الثلاثاء، 10 فبراير 2009

التقريب بين السنة والشيعة...عقبات ومعوقات

التقريب بين السنة والشيعة...عقبات ومعوقات
وصفي عاشور أبو زيد
رغم أن فكرة التقريب ـ نظريا ـ انطلقت من الجانب الشيعي بكلام المرجع الشيعي الإيراني تقي الدين القُمّيّ، وتشكلت عمليا قبل أكثر من خمسين عاما فيما عرف بـ "دار التقريب" بالقاهرة السنية ـ بلد الأزهر الشريف ـ وكتب كلا الطرفين أدبيات رسخت الفكرة وعمقتها، وشرعت لها طريقها نحو التفعيل، وقام الطرف السني بمبادرات كثيرة ـ أقول رغم أن الفكرة بدت شيعية فإن إيران لم تقم بدور عملي "ملموس" في أرض الواقع يبرهن على مصداقيتها في هذه الدعوى، بل قامت في العراق بما أثار سخط الجميع، وأضاع ثقة الأوساط السنية بشأن دعواها للتقريب، إلى أن كانت الأزمة الأخيرة بين رموز الشيعة، ورمز السنة الأكبر الشيخ يوسف القرضاوي.
ونتيجة طبيعية لضعف هذه المصداقية لا نبعد عن الصواب إذا قررنا أن هذه الفكرة لم تلق من النجاح أو تؤتِ من الثمار ما يتناسب مع ما بذل فيها من جهود وأدبيات ومؤتمرات وندوات، ولقاءات مباشرة وغير مباشرة.
ويرجع عدم نجاح هذه الفكرة ـ في تقديري ـ إلى وجود عقبات وموانع لم تفتح للنقاش بجرأة إلا مؤخرا، بل كان كل ما يطرح حول مبادئ الوحدة وآداب الحوار وكيفية إدارة الخلاف وغير ذلك، وحينما طرحت هذه العقبات للنقاش أثارت غضب الطرف الشيعي مما أدى إلى أزمة أشبه بالقطيعة والتدابر، وهذا يدل على أن الحقائق مرة، وطَرْقَها مستفز، والكلام المعسول والمجاملات والمواءمات لن تغني في هذا الملف كثيرا ولا قليلا.
وقبل أن أذكر بعض هذه العقبات لابد من التأكيد على أن الإسلام دين الوحدة، ولا آكد في الإسلام من هذه الفريضة التي شرع لها الشرع ما يوجدها ويؤكدها ويحافظ على وجودها واستمرارها، وحرم كل ما يمكن أن يقوض هذه الوحدة أو يصيبها بضعف أو ترهل، وأغلظ النكير على القائمين بهذا، وفي القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ما يبلغ حد التواتر بما يغني عن إيراده والاستشهاد به!.
ومن هنا إن أردنا للتقريب النجاح والعافية فلابد من إدراك العقبات والموانع لكي يكون لنا منها موقف عملي حقيقي ملموس؛ لننطلق بمقتضاها، ونعمل على سبل تذليلها، وطرق ومناهج التغلب عليها، بعيدا عن معسول الكلام ومسك العصا من المنتصف، وإلا فلا داعي لبذل مزيد من الجهد في هذا الملف، ولن يكون أمام جميع الأطراف إلا إغلاقه تماما، ورأيت أن أقسم هذه العقبات إلى جانبين، الأول: جانب نظري أصولي، والثاني: جانب فرعي عملي.
الجانب الأول: عقبات أصولية نظرية:
يزعم بعض من لهم جهود في ملف التقريب بين السنة والشيعة أنه ليس بينهم خلاف في الأصول، وإنما كل الخلاف بينهم في الفروع فقط، وشتان بين الخلاف في الأصول والخلاف في الفروع، وإلا فأين يقع تكفير الصحابة ـ عدا سلمان وعليا والحسن وجعفر وحمزة ـ وسبّ عائشة أم المؤمنين ووصفها بأنها "البقرة"، ولعن الشيخين أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وادعاء تحريف كتاب الله تعالي، وادعاء مقام الإمامة لأئمتهم الإثني عشر، وأنهم يعلمون الغيب ولا يموتون إلا بعلمهم ورضاهم، وحسبنا ما أورده في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يعد أبرز من تصدى لهم على مر التاريخ، وبيَّن عقائدهم في كتابه: "منهاج السنة النبوية".
ولقد نبعت هذه الخلافات القوية من أنهم لا يحتكمون في الاستدلال النظري إلى عدد من القواعد والأصول التي تفضي إلى نتائج عقلية يتفق عليها الجميع، ومن هذه القواعد:
أولا: القواعد اللغوية:
وهي منهج ثابت عند الجميع في دلالة الألفاظ على أحكامها، وفي الاستدلال عموما من القرآن والسنة:
ـ فلم يقل أحد قديما ولا حديثا في تفسير قوله تعالى: "وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ". الزخرف: 4. لم يقل أحد بأن "لعلي" هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنما هو وصف للكتاب في الآيات قبله: "حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ".
ـ ولم يقل أحد في قوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً". البقرة: 67. بأن البقرة هي السيدة المبرأة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
ـ ولم يقل أحد في تفسير قوله تعالى: "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ". طه: 12. بأن المقصود بـ "النعلين" هما أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما.
لم يقل أحد بهذا سوى الشيعة، وهي تأويلات لا يقرها الشرع، ولا يثبتها التاريخ، ولا تسمح بها السياقات اللغوية ودلالاتها واستعمالاتها بأي وجه من الوجوه.

ثانيا: الحقائق العقلية والمسلمات البدهية:
فما ثبت لأحد النظيرين يجب أن يثبت لنظيره الآخر، ومن ثم فما ثبت لجعفر يجب أن يثبت لأبي بكر، وهو سابق عليه إسلاما بيقين، وما ثبت لحمزة يثبت لعمر؛ لأن عمر أسبق للإسلام من حمزة بيقين، وأبو بكر سابق للجميع، فكيف يكون أبو بكر "نعلا" ـ حاشاه ـ وحمزة وجعفر من الصحابة ـ عندهم ـ وهو أسبق منهم جميعا للإسلام؟!.
ومن المسلمات العقلية ألا نعتمد روايات مرسلة عن مجاهيل، سواء كانت الجهالة في الذات أو الصفات، فلا يقال: "حدثني الثقة" وهذا الثقة غير معروف عندهم، ومختلف فيه بينهم؟ ولا نقول: "حدثني قلبي عن ربي"...الخ.

ثالثا: اعتماد المنهج التاريخي:
ذلك أننا حين نعتمد المنهج التاريخي وحقائقه التاريخية، واعتماده أمر يشترك فيه كل البشر فضلا عن أهل الديانات، ناهيك عن مذاهب داخل الإسلام، وبخاصة الشيعة والسنة.
وباعتماد المنهج التاريخي والأخذ بحقائقه سيثبت لنا ـ يقينا ـ أن المهاجرين والأنصار الذين قال الله فيهم: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ". التوبة: 100. لم يكونوا خمسة فقط بل كانوا أضعافا مضاعفة.
وكذلك سيثبت لنا ـ يقينا ـ أن من قال الله في شأنه: "فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا". التوبة: 40. هذا الصاحب هو أبو بكر رضي الله عنه.
فكيف نلعن ونكفر من رضي الله عنهم، ومن عاصروا الرسول، وعايشوا التنزيل، واستأمنهم الله تعالى على نقل الدين وحمل أمانته؟؟!

الجانب الثاني: عقبات فرعية عملية:
إذا كان ما سبق موانع وعقباتٍ نظريةً أصولية في الاستدلال والبرهان فإن ما نورده الآن من حديث هو عقبات عملية تطبيقية، ولن يصح حديث عنها أو انتقال لها إلا إذا تمت معالجة الموانع الأصولية في الاستدلال والقضاء عليها في ضوء ما سبق من قواعد وحقائق يجب اعتمادها، وإلا فلن يكون فروع بلا أصول، أو تطبيق بلا تأصيل، كما لا يكون بنيان بلا أساس.
وكل العقبات الفرعية هنا إنما هي نتيجة طبيعية للأصول التي بنوا عليها هذه الفروع، مثل الأسانيد المرسلة التي يبنون عليها أحكاما، ويفرعون عليها شرعا.
وقد وضعوا هذه المناهج الأصولية في استنباط عقائدهم وعباداتهم ليتفق هذا مع مذهبهم السياسي الذي كان حصاد وقائع تاريخية شديدة، لو رجعنا إلى عصر الإسلام الذهبي قبل هذه الأحداث لما وجدنا لهذه الفروع ولا الأصول أثرا في واقع المسلمين.
ولكي تنضبط الفروع الشرعية والتطبيقات العملية والعبادات الإسلامية عند السنة والشيعة على السواء يجب أن نعتمد قواعد يأتي منها:
أولا: ما ذكره شيخنا العلامة د. يوسف القرضاوي في كتابه: "مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية" من مبادئ وآداب في التعامل، مثل: حسن الفهم، وحسن الظن، والتركيز على نقاط الاتفاق، والتحاور في المختلف فيه، وتجنب الاستفزاز، وعدم التكفير بلا موجب، والبعد عن شطط الغلاة، والمصارحة بالحكمة، والحذر من دسائس الأعداء، والتلاحم في وقت الشدة.
ثانيا: ألا يعبد الله إلا بما شرع:
فلا يعبد الله بما يشرعه مراجع الشيعة عن الإمام الغائب، ولا عن الحاخامات ولا القساوسة والباباوات وأصحاب القداسات والنيافات، إنما يعبد بما جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرآنا وسنة صحيحة.
ثالثا: الأعمال قلوب وجوارح معا:
فالإسلام قول وعمل، والإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، وعليه فإن مبدأ التقية المعمول به عند الشيعة يجب أن يخضع لهذه القاعدة، التي تستخدم في الأصل ـ بضوابطها ـ بين المسلمين والكافرين فقط، وليست بين المسلمين بعضهم وبعض.
رابعا: عدم الخروج على الجماعة:
بمعنى أنه في الشعائر الكبرى لا يصح الخروج على الجماعة في بلد واحد وفي جماعة وطنية واحدة، ومثال هذا: ما يحدث في الصيام كل عام عند بدء شهر الصيام وعند انتهائه، أو عند استطلاع هلال رمضان، وعند استطلاع هلال شوال، فانتماءات الشيعة الإمامية في كل مكان إلى إيران حتى لو تقدمت أو تأخرت عن البلد التي يحيون فيها يوما أو يومين أو ثلاثة.
وكذلك في شعيرة الحج، وهي التي تجمع الأمة كلها من المشارق والمغارب، كان الشيعة قبل سنوات قليلة يقفون على عرفات في يوم مخالف لأهل السنة؛ انطلاقا من استطلاع الهلال عند إيران، إلى أن منعتهم السلطات السعودية من ممارسة هذا الشذوذ.

خامسا: وزن الأشخاص بميزان الله والحكم عليهم بالظاهر:
فلا ينبغي أن نخضع الناس لأحكام الأهواء والشهوات والانطباعات البشرية، إنما نحكم عليهم بميزان الحق؛ فمن غلبت حسناتُه سيئاتِه، وُهبت سيئاته لحسناته، قال سعيد بن المسيب ـ رضي الله عنه ـ : "ليس من عالم ولا شريف ولا فاضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله". [التمهيد: 11/170].
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: "ثم إن الكبير من أئمة العلم، إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، تُغفر له زلته، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". [سير أعلام النبلاء: 5/271، وانظر: 16/285].
وليس لنا أن نتدخل في نوايا الناس، وما بينهم وبين ربهم، بل نحكم عليهم بالظاهر ونكل إلى الله السرائر؛ ولهذا نهى الله تعالى عن الظن لأنه لا يغني من الحق شيئا، وهذه من القواعد العامة في الشريعة.
فبعد أن أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرية لتأديب أهل فدك، قال أسامة استغفر لي يا رسول الله. فرد عليه النبي حزينا: "قتلت رجلا يقول لا إله إلا الله؟ كيف أنت إذا خاصمك يوم القيامة بلا إله إلا الله؟‏!"‏ فقال أسامة‏:‏ يا رسول الله إنما تعوذ من القتل. فقال له الرسول‏:‏ "هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا أم لا". وظل النبي يردد أمامه وهو حزين: "أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله" حتى قال أسامة‏:‏ وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر له المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ــ وأمره بعتق رقبة‏.‏ [راجع مثلا: السيرة النبوية لابن كثير: 4/435].

سادسا: الاعتراف بالمسئولية الفردية فيما يصدر عن الإنسان:
فليس عندنا في الإسلام كهنوت، ولا سلطة في الإسلام إلا للشرع؛ فلا أحد يستطيع أن يجادل عن غيره أو نفسه أمام الله، أو أن يغفر أو يأجر، أو يضمن لنفسه ـ فضلا عن غيره ـ النجاة من عذاب الله أو دخول الجنة، وإنما هذا موكول إلى الله تعالى يوم القيامة، وراجع إلى عفوه وفضله ورحمته، وفي القرآن الكريم ما يؤيد هذه القاعدة بوضوح.
قال تعالى: "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ". الأنعام: 94. وقال: "وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً" . مريم: 95. وقال: "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ". المدثر: 38.
حتى أعز الخلق وأحبهم إلى الله تعالى لا يملك ذلك فكيف يدعي مرجع أو قسيس أو حاخام هذا من دون الله؟، عن أبي هُرَيْرَةَ قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ. قالوا ولا أنت يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: لَا ولا أنا إلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا ولا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكم الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا وأما مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ". [صحيح البخاري: (5349). ج5/2147].
فينبغي التأكيد على هذا المبدأ حتى لا يخضع أحد لأحد، ولا يذل فرد لآخر مهما كانت منزلته الدينية ومكانته العلمية، إنما ليس بين الله وبين أحد من خلقه حجاب أو واسطة: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ". البقرة: 186.
سابعا: الصدق في التعاطي مع ملف التقريب:
فلا يصح أن يتكلم الشيعة مع السنة كلاما في المؤتمرات والملتقيات ثم هم يمارسون بعدها ما يناقض كلامهم معهم، ويؤيدون مبادئ نظرية ثم هم يمارسون تطبيقيات تكذب تأييدهم.
وإذا كان المرحوم الشيخ محمود شلتوت أصدر فتوى شهيرة تقضي بأنه يجوز للمسلم السني أن يتعبد على المذهب الشيعي الإمامي، ومعظم علماء السنة المعتدلين يرفضون تكفير الشيعة ـ إلا ما يوجب التكفير ـ فلماذا لم يصدر عن مراجع الشيعة أو أحدهم حتى الآن فتاوى وبيانات لقواعدهم بجواز التعبد على أحد مذاهب أهل السنة، وهي أربعة، إن أرادوا التقريب حقا؟ بل إننا نجد كلاما للمرجع الشيعي الأشهر محمد حسين فضل الله ينفي هذا؛ حيث أجاب على سؤال يقول: هل يجوز التعبد في فروع الدين بالمذاهب السنية الأربعة، وكذلك بقية المذاهب غير الشيعية؟ فكان جوابه بالنص: "جواب: «لا يجوز التعبد بأي مذهب إسلامي غير مذهب أهل البيت عليهم السلام؛ لأنه المذهب الذي قامت عليه الحجة القاطعة". [مسائل عقدية: 110].
لكنه حين يسأل عن ذلك أمام الملأ يبتعد عن محل السؤال، ويتحدث عن المشترك بين السنة والشيعة، وعن الاجتهاد الفقهي، وعن الخطوط الاجتهادية، ولا يتجرأ على إصدار فتوى مقابلة.
ولماذا أيضا لم يُصدر أحدهم بيانا أو فتوى يلزم بها أتباعه أو قواعده بحرمة سب الصحابة ولعن أبي بكر وعمر وعائشة؟ ولماذا لم يصدروا فتوى بأن الذي يقول بتحريف القرآن أو بأن فيه زيادة أو نقصا فإن هذا قول قد يخرج صاحبه من الملة؟؟! أم أن التصريح بهذا الكلام في المؤتمرات لذر الرماد في العيون فقط، وتبقى المراجع مع قواعدها على ما هي عليه؟!.
وبعد هذه العقبات الأصولية والتطبيقية يجب أن يكون هناك صدق في الأخذ بها، والتعاون فيها، وفي كل ما يخدم القضية من قواعد متفق عليها عقليا وإنسانيا إذا أردنا لها فلاحا ونجاحا وثمارا عملية واقعية ملموسة، وإلا فلا إخال هذه القضية ـ بدون الأخذ جديًّا بذلك ـ إلا في عداد المحنة والبوار!.
مجلة الوعي الإسلامي عدد صفر 1430هـ/ فبراير 2009م

استجلاء صور رحمة الله تعالى في زمن الظلم والجبروت

استجلاء صور رحمة الله تعالى في زمن الظلم والجبروت
وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@hotmail.com
في ظل ما نراه من إجرام صهيوني على غزة هاشم، وما خلفه من أشلاء ودماء، وصرخات وآهات، ويتامى وأرامل، يصاحبه صمت دولي وعالمي رسمي بل تواطؤ ومباركة، رغم انتفاضة الشعوب والأمم، حتى الكافر منها، بل حتى بعض اليهود والحاخامات رفضوا واستنكروا هذه الوحشية في القصف، والإجرام في القتل، ومع هذا يضرب الكيان الصهيوني عرض الحائط بكل هذه الأصوات التي نادت بوقف العدوان ونددت بما يجري، وأعرض عن القوانين الدولية والقرارات العالمية، والتنديد الرسمي والانتفاضة الشعبية، مواصلا قصفه وإجرامه وقتله للأطفال والشيوخ والنساء والصحفيين والأطباء والمؤسسات المدنية والإغاثية، بحجة أنه يتصرف وفق مصالح شعبه وحفظ أمنه القومي، ولا عزاء للمدنيين، ولا اعتبار للنداءات العالمية والقرارات الدولية.
أقول في ظل هذا كله نريد أن نستروح في ظلال رحمات الله تعالى، ونسترجع مدى سعة هذه الرحمة، ونتدارس صورها وطبيعتها وأبعادها، استكمالا لما بدأناه من حديث عن الرحمة، ومقارنة بين هذا الإجرام الذي نشاهده، وبين مقتضى رحمة الله تعالى وما تستوجبه معتمدا في بيانها على كلام المفسرين وبخاصة في ظلال القرآن، وتتجلى رحمة الله تعالى في صور عديدة نذكر منها ما يلي:

الصورة الأولى: إرسال الرسل وإنزال الكتب
فلم يشأ الله تعالى أن يترك البشر هملا أو يدعهم سدى، فكان من رحمته أن أرسل لهم الرسل رحمة بهم وحرصا عليهم وإرشادا لهم، ولو لم تكن هذه الرسالة عامة للناس كافة لكان للناس - ممن سيأتون من أجيال وأمم - حجة على الله . فانقطعت هذه الحجة بالرسالة العامة للناس وللزمان، " رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ". النساء: 165. وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ..". التوبة : 61. فوصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للمؤمنين يريد الخير لهم.
وقال عنه: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ". الأنبياء : 107. ولقد أرسل الله رسوله رحمة للناس كافة ليأخذ بأيديهم إلى الهدى ، وما يهتدي إلا أولئك المتهيئون المستعدون . وإن كانت الرحمة تتحقق للمؤمنين ولغير المؤمنين . .
إن المنهج الذي جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم منهج ـ كما يعبر صحاب الظلال ـ يُسعد البشرية كلها ويقودها إلى الكمال المقدر لها في هذه الحياة .
ولقد جاءت هذه الرسالة للبشرية حينما بلغت سن الرشد العقلي : جاءت كتاباً مفتوحاً للعقول في مقبل الأجيال ، شاملاً لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل ، مستعداً لتلبية الحاجات المتجددة التي يعلمها خالق البشر ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .
ولقد وضع هذا الكتاب أصول المنهج الدائم لحياة إنسانية متجددة . وترك للبشرية أن تستنبط الأحكام الجزئية التي تحتاج إليها ارتباطات حياتها النامية المتجددة ، واستنباط وسائل تنفيذها كذلك بحسب ظروف الحياة وملابساتها ، دون اصطدام بأصول المنهج الدائم .
وكفل للعقل البشري حرية العمل ، بكفالة حقه في التفكير ، وبكفالة مجتمع يسمح لهذا العقل بالتفكير . ثم ترك له الحرية في دائرة الأصول المنهجية التي وضعها لحياة البشر ، كيما تنمو وترقى وتصل إلى الكمال المقدر لحياة الناس في هذه الأرض .
ولكن ها هي ذي شيئاً فشيئاً تحاول أن تصل ولو نظرياً إلى شيء مما طبقة الإسلام عملياً منذ نيف وثلاث مائة وألف عام .
وغير هذا وذلك كثير يشهد بأن الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية وأن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما أرسل رحمة للعالمين . من آمن به ومن لم يؤمن به على السواء . فالبشرية كلها قد تأثرت بالمنهج الذي جاء به طائعة أو كارهة ، شاعرة أو غير شاعرة؛ وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة ، لمن يريد أن يستظل بها ، ويستروح فيها نسائم السماء الرخية ، في هجير الأرض المحرق وبخاصة في هذه الأيام .
وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها . وهي قلقة حائرة ، شاردة في متاهات المادية ، وجحيم الحروب ، وجفاف الأرواح والقلوب.

وأما إنزال الكتب فهو رحمة من الله تعالى، فليس من المتصور أن يرسل الله الرسل دون أن ينزل معهم المنهج الذي يدعون الناس إليه، فكان من هنا إنزال الكتب رحمة بالرسل ورحمة بالبشرية كلها.
قال تعالى عن ألواح موسى: "وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ". الأعراف: 154.
ففي هذه الألواح هدى ، وفيها رحمة لمن يخشون ربهم ويرهبونه؛ فتتفتح قلوبهم للهدى، وينالون به الرحمة . . والهدى ذاته رحمة . فليس أشقى من القلب الضال ، الذي لا يجد النور . وليس أشقى من الروح الشارد الحائر الذي لا يجد الهدى ولا يجد اليقين . . ورهبة الله وخشيته هي التي تفتح القلوب للهدى؛ وتوقظها من الغفلة ، وتهيئها للاستجابة والاستقامة . . إن الله خالق هذه القلوب هو الذي يقرر هذه الحقيقة . ومن أعلم بالقلوب من رب القلوب؟

وقال عن التوراة: "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ" المائدة: 44.
فالتوراة - كما أنزلها الله - كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل ، وإنارة طريقهم إلى الله . وطريقهم في الحياة. . وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد. وتحمل شعائر تعبدية شتى. وتحمل كذلك شريعة: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا، للذين هادوا ، والربانيون والأحبار، بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء}.
أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونوراً للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب . ولكن كذلك لتكون هدى ونوراً بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله ، وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج.
وقال عن الإنجيل: "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ". المائدة: 46.
فقد آتى الله عيسى بن مريم الإنجيل ، ليكون منهج حياة ، وشريعة حكم . . ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعاً إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة . وقد جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، فاعتمد شريعتها - فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة . . وجعل الله فيه هدى ونوراً ، وهدى وموعظة . . ولكن لمن؟ { للمتقين } . فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة ، هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور؛ وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور . . أما القلوب الجاسية الغليظة الصلدة ، فلا تبلغ إليها الموعظة؛ ولا تجد في الكلمات معانيها؛ ولا تجد في التوجيهات روحها؛ ولا تجد في العقيدة مذاقها؛ ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب . . إن النور موجود ، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة ، وإن الهدى موجود ، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة ، وإن الموعظة موجودة ، ولكن لا يلتقطها إلا القلب الواعي .
وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونوراً وموعظة للمتقين ، وجعله منهج حياة وشريعة حكم لأهل الإنجيل . . أي إنه خاص بهم ، فليس رسالة عامة للبشر - شأنه في هذا شأن التوراة وشأن كل كتاب وكل رسالة وكل رسول.
وقال عن القرآن: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ .وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ". النمل: 76-77. وقال: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا". الإسراء: 82. ففي القرآن شفاء ، وفي القرآن رحمة ، لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان ، فأشرقت وتفتحت لتلقي ما في القرآن من روْح ، وطمأنينة وأمان .
في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة . فهو يصل القلب بالله ، فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن؛ ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة؛ والقلق مرض ، والحيرة نصب ، والوسوسة داء، ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان . . وهي من آفات القلب تصيبه بالمرض والضعف والتعب ، وتدفع به إلى التحطم والبلى والانهيار . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير . فهو يعصم العقل من الشطط ، ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة ، ويكفه عن إنفاق طاقته فيما لا يجدي ، ويأخذه بمنهج سليم مضبوط ، يجعل نشاطه منتجاً ومأموناً . ويعصمه من الشطط والزلل . كذلك هو في عالم الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليماً معافى ويدخر طاقاته للإنتاج المثمر . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء الجماعات ، وتذهب بسلامتها وأمنها وطمأنينتها . فتعيش الجماعة في ظل نظامه الاجتماعي وعدالته الشاملة في سلامة وأمن وطمأنينة . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وهكذا إرسال الرسل وإنزال الكتب يمثل رحمة بكل شيء، رحمة بالرسل، ورحمة بالناس، ورحمة بالرسالات، رحمة في الدنيا، ورحمة في الآخرة.

الصورة الثانية: إنزال المطر
ومن صور رحمة الله تعالى إنزال المطر ، قال تعالى: "وهو الذي يرسل الرياح ، بشراً بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ، فأخرجنا به من كل الثمرات". الأعراف: 57.
إنها آثار الربوبية في الكون . آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير . وكلها من صنع الله؛ الذي لا ينبغي أَن يكون للناس رب سواه . وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد .
وفي كل لحظة تهب ريح . وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً . وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء .
ولكن ربط هذا كله بفعل الله - كما هو في الحقيقة - هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة ، كأن العين تراه .
إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته . والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون - فما كان الكون لينشئ نفسه ، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه! - ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون - ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله - إنما يقع ويتحقق - وفق الناموس - بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع . وأن الأمر القديم بجريان السنة ، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة . فإرسال الرياح - وفق النواميس الإلهية في الكون - حدث من الأحداث ، يقع بمفرده وفق قدر خاص .
والحياة على هذه الأرض كلها تعيش على ماء المطر إما مباشرة ، وإما بما ينشئه من جداول وأنهار على سطح الأرض . ومن ينابيع وعيون وآبار من المياه الجوفية المتسربة إلى باطن الأرض منه ، ولكن الذين يعيشون مباشرة على المطر هم الذين يدركون رحمة الله الممثلة فيه إدراكاً صحيحاً كاملاً . وهم يتطلعون إليه شاعرين بأن حياتهم كلها متوقفة عليه ، وهم يترقبون الرياح التي يعرفونها تسوق السحب ، ويستبشرون بها؛ ويحسون فيها رحمة الله إن كانوا ممن شرح الله صدورهم للإيمان .
والرياح ، مهما قيل في أسبابها الفلكية والجغرافية ، تابعة للتصميم الكوني الأول ، الذي يسمح بجريانها على النحو الذي تجري به ، حاملة السحب من مكان إلى مكان ، مبشرة بالمطر الذي تتجلى فيه رحمة الله ، وهو سبب الحياة .
وقال تعالى: "وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ، وينشر رحمته ، وهو الولي الحميد". الشورى: 28. وهذه لمسة أخرى كذلك تذكرهم بجانب من فضل الله على عباده في الأرض . وقد غاب عنهم الغيث ، وانقطع عنهم المطر ، ووقفوا عاجزين عن سبب الحياة الأول . . الماء . . وأدركهم اليأس والقنوط . ثم ينزل الله الغيث ، ويسعفهم بالمطر ، وينشر رحمته ، فتحيا الأرض ، ويخضر اليابس ، وينبت البذر ، ويترعرع النبات ، ويلطف الجو ، وتنطلق الحياة ، ويدب النشاط ، وتنفرج الأسارير ، وتتفتح القلوب ، وينبض الأمل ، ويفيض الرجاء . . وما بين القنوط والرحمة إلا لحظات . تتفتح فيها أبواب الرحمة . فتتفتح أبواب السماء بالماء . . { وهو الولي الحميد } . . وهو النصير والكافل المحمود الذات والصفات . .
واللفظ القرآني المختار للمطر في هذه المناسبة . . { الغيث } . . يلقي ظل الغوث والنجدة ، وتلبية المضطر في الضيق والكربة . كما أن تعبيره عن آثار الغيث . . { وينشر رحمته } . . يلقي ظلال النداوة والخضرة والرجاء والفرح ، التي تنشأ فعلاً عن تفتح النبات في الأرض وارتقاب الثمار . وما من مشهد يريح الحس والأعصاب ، ويندّي القلب والمشاعر ، كمشهد الغيث بعد الجفاف . وما من مشهد ينفض هموم القلب وتعب النفس كمشهد الأرض تتفتح بالنبت بعد الغيث ، وتنتشي بالخضرة بعد الموات .

الصورة الثالثة: تسخير الكائنات
ومن رحمة الله بالإنسان وتيسيره له أن سخر له كل ما في السموات وما في الأرض، قال تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ". الجاثية: 13.
فسخر لنا الأنعام فقال: "5.وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَّمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
6.وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ". النحل: 5-7.
وسخر لنا من رحمته الفلك في البحر فقال: "رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا". الإسراء: 66.
وسخر لنا من رحمته أيضا الليل والنهار فقال: "73.وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". النمل: 73.
إن هذا المخلوق الصغير . . الإنسان . . يحظى من رعاية الله سبحانه بالقسط الوافر ، الذي يتيح له أن يسخر الخلائق الكونية الهائلة ، وينتفع بها على شتى الوجوه . وذلك بالاهتداء إلى طرف من سر الناموس الإلهي الذي يحكمها ، والذي تسير وفقه ولا تعصاه! ولولا هذا الاهتداء إلى طرف السر ما استطاع الإنسان بقوته الهزيلة المحدودة أن ينتفع بشيء من قوى الكون الهائلة؛ بل ما استطاع أن يعيش معها؛ وهو هذا القزم الصغير ، وهي هذه المردة الجبابرة من القوى والطاقات والأحجام والأجرام .
والبحر أحد هذه الجبابرة الضخام التي سخرها الله للإنسان ، فهداه إلى شيء من سر تكوينها وخصائصها؛ عرف منه هذه الفلك التي تمخر هذا الخلق الهائل ، وهي تطفو على ثبج أمواجه الجبارة ولا تخشاها! { لتجري الفلك فيه بأمره } . . فهو سبحانه الذي خلق البحر بهذه الخصائص ، وخلق مادة الفلك بهذه الخصائص ، وجعل خصائص الضغط الجوي ، وسرعة الرياح وجاذبية الأرض . . وسائر الخصائص الكونية الأخرى مساعدة على أن تجري الفلك في البحر . وهدى الإنسان إلى هذا كله فأمكنه أن ينتفع به ، وأن ينتفع كذلك بالبحر في نواح أخرى : { ولتبتغوا من فضله } كالصيد للطعام وللزينة ، وكذلك التجارة والمعرفة والتجربة والرياضة والنزهة؛ وسائر ما يبتغيه الحي من فضل الله في البحار .
سخر الله للإنسان البحر والفلك ، ليبتغي من فضل الله؛ وليتجه إليه بالشكر على التفضل والإنعام ، وعلى التسخير والاهتداء : { ولعلكم تشكرون } . . وهو يوجه قلبه بهذا القرآن إلى الوفاء بهذا الحق ، وإلى الارتباط بذلك الأفق ، وإلى إدراك ما بينه وبين الكون من وحدة في المصدر ووحدة في الاتجاه، إلى الله . .
ومن تخصيص البحر بالذكر إلى التعميم والشمول . فلقد سخر الله لهذا الإنسان ما في السماوات وما في الأرض ، من قوى وطاقات ونعم وخيرات مما يصلح له ويدخل في دائرة خلافته : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } . .
فكل شيء في هذا الوجود منه وإليه؛ وهو منشئه ومدبره؛ وهو مسخره أو مسلطه . وهذا المخلوق الصغير . . الإنسان . . مزود من الله بالاستعداد لمعرفة طرف من النواميس الكونية . يسخر به قوى في هذا الكون وطاقات تفوق قوته وطاقته بما لا يقاس! وكل ذلك من فضل الله عليه . وفي كل ذلك آيات لمن يفكر ويتدبر؛ ويتبع بقلبه وعقله لمسات اليد الصانعة المدبرة المصرفة لهذه القوى والطاقات.

الصورة الرابعة: رفع البلاء
ومن صور رحمة الله أنه يرفع البلاء عن الناس، قال تعالى عن هود: "72.فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ". الأعراف: 72.
وقال عن صالح: "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ". هود: 66.
وقال عن شعيب: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ". هود: 94.
"وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ". الأنبياء: 83- 84.
في اللحظة التي توجه فيها أيوب إلى ربه بهذه الثقة وبذلك الأدب كانت الاستجابة ، وكانت الرحمة ، وكانت نهاية الابتلاء: {فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر ، وآتيناه أهله ومثلهم معهم}.
رفع عنه الضر في بدنه فإذا هو معافى صحيح. ورفع عنه الضر في أهله فعوضه عمن فقد منهم ، ورزقه مثلهم. وقيل هم أبناؤه فوهب الله له مثليهم. أو أنه وهب له أبناء وأحفاداً.
{رحمة من عندنا} فكل نعمة فهي رحمة من عند الله ومنة. {وذكرى للعابدين}. تذكرهم بالله وبلائه ، ورحمته في البلاء وبعد البلاء . وإن في بلاء أيوب لمثلاً للبشرية كلها؛ وإن في صبر أيوب لعبرة للبشرية كلها . وإنه لأفق للصبر والأدب وحسن العاقبة تتطلع إليه الأبصار.
والإشارة {للعابدين} بمناسبة البلاء إشارة لها مغزاها. فالعابدون معرضون للابتلاء والبلاء . وتلك تكاليف العبادة وتكاليف العقيدة وتكاليف الإيمان. والأمر جد لا لعب. والعقيدة أمانة لا تسلم إلا للأمناء القادرين عليها، المستعدين لتكاليفها وليست كلمة تقولها الشفاه، ولا دعوى يدعيها من يشاء. ولا بد من الصبر ليجتاز العابدون البلاء.

الصورة الخامسة: رفع الحرج
ومن صور رحمة الله بعباده أنه يرفع عنهم الحرج، وهذا واضح جدا في التشريع، تشريع العبادات، والمعاملات، وكل ما في معناه.
فلقد أحل الشرع أكل الميتة للمضطر، وهناك إعذار المرضى والضعفاء عن الجهاد، والتخفيف عن كبار السن والمرضى برفع الصيام عنهم وإيجاب الفدية، وأوضاع الصلاة المختلفة لأصحاب الأعذار والمرضى، ورفع الزكاة عمن لم يبلغ ماله النصاب، والحج عن غير المستطيع، وهكذا.

الصورة السادسة: قبول التوبة
ومن صور رحمة الله بعباده أنه يقبل توبتهم ويتوب عليهم ويرحمهم لا سيما إن عملوا صالحا وأصلح من بعد ظلمه، فقد تاب الله على آدم فقال: "فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". البقرة: 37. وقرر الله أنه غفور رحيم لمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فقال: " فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". المائدة: 39.
وذكر أن من رحمته قبول توبة عباده: "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". التوبة: 104.
وهو استفهام تقريري يفيد: فليعلموا أن الله هو يقبل التوبة؛ والله هو يأخذ الصدقة ، والله هو يتوب ويرحم عباده . . وليس شيء من هذا لأحد غيره سبحانه . . » وأن نبي الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزوة معه؛ وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك ، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك إلى الله تعالى ذكرُه دون محمد .
وقال تعالى مناديا عباده، ويا له من نداء ندي حبيب: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". الزمر: 58.
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية . كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة . دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله . إن الله رحيم بعباده . وهو يعلم ضعفهم وعجزهم . ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه . ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد . ويأخذ عليهم كل طريق . ويجلب عليهم بخيله ورجله . وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه . وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده . وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم . .
يعلم الله سبحانه عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون؛ ويوسع له في الرحمة؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط . وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط ، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم}.
وليس بينه وقد أسرف في المعصية، ولج في الذنب، وأبق عن الحمى، وشرد عن الطريق ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية، وظلالها السمحة المحيية. ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة. التوبة وحدها. الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون}.

الصورة السابعة: منح الإنسان ذرية صالحة
ومن صور رحمة الله بعباده أنه يمنحهم ذرية صالحة طيبة، قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام: "ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب". ص: 43.
وتقول بعض الروايات : إن الله أحيا له أبناءه ووهب له مثلهم ، وليس في النص ما يحتم أنه أحيا له من مات . وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين . وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية . مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدراك .
والمهم في معرض القصص هنا هو تصوير رحمة الله وفضله على عباده الذين يبتليهم فيصبرون على بلائه وترضى نفوسهم بقضائه .
فأما قسمه ليضربن زوجه. فرحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته وصبرت على بلائه وبلائها به ، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده . فيضربها به ضربة واحدة . تجزئ عن يمينه ، فلا يحنث فيها: {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث}..
هذا التيسير ، وذلك الإنعام ، كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء: {إنا وجدناه صابراً ، نعم العبد ، إنه أوّاب}..

فهل بعد هذه الرحمة رحمة؟ وهل بعد هذه الصور صور؟ أليس في هذا مزدجر ومعتبر لقادة العالم الذين يقودونه إلى حافة الهاوية والدمار والخراب والتقتيل والتشريد؟
إن الله تعال لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يراجع في شيء، ولا يصادر في تشريع أو حكم سواء كان أمرا أو نهيا، ومع هذا فرض على نفسه شيئا، وحرم على نفسه شيئا آخر.
فرض الله على نفسه الرحمة فقال: "كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ". الأنعام: 12. وقال: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ". الأنعام: 54.
وحرم على نفسه الظلم، فعن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال "يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما. فلا تظالموا". [من حديث رواه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب. باب تحريم الظلم].
إن ما يجري من حولنا اليوم ليُسقط كل دعاوى السلام والحوار والتقارب والتعايش، ولا يُبقي إلا لغة واحدة: هي لغة القوة، ويلغي كل الطرق ولا يُبقى إلا طريقة واحدة: هي طريقة المصالح. فليرجع العالم إلى رشده، ولتتبنى قيادات الإرهاب سبيل الرحمة، وإلا سيكون البديل الإرهاب والعنف والدمار والخراب!!.
مجلة العالمية شهر صفر 1430هـ/فباير 2009م

الاحتجاج السلمي ..وماذا بعد؟!

الاحتجاج السلمي ..وماذا بعد؟!
وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@yahoo.com
في سلسلة حوارات وتحقيقات قام بنشرها مؤخرا موقع إسلام أونلاين دعت إلى تفعيل الاحتجاج، وأنه عنوان الأمة الغاضبة، ومن مكونات فقه الحضارة، ومن العناصر المشكلة لرقابة الأمة على السلطة والسلطان أيا كانت هذه السلطة أو السلطان، سواء اتخذ ذلك شكلا يتعلق بالإضراب، أو اتخذ شكلا يتعلق بالتظاهر، أو أي شكل يعبر عن معاني الاحتجاج، وأن الأمن العام مقدم على المعارضة، فهذا كله لا جدال فيه؛ لأنه من المسلمات الشرعية والمنطقية والقانونية والإنسانية.
وأمام ما نراه وما نشاهده الآن في غزة من جثث تتناثر وأشلاء تتبعثر ودماء تسيل ومساكن تهدم وأرواح تزهق، لا نملك أن ندعو الأنظمة الرسمية والحكومات العربية إلى فعل شيء؛ وذلك لسبب بسيط ومعروف ومشهور، وهو أن هذه الحكومات وتلك الأنظمة ما هي إلا جزء من هذا الاعتداء الآثم تشارك فيه بشكل مباشر لا مواربة فيه ولا شبهة ترده!.
كل الوسائل التي نعرفها جميعا من مساندة معنوية بالدعاء والانفعال الإيجابي، ومساندة مادية بإرسال الإغاثات والإسعافات والدواء والطعام والشراب والمال ـ كل هذا أصبح أضعف الإيمان وليس وراءه من الإيمان حبة خردل.
ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح الآن وبقوة ـ ومن ناحية شرعية ـ هو: إلى متى ينادي فقهاؤنا بالاحتجاج السلمي المعروف بعد كل ما نرى ونسمع؟ أليس الاحتجاج غير السلمي واردا في الإسلام؟ وما هي حالات استخدام الاحتجاج غير السلمي وحالات عدم استخدامه، وبأي ضوابط وشروط؟
إذا كان الدكتور عوض القرني ـ ومن قبله الدكتور صلاح سلطان ـ أفتى بأن أي إسرائيلي في أي مكان هو هدف مشروع للمسلمين، أليس في هذا ما يفتح الطريق مشرعا أمام مناقشة هذه التساؤلات والخوض فيها بشكلٍ جِدّيٍّ ولاسيما في سياق التواطؤ المشبوه وغير المسبوق بين حكومات عربية والكيان الصهيوني الغاصب على تصفية القضية الفلسطينية وإغلاق ملفها للأبد على النحو الذي يريحهم منها بصفة نهايئة؟ أليس حريًّا بنا أن نتوقف عند تصريحات وزيرة خارجية الكيان الصهيوني والتي تفيد بأن الهجوم على غَزّة يلبي احتياجات المنطقة. ثم تصريحات أحد المسئولين الصهاينة بأنَّ بلدًا مجاورًا قد أفصح عن عدم تحَمّله لقيام إمارة إسلامية في غزّة!
وإذا كنا ننادي بالمقاومة وبإنزال أكبر هزيمة وخسارة بالعدو؛ لأنه يقتل ويشرد ويهدم ويسفك، فلماذا لا نوجه نفس النداء ضد الأنظمة التي تشارك بسفور في هذا الاعتداء؟ هل لأن هؤلاء محتلون وغاصبون، وأولئك معتدون بمشاركتهم في الاعتداء لكن يشوب فسقهم مسحة من إسلام؟
وإذا كنا ننادي بفتح المعابر وفتح باب الجهاد لنصرة المستضعفين، فلماذا لا ننادي بفتح باب الجهاد ـ بمعناه الواسع ـ أمام هؤلاء العملاء الذين يقفون حائلا أمام النصرة، بل يشاركون بشكل مباشر في هذا الاعتداء، كل هذا في ضوء الضوابط الشرعية التي تضع كل فعل وتصرف في مكانه بالقسطاس المستقيم.

في القرآن والسنة والتاريخ
في القرآن الكريم نجد التحذيرات شديدة من موالاة الأعداء من غير المسلمين، ونعتهم بأنهم منهم إن والوهم: "وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ". المائدة: 51.
بل قرر أن الذين يتخذونهم أولياء من دون المؤمنين فليسوا من الله في شيء: "لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ". آل عمران: 28. هكذا ـ كما يقول سيد قطب ـ "ليس من الله في شيء . لا في صلة ولا نسبة ، ولا دين ولا عقيدة ، ولا رابطة ولا ولاية . . فهو بعيد عن الله ، منقطع الصلة تماماً في كل شيء تكون فيه الصلات" . ولما كان أمر موالاة غير المسلمين من الأعداء أمرا مرتبطا بعقيدة الولاء والبراء ناسبه أن يتناوله القرآن بهذه الكيفية وتلك اللهجة!.
ألم يتحالف فضلاء قريش في دار عبد الله بن جدعان بما عرف "حلف الفضول" على: "ألا يدَعوا ببطن مكة مظلوماً من أهلها أو ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه على ظالمه حتى ترد إليه مظلمته"، وامتدحه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: "حضرت مع أعمامي في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حُمْرَ النَّعَم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)) [السنن الكبرى 6/120].
فهل كان فضلاء قريش في مكة قبل خمسة عشر قرناً، أكثر وعياً وإدراكاً لعمق المشكلات من زعماء اليوم؟! فأين الدروس التي تلقتها الإنسانية ـ وبخاصة الأمة المسلمة ـ من تجاربها المريرة عبر القرون؟ وأين التحالفات القوية التي يجب على فضلاء العرب أن يعقدوها ويفعلوها من أجل نصرة الظالم وحجز المظلوم؟!!
وفي السنة النبوية أيضا نجد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ قَالَ تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ". [صحيح البخاري. كتاب الإكراه. بَاب يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ إِنَّهُ أَخُوهُ إِذَا خَافَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ نَحْوَهُ].
وعَنْ سَالِمٍ عَنْ عبد الله بن عمر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ ..." الحديث. [متفق عليه، واللفظ لمسلم].
قال ابن حجر: "قوله لا يظلمه: هو خبر بمعنى الأمر، فإن ظلم المسلم للمسلم حرام. وقوله ولا يسلمه: أي لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجبا، وقد يكون مندوبا بحسب اختلاف الأحوال". [فتح الباري: 5/97].
ويقول ابن بطال: "إن المؤمنين جميعًا كالجسد الواحد ، وعلى المرء أن يسعى لصلاح كل عضو من أعضاء جسده سعيه لبعضها، فكذلك عليهم فى إخوانهم فى الدين وشركائهم في الملة، وإنصَارهم على الأعداء من نصرهم وعونهم مثل ما عليهم من ذلك في أنفسهم لأنفسهم؛ إذ كان بعضهم عونًا لبعض وجميعهم يد على العدو؛ ولذلك خاطبهم تعالى فى كتابه فقال: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما"؛ إذ كان القاتل منهم غيرَه بمنزله القاتل نفسه، ولم يقل لهم لا يقتل بعضكم بعضًا؛ إذ كان المؤمن لأخيه المؤمن بمنزله نفسه في التعاون على البر والتقوى، يؤلم كل واحد منهما ما يؤلم الآخر". [شرح ابن بطال على البخاري: 9/16].
لقد وقف أبو بكر يوما بعد أن بَايَعَه الناسُ بالخلافة فَحَمِدَ اللّه وأَثْنَى عليه بالذي هو أهْلُهُ ثم قال: "أما بعدُ، أَيُّها الناسُ فَإِني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني. الصِدْقُ أمانةٌ والكَذِبُ خِيَانَةٌ . والضعيفُ فيكم قويٌّ عندي حتى أرجعَ إليه حقَّه إن شاء اللّه، والقويّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذَ الحقَّ منه إن شاء اللّه. لا يَدَعُ قومٌ الجِهادَ في سبيل اللّه إلا خَذَلَهم اللَّهُ بالذُلِّ، ولا تَشِيعُ الفاحشةُ في قومٍ إِلا عَمَّهم اللَّهُ بِالبلاءِ. أَطِيعُوني ما أَطَعْتُ اللَّهَ ورسولَه، فإِذا عَصَيْت اللَّهَ ورسولَه فلا طاعةَ لي عليكم". [سيرة ابن هشام : 4/240، عيون الأخبار لابن قتيبة : 2/ 234].
والرجل الذي قام لعمر ـ من عامة الناس ـ حين قال عمر: "وإن اعوججت فقوموني" فقال: "لو وجدنا فيك عيبا قومناه بسيوفنا" فلم ينكر عليه عمر، بل حمد الله وأثنى عليه أن يكون في الأمة من يقوم خطأه ـ لا جريمته ومشاركته في قتل المسلمين ـ بحد السيف، وقال: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها".
لا أريد أن أسترسل في ذكر الأدلة التي بلغت حد التواتر في الشرع على وجوب نصرة المظلوم، وحجز الظالم ورده عن ظلمه، ولكن ما الكيفية التي نحجز بها الظالم عن ظلمه، بعد أن تيقنا وظهر جليا للجميع أن حكامنا ظالمون لإخواننا في غزة ومتآمرون عليهم، بل مشاركون في هذا بشكل مباشر، وما المساحات المشروعة في هذا الحجز والرد، وما الكيفية التي تحقق النصر للمظلوم والردع للظالم؟!. هل بالذهاب إليهم ومشاركتهم في الدفاع عن المقدسات والحرمات، وهو غير متاح؟ أم برفع السلاح في وجوه الحكام، أم باستخدام أعمال العنف والتخريب في مؤسسات المجتمع؟!.

ما معنى الاحتجاج غير السلمي
والاحتجاج غير السلمي الذي أدعو إليه هنا ليس معناه أن تحمل الشعوب السلاح على الحكام، أو تخرب وتدمر في مؤسسات المجتمع، فهذا حمق لا طائل تحته، ولكن معناه الانتفاضة المستمرة ـ كما يقول شيخنا الدكتور سيد نوح يرحمه الله ـ "ليس تظاهرًا عن عاطفة فينقطع بعد يوم أو يومين، وإنما تظاهرٌ مبناه الحجةُ والدليلُ والبرهان، ونظل هكذا معتصمين، وتتعطَّل كل مصالح الأمة؛ حتى يُفيق حكامُها، وحتى يُفيق النائمون والكسالى والغافلون من أبناء هذه الأمة، ويؤدوا دورهم وواجبهم، ووالله لو استمرَّ التظاهر والاعتصام فإن العدوَّ لا يسَعُه إلا أن يغيِّر من موقفه، فإن هذا العدو لا يمكن أبدًا أن يُواجَه إلا بالقوة، وهذه أعظم وسائل القوة، أعظم من الصواريخ، وأعظم من النابالم، وأعظم من القنابل الذرية، فالأمة لا بد أن تقف؛ لأن هؤلاء سيعلمون مع من يصادقون، ومع مَن يتعاملون إذا الأمة غضبت وألجمت حكَّامها والقائمين عليها".
سيقول البعض: إن الأنظمة العسكرية والمدججة بقوات الشرطة والأمن المركزي ستتصادم حتما مع هذه الجماهير، وسوف يقع منهم قتلى وجرحى، فهل معركتنا مع قوات الأمن أم مع الصهاينة؟ وهل معركتنا مع زعامات قوات الاحتلال أم مع حكامنا؟!
وأقول: إن كل شيء له ثمن، ولا داعي لاستعراض الأرقام التي وقعت قتلى في سبيل العيش الكريم ورفع الظلم عن المستعبدين في الأرض في حروب البشرية المختلفة، وإيقاف الظالمين عند غرزهم.
والواقع أن وقوع قتلى وجرحى من المعتصمين أو المتظاهرين لا يبرر طرح هذه الأسئلة، ما دام المحتجون لا يرفعون سلاحا ولا يخربون شيئا، فردُّ الظالم وحجزه عن ظلمه يجب أن يحدث ويقع، ويجب أن يكون التصرف المقاوم والمناهض ـ شرعيا وقانونيا وإنسانيا ـ بقدر ما يوقف هذا الظالم عن ظلمه، وإلا فلم نقم بحق المسلمين علينا سواء كانوا مظلومين أم ظالمين.

الاحتجاج والأمن العام
ولعل سؤالا شرعيا يبرز هنا حول الأمن العام والمصلحة العامة التي يجب أن تراعى وتكون مقدَّمة على الاحتجاج، فلا يصح أبدا ـ برأي هذا التساؤل ـ أن تصل درجة الاحتجاج إلى المواجهة وإلى وقوع قتلى وجرحى أو وقع ما يزعزع استقرار المجتمع.
وأبادر فأقول: إن المصلحة العامة والأمن العام يعتبر تحقيقه والحرص عليه من أهم المصالح المرعية والمقاصد الشرعية، ولا يجوز لأحد ـ كائنا من كان ـ أن يهدد أمن الأوطان، أو يزعزع استقرارها، ولكن في حالة فلسطين الأمر يختلف كثيرا؛ حيث يستمد الاحتجاج ـ الذي يوقع في مواجهة غير عادلة ـ وجوبه وحتميته الشرعية والقانونية والإنسانية من فكرة الأمن العام أيضا، واستقرار المجتمعات في الوقت ذاته، ولأن:
1ـ قضية فلسطين قضية أمة، ويجب أن تنتفض الشعوب الصغرى لنصرة القضية الكبرى.
2ـ أن في الاحتجاج المتواصل الذي يوقع في مواجهات مع قوات الأمن محافظة على الأمن العام؛ لأن في ترك الصهاينة يعربدون ويقتلون خطرا محققا على أمن الدول المجاورة.
3ـ أن كف الظالم عن ظلمه يجب أن يكون الاحتجاج بقدره حتى يتحقق كفه ومنعه.
4ـ كذلك نصرة المظلوم لا تتحقق إلا بأن يسترد حقه ويدفع الظلم الواقع عليه، ويجب ـ قدر المستطاع ـ أن يكون الاحتجاج محققا لهذه النتيجة.
وهنا تقفز إلى الذهن كل الأدبيات الفقهية التي ترعى حق الأمة، وتقدم المصلحة العامة على الخاصة، والمصلحة المستقبلية الممتدة على المصلحة الآنية القاصرة، ومصالح الجماعات الواسعة والشاملة على مصالح الأفراد الضيقة والمحدودة...الخ
ليست هذه فتوى بمشروعية رفع السلاح في وجوه الحكام أو تخريب مؤسسات المجتمع، بل دعوة إلى رفع وتيرة الاحتجاج، وتفكير بصوت مرتفع في تطوير وسائله ومساحاته المتاحة التي يجب أن تستغل لتحقق الهدف من وراء الرفض والاحتجاج، وهو نصرة المظلوم، وكف الظالم وحجزه عن ظلمه.
وقضية فلسطين قضية أمة يجب أن تجتمع لها المجامع الفقهية لتبحث قضية الاحتجاج وحدوده، والرفض السلمي وحدوده، واستخدام العنف وحالاته وحدوده لا سيما في قضايا الأمة التي يليق بها فتوى وآراء جماعية من علماء الأمة.

الثلاثاء، 21 أكتوبر 2008

باحث إخواني يدعو للسماح بالتبشير بالمسيحية في المجتمعات الإسلامية


العريان رفض التعقيب لأنه "لا يعلم ما إذا كان ينتمي للإخوان أم لا".. باحث إخواني يدعو للسماح بالتبشير بالمسيحية في المجتمعات الإسلامية
كتب أحمد عثمان وفتحي مجدي (المصريون) : بتاريخ 20 - 10 - 2008
طالب باحث ينتمي لجماعة "الإخوان المسلمين" بحرية السماح للكنائس والمنظمات التبشيرية المختلفة بالدعوة إلى المسيحية في أوساط المجتمعات المسلمة، وذلك بعد أيام من طلب الأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة، بأن تسمح الدولة في مصر للمسلمين الراغبين في التحول إلى المسيحية بحرية العبادة.وقال وصفي عاشور أبو زيد، إنه لا مانع من أن يدعو النصارى إلى دينهم في مجتمع المسلمين؛ لأن هذا ما يكفله مبدأ الحرية الدينية، على حد قوله في كتاب صدر مؤخرا عن مكتبة دار السلام بالقاهرة. ودافع الباحث في رأيه المثير للجدل عن حق غير المسلمين في حرية الدعوة إلى دينهم ما لم يؤد ذلك إلى إثارة الفتن والفوضى في المجتمع، كما أن للمسلم الحق في الدعوة لدينه، وفق الضابط نفسه.وأشار أيضا إلى أن القول بالحرية الدينية يقتضي ألا نكره غير المسلمين بالدخول في الإسلام، وأن يترك لغير المسلمين حرية تأدية شعائرهم.من جانبه، رفض الدكتور عصام العريان القيادي الإخواني البارز التعقيب على دعوة الباحث بالسماح للأقباط في مصر بالتبشير انطلاقا من مبدأ الحرية الدينية، مبررا ذلك بأنه لا يعلم ما إذا كان ينتمي لـ "الإخوان" أم لا، وأوضح أن الرد على مثل هذا البحث يحتاج لقراءته أولا قبل الحكم أو التعقيب عليه.

الخميس، 2 أكتوبر 2008

المراجعات الفكرية للتراث الإسلامي ... فريضة وضرورة

المراجعات الفكرية للتراث الإسلامي ... فريضة وضرورة

المغرب ـ وصفي عاشور أبو زيد
يعتبر القرآن الكريم بما يحويه من سياقات حجاجية برهانية متماسكة مع الملل والأديان الأخرى، الكتابَ الوحيد الذي أحدث – وما يزال - أكبر مراجعة ملية وفكرية للتراث البشري السابق عليه.
لكن التراث الذي تأسس حول النص القرآني، ومعه النص الحديثي، منذ عصر التدوين خصوصاً إلى عصرنا هذا، قد تضخم وتشعب وطرأت عليه في كثير من الأحيان أشكال مضرة بتوجيهات النصّ ذاته، بغاياته ومقاصده، عقيدة وشريعة، وفي أحكامه العلمية والعملية، مما حجب نوره الذي تناغم مع البداهة الأولى، وعطل دوره في إرشاد العقل المسلم وتسديده في البناء الذاتي والكوني على حد سواء.
ولا يخفى كذلك أن هنالك دراسات وقراءات رصدت لمعالجة هذه الآفات التي عانت وتعاني منها الأمة على امتداد قرون طويلة من الزمان، وفي مناحٍ مختلفة من مجالات وجودها، لكنها في معظمها لم تستطع أن تضع اليد على أبرز مواطن الاختلال، وأن تقدم من المقترحات العلاجية ما يحقق مناط النهوض على النحو الأكمل.
ونعتقد أن من أسباب هذا القصور سببا رئيسا ومهما، وهو عدم استخراج المنهج القرآني النقدي الذي به نخل القرآن الكريم تراث ما قبله في شمولية واستيعاب وفي حجاج برهاني دامغ، وفي واقعية إنسانية، وفي كل ما يمكن استخلاصه من معالم وخصائص لهذا المنهج، وفي عدم تطبيقه في نخل التراث الذي جاء من بعده؛ لأنه لا يمكن أن يصدق ويهيمن بحق إلا خطاب مفارق يتجاوز نسبية وقصور المقاربات والمراجعات البشرية المتحيزة مهما تسلحت بالموضوعية، ويحقق أعلى قدر ممكن من الحق والعدل والفاعلية والوحدة، وكل مسوغات الوجود والشهود في الأمة.
من أجل هذا وغيره كان مؤتمر: "المنهج النقدي في القرآن الكريم والمراجعات الفكرية للتراث الإسلامي"، الذي عقد في 20 – 21 – 22 جمادى الثانية 1429هـ الموافق لـ 24 – 25 – 26 يونيو 2008م في كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة السلطان مولاي سليمان – بني ملال بالمملكة المغربية.
وتجمع لهذا المؤتمر صفوة من المفكرين والباحثين من أرجاء العالم الإسلامي، ودارت جلساته حول خمسة محاور: 1ـ معالم المنهج النقدي وخصائصه في القرآن الكريم: أصوله وضوابطه. 2ـ المراجعات النقدية في العقيدة وأصول الدين. 3ـ المراجعات النقدية في التفسير وعلوم القرآن. 4ـ المراجعات النقدية في الفقه وأصوله. 5ـ المراجعات النقدية في اللغة العربية واللسانيات.

الأصول والضوابط للمنهج النقدي في القرآن
في المحور الأول من محاور المؤتمر وفي الجلسة الأولى تحدث الدكتور محمد المستيري مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي في فرنسا في مقدمة تمهيدية عن "تحرير التجديد من مقدمة التأصيل، قراءة لا أصولية للتأصيل"، وذكر أن أول واجب من واجبات التجديد أن نجدد العهد مع الله تعالى على أن نكون الخلفاء والحاملين لهذا الوحي، وبين أننا يمكن أن نعتبر أصول الدين ومبادئه الكلية هي أصول الفقه، وأصول الفقه التقليدية يمكن أن نسميها أصولا تجوُّزًا، وأكد أنه ينبغي أن نطلق العنان للعقل المسلم لينطلق مبدعا ومجتهدا دون أن نقيده بالعديد من القيود والشروط والقواعد التي تثقله وتقعده عن محاولة التجديد والمراجعات.
وتحدث الدكتور إبراهيم عقيلي الأستاذ بكلية الآداب بالجديدة في المغرب عن الأصول والضوابط المنهجية لعملية المراجعات من خلال: ثلاثة أصول للمراجعات، وهي: الأصل البياني، والأصل السمعي، والأصل الفطري والعيني، وختم ورقته بتحديد معنى المراجعة الفكرية للتراث.
كما تحدث الدكتور محمد رفيع أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بكلية الآداب بفاس، عن المنهج النقدي في القرآن وبناء المشترك الإنساني، وبين الأسس المنهجية للقرآن في هذا البناء، فتحدث عن مفهوم المشترك الإنساني، ثم بين الأسس التي يقوم عليها هذا المشترك وتتمثل في: الأساس التكويني لوحدة المشترك الإنساني، والأساس التشريعي لوحدة المشترك الإنساني، ثم بين الأولويات المقاصدية القرآنية الراهنة في بناء المشترك الإنساني.
أما الأستاذ الدكتور سعيد شبار أستاذ الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان ببني ملال فقد أثار الانتباه من جديد إلى حاجة الأمة إلى المنهاج القرآني الكلي المستوعب لتجديد علومها ومعارفها ونظام فكرها وثقافتها، وذلك من خلال عرضٍ مركّز لمداخل هي تشخيصات لعلل وأدواء اشتغلت تاريخيا، ولا تزال تشتغل راهنا ، في كيان الأمة بحيث أقعدتها عن الفعل والمبادرة في وقت تضخمت فيه التحديات والمشكلات بفعل استبداد كثير من النظم والأنساق الثقافية الغربية تحت غطاء العولمة النافذة مما يطرح وبإلحاح المسؤوليات الفكرية والأخلاقية الكونية على الأمة، وهو أمر لا يمكن أن ينهض به إلا فكر مستند ومستمد من رؤية ومنهاج الوحي المطلق باعتباره خطابا للعالمين، وطرح مقدمات ممهدات للبحث في معالم هذا المنهاج الذي صدق وهيمن بالحق وأهل الأمة إلى مقام الاستخلاف، حيث بإمكانها أن تتأهل مرة أخرى للإسهام ترشيدا وإصلاحا في ساحة التدافع والتعارف والبناء الكوني.

مراجعات العقيدة وأصول الدين
وفي محور مراجعات العقيدة وأصول الدين قدَّم الدكتور محمد بو روايح أستاذ مقارنة الأديان بجامعة الأمير عبد القدار بالجزائر، ورقةً عن أصول وضوابط المراجعات في هذا المجال، وتتلخص أصول و ضوابط المراجعة النقدية لمسائل العقيدة ـ كما يراها هو ـ في عدة أمور منها: مراعاة النص الشرعي، ومراعاة أصول العقيدة الإسلامية، ومراعاة المقاصد العامة للشريعة، وتأصيل الخلاف العقائدي بين الفرق الإسلامية، ومراعاة خصوصية العقائد الإسلامية والبعد عن التقليد العقائدي، وفصْل تاريخ العقائد الإسلامية عن تاريخ العقائد الأخرى المخالفة، وتناول بو روايح في ورقته أيضا: فقه المراجعات في الفكر الإسلامي: ملابساته التاريخية وأهم مدارسه، وتحدث عن السياق التاريخي لمسألة المراجعة النقدية للعقيدة الإسلامية، وأصول وضوابط المراجعة النقدية للعقيدة الإسلامية، وبين آثار الالتزام بالأصول والضوابط الشرعية في ترشيد المراجعة النقدية للعقيدة الإسلامية.
أما الدكتور بنسالم الساهل أستاذ العقيدة ببني ملال فقد تحدث في ورقته عن قضايا الاعتقاد بين العرض القرآني والطرح الكلامي، دعوةً للمراجعة على ضوء منهج ومقاصد القرآن، وبين مستويات المراجعة المطلوبة لعلم الكلام، وآليات تلك المراجعة من خلال العرض القرآني والطرح الكلامي للقضايا الإيمانية، والمنهج القرآني في الاستدلال على القضايا الإيمانية، ومقاصد العقائد بين الطرح الكلامي والعرض القرآني.
وبين الباحث وصفي عاشور أبو زيد، الباحث الشرعي بالمركز العالمي للوسطية بالكويت أن محاولة الشيخ محمد الغزالي في علم العقيدة وعلوم أخرى جديرة بالاعتبار والتأمل والنظر، فمن خلال كتابه "عقيدة المسلم" وبعض كتبه الأخرى استطاع الباحث أن يستخرج أهم المعالم المنهجية والتجديدية في محاولة الشيخ لتجديد علم العقيدة، والتي تمثلت في ثمانية معالم، هي: أولا: تخلية العقيدة من شغب الفرق الكلامية. ثانيا: مراجعة العلم من حيث الشكل والمضمون. ثالثا: استقاء العقيدة من نصوص القرآن والسنة. رابعا: الجمع في التناول بين إقناع العقل وإمتاع القلب. خامسا: الاستفادة من حقائق البحث العلمي في تعزيز الإيمان. سادسا: طرح موضوعات جديدة في باب العلم. سابعا: ضرب أمثلة مُحَسَّة من الواقع المعيش. ثامنا: تصحيح الفهم المغلوط لبعض النصوص الشرعية وتوظيف ذلك في الدعوة توظيفا حسنا.

مراجعات الفقه والأصول
وفي محور الفقه والأصول ومراجعتهما الفكرية قدم الدكتور عبد الرحمن العضراوي الأستاذ بكلية الآداب في بني ملال ورقة عنوانها: "الأسس المنهجية القرآنية للدرس المقاصدي والمراجعة النقدية للدرس الأصولي"،وتوقف الباحث عند مصطلحات الأسس المنهجية القرآنية والدرس المقاصدي والدرس الأصولي والمراجعة النقدية في سياق عام يبرز كون العلاقة بين الدرس المقاصدي والدرس الأصولي متكاملة ومتوازنة من حيث إن عملية الفهم للنص الشرعي تفرض وجوبا ذلك التكامل. وأن أي تجزيء لهذه العلاقة لن يحصل من تطبيقه تحقيق رؤيا كونية حضارية قرآنية.
أما الدكتور عمر جدية أستاذ الفقه وأصوله بكلية الآداب بفاس، فقد تناول محاولة الدكتور طه جابر العلواني في مراجعة أصل: "شرع من قبلنا"، وقال: إن العلواني يرى أن الأخذ بهذا الأصل يقدح في مصدرية الشريعة الإسلامية، ومن ثم فلا ينبغي أن نعتبره أصلا في التشريع، وبيّن "جدية" أنه لا تعارض بين الأخذ به ومصدرية الشريعة ما دامت هناك أصول وضوابط تحكم الأخذ بهذا الأصل.
أما الأستاذ محمد همام الباحث المغربي، فقد تناول محاولة الدكتور حسن الترابي في تجديد علم الأصول، وأورد مقترحات الترابي لأصول جديدة بناء على أن الأصول التقليدية القديمة لم تعد وافية حق الوفاء باحتياجاتنا المعاصرة..!! وذكر همام أن محاولة الترابي تصلح لأن تكون أرضية ممهدة لمحاولات أخرى يتم فيها تطوير علم أصول الفقه، وفق الضوابط، أو انطلاقا من الأصول التي اقترحها الترابي!.

مراجعات التفسير وعلوم القرآن والسنة النبوية
أما في محور التفسير وعلوم القرآن فقدم الدكتور أحمد بزوي الضاوي أستاذ التفسير بالجديدة، ورقة عن نقد ابن تيمية لعلم التفسير، عمل فيها على إبراز معالم المنهج النقدي عند ابن تيمية مع التمثيل لذلك بالتفاسير موضوع الدراسة النقدية، و إبراز أهميته في تجديد التفسير، وإعادة النظر في تصنيف التفاسير إلى تفاسير نقلية وأخرى عقلية، باعتبارها مصادرة لواقع التفسير من جهة، وخطورتها من جهة أخرى؛ إذ إنها تعمل على انشطار الذات المسلمة إلى قسمين: قسم مع النقل، وآخر مع العقل، و كأنهما ثنائية ضدية لا يمكن الجمع بين حديها، وغير خاف على أهل الجهة أن صحيح المنقول موافق لصريح المعقول، مع بيان أسباب الاختلاف في تفسير القرآن الكريم، وحقيقة اختلاف السلف في التفسير.
وتناول الدكتور محمد السايسي أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية الآداب بمكناس أسباب النزول في قراءة نقدية تقويمية أو استنباطية استدلالية تسهم في كشف الخلل المنهجي المؤدي بالضرورة إلى الخلل في النتائج، وأبان عن بعض مظاهر الخلل التصنيفي والوظيفي الموجبة للمراجعة.
أما الدكتورة مليكة حقان الأستاذة بكلية الآداب في بني ملال فقد أكدت من خلال ورقتها: "نظرات نقدية في المنهج والأصول لقضايا إعجاز القرآن، دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني نموذجا" أن الجرجاني عبر تأمله لما كتبه سابقوه في إعجاز القرآن، انتهى إلى رفض كل الوجوه التي ارتضاها هؤلاء العلماء دليلا على الإعجاز، فهي حسب رأيه إنما تصدق في آيات من الذكر الحكيم، وتتخلف في آيات أخرى، وبينت أن عبد القاهر الجرجاني استطاع أن يؤسس نظرية لغوية تستند إلى الكلام النفسي، وتبحث في الإعجاز على ضوء العقيدة الأشعرية، والمبادئ اللغوية.
وفي مراجعة العلوم التي نشأت حول السنة النبوية جاءت ورقة وحيدة من الدكتور محمد بن زين العابدين رستم أستاذ السنة وعلوم الحديث في آداب بني ملال، بعنوان: "المراجعات النقدية المعاصرة للسنة النبوية: أحاديث صحيح البخاري والنقد المعاصر نموذجا"، ذكر فيها أن الجامع الصحيح للإمام البخاري تعرض في العصر الحديث لهجمة منكرة، سعى فيها الحداثيون سعيا حثيثا، وتولى كبر هذه الفتنة العصرانيون من دعاة التنوير والتجديد والتمرد والهدم، وأكد أن الشبهات التي روجها هؤلاء المهاجمون تعددت على البخاري وصحيحه، وتباينت مناهجهم في بث الأباطيل حول هذا الكتاب، واختلفت محاولات قراءتهم الجديدة له شكلا ومضمونا، وحاول عرض أحدث القراءات النقدية لأحاديث صحيح البخاري (قراءة جمال البنا، وزكريا أوزون، وخديجة البطار، وخليل محمد عقدة ....)، واستخلاص العبر والدروس من عثرات هذه القراءات، وبيان عوارها وفضح لتفاهة عقول أصحابها، و كشف لسخافة فهم أربابها على حد وصفه.

المراجعات النقدية في اللسانيات
وفي المحور الأخير للمؤتمر حول اللغة والعلوم الشرعية تحدث الدكتور محمد غازي الأستاذ بكلية الآداب بأغادير عن: " النص القرآني والدرس اللساني: بين توظيف المنهج واستثمار النتائج"، وحاول فيها الوقوف على بعض أوجه الاستفادة من الدرس اللساني في فهم النص الديني وقراءته، سواء من جهة توظيف المنهج اللساني أو من جهة الاستفادة من نتائجه.
وتكونت الورقة من قسمين: قسم نظري يتحدث عن أنه يجب على المسلمين استغلال كل ما توفره المعرفة الإنسانية الحديثة (واللغوية واللسانية منها على وجه الخصوص) لفهم نصوصهم المقدسة (القرآن والسنة)؛ ذلك أن تحقيق المعاصرة يقتضي الاستفادة مما وصل إليه العصر نفسه من معارف ومناهج. وقسم آخر تطبيقي وهو الأكبر: وضح فيه بشكل منهجي وتطبيقي، بالأساس، أنه لا ينبغي أن نستغرب مما سيؤول إليه هذا الاستخدام للمعارف الحديثة؛ ذلك أنه من خلال توظيفنا لإحدى أهم نتائج البحث اللساني- والمرتبطة خصوصا بعلاقة اللغة بالفكر– لفهم بعض النصوص الدينية يتبين أن هذا التوظيف يوصلنا إلى نتيجتين هامتين: أولاهما، الاهتداء إلى معان لم يكن قد فكر فيها المفسرون من قبل. وثانيهما، الكشف عن عيوب في الفهوم السالفة والجهود التفسيرية التراثية على وجه العموم.
أما الدكتور مراد موهوب، الأستاذ بكلية الآداب في بني ملال، فتحدث عن: "بعض آليات الحجاج والحوار في الخطاب القرآني"، وأكد أن القرآن الكريم خطاب لغوي منتظم في عدة مستويات ومتضمن لعدة أبعاد ومقاصد ودلالات. وهو كتاب حوار وحجاج وإقناع، وهذه المظاهر والآليات تظهر لفظا وبيانا وأسلوبا في العديد من السور والآيات وفي الكثير من الصور والتراكيب والعبارات، وبين موهوب بعض الآليات الحجاجية التي تشتغل في النص القرآني من خلال تحليل لساني لبعض المشاهد الحوارية الخطابية الواردة في بعض السور.
بينما رام الدكتور إدريس ميموني الأستاذ بآداب بني ملال الوقوف على ملامح المنهج النقدي في العلوم الإسلامية، من خلال السيوطي باعتباره عالما قدر له أن يعيش في عصر متأخر، وفي بيئة متميزة، جمعت كل خصائص البيئة الإسلامية المتقدمة، وورثت عنها علومها ومناهجها.
وتحدث في ورقته: "المنهج النقدي في العلوم الإسلامية بين التصور الشمولي والتجزيئي، السيوطي نموذجا"، عن أصول اللغة العربية بين النص الشرعي وكلام العرب (الاقتراح في أصول النحو للسيوطي نموذجا) عبر حصر أدلتها المعتمدة عند العلماء وعلاقة ذلك بمناهج علماء أصول الفقه، كما تكلم عن منهج نقد أصول الرواية اللغوية (المزهر للسيوطي نموذجا)، وبين فيه علاقة المناهج اللغوية بمناهج علماء الحديث.
وأكد الباحثون والمعقبون أننا بحاجة ماسة إلى مراجعة تراثنا الإسلامي العظيم بما لا يهدمه ولا يبقيه كما هو، وبينوا أن هذه المراجعة يجب أن تستند إلى طريقة القرآن المنهجية في النقد والمراجعة؛ لأن القرآن مطلق وثابت وخالد، ولذلك يجب أن نحتكم إلى هذه الصفات عند مراجعتنا للنسبي والمتغير وغير الخالد؛ لنأخذ منه ما يتناسب مع أصولنا ومبادئنا وكلياتنا ومقاصدنا، وما يتواءم في الوقت ذاته مع عصرنا ومتطلباته.
كما شددوا على أن هذه المراجعات لا يجوز أن يمارسها إلا الراسخون في هذه العلوم الذين أحاطوا بالتخصص إحاطة معقولة، وفي الوقت ذاته يدركون حاجاتنا في الواقع المعاصر، وتكون ممارسة المراجعة بغير تقديس ولا تبخيس؛ حيث نثبت للسابقين سبقهم وفضلهم ونقدر جهدهم، ونبين ما يحتاجه واقعنا الفكري والمعرفي من هذا التراث العظيم.

ثقافة التآمر لا مؤتمر الثقافة

ثقافة التآمر .. في مؤتمرات رسمية
الحداثيون.. يبشرون بثقافة الهزيمة!

القاهرة: محمد جمال عرفة صلاح حسن رشيد وصفي أبو زيد

شهدت قاهرة المعز.. مؤتمرًا انهزاميًا أقامه المجلس الأعلى للثقافة التابع لوزارة الثقافة المصرية حمل عنوان: "الثقافة العربية.. نحو خطاب ثقافي جديد.. من تحديات الحاضر إلى آفاق المستقبل"، بهدف إيجاد حلول وإجابات شافية لأسباب الهزيمة النفسية والسياسية والعسكرية والثقافية التي نحياها اليوم بعد احتلال العراق، وللأسف فقد جاءت الإجابة في المؤتمر الذي استمر ثلاثة أيام .. من وجهة نظر المحتلين!.

طرح الفكرة كان عملاً من المتصور أن يصب في نهر تكاتف الأيدي والتيارات والأفكار من أجل مواجهة الهيمنة الأمريكية وتوحشها في البيئة العربية، إلا أن المؤتمر الذي حضره مائتا "مثقف" عربي أبي إلا أن يحمل طرحاً أحادي الجانب، وانعزل عن تيارات المجتمع العربي الإسلامي كافة، مستبعدًا التيار الإسلامي والأزهر وعلماء الأمة المعتدلين.. المهمومين بفكرة الصحوة والنهضة، والتخلص من أسباب الهزيمة الحضارية التي نحياها اليوم.

يشهد على ذلك أسماء الحضور من ذوي الثقافات والتوجهات المعارضة بشدة للإسلام والعروبة، ومن المدافعين عن العولمة، والحداثة أمثال: أدونيس وعبد السلام المسدي وحمادي صمود، وجابر عصفور وصلاح فضل، والطيب صالح، ومحيي الدين اللاذقاني، وعلي حرب، وحسن حنفي، وهشام شرابي، وحسين أحمد أمين، وفيصل دراج، وميلاد حنا، ورفعت السعيد، وأحمد عبد المعطي حجازي، وجورج طرابيشي، ومحمود أمين العالم، ومحمد برادة، في حين أنه تجاهل عن عمد وسوء نية علماء ومفكرين من مثل: الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور محمد عمارة، والدكتور طه جابر العلواني، والمستشار طارق البشري، وفهمي هويدي، والدكتور مصطفى الشكعة.


تطاول فج على الإسلام
وتشهد كلمات الحضور وأبحاثهم على تهجمهم الصريح على الشريعة الإسلامية ومطالبتهم بنقدها.. ففي كلمة أدونيس قال بالحرف الواحد: "لا أدري لماذا نحن مجتمعون هنا؟ أمن أجل تجديد الثقافة فعلاً والمصارحة؟ أم السكوت عن التابوهات؟! ولماذا لا تتكلمون صراحة عن أول عقبات التطوير المتمثلة في "الوحي الإلهى"، وفي الإسلام؟! لابد من تناول هذه النقطة بجرأة وصراحة، وإلا فلن يكون هناك تطوير يُذكر".
هكذا يدعو أدونيس إلى نقد كتاب الله عز وجل، ناسيًا. أو متناسيًا، أن القرآن كتاب قدسي منزه عن شطحات المجانين والعابثين، الذين تتلمذوا على أيدي الصهاينة والمستشرقين وأعداء الدين واللغة العربية.. قال هذا الهراء في بلد الأزهر وصرح الإسلام.
كما شاعت داخل أروقة المؤتمر، وبين ثنايا المتحدثين نبرة اليأس والكآبة والانهزامية، وإعلان وفاة العرب والمسلمين بفعل الزحف الإمبريالي الصهيوني على المنطقة.
وبنظرة عجلى لأسماء أبحاث هؤلاء الانهزاميين يتبين تغلغل هذه السلبية والدعوة إلى الفتور مثل: "ثقافة الهزيمة" لخلدون النقيب، و"من ثقافة السلطة إلى سلطة الثقافة" لحسن حنفي، و"انشقاق المثقف وانتقاض الموقف" لعبد السلام المسدي، و"حول المُسلمات الثقافية ..ضرورة المراجعة" لمحمود عودة.
والأغرب.. بل ما يدخل في خانة المستحيلات.. أن يدير مائدة تجديد الخطاب الديني الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري بينما المتحدثون عن هذه القضية المحورية من غير المتخصصين في هذا الشأن ولا في الدراسات الإسلامية، بل هم من العلمانيين أمثال: أحمد عبد المعطي حجازي والعفيف الأخضر، وحسن حنفي، وحسين أحمد أمين، وميلاد حنا، وفيصل دراج، بينما خلت القائمة من اسم أي عالم أزهري ولو على سبيل المجاملة!.
وهكذا بات المدافع عن كرامة العروبة والإسلام هم أرباب العولمة وأبناء الاستشراق وغلمان الكوكبية ومريدي الحداثة، والداعين إلى تشويه التراث والعبث به، وهدم كل ما هو "ماضوي" كما يسمون حضارتنا وتراثنا.
وفي الوقت الذي يدعو فيه المفكرون والمصلحون إلى إظهار معالم الإسلام السمحة وأخلاقه الإنسانية العظيمة حتى لا يُتَّهم بالإرهاب والعدوانية كما شاع اليوم، تأتي نتائج المؤتمر مخيبة للآمال الوطنية والعربية والثقافية على حد سواء.
لقد مورست على الإسلام في هذا المؤتمر وما حواه من ندوات، أساليب عدوانية لا يحلم بها من يتربصون بالإسلام وعرقلة خطابه السمح الباهر، فاتهموا الإسلام بأنه يدعو إلى الاستعلاء وعدم قبول الآخر من خلال الآية: كنتم خير أمة أخرجت للناس (آل عمران:110) ، فهي بزعمهم تمثل عمق الأزمة عند المسلمين وسبب تخلفهم، وأنه يجب عدم استخدام أو حتى حذف مادة "كفر" من القرآن؛ لأنها ترسخ ثقافة العدوانية ومصادرة رأي الآخر! كما قالوا إن الإسلام دعوة لعدم التحاور وتثبيت لثقافة الهيمنة من خلال الحديث الشريف: "خير القرون قرني".

مؤتمر موصول بالمخططات الأمريكية
كان من اللافت في مبادرة تعليم العرب والمسلمين الديمقراطية التي اقترحتها الخارجية الأمريكية في ديسمبر2002 أن هناك بنوداً تنص على تخصيص أموال لتدريب مثقفين وصحفيين عرب في دورات تدريبية أمريكية بهدف تغيير ما سمي (لغة الخطاب العدائي العربي والإسلامي ضد أمريكا).
وسبق أن تكرر السيناريو نفسه مع 50 امرأة عربية ما بين برلمانية وسيدة أعمال وناشطة في اتحاد نسائي وأستاذة جامعية وصحافية في مؤتمر عقد في السادس من نوفمبر 2002 برعاية الخارجية الأمريكية عنوانه (بناء الديمقراطية) جرى التركيز فيه على دور المرأة العربية والجمعيات النسائية في تغيير النظرة العدائية السلبية لدى الشعوب العربية والإسلامية تجاه أمريكا.
وعلى غرار هذه المؤتمرات عقد هذا المؤتمر..لا ليؤنب العرب والمسلمين على أفعالهم الشنيعة وغير المسؤولة بالتحريض على أمريكا أعدل دولة في العالم فحسب.. ولكن ظهر (مثقفون) يدعون إلى:
اعتبار آية كنتم خير أمة أخرجت للناس (آل عمران:110) دعوة للاستعلاء!!
الدعوة إلى حذف كلمة "الكفار" من قاموس المسلمين لأن فيها عنصرية!؟
اعتبار أن الفقه الإسلامي سبب إرهاب المسلمين وبالتالي يدعون لعدم الالتزام بفقهاء السنة الأربعة!.
وهكذا مثلما ظهرت عشرات المصطلحات التي انتشرت عقب 11 سبتمبر وتدور كلها حول تفريغ العقل العربي والمسلم من ثقافته وتراثه الإسلامي بدعوى تطويره كي لا يهاجم أو يحرض ضد أمريكا مثل (نحو خطاب ديني جديد)، و(نحو حوار ديني عالمي جديد)، دشن هؤلاء (المثقفون العرب العلمانيون) مجاناً مصطلحاً جديداً هو (نحو خطاب ثقافي جديد)، عماده مهاجمة تعاليم الإسلام واعتبار المؤتمر فرصة للنيل من خصومهم الإسلاميين.
صحيح أن بعض المشاركين ركزوا على نقد حبس السلطة العربية للإبداع الثقافي العربي، وعلى أهمية أن يكون هناك دور جديد للمثقف العربي في حوار حضاري عالمي جديد، ولكن الكارثة أن هذه الشعارات العامة أظهرت خلفها عداءً غير مبرر للتدين.
فالدكتور حيدر إبراهيم أستاذ الفلسفة بجامعة الخرطوم شطح واستغل المناسبة للحديث عما أسماه (اللاهوت الديني) غير الموجود أصلاً في الإسلام، ودعا ل "لاهوت تحرير إسلامي لتجديد الخطاب الديني"، وقال إن التجديد في الخطاب الديني يتطلب أن تمهد له ثورات اجتماعية وسياسية تحسن وضع الحريات ودمقرطة المجتمعات الإسلامية وتحسين الأوضاع المعيشية!.
الغرب يجدد الخطاب الديني الإسلامي!؟: وكانت ندوة (تجديد الخطاب الديني) التي عقدت على هامش فاعليات مؤتمر الثقافة العربية هي أكثر الندوات جدلا ًوهجوماً على الدين، بعد أن حولها بعض المثقفين اليساريين والعلمانيين إلى محاكمة للدين والنصوص القرآنية.
فقد اقتصرت الندوة على بعض الشخصيات التي تدعو دائماً إلى عولمة الدين وفصله نهائياً عن الدولة، الأمر الذي أثار شكوك مثقفين بعثوا إلى المؤتمر يرفضون الحضور، خصوصاً أن الندوة ركزت على الهجوم على الدين، ولم تهتم بالحديث عن ظروف الاحتلال الأمريكي والإسرائيلي للمنطقة.
فالدكتور حيدر إبراهيم قدم ورقة بحث عن وجود (لاهوت تحرير إسلامي جديد) يعمل على تجديد الخطاب الديني، واعتبر أن هذا اللاهوت هو البداية الكاملة لمجتمع عصري حديث يكون الإنسان هو العامل الأساسي فيه.
وزعم أن تأخر المسلمين إلى الآن قائم على أساس التوتر الحاد بينهم حول ثبات النص أو التحول للحياة، وأن هناك فجوة عميقة بين تحقيق الآمال والطموحات من جهة، والتفكير في الموت من ناحية أخرى، وهذا يكرس فكرة أن المسلمين يفكرون دائماً في الآخرة أكثر من التفكير في الحياة ويعتبرون أنفسهم فوق الكمال، وهو الأمر الذي طرح العديد من التساؤلات حول تأخر المسلمين وتخلفهم.
ثم أفصح الدكتور حيدر إبراهيم عما يريد داعياً إلى ضرورة عدم تمسك المسلمين بمقولة: كنتم خير أمة أخرجت للناس(آل عمران:110) لأن هذا المصطلح يعبر عن استعلاء في رأيه!!. ولبس مسوح رجال الدين ليفسر القرآن على هواه قائلاً: إن الآية التي تقول ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون (آل عمران:139) تشكل عمق الأزمة التي يعيشها المسلمون باعتبار أن الإحساس بالاستعلاء سبب تخلف هذه الأمة!؟.
كما وجه حيدر النقد للحركات التجديدية واعتبرها حركات سلفية جامدة، ووصف الشيخ محمد عبده بأنه وقف في منتصف الطريق ولم يستطع استكماله حتى النهاية، وزعم أن أصحاب الحساسية الدينية عندما يتعاملون مع الدين في الحياة اليومية فإن العقيدة تبدأ في الضعف والتآكل، وأن كثيراً من المسلمين اعتبر الحياة متاعاً فانياً وبالتالي فهي ليست مجالاً للتعمير والتقدم وهو سبب تأخر المسلمين حتى الآن!
أما العفيف الأخضر أحد أكثر خصوم التيار الإسلامي ومشجعي التغريب فقد حاول منذ بداية حديثه وضع أسس ونظريات لتعميم التجربة التونسية على جميع العواصم العربية حيث تباهى بأنه كان وراء إغلاق جامعة الزيتونة في تونس في عام 1956 والتي كما قال كانت تغسل عقول طلبتها بالفقه القديم وتعتمد على تفسيرات بعض الفقهاء!!.
وزعم هذا المتغرب أنه لإيجاد تعليم ديني تنويري من الضروري استئناف حركة الإصلاح الديني وفلسفة الأنوار الفرنسية وتعليم الأجيال الصاعدة قراءة النص الديني قراءة تاريخية وإثراء خيالها بالقيم الإنسانية التي جاءت بها فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر وذلك للانتهاء من تطبيق أحكام الفقه القديم التي باتت كالدواء الذي انتهت مدة صلاحيته حسب زعمه.
وشطح الأخضر بدعوة الغرب للتدخل لمساعدة المسلمين على إصلاح التعليم الديني "لأن الغرب من وجهة نظره أصبح صاحب مصلحة في ذلك بعد أن امتد إليه خطر الإرهاب الديني، وأن السبب فيما يعيشه العالم الإسلامي الآن من إرهاب يعود إلى اعتماد المسلمين على فقه القرون الوسطى الذي صاغ شعورنا بتحريم تقليد غير المسلمين وأن نرجسيتنا الدينية اعتبرت جميع الأديان الأخرى منسوخة بالإسلام".
وطرح ما أسماه (مشروع تعليم تنويري) على حد قوله قائمًا على تعميم التجربة التونسية في جميع الدول العربية يقوم على تحرير العلم من الوصاية والنصوص الدينية والاعتراف الكامل بحقوق المرأة في كل شيء، كما طالب برد الاعتبار لغير المسلمين في العالم العربي بتدريس تاريخ مشاركتهم في صنع الحضارة العربية الإسلامية بالترجمة.


هجوم على التعليم الإسلامي
ولأن القاعة كانت خالية سوى من العلمانيين واليساريين والمغلوبين على أمرهم، فقد استمر الأخضر يهاجم التعليم الإسلامي في المملكة العربية السعودية، ولولا عقد المؤتمر في بلد الأزهر لهاجم التعليم الأزهري أيضاً، وزعم أن التعليم الديني السعودي منبع الإرهاب حيث يقوم على غسل أدمغة التلاميذ بعداء غير المسلمين وحسب دعواه.
وقال إن التعليم الذي تقوم عليه بعض الأنظمة العربية تعليم ديني ظلامي يقوم على التطويع النفسي للتلميذ ليتصرف وفق ما يطلبه معلمه، كما يقوم أيضاً "على الاغتصاب النفسي وتحفيظ النصوص الدينية التي تعوق العقل عن التفكير فيها حيث يعتمد الحفظ لهذه النصوص على البعد عن الفحص النقدي لحساب التسليم الإيماني واليقين الأعمى".
كما ربط الأخضر بين انتشار فتاوى التكفير وإهدار الدماء وانتشار هذا التعليم الذي تخصص في تخريج فقهاء الإرهاب ويقوم على محاربة العقل بالنقل وينقل كل الغرائز والعدوانية من غريزة الموت إلى الخوف من الجديد لتكفير الحداثة وقيمها وغرائز الحياة التي حررتها، حسب زعمه.
وفي هذا الصدد دعا إلى العمل على إقصاء كلمة (الكفار) من الفقه الإسلامي واعتبر هذه التسمية تفرقة عنصرية (!) وطالب بضرورة تدريس مادة حقوق الإنسان في كافة نواحي الحياة بجميع الدول العربية كما هو الحال في تونس لتحرير الوعي الإسلامي من قيمة الحلال والحرام!.
وخرج جمال البنا بكلامه الذي يردده منذ قديم بأنه إن كنا نريد التجديد الحقيقي للخطاب الديني فعلينا أن نلتزم بثلاثة أشياء ونتخلى عن ثلاثة أخرى.
أما الواجب الالتزام به فهو: أن نلتزم بالقرآن الكريم، والصحيح الثابت المنضبط بالقرآن من عمل الرسول وقوله، ثم استلهام "الحكمة".
أما الثلاثة الواجب التخلي عنها فهي: تفسير المفسرين للقرآن الكريم بدءاً من ابن عباس حتى سيد قطب، فليست هذه التفاسير في رأيه إلا إسقاطاً بشرياً على النص المعجز المقدس وهو أمر يكاد يكون شركاً؛ فضلاً عما وضعه المفسرون مما أطلقوا عليه "علوم القرآن" من نسخ أو أسباب نزول أو إيضاح المبهمات وغير ذلك مما يعد عنده افتئاتاً صريحاً على القرآن ميَّع إعجازه وأقحم معاني وقيما تخالف قيم القرآن نفسه!!، والأمر الثاني: هو الصورة التي يقدمها المحدثون للسنة من كلامهم على السند واعتباره ضابطاً للصحة والضعف بالنسبة للحكم على الحديث، فيرى البنا أنه يجب أن نترك الحكم على الحديث من خلال السند ونحل محله مقاييس القرآن ومعاييره؛ لأننا والكلام له بقبولنا الحديث من خلال السند نكون قد أدخلنا على السنة مئات من الأحاديث بالنسبة للصحاح، وآلافاً من الأحاديث بالنسبة لباقي كتب السنة تجافي بزعمه قيم القرآن وأخلاق الرسول، أما الأمر الثالث فهو أن نطرح آراء الفقهاء بمذاهبهم الأربعة، فليس من المعقول أن تظل آراؤهم وهم بشر يصيبون ويخطئون في إطار "اللامساس" بعد أن مر عليها أكثر من ألف عام.
هذا باختصار ما يراه جمال البنا لإصلاح الخطاب الإسلامي وتجديده، ولن يحدث تجديد جذري إلا بهذا!.
ليس البنا وحده، إنما هناك كثيرون هاجموا ثوابت الأمة وقيمها، ووصفوا للإسلام بأنه دين الإرهاب وهو المسؤول الأول عما نعانيه اليوم... إلى غير ذلك من افتراءات صارخة، وصل عددهم إلى ما يقارب مائتي مفكر وكاتب، معظمهم من الشيوعيين واللادينيين، ولم يحضر من سواهم سوى د.أحمد كمال أبو المجد، ود. محمد سليم العوا.


تحليق في عالم الخيال
ودارت كذلك معظم الكلمات والأبحاث في فضاء الخيال، واللغة الشعرية الانفعالية، والتنظير الأجوف، والتأطير الأعمى، والتفكيك الحداثي لمسميات غير مفهومة لتكريس هدف واحد، هو هزيمة الأمة في نهاية المطاف، والإلحاح على هذه النتيجة، وكأن المؤتمر قد انعقد لإعلان ذلك، ولم يجتهد هؤلاء التغريبيون في أن يقدموا دراسات تطبيقية عملية تبحث عن حلول ناجعة لأمراض المسلمين والعرب اليوم، أو تتحدث عن خطاب عملي جماعي، بدلاً من الاعتماد على الأحادية القاصرة كلغة رسمية للمؤتمر، وكأن كل واحد منهم ينعقُ في واد.
والخلاصة.. كلام أجوف، وتسطيح لهموم الأمة، وادِّعاء البكاء ولكن من دون أن تنزل من العين دمعة واحدة.


علامات الاستفهام على المؤتمر
ويبدو أنه منذ اللحظة الأولى للإعداد لهذا المؤتمر وتوقيته وطبيعة المدعوين له كانت هناك أمور أثارت توجس مثقفين مصريين وعرب وطنيين من المؤتمر بشكل دعاهم لوضع العشرات من علامات الاستفهام وإشارات الارتياب، ومن ثم الاعتذار عن عدم الحضور من البداية.
فقد وقع ستة من أبرز الكتاب في مصر على بيان يطرح أكثر من علامة استفهام حول هذا المؤتمر وعنوانه العام (الثقافة العربية من تحديات الحاضر إلى آفاق المستقبل)، حيث استغرب الستة وهم: (المستشار طارق البشري ود. عبد العظيم أنيس ود. رضوى عاشور وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني ومحمد البساطي) التعجل الشديد في عقد المؤتمر، الذي لم يخطط له مسبقاً ولا كان مدرجاً ضمن أنشطة المجلس الأعلى للثقافة.
كما عبروا عن استيائهم من تحاشي المؤتمر ذكر القضايا الأكثر إلحاحاً على مثقفي الأمة وشعوبها، خصوصاً احتلال العراق والإبادة اليومية للشعب الفلسطيني، والوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، ولم تطرح مسألة المخططات الأمريكية للهيمنة على المنطقة.
كما لخص الأديب الجزائري (طاهر وطار) في رده على دعوة وزير الثقافة المصري لحضور المؤتمر أسباب رفض كثير من المثقفين المشاركة في هذا المؤتمر، إذ رفض أن "يلعب المثقفون دور الفقهاء المكلفين بتجديد الخطاب الديني وتحريره من التطرف بحسب الأجندة الأمريكية"، وقال "إن الطريقة التي تمت بها الدعوة للمؤتمر كانت أشبه بلغة الاستدعاءات البوليسية"!.
وانتقد الطاهر وطار خلو محاور المؤتمر من قضية العراق رغم وجود نصف مليون جندي مدججين بالأسلحة في منطقتنا، ورصد الأديب الجزائري محاولات التلاعب التي تمارسها المؤسسة الثقافية على المثقفين العرب، وحذر من النزوع لتيار الثقافة الكونية الذي يفضي للانخراط في سياق السلام الوهمي والتطبيع مع الكيان الصهيوني.
وقد استغرب مثقفون أن تغلب على المؤتمر منذ جلسة الافتتاح حتى جلسة الختام قضية تجديد الخطاب الديني، وأن يكون لها الأولوية القصوى على سائر القضايا، ويجري الحديث حول حذف آيات من القرآن وكثير من النصوص الدينية والفقهية، وبالمقابل لا يثار أي حديث عن احتلال أراضي الأمة والهيمنة عليها.
وقد لفت هذا أنظار بعض الحاضرين فعلقوا عليه مدافعين عن الخط الذي سار عليه المؤتمر مثل الدكتور جابر عصفور والشاعر أدونيس، حيث دافع هؤلاء عن المخاوف التي أثيرت من تطابق توصيات المؤتمر مع الأجندة الأمريكية بقولهم: "إننا منذ أكثر من أربعين عاماً ننادي ونطالب بتجديد الخطاب الديني وتحديث المجتمع المدني و"الدمقرطة"، فهل إذا تطابقت الرؤية الأمريكية الجديدة مع ما سبق أن طرحناه يعتبروننا تابعين للأجندة الأمريكية؟!".


البيان الختامي والتوصيات..جلد الذات
وتضمن البيان الختامي للمؤتمر والذي جاء تحت عنوان (إعلان القاهرة الثقافي) تسع توصيات، نصفها يدعو لوحدة الثقافة العربية باعتبارهاً عاملاً رئيساً في وحدة الشعوب العربية وأساساً لتجديد المشروع الحضاري العربي، والنصف الثاني يتضمن توصيات تغريبية تفكيكية.
وبالنسبة للخطاب الديني، طالب المثقفون ب"أفق مجتمعي جديد يضمن حرية الاجتهاد الفكري المسؤول (...) الذي يرفض الوصايات التي تحتكر المقدسات القومية والدينية". واعتبروا أن ذلك "يمر عبر الوصول إلى الشروط الاجتماعية والثقافية التي تنتج خطاباً دينياً متطوراً منفتحاً على العصر يتجاوز الخطابات الدينية الركودية والمتزمتة التي أساءت إلى الإسلام والعرب والمسلمين".
وبشكل عام لوحظ أن النصف الأول من التوصيات شدد على إنجاز الاستقلال الوطني والقومي وتحرير فلسطين والتنديد بالاحتلال العسكري الأمريكي للعراق، وطالب المشاركون أيضا بإلغاء الأوضاع العرفية التي تحاصر الحريات العامة والإبداع وكذلك المطالبة بحرية الاجتهاد الفكري المسؤول وإصلاح التعليم وتطويره وخلق وعي قومي.
أما النصف الثاني فتضمن: الاعتراف بالفئات غير العربية وثقافتها (!)، و"تجاوز الخطابات الدينية الركودية والمتزمتة لإنتاج خطاب ديني متطور"!!
وقد انعكست العولمة والاستجابة للمطالب الأمريكية بشدة على بقية التوصيات مثل: تشديد المشاركين "على وحدة الحضارة الإنسانية" ورفض دعوات الانعزال عن العالم أو مناصبته العداء!!، وهذه الأخيرة لا تحتاج لوضوح في انسياقها للمطالب الأمريكية الداعية لوقف التحريض ضد الأمريكيين في الثقافة العربية.
والأعجب أن البيان الذي ألقاه وزير الأوقاف المصري حمدي زقزوق حول قضية تجديد الخطاب الديني تضمن بدوره الحديث عن عدم معادة الآخرين (المقصود الأمريكان بالطبع!)، حيث تحدث الوزير عن خمسة شروط لتجديد الخطاب الديني أربعة منها تحدث فيها عن مراعاة فقه الأولويات والتيسير والانفتاح على الآخر وإبراز الوجه الإنساني والحضاري.
أما الخامسة فكانت تنص على: (الوعي بأن التضامن الإسلامي لا يعني معاداة الآخرين وإعادة النظر في مصطلحات الفقهاء حول دار الحرب ودار السلام وغيرهما من المفاهيم)!
القضية بالتالي لا تحتاج إلى كثير وضوح.. فبعدما سعت أمريكا لتطويع الخطاب الديني الإسلامي بالقوة عبر تغيير مناهج التعليم الديني ووضع ضغوط عليه، أصبح من الضروري، الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي تغيير الخطاب الثقافي، خصوصاً أن العالم العربي والإسلامي يدرك أهمية الكلمة وخطورتها، والتغيير المنشود يمكن أن ياتي إذا وضع الأمريكان أيديهم في أيدي مثقفين علمانيين ويساريين عرب لهم عداء تاريخي مع الثقافة الإسلامية!
ويتصل بكل هذا ما يتردد عن إلغاء مادة الدين وأن تستبدل بها مادة الأخلاق وحوار الحضارات، وما يتردد عن إلغاء معاهد دينية والتضييق على مناهج التعليم الديني عموماً، وتدخل خبراء أمريكان في مناهج التعليم العام العربية.
لقد جاء المؤتمر في أوانه حقاً، لكن الأوراق التي تناولها أساءت إساءة بالغة إلى الخطاب الثقافي والإسلامي الذي جاءوا للكلام عن تجديده والتواصل من أجله، ولا أدل على ذلك من أن الطاهر وطار وهو كاتب جزائري يساري كتب إلى وزير الثقافة المصري ينتقد هذا المؤتمر، فأرجع د. جابر عصفور هذا النقد إلى انتماء الطاهر وطار إلى الجماعات الإسلامية الجزائرية!.
إن هذا المؤتمر وما انتهى إليه يهدم ما تقوم به مؤسسة مثل وزارة الأوقاف المصرية من ندوات ومؤتمرات لتجلية صورة الإسلام الصحيحة، ومواجهة التحديات المعاصرة للمسلمين في أنحاء المعمورة كان آخرها مؤتمر المجلس الأعلى الإسلامي الخامس عشر، الذي جاء تحت عنوان "مستقبل الأمة الإسلامية".
بالإضافة إلى أن ما جاء بالمؤتمر الثقافي وما دار فيه من ندوات يخالف مخالفة صريحة نصوص خطابات الرئيس المصري في المناسبات الإسلامية المختلفة من أن الإسلام دين السماحة ودين الحضارة الراقية، ودين المدنية والارتقاء.
كل ذلك يجعلنا نقول إنه كان مؤتمراً لترسيخ "ثقافة التآمر" على قيم الإسلام وثوابته، ولم يكن "مؤتمراً للثقافة"، وصدق الشاعر حين قال:

متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟

ولله در الآخر حين يقول:
فلو ألف بانٍ خلفهم هادمٌ كفى فكيف ببانٍ خلفه ألفُ هادم؟
على أن المؤتمر ذاته وفي جميع جلساته تقريباً أرجع الحالة التي تعيشها الشعوب العربية من تخلف وضعف إلى حالة الاستبداد السياسي الذي يعد سبباً في التخلف الثقافي والعلمي والحضاري.
وشهد المؤتمر إجماعاً على أن مشكلة الثقافة العربية الرئيسة تنبع من النظام السلطوي في العالم العربي وهو ما أكده في بحثه الدكتور خلدون النقيب تحت عنوان "ثقافة الهزيمة"" حيث أرجع الحالة التي نعيشها الآن من اضمحلال سياسي وفكري إلي الغطاء التاريخي للتحولات السياسة الدولية مع الساداتية والريجانية في نهاية السبعينيات ونتاج اعتناق نوع من الليبرالية التسلطية والخضوع للغرب فكريًا وفقدان المرجعية السياسية والثقافية.
مطلوب اليوم من المفكرين الإسلاميين الذين استُبعد معظمهم من حضور المؤتمر أن يقاتلوا في جبهتين: جبهة خارجية تمثلها القوى الغربية الأوروبية والأمريكية بما تمارسه من سياسات عدوانية وفلسفات منحرفة، وجبهة داخلية تتمثل في مواجهة مثل تلك الدعاوى والعمل على النهوض بالعقل المسلم والمحافظة على الهوية العربية والثوابت الإسلامية، ولا يجوز أن ننفلت بعيداً عن عقيدتنا وهويتنا التي تحفظ على الأمة تفردها، وتُبقي لها شخصيتها.

الاثنين، 29 سبتمبر 2008

الضوابط الشرعية للحديث بين الرجل والمرأة على الإنترنت

الضوابط الشرعية للحديث بين الرجل والمرأة على الإنترنت

وصفي عاشور أبو زيد

الحديث على الإنترنت بين الرجل والمرأة حكمه ـ في كثير من جوانبه ـ حكم الحديث مباشرة وجها لوجه، لا سيما وقد أتيح الآن الرؤية عن طريق الكاميرات المعروفة في هذا الشأن، وليس هناك فرق من حيث الشكل سوى عدم تحقق الخلوة التي هي ذريعة لارتكاب الفاحشة.
غير أن المحادثة عبر "الماسنجر" يعطي للرجل والمرأة على السواء بعض الأمن عبر بعد المسافة وعدم المواجهة ما يتيح لهما الجرأة في الطرح، والكلام فيما قد يُستَحَى الحديث فيه عبر المواجهة.

الحرام لذاته والحرام لغيره
وينبغي أن نفرق بين أمرين في حكم الحرام، وهو أن الحرام نوعان: حرام لذاتيه، وحرام لغيره، فالحرام لذاته هو الذي يحرم لذات الفعل مثل شرب الخمر والسرقة والزنا، والحرام لغيره ما كان حلالا في أصله لكن قد يطرأ عليه من المتغيرات والخارجيات ما ينقله من منطقة الحل إلى منطقة الحرمة.

الأصل الإباحة وقد يَرِدُ ما يُحَرِّم
ونستطيع أن نقول باطمئنان: إن لقاء الرجل بالمرأة وحديثهما معا لا يوجد دليل على حرمته الذاتية، لكن قد يطرأ عليه ما يجعله حراما، فالحرمة ـ إن وجدت هنا ـ كانت حرمة خارج الأمر لا نابعة من ذاته.

ضوابط عامة
ومن هنا وضع الفقهاء ضوابط لحديث الرجل مع المرأة، ووردت فيها الآيات الكريمة، مثل عدم الخضوع بالقول، والحشمة الشرعية بشروطها التي لا تشف ولا تصف وتشمل جميع البدن ما عدا الوجه والكفين في قول الجمهور، وحظر كل فعل أو قول يمكن أن يكون ذريعة لشعور بشهوة أو مقدمة للتفكير في المعاصي.

ضوابط خاصة
لكن في الحديث على الإنترنت عبر "الماسنجر" يستحب في هذه المنتديات أو تلك الأحاديث الدعوية أن يكون الرجال مع الرجال والنساء مع النساء، فهذا أسلم لدين الرجل والمرأة ما لم تدع إليه حاجة أو ضرورة، فإذا دعت الحاجة فينبغي أن نضيف بعض الضوابط التي تختص بهذا النوع من المحادثة على النحو التالي:

أولا: ألا يتطرق الحديث بتاتا إلى المعلومات الشخصية كأن يسأل أحدهما الآخر عن السن أو التعليم أو الحالة الاجتماعية ونحو ذلك.
ثانيا: أن يكون الموضوع يستحق الحديث ، ومن الجدة بموضع بعيدا عن مجرد المهاترات وشغل الوقت.
ثالثا: ألا يتعدى الحديث خارج إطار القضية المطروحة أو موضع المناقشة أو موضوع الحوار المتبادل.
رابعا: إذا شعر الرجل أو المرأة بميل قلبي أو تطرقت الشهوة إلى قلب أحدهما فعليه أن يكف عن الحديث ويقطع المكالمة فورا، وإلا وقع في حبائل الشيطان واتبع خطواته التي نهانا الله عن اتباعها.
خامسا: إذا أمكن الاكتفاء بالكتابة فهو أفضل، وإن كان هناك حاجة إلى الحديث بالصوت لاختصار الوقت مثلا وإنجاز المهام، فيجب مراعاة الضوابط الشرعية لذلك كعدم الخضوع بالقول أو ترقيق الصوت ونحوه.
وأخيرا كل إنسان على نفسه بصيرة، وكل فرد أعلم بنفسه ومدى ضعفها أو قوتا، فمَن علم مِن نفسه ضعفا، وخاف على نفسه الوقوع في مصائد الشيطان وجب عليه الكف عن المحادثة ، وإنقاذ نفسه، ومن ظنَّ في نفسه الثبات واليقين، فإننا نرى جواز هذا الأمر في حقِّه لكن بالشروط السابقة.
وينبغي للمرأة والرجل أن يعلما حكم أي فعل قبل الإقدام عليه ، والسؤال عن جوانبه المختلفة، فالعلم بحدود الله من أفضل ما يسعى الإنسان إلى تحصيله. والله أعلم.