعي لقيامها، وقد وجدت جذور للتعددية الدعوية منذ كانت الدولة الإسلامية قائمة، واستمرت وتزايدت بازدياد المؤثرات الباعثة لها، وكان من هذه البواعث سقوط الخلافة الإسلامية حتى أصبحت في عصرنا حقيقة واقعية لا يمكن لأحد إغفالها، ومن الواجب أن قيام التعددية الدعوية في ظل دولة إسلامية لابد أن يكون منسجما مع اتجاهاتها ومنضبطا وأكثر تنسيقا؛ إذ الجميع يخضعون فيها لإمام مسلم راشد له الحق في أن يسدد وينصح، ويمنع ويسمح، فيفصل في الأمور ويقطع دابر الخلاف.
ويقدم الباحث صيغا تَظهر التعددية الدعوية في ظلها بشكلها الإيجابي المنسجم والمتآلف والمتكاما، يتلوها إبراز تجربة معاصرة من أحدث التجارب على طريق وحدة الصف ووحدة الكلمة والذوبان الكلي في ظل الوحدة الإسلامية الجامعة وهي حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب التي تأسست في العاشر من شهر ربيع الثاني عام 1427هـ، والتي جمعت بين حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي، مع اختلاف الحركتين في اتجاهاتهما، وقد استنتج الباحث مجموعة من المعالم أوصلت الحركة للوحدة عمليا، ومن هذه المعالم: الإيمان القوي بأهمية الوحدة والتفكير الجاد في كيفية الوصول لها، والبدء بالخطوات العملية، والتصميم على تجاوز العقبات التي تعترض طريق الوحدة، والحرص على تفعيل المكتسبات السابقة لكلا الطرفين والعمل على ترشيدهما ومراجعتهما، والتمسك بالوحدة وعدم الالتفات إلى الشائعات المغرضة، وتحجيم المسائل الخلافية والتركيز على المتفق عليه، والاتفاق على كيفية حسم الأمور المهمة، والانسجام مع الواقع ومراعاة الظروف المحيطة، وترتيب الأولويات الجديدة للوحدة والاتفاق عليها والتركيز على الأمور العملية.
وما أجدر أن تعمم هذه التجربة في بلدان العالم الإسلامي للالتقاء على أصول مشتركة وتخفيف حدة الخلاف وانحساره، لإثراء جوانب العمل فيها، وترسيخ ثقافة التعددية الدعوية التي إذا قامت على أساس سليم فإنها تكون خطوة على طريق الوحدة الإسلامية، وتكون النواة الأولى لإيجاد أهل الحل والعقد في هذه الأمة التي فقدت السلطة السياسية الواحدة بسقوط الخلافة، مع إدراك أن الاتفاق الكامل بين التيارات والاتجاهات الدعوية أمر مستحيل؛ لأنه ينافي سنن الله في كونه وفي خلقه وفي شرعه، وهو أمر يأباه الواقع العملي كما بينه هذا البحث بما لا مزيد عليه.
تنبيه
ومما أريد أن أنبه إليه أخي الكريم الدكتور معاذ في هذه الدراسة القيمة أنه في بعض الأحيان ينقل نقولا عن العلماء السابقين ـ ابن تيمية والشاطبي مثلا ـ وينزلها على التعددية الدعوية في واقعنا المعاصر، وهم يقصدون بها الفرق التي سادت في زمانهم، فلابد من مراعاة البيئة والملابسات التي قال فيها هؤلاء العلماء كلامهم ومراعاة الفروق الدقيقة بين واقعنا وواقعهم ومرادهم ومرادنا عند تنزيل كلامهم على واقعنا، ومن ناحية أخرى كان يحسن بالباحث أن يفرق بين الفرقة والجماعة الدعوية، وهو أمر مهم لابد من ذكره في مثل هذا البحث؛ إذ الفرق تختلف في أصل الدين فضلا عن فروعه، أما الجماعات والتيارات الدعوية فتتفق على الأصول وبعض الفروع، وتختلف فيما دون ذلك، والبحث جديد في بابه لم يجمعه أحد من قبل إلا متناثرات، والباحث جاد وواعد ومبشر، وأمامه مستقبل مشرق إن شاء الله.
(1) من العجيب أن يضع الباحثُ الدكتور فتحي يكن مع هذا الفريق القائل بمنع التعددية الدعوية بالرغم من فكره المعروف بالاعتدال؛ لكن الباحث أورد له نصا يؤكد هذا من كتابه الإيدز الحركي ص: 24، يقول فيه: "فالساحة الإسلامية تشهد ولادة حركات وتنظيمات وجمعيات وفرق إسلامية على نطاق واسع، وإن كان البعض يعتبر ذلك ظاهرة صحية، فإنني من خلال المفهوم الشرعي للعمل الإسلامي، ومن خلال التقدير الصحيح للمصلحة الإسلامية، ومن خلال متابعة ما يجري عليها: أعتبره ظاهرة مرضية وخطيرة وتنذر بعواقب وخيمة لا يعلم مداها إلا الله". وأعجب من ذلك أنه نقل عنه مع الفريق القائل بالجواز نصا يضع فيه ضوابط للتنوع والتعدد الدعوي، ولعل ذلك تطور في فكر الدكتور أو قال القول السابق في ظروف معينة وواقع محدد، والله أعلم.

ليست هناك تعليقات: