الثلاثاء، 17 يونيو 2008

الفقه السياسي لمسلمي أوروبا.. التاريخ والواقع



في المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث:
الفقه السياسي لمسلمي أوروبا.. التاريخ والواقع
وصفي عاشور أبو زيد

غلاف عدد من مجلة المجلس الأوروبي للإفتاء
يتزايد عدد المسلمين يوما بعد يوم في بلاد الغرب، ويتطور وضعهم وتتنوع قضاياهم بشكل كبير يفرض على علماء المسلمين -وبخاصة من لهم دراية بالشأن الغربي- أن ينظروا في قضاياهم باعتبارهم مواطنين؛ ليجدوا لها حلولا شرعية، بعدما كان أكثر النظر في مراحل سابقة متوجها إلى قضاياهم باعتبارهم مهاجرين بصفة مؤقتة، أو مقيمين ولو إقامة طويلة الأمد، ولا شك أن المشكلات في الحالتين تختلف اختلافا كليا، مهما كان من اشتراك في بعض الأمور بين الوضعين.
ولعل المشاركة السياسية من أهم ما يتعلق بالمسلمين في أوروبا باعتبارهم مواطنين؛ إذ المشاركة السياسية في مستوياتها المختلفة هي من مقتضيات المواطنة، سواء من الناحية القانونية أو من حيث مقتضيات المواطنة نفسها.
وتلبية لهذه القضية وغيرها من القضايا يصدر العدد العاشر والحادي عشر معا من المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ((عدد مايو 2007، في جزأين كبيرين بلغا أكثر من 800 صفحة، وهي مجلة نصف سنوية))، متضمنَيْن قضايا شائكة ومسائل حساسة حول وضع المسلمين في أوروبا، وانخراطهم في العمل السياسي.
وقد جاء تناول الجزأين لهذه القضية في خمسة أقسام: أولها: تأصيل قضية المشاركة السياسية في الفقه السياسي الإسلامي، والثاني: مراجعات في فقه السياسة الشرعية، والثالث: يتعلق بالسياسة الشرعية بين المبادئ والتاريخ، والرابع: عن الواقع الأوروبي من حيث علاقة الدين بالسياسة، وأما الخامس فيتعلق بالمشاركة السياسية آفاقها وضوابطها وفقهها.
تأصيل المشاركة
فأما القسم الأول فقد اشتمل على جملة من البحوث على رأسها بحث الشيخ القرضاوي بعنوان: "الدين والسياسة.. تأصيل ورد شبهات" حدد فيه الشيخ المفاهيم المستعملة في البحث، ومنها: مفهوم الدين ومفهوم السياسة ثم عرض مشكلة العلاقة بين الدين والسياسة كما هي متداولة بين الإسلاميين الذين يسعون إلى عدم الفصل بينهما بعقيدة الشمول في الإسلام وبين العلمانيين الذين يسعون إلى الفصل بينهما، ثم بيّن انبناء الدولة على الدين في الإسلام محتجا بالنصوص القطعية وبالسيرة التاريخية وبالمصلحة الناشئة من ذلك عمليا متمثلة في حشد قوى الأمة ودفعها إلى الإنجاز الحضاري في ضوء أن هذه الدولة هي دولة مدنية مرجعيتها الإسلام.
وفي هذا القسم التأصيلي ورد أيضا بحث الدكتور صهيب حسن بعنوان: "الديمقراطية أو الخلافة" وقد عقد فيه مقارنة بين نظام الحكم الإسلامي متمثلا في نظام الخلافة وبين نظام الحكم القائم على الديمقراطية الحديثة مبينا مواطن الالتقاء القليلة التي يلتقيان فيها، ومواطن الافتراق الكثيرة التي هي محل اختلاف بينهما داعيا في الخلاصة إلى التمسك بنظام الخلافة في أصوله الكلية العامة مع فتح الباب للاستفادة من النظام الديمقراطي في بعض القضايا الإجرائية، وهو ما تداخل معه بحث الشيخ حسين حلاوة بعنوان: "الشورى والديمقراطية الفراق والوفاق" مع ما فيه من تفصيل وتوسيع.
وفي هذا القسم التأصيلي ورد بحث الدكتور أحمد علي الإمام بعنوان: "الشورى والمؤسسات التشريعية الحديثة" الذي أصل فيه للشورى من نصوص الوحي وعرض مظاهرها العملية في سيرة الخلفاء الراشدين، ثم بيَّن المؤسسات المعاصرة التي يمكن أن تكون مؤسسات تتم خلالها الشورى مثل المجالس التشريعية ومجالس الخبراء والمؤتمرات العامة وما شابهها، واقترح جملة من الإجراءات والقواعد العملية التي يمكن أن تكون آليات لتنفيذ الشورى مستفادة من إجراءات وقواعد عرفها الفقه السياسي الإسلامي.
كما ورد فيه بحث الشيخ عبد الله الجديع بعنوان: "تقسيم المعمورة في الفقه الإسلامي وأثره في الواقع"، وقد حقق فيه المصطلحات الفقهية المتعلقة بتقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب ودار عهد، وعرض ما رتبه الفقهاء على اختلاف هذه الدور من أحكام رابطا تلك الأحكام بملابساتها التاريخية مبينا أنها أحكام لم يعد لها اليوم مبرر أن تقرر أحكاما شرعية، فالمسلمون أصبحوا مع الأمم والدول في حال من عهد السلم، وهو ما يفضي إلى أن تكون كل أحكام الدين جارية في جميع أنحاء المعمورة على وزن واحد دون أن يكون لاختلاف الدور أثر فيها كما كان مقررا عند الأكثرية من الفقهاء القدامى.
وفي خاتمة هذا القسم جاء بحث الدكتور علي محيي الدين القره داغي بعنوان: "الأسس والمبادئ الإسلامية للعلاقات الدولية" رابطا بين العمل السياسي للمسلمين في مجتمعهم الأوروبي وبين العلاقة مع البلاد الإسلامية؛ لأن العمل لا يمكن أن يتم بمعزل عن تلك العلاقة وقد أصل هذا البحث للعلاقات الدولية في القرآن الكريم وفي السيرة النبوية، وبيَّن القواعد الشرعية التي حددها الدين لتلك العلاقات في حال السلم وحال الحرب، وأن الحرب هي الاستثناء الذي ضُبطت بقواعد مشددة تحفظ العدل، وانتهى البحث بإيراد قواعد عملية تطبيقية تتعلق بأحوال الحرب وأحوال السلم مع المقارنة ببعض قواعد القانون الدولي المتعلق بهذا الشأن.
مراجعات
أما القسم الثاني -وهو القسم المتعلق بمراجعات في فقه السياسة الشرعية- فقد ورد فيه بحث الدكتور صلاح الدين سليم أرقه دان بعنوان: "تقييم عام للفقه السياسي الإسلامي"؛ حيث عرض الباحث الخصائص العامة لفقه السياسة الشرعية كما هو مدون في كتب التراث واستعرض أهم ما ورد فيه من القضايا ثم تتبع تعامل المسلمين المشتغلين بالسياسة في الواقع المعاصر مع هذا التراث الفقهي، وبين أن هذا التعامل يتم في أغلب الأحوال مع فقه السياسة الشرعية كما كان عليه في وضعه القديم مع أن الظروف تغيرت بما يتطلب اجتهادا جديدا في كثير من القضايا السياسية.
وجاء في هذا القسم بحث الدكتور عبد الستار أبو غدة بعنوان: "مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي"، وفيه عرض أهم القضايا التي تناولها فقه السياسة الشرعية عرضا يحافظ على الأصل كما جاء في التراث الفقهي، ولكن مع مراجعة للكثير من تلك القضايا مراجعة تكيفه مع المصطلحات السياسية الحديثة حيث ينبغي أن تصبح هذه المراجعات سائدة في الفقه السياسي الإسلامي بمصطلحاته وقضاياه الحديثة تأسيسا لمعانيها على الأصول الإسلامية في موضوعاتها.
وفي هذا القسم جاء أيضا بحث الدكتور عبد المجيد النجار بعنوان: "تجديد فقه السياسة الشرعية"، وفيه بين أن فقه السياسة الشرعية في كتب التراث ينبغي مراجعة الكثير من قضاياه بالاجتهاد فيها اجتهادا جديدا على ضوء المستجدات المعاصرة، وهذه المراجعة لكي تكون علمية ينبغي أن تتأسس على التأصيل من النصوص الشرعية، والتأسّي بالخلافة الراشدة، والاستهداء بمقاصد الشريعة، والاستفادة من الفقه السياسي الوضعي فيما لا يتعارض مع المبادئ الدينية.
التجربة التركية
وأما القسم الثالث -وهو المتعلق بالسياسة الشرعية بين المبادئ والتاريخ- فقد ورد فيه بحث الدكتور سعيد حارب بعنوان: "السياسة والدين بين المبادئ والتاريخ"، الذي بيّن فيه أن فقه السياسة الشرعية قد ارتبط بالتاريخ أكثر من ارتباطه بالقواعد والنصوص الشرعية، وهو لم يحظ من الدرس التأصيلي بمثل ما حظيت به الفروع الفقهية الأخرى، كما بين أن العقل الإسلامي المعاصر المهتم بالسياسة الشرعية ظل في كثير من الأحيان يقرر مسائل السياسة الشرعية كما قُررت قديما بملابساتها التاريخية مع أنّ تلك الملابسات لم يعد لها وجود.
وفيه ورد بحث الشيخ راشد الغنوشي بعنوان: "جدلية الوحدة والاختلاف والتعددية السياسية في الإسلام"، وفيه بين أن التجربة السياسية للحضارة الإسلامية عرفت نظرية للشورى تحدد أبعادها الإجرائية، وتطبيقا لتعددية سياسية معترف بها تمثل كابحا للاستبداد، وتحقق التداول السلمي للسلطة، وتنزع مسوغات العنف، وبالقطع لم يعرف غيرُها هذا النوع من التجارب ومع ذلك لم يعدم الحضارة الإسلامية تعددية حضارية ودينية واسعة جدا منعت من اندلاع حروب دينية وعرقية كانت مألوفة إلى وقت قريب في سياق حضارات أخرى بسبب ما استقر في أصول الإسلام من قواعد أساسية مثل: قاعدة حرية الاعتقاد ومنع الإكراه، وقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضلا عن مبدأ الشورى، ومنع أي سلطة دينية تحتكر تأويل نصوصه وتمنح وتمنع أذون الجنة.
وفيه ورد أيضا بحث الأستاذ ياسين أكتاي بعنوان: "السياسة الإسلامية بين مبادئ الإسلام ومتطلبات العلمنة في تركيا"، والذي عرض التجربة التركية متمثلة في المسلك السياسي للإسلاميين في إدارة الدولة ضمن إطار علماني ملزم، مستهلا بالمحاولات المتكررة لتأسيس أحزاب ذات مرجعية إسلامية وما لاقته بالرغم من أنها لم ترفع شعارا معاديا للعلمانية، ثم بين كيف تمكن أخيرا أحد هذه الأحزاب من امتلاك السلطة السياسية بناء على تفويض شعبي فجعل يمارس هذه السلطة بالحد الأدنى من قناعاته الإسلامية في إطار العلمانية الملزمة، وبسلوك معادلة صعبة بين الطرفين.
الواقع الأوروبي
وأما القسم الرابع فتحدث عن الواقع الأوروبي من حيث علاقة الدين بالسياسة، وورد فيه بحث الدكتور رفيق عبد السلام بعنوان: "الدين والسياسة في الغرب الحديث"، بين فيه منشأ العلمانية في أوروبا، والصراع الذي كان بين الدين والسياسة، فارتأى أن الحل في سبيل ذلك لا يمكن أن يكون إلا باستبعاد الدين جملة من الحياة، وانتهاج نهج العلمانية نظاما للمجتمع، وكانت فرنسا من أشد الدول الأوروبية استبعادا للدين في نظام الدولة، وهو ما يفسر التضييق الفرنسي الراهن على الرموز الدينية.
وجاء في هذا القسم بحث الدكتور جون بوبرو بعنوان: "العلاقة بين السياسة والدين في أوروبا اليوم"، وفيه بين ما حصل في أوروبا من انفصال تدريجي بطيء بين الدين والدولة حتى انتهى الأمر في العصر الحاضر إلى انفصال بينهما أصبح فيه الدين لا دخل له في شئون المجتمع، وتترك للناس حرية التدين بأي دين يختارونه، ومع ذلك فإن الواقع يجري في أوروبا في كثير من الأحيان بإعطاء الديانات ذات الأغلبية والعمق التاريخي وضعا مميزا.
وفي هذا القسم أيضا بحث الدكتور أولفيي لوروا بعنوان: "العلمانية في مواجهة الإسلام في أوروبا"، والذي عرض بدايات اللقاء بين الإسلام وأوروبا في العصر الحديث عن طريق الهجرات المتتالية، وتطور هذا اللقاء؛، حيث انتهى إلى مشكلات حدثت بين الأجيال اللاحقة من المسلمين المتدينين وبين المجتمع العلماني الذي يعيشون فيه، وينتهي الباحث إلى تقرير أن الحل لهذا الوضع هو أن يترك المجال للمسلمين بأوروبا أن يمارسوا دينهم في أحوالهم الشخصية بينما ينبغي أن يخضعوا في الشئون العامة للقيم العلمانية التي تسود المجتمع.
وورد في هذا القسم بحث الأستاذ حسام شاكر بعنوان: "مسلمو أوروبا والمشاركة السياسية.. ملامح الواقع وخيارات التطوير"، وفيه استعرض الباحث المشاركة السياسية للمسلمين بأوروبا واستشرف آفاقها المستقبلية، وفي كل الأحوال فإن هذه المشاركة السياسية ينبغي ألا تجري بصفة عفوية، وإنما يستلزم الأمر فيها إعدادا جيدا وتخطيطا صحيحا ليقع تلافي الكثير من المشكلات التي تعترضها، وتثمر الثمرة المرجوة منها.
الآفاق والفقه
وأما القسم الخامس فقد اهتم بالمشاركة السياسية آفاقها وفقهها وضوابطها، وفيه ورد بحث الدكتور عبد الوهاب الأفندي بعنوان: "الانخراط السياسي لمسلمي أوروبا.. الفرص والتحديات"، وفيه استعراض نشأة الوجود الإسلامي بأوروبا وتطوره في اتجاه تكوُّن الهوية الإسلامية وتميزها، وذكر ضرورة أن يكون الوجود الإسلامي بأوروبا نافعا للمسلمين وللمجتمع الذي يعيشون فيه، ومن الفرص التي أمامهم في هذا الصدد ما يتوفر عليه المجتمع الأوروبي بصفة عامة من أقدار معتبرة من الحرية، وهو الأمر الذي يتيح للمسلمين لو أحسنوا التدبير والتفكير أن تكون لهم الكلمة السياسية المسموعة المؤثرة، وخاصة أن ثقلهم العددي والكيفي يزداد ويتوسع يوما بعد يوم.
وفي هذا القسم ورد بحث الأستاذ أحمد رمضان بعنوان: "آفاق مستقبلية للعمل السياسي لمسلمي أوروبا"، بين التحديات التي تواجه مشاركتهم، والقواعد والضوابط التي ينبغي على كل طرف سياسي مراعاتها عند المشاركة، وفي هذا الإطار ذكر الباحث أن المسلمين بأوروبا عليهم أن يتوفروا على جملة من المقدرات التي تقوِّي موقفهم في المشاركة السياسية مثل امتلاك منابر إعلامية، وقدرات مالية ضرورية، وتمثيل سياسي ونقابي في القاعدة المحلية، وقوة تأثير ثقافي من خلال رموز وشخصيات أدبية فكرية.
واندرج في هذا القسم بحث الدكتورة نادية مصطفي بعنوان: "فقه الأقليات المسلمة بين فقه الاندماج وفقه العزلة.. قراءة سياسية في واقع المسلمين بأوروبا"، وقد قرر هذا البحث الأسس المنهجية لفقه الأقليات الذي على مبادئه تتم المشاركة السياسية لتلك الأقليات، وذكرت أن المشاركة السياسية للمسلمين بأوروبا ينبغي أن تنطلق على بينة من هذه الأحوال المختلفة، وأن تتأسس على أساس واضح منها حتى لا تقع في الاضطراب فتخطئ الأهداف المطلوبة منها.
وأخيرا في هذا القسم ورد بحث الدكتور أحمد جاب الله بعنوان: "العمل السياسي للأقليات المسلمة بأوروبا بين ضوابط الشريعة ومقتضيات العلمانية"، وقد حدد هذا البحث مجالات الممارسة السياسية للمسلمين بأوروبا، ثم بين الضوابط الشرعية لذلك، كما وضح المقتضيات التي يقتضيها النظام العلماني السائد في أوروبا في العمل السياسي، والتي على المشاركة السياسية للمسلمين أن تنضبط بها.
وهذا التقسيم للبحوث الواردة في هذين الجزأين ليس تقسيما حديا فاصلا، كما هو واضح، وإنما هو تقريبي اعتباري، وإلا فإن الكثير منها يمتد بالبيان والبحث إلى أقسام غير تلك التي أدرج فيها.
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


ليست هناك تعليقات: