تفجير النفس في العدو ...رؤية فقهية
وصفي عاشور أبو زيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الجهاد طريقة متبعة، وسنة ماضية، وفريضة محكمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولقد رفع الإسلام شأنه، وأعلى في الدنيا والآخرة ذكره، فجعله ذروة سنام الإسلام في أحكام الدنيا، وجعل صاحبه مع النبيين والصديقين والربانيين في أحكام الآخرة.
الجهاد في القرآن والسنة والتاريخ:
والقرآن الكريم تفيض من بينه الآيات التي تُوجب الجهاد وتحرض عليه، وتبين عاقبته وفضله في الدنيا والآخرة، بل إن سُوَرًا كاملةً سُميت بأسماء تُشير إليه وتدل عليه، مثل سورة "الأنفال" وهي من آثار القتال، وسورة "القتال" التي تعرف بسورة "محمد".
والسنة النبوية هي الأخرى حافلة بالأحاديث التي تُبين موقع هذه الفريضة الغائبة من الدين، وتبرز مكانة الشهيد ومنزلته في الجنة، وحسبنا قولُ النبي- صلى الله عليه وسلم-: "انتدب الله- عز وجل- لمن خرج في سبيله، لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل"([1]).
والتاريخ الإسلامي مليء بالقصص والمعارك البطولية التي جاد فيها أبطال المسلمين بأرواحهم ودمائهم، وقدموها رخيصةً في سبيل الله طلبًا لرضاه، وفوزًا بجنته، وحمايةً للأعراض، وذَوْدًا عن الحرمات، واستبقاء للأرض والمقدسات، حتى إن بعضهم كان يرمي تمرات في يده استعجالاً للشهادة وفوزًا بجنات النعيم.
وليس الجهاد مقصورًا على القتال فقط- كما شاع بين الناس اليوم- فإذا ذُكر الجهاد انصرفت الأذهان إلى المواجهة والقتال، والواقع أن الجهاد أشملُ من هذا بكثير، وقد نيَّفه العلامة المحقق "ابن قيم الجوزية" على عشرة أنواع في كتابه: "زاد المعاد".
وأساليب أعدائنا دائمًا في تطور وتقدم مذهل وسريع في المكر والخداع، والقوة والإعداد، والتخطيط والتدبير، ومطلوب من المعسكر الإسلامي أن يكون على نفس المستوى- إن لم يكن أعلى- من التخطيط والتدبير، والتقدم والتطور، ومسايرة هذه الأساليب، بل يجب سبقها وابتكار ما يقذف في قلوبهم الرعب والفزع، واستحداث ما يلقي في نفوسهم الرهبة والهلع؛ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ...﴾ (الأنفال:60).
نوع جديد من المقاومة:
ولقد أفرز العدوان الصهيوني في أرض البطولات ومحضن الرسالات الإلهية "فلسطين"- التي جعلها الله سببًا للصراع بين الحق والباطل على مر التاريخ- نوعًا جديدًا في شكله قديمًا في مضمونه من المقاومة لهذا الطغيان الهادر، والحاجة أمّ الاختراع كما يقولون.
هذا النوع عبارة عن: أن يذهب الشاب المسلم "مُقنبِلاً" نفسه، فيملأ حزامًا ناسفًا أو حقيبة أو سيارة بالمواد المتفجرة ثم يقتحم على العدو مكان تجمعهم أو يشاركهم في وسيلة من وسائل المواصلات ويتظاهر بالاستسلام لهم، ويوهمهم أنه واحد منهم، حتى إذا أيقن أنه سيقتل أكبر عدد ممكن ورأى الفرصة مواتيةً فجَّر ما يحمله من هذه المواد في نفسه ومن حوله فيخرُّون بين قتلى وجرحى، وحتمًا سيكون هذا الشاب من بين القتلى؛ لأنه يكون الأقرب إلى المادة المتفجرة.
اختلاف العلماء حوله:
وقد اختلف العلماء حول هذا النوع من المقاومة بين مجيز ومحرّض، ومانع ومحذّر، ومتوقّف متبين، وسوف نشير فيما يلي إلى رأيَين تلخَّصت فيهما- تقريبًا- آراء العلماء المعاصرين، يتبلور الأول في إجازة هذا النوع من المقاومة والتحريض عليه ومدِّه ومؤازرته بكل أنواع المؤازرة، إذ إن هذا الفريق رأى أن هذا النوع من المقاومة يُعد أرقى أنواع الجهاد في سبيل الله في هذا العصر.
والفريق الثاني يجيزها بضوابط وشروط ما تحققت فهي جائزة، وما لم تتحقق فهي ممنوعة، وقد يدخل صاحبها في زمرة المنتحِرين.
الرأي الأول:
يرى أصحاب هذا الرأي أن هذه العمليات من أرقى أنواع الشهادة في سبيل الله، وأنها جندٌ من جنوده سبحانه، وأنها هي التي أفقدت الصهاينة وأعوانهم الأمن والسلام، وقذفت في قلوبهم الرعب والفزع، وأحدثت توازن الرعب الذي نسمع عنه كثيرًا ونقرأ عنه أكثر، ولا تمت بصلة إلى الانتحار أو الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة.
ومن العلماء الذين أيدوا هذا الرأي: جبهة علماء الأزهر، ومجموعة من العلماء في الأردن، والدكتور "محمد الزحيلي" والدكتور "وهبة الزحيلي"، والدكتور "محمد سعيد رمضان البوطي"، والدكتور "نزار عبد القادر ريان"، والشيخ "عكرمة سعيد صبرى"، والدكتور "علي محمد الصوا"، والدكتور "همام سعيد"، والدكتور "يوسف القرضاوي"، والدكتور "جاسم عجيل النشمي"، والدكتور "عبد الرزاق الشايجي"، والداعية "فتحي يكن"، وشيخ قراء الشام "محمد كريم راجح"، والشيخ "محمد متولي الشعراوي"، والدكتور "إبراهيم البيومي"، والشيخ "عبد المجيد زيدان"، والشيخ "سلمان بن فهد العودة"، والدكتور "محمد عبد الحليم عمر"، والدكتور "جلال الدين عبد الرحمن"، والشيخ "جمال قطب"، والدكتور "محمد بلتاجي حسن"، والشيخ "فيصل مولوي"، والشيخ "عبد الوهاب الديلمي"، والشيخ "سليمان بن ناصر العلوان"، والدكتور "رفعت فوزي عبد المطلب"، وغير ذلك من علماء([2]).
وسوف نقتصر من هذا الفريق على فتوى الشيخ "يوسف القرضاوي"؛ لأنها أبينُها وأوضحُها، وأكثرها إيرادًا لأقوال الفقهاء والمفسرين، وأكثرها توضيحًا لهذا الرأي، وأيضًا فهي أدفع فتاوى هذا الرأي للشبهات.
يقول فضيلة الشيخ الدكتور "يوسف القرضاوي":
تساءل الكثيرون بعد التفجيرات الأخيرة التي تمت في القدس وتل أبيب وعسقلان، وقتل فيها من قتل من الصهيونيين، نتيجة العمليات الاستشهادية التي قام بها شباب من حركة المقاومة الإسلامية (حماس).. تساءلوا عن حُكم هذه العمليات التي يُسمونها (انتحارية) هل تُعد جهادًا في سبيل الله أو إرهابًا؟ وهل هؤلاء الشباب الذين يضحون بأنفسهم في هذه العمليات يعتبرون شهداء أو يعتبرون منتحرين؛ لأنهم قتلوا أنفسهم بأيديهم؟ وهل يعتبر عمل هؤلاء من باب الإلقاء باليد في التهلكة الذي نهى عنه القرآن في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة:195)؟!.
وأود أن أقول هنا: إن هذه العمليات تُعد من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله، وهي من الإرهاب المشروع الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال:60)، وتسمية هذه العمليات (انتحارية) تسمية خاطئة ومضللة، فهي عمليات فدائية بطولية استشهادية، وهي أبعد ما تكون عن الانتحار، ومن يقوم بها أبعد ما يكون عن نفسية المنتحر.
إن المنتحر يقتل نفسه من أجل نفسه، وهذا يقدم نفسه ضحيةً من أجل دينه وأمته، والمنتحر إنسان يائس من نفسه ومن روح الله، وهذا المجاهد إنسان كله أمل في روح الله تعالى ورحمته.. المنتحر يتخلص من نفسه ومن همومه بقتل نفسه، والمجاهد يقاتل عدو الله وعدوه بهذا السلاح الجديد، الذي وضعه القدَر في يد المستضعفين ليقاوموا به جبروت الأقوياء المستكبرين: أن يصبح المجاهد (قنبلة بشرية) تنفجر في مكان معين وزمان معين في أعداء الله والوطن، الذين يقفون عاجزين أمام هذا البطل الشهيد، الذي باع نفسه لله، ووضع رأسه على كفه، مبتغيًا الشهادة في سبيل الله.
فهؤلاء الشباب الذين يدافعون عن أرضهم- وهي أرض الإسلام- وعن دينهم وعرضهم وأمتهم- ليسوا بمنتحرين، بل أبعد ما يكونون عن الانتحار، وإنما هم شهداء حقًا، بذلوا أرواحهم- وهم راضون- في سبيل الله، ما دامت نياتهم لله، وما داموا مضطرين لهذا الطريق لإرعاب أعداء الله، المصرِّين على عدوانهم، المغرورين بقوتهم، وبمساندة القوى الكبرى لهم، والأمر كما قال الشاعر العربي قديمًا:
إذا لم يكن إلا الأسنةَ مركبٌ فما حيلة المضطر إلا ركوبها!
وليسوا بمنتحرين، وليسوا بإرهابيين، فهم يقاومون- مقاومة شرعية- من احتل أرضهم وشردهم وشرد أهلهم، واغتصب حقهم، وصادر مستقبلهم، ولا زال يُمارس عدوانه عليهم، ودينهم يفرض عليهم الدفاع عن أنفسهم، ولا يجيز لهم التنازل باختيارهم عن ديارهم، التي هي جزء من دار الإسلام.
ولا يعد عمل هؤلاء الأبطال من الإلقاء باليد إلى التهلكة، كما يتصور بعض البسطاء من الناس، بل هو عمل من أعمال المخاطرة المشروعة والمحمودة في الجهاد، يقصد به النكاية في العدو، وقتل بعض أفراده، وقذف الرعب في قلوب الآخرين، وتجرئة المسلمين عليهم.....ولا بأس أن أسوق هنا ما ذكره الفقهاء في هذا الجانب وما ذكره المفسرون في آية ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة:195).
ما قاله "الجصاص الحنفي":
قال الإمام "الجصاص الحنفي" في كتابه (أحكام القرآن) في تفسير هذه الآية: قد قيل فيه وجوه، أحدها: ما رواه بسنده عن أسلم بن عمران قال غزونا بالقسطنطينية وعلى الجماعة "عبد الرحمن بن الوليد"، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله! يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه الإٍسلام، فقلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة:195) فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد، قال أبوعمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية.. فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية في ذلك نزلت، ورُوي مثله عن ابن عباس وحذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.
ورُوي عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني... الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو اليأس من المغفرة بارتكاب المعاصي، وقيل: هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما يأكل ويشرب فيتلف، وقيل: هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو، وهو الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم "أبو أيوب" وأخبر فيه بالسَّبب، وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مراده بالآية لاحتمال اللفظ لها، وجواز اجتماعها من غير تضادّ ولا تناف.
فأما حمله على الرجل الواحد يحمل على حلبة العدو، فإن "محمد بن الحسن" ذكر في السير الكبير: أن رجلاً لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس، إذا كان يطمع في نجاة، أو نكاية، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، فإني أكره له ذلك، لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، ولكنه يجَرّئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل، فيقتلون ويغيظون العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله، لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة، لم أر بأسًا أن يحمل عليهم، فكذلك إذا طمع أن ينكى غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك، وأرجو أن يكون فيه مأجورًا، وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه، وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه مما يرهب العدو فلا بأس بذلك؛ لأن هذا أفضل النكاية، وفيه منفعة المسلمين.
ما قاله "القرطبي" المالكي:
وقال الإمام "القرطبي" المالكي في تفسيره: اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال "القاسم بن مخيرة" و"القاسم بن محمد" و"عبد الملك" من علمائنا: لا بأس أن يُحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة.
وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فيُحمل؛ لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بيِّنٌ في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ (البقرة من الآية 207).
قال "القرطبي": ومن هذا ما رُوي أن رجلاً قال للنبي- صلى الله عليه وسلم-: أرأيت إن قُتلت في سبيل الله صابرًا محتسبًا؟ قال: (فلك الجنة)، فانغمس في العدو حتى قتل، ثم ذكر "القرطبي" كلمةَ "محمد بن الحسن"، التي نقلها "الجصَّاص".
ما قاله "الرازي" الشافعيّ:
وقال الإمام "الرازي" الشافعي في تفسيره: المراد من قوله ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة من الآية 195) أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع، ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم، فإن ذلك لا يحلّ، وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فأمَّا إذا كان آيسًا من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول فليس له أن يُقدِم عليه، وهذا الوجه منقول عن "البراء بن عازب"، ونُقل عن "أبي هريرة"- رضي الله عنه- أنه قال في هذه الآية: هو الرجل يستقلّ بين الصفَّين. قال "الرازي": ومن الناس من طَعن في هذا التأويل، وقال: هذا القتل غير محرم، واحتج عليه بوجوه:
(الأول) روي أن رجلاً من المهاجرين حُمل على صف العدو فصاح به الناس: ألقى بيده إلى التهلكة! فقال "أبو أيوب الأنصاري": نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا.. وذكر خلاصة ما حكاه "الجصَّاص" في سبب نزول الآية.
(والثاني) روى "الشافعي" رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذكر الجنَّة، فقال له رجل من الأنصار: أرأيت، يا رسول الله، إن قُتلت صابرًا محتسبًا؟ قال- عليه الصلاة والسلام-: لك الجنة. فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله.. وإن رجلاً من الأنصار ألقَى درعًا كانت عليه حين ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- الجنة، ثم انغمس في العدو فقتله.
(والثالث) روي أن رجلاً من الأنصار تخلَّف عن بني "معاية"، فرأى الطير عطوفًا على من قُتل من أصحابه، فقال لبعضِ من معه: سأتقدَّم إلى العدو فيقتلونني، ولا أتخلَّف عن مشهد قُتل فيه أصحابي، ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم-، فقال فيه قولاً حسنًا.
(الرابع) روي أن قومًا حاصروا حِصنًا، فقاتل رجل حتى قتل، فقيل: ألقى بيده إلى التهلكة، فبلغ "عمر بن الخطاب"- رضي الله عنه- ذلك فقال: كَذَبوا أليس يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ (البقرة من الآية207)، ولمن نصر ذلك التأويل أن يجيب عن هذه الوجوه فيقول: إنا إنما حرمنا إلقاء النفس في صف العدو إذا لم يتوقع إيقاع نكاية فيهم، فأما إذا توقع فنحن نجوّز ذلك.
ما رواه "ابن كثير" و"الطبري":
روى الحافظ "ابن كثير" أن رجلاً قال لـ"البراء بن عازب" الأنصاري: إن حملت على العدو فقتلوني أكنت ألْقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا، قال الله لرسوله: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ (النساء:84)، وإنما هذه في النفقة، أي في ترك النفقة في الجهاد.
وروى الإمام "الطبري" بسنده في تفسيره عن أبي إسحاق السبيعي قال: قلت للبراء بن عازب (الصحابي): يا أبا عمارة، الرجل يلقَى ألفًا من العدو، فيُحمل عليهم، وإنما هو وحده (يعني: أنه مقتول في العادة لا محالة) أيكون ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾؟ فقال: لا، ليقاتل حتى يُقتل، قال الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ (النساء:84).
ما قاله "ابن تيمية":
وذكر نحو ذلك شيخ الإسلام "ابن تيمية"- في فتواه المشهورة في قتال التتار-، مستدلاً بما روى مسلم في صحيحه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- من قصة أصحاب الأخدود، وفيها: أن الغلام أَمر بقتل نفسه؛ لأجل مصلحة ظهور الدين (حين طلب إليهم أن يرموه بالسهم ويقولوا: باسم الله رب الغلام)، قال: ولهذا جوَّز الأئمة الأربعةُ أن ينغمس المسلم في صف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحةٌ للمسلمين.
ما قاله "الشوكاني":
وقال الإمام الشوكاني في تفسيره (فتح القدير): والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلُكة في الدين أو في الدنيا فهو داخل في هذا، ومن جملة ما يدخل تحت الآية: أن يقتحم الرجل في الحرب فيُحمل على الجيش، مع عدم قدرته على التخلُّص، وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين، ومعنى هذا: أنَّه إذا كان لاقتحامه أثر ينفع المجاهدين- كإرهاب العدو وإفزاعه- لم يُعدّ هذا في التهلكة.
ما قاله صاحب تفسير المنار:
وفي عصرنا قال العلامة "رشيد رضا" في تفسير المنار: "ويدخل في النهي الدخول في الحرب بغير علم بالطُّرق الحربية، التي يعرفها العدو، كما يدخل فيه كلُّ مخاطرة غير مشروعة، بأن تكون لاتباع الهوى لا لنصر الحق وتأييده" .
ومفهوم هذا أن المُخاطَرة المشروعة المحسوبة- التي يرجى بها إرهاب عدو الله وعدوّنا، ويُبْتَغَى فيها نصر الحق لا اتباع الهوى- لا تكون من الإلقاء باليد إلى التهلكة.
أعتقد أن الحق قد تَبَيَّن، وتبين الصبح لذي العينين، وأن هذه الأقوال كلها ترد على أولئك المتطاولين، الذين اتهموا هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، والذين باعوا أنفسهم لله، وقُتلوا في سبيله بأنهم قد انتحروا، وألقوا بأيديهم إلى التهلكة، فهم- إن شاء الله- في طليعة الشهداء عند الله، وهم العنصر الحيّ المعبّر عن حيوية الأمة، وإصرارها على المقاومة، وأنها حية لا تموت، باقية لا تزول.
كل ما نطلبه هنا أن تكون هذه العمليات الاستشهادية بعد دراسة وموازنة لإيجابياتها وسلبياتها، وينبغي أن يتم ذلك عن طريق تفكير جماعي من مسلمين ثقات، فإذا وجدوا الخير
في الإقدام أقدموا وتوكلوا على الله ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:49). انتهت الفتوى، والله أعلم.
الرأي الثاني:
ويضع أصحاب هذا الرأي بعض الشروط التي يجب أن تتوافر في هذا النوع من المقاومة، على رأسهم الشيخ "حسن أيوب"، والشيخ "محمد ناصر الدين الألباني".
فتوى الشيخ "حسن أيوب":
يرى الشيخ "حسن أيوب" ـ رحمه الله ـ أن من ألقى نفسه في الهلاك لصالح دينه أو لصالح المسلمين، فقد فدى دينه وإخوانَه بنفسه، وذلك غاية التضحية وأعلاها، فكم للمسلمين الأوائل من مواقف مشهودة كلها تضحية وفداء، وبذلك تستطيع أن تجيز ما يعمله الفدائي في عصرنا هذا من أعمال يذهب هو ضحيتها بعد أن يكون قد نكل بالعدو ودمر، وذلك مثل: إغراق سفينة بمن فيها من الأعداء وهو معهم، احتلال فندق لقتل من فيه من المقاتلين وهو يعلم أنه يقتل معهم، وضع المتفجرات في معسكر أو في مصنع حربي، أو في إدارة عسكرية للقضاء على من فيها وهو يعلم أنه لا نجاة له إلى آخر مثل هذه الأمور.
ولكن لا يجوز أن يلتفَّ بحزام ناسف لينسف نفسه ومن بجواره، والفرق أن الأصل في الحالة الأولى أنه يقتل عدوه، وجاء قتله تبعًا لذلك، ولذلك لو استطاع الهروب من القتل والنجاة بعد التفجير وجب عليه ذلك، أما الحالة الثانية فالأصل فيها قتل نفسه أولاً ليقتل غيره، وقد لا يقتل هذا الغير لسبب من الأسباب، وإقدامه على قتل نفسه ابتداءً لا يحل في مثل هذه الظروف([3]).
فتوى الشيخ "الألباني":
وقد تعرّض العلامة "الألباني"- رحمه الله- إلى تطاول البعض، فنسبوا إليه زورًا وبهتانًا أنّه حكم على من يُقتَل في عمليّة تفجير- يقوم بها في صفوف العدو- بالانتحار، والشيخ بريء من ذلك، ومن فتاواه في هذا الباب ما هو مثبت بصوته([4])، حيث سُئل- رحمه الله- سؤالاً قال صاحبه: هناك قوات تسمَّى بالكوماندوز، فيكون فيها قوات للعدو تضايق المسلمين، فيضعون- أي المسلمون- فرقة انتحارية تضع القنابل ويدخلون على دبابات العدو، ويكون هناك قتل... فهل يعد هذا انتحارًا؟ فأجاب بقوله: "لا يُعد هذا انتحارًا؛ لأنّ الانتحار هو أن يقتل المسلم نفسه خلاصًا من هذه الحياة التعيسة، أما هذه الصورة التي أنت تسأل عنها فليست انتحارًا، بل هذا جهاد في سبيل اللّه، إلا أن هناك ملاحظة يجب الانتباه لها، وهي أن هذا العمل لا ينبغي أن يكون فرديًّا شخصيًّا، إنما هذا يكون بأمر قائد الجيش، فإذا كان قائد الجيش يستغني عن هذا الفدائي، ويرى أن في خسارته ربحًا كبيرًا من جهة أخرى، وهو إفناء عدد كبير من المشركين والكفار، فالرأي رأيه، وتجب طاعته، حتى ولو لم يرضَ هذا الإنسان فعليه الطاعة".
إلى أن قال: "الانتحار من أكبر المحرَّمات في الإسلام؛ لأنّه لا يفعله إلا غضبان على ربه ولم يرض بقضاء اللّه، أما هذا فليس انتحارًا، كما كان يفعله الصحابة.. يهجم الرجل على جماعة من الكفار بسيفه، ويعمل فيهم بالسيف حتى يأتيه الموت وهو صابر؛ لأنه يعلم أن مآله إلى الجنة، فشتَّان بين من يقتل نفسه بهذه الطريقة الجهادية وبين من يتخلص من حياته بالانتحار، أو يركب رأسه ويجتهد بنفسه، فهذا يدخل في باب إلقاء النفس في التهلكة". ويركز الشيخ على حتمية وجود القائد، وإلا فلا يجوز أي نوع من أنواع المقاومة. انتهى.
مناقشة الفتويين:
يفرق الشيخ "حسن أيوب" بين من يغرق سفينة وهو منهم، وبين من يفجِّر في نفسه بين الأعداء حزامًا ناسفًا، فيُجيز الأولى ويحرِّم الثانية، ووجه ذلك عنده أن الأصل في الحالة الأولى أنه يقتل عدوه، وجاء قتله تبعًا لذلك، أما الحالة الثانية فالأصل فيها قتل نفسه أولاً ليقتل غيره، وقد لا يقتل هذا الغيرَ لسبب من الأسباب.
والذي نراه أن أقوال الفقهاء في الاقتحام على العدو اقتحامًا لا تُرجى معه نجاة تتَّسع لهذا النوع الذي حرمه الشيخ ما دام يغلب على الظن النكاية بالأعداء، بل إن هذا النوع هو الأكثر نكايةً بالأعداء، حيث يتحكم المجاهد مع هذا النوع في الوقت المناسب والمكان المناسب؛ فيكون أكثر نكاية بالأعداء.
أما القول بأن المجاهد في هذا النوع يقتل نفسه وقد لا يقتل غيره فهذا وارد في أي من الحالتين، فهو مجرد ظن لا اعتبار له؛ وذلك لأن الحكم يُعطَى لغلبة الظن، ويغلب الظن بل يتأكد أن نوع الحزام الناسف وما شابهه من أنكى الوسائل بالأعداء، كما أثبت الواقع ويثبت.
أما رأْي الشيخ "الألباني" فنتفق معه في إباحة هذا النوع من المقاومة أصلاً، وإلا لم تكن جائزة بإذن الإمام؛ لأن طاعة الإمام في دائرة المباحات، وإلاَّ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذا مفهوم رأْي الشيخ ابتداءً.
أمَّا ما يشترطه الشيخ من إذْن الإمام فهذا ما يحتاج إلى مناقشة، هل اشترط الفقهاء وجود خليفة لجواز القتال، وما حكم القتال حال وجوده دون إذنه؟ والحقيقة أنه لم يرِدْ عن أحد من العلماء اشتراط وجود خليفة لجواز قتال الأعداء، بل إن كثيرًا من الأحداث في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- تدل دلالةً واضحةً على عدم اشتراط وجود وليّ أمر لمباشرة القتال، ومن ذلك قصة "أبي بصير" ومن معه من المستضعفين([5]).
أما القتال بغير إذن الإمام حال وجوده فقد قال "الخطيب الشربيني" من فقهاء الشافعية: "يكره غزوٌ بغير إذن الإمام أو نائبه تأدبًا معه، ولأنه أعرفُ من غيره بمصالح الجهاد، وإنما لم يحرم لأنه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفوس وهو جائز في الجهاد، وينبغي كما قال "الأذرعي" تخصيص ذلك بالمتطوعة، أما المرتزقة فلا يجوز لهم ذلك؛ لأنهم مرصدون لمهمّات تعرض للإسلام، يصرفهم فيها الإمام فهم بمنزلة الأُجَراء".
ثم قال "الشربيني": "تنبيه: استثنى "البلقيني" من الكراهة صورًا:
أحدها: أن يفوت المقصود بذهابه للاستئذان.
ثانيها: إذا عطل الإمام الغزو، وأقبل هو وجنوده على أمور الدنيا كما يشاهَد.
ثالثها: إذا غلب على ظنه أنه لو استأذنه لم يأذن له"([6]).
وقال "ابن قدامة": "إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين فوجب على الجميع، فلم يجز لأحد التخلُّف عنه، فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر الحرب موكول إليه وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يرجع إلى رأيه؛ لأنه أحوط للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه لمفاجأة عدوهم لهم فلا يجب استئذانه؛ لأن المصلحة تتعين في قتالهم والخروج إليهم، ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي- صلى الله عليه وسلم- فصادفهم "سلمة بن الأكوع" خارجًا من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن فمدحه النبي- صلى الله عليه وسلم-، وقال: خيرُ رجالَتنا "سلمة بن الأكوع"، وأعطاه سهم فارس وراجل"([7]).
ومعنى ذلك أن الأمر ليس محرَّمًا على إطلاقه، كما ذهب الشيخ "الألباني"، فالأمر يدور مع تحقيق المصلحة والنكاية كما ذكر الفقهاء.
أثر السياسة في آراء بعض العلماء في هذه المسألة:
الفريقان السابقان الأول منهم أجاز وحرَّض، والثاني منهم من منع ومنهم من أجاز بشروط، لكن هناك فريقًا من العلماء الذين يُعدون رموزًا للإسلام ومراجع له داروا مع السلطان ولم يدوروا مع القرآن، فأباحوه عامًا وحرموه عامًا، كما تمليه عليهم رغبات الحكام وشهواتهم.
وللسياسة دور منذ القدم في اختلاف الفقهاء، وأثر واضح في التحليل والتحريم في الفتاوى الصادرة، وهذا ناتج عن الضعف النفسي والإيماني لهؤلاء العلماء فيُثنيهم الوعد، ويرهبهم الوعيد، ويتزلفون وينافقون، حتى لو كان على حساب الدين، فيبيعون دينهم بدنيا غيرهم، أو يبيعون دينهم بعرض من الدنيا.
وهذا الأمر- أعني أثر السياسة- في حاجة إلى باحث جاد وواعد يتناوله على مدى تاريخنا الإسلامي، ويبين ما للسياسة والسلطان من أثَر ملحوظ في اختلاف الفقهاء.
تسميتها بـ"الاستشهادية" لا يصح ابتداءً:
ومن الأمور التي شاعت مع ظهور الانتفاضة والمقاومة عموما أن أيّ فتوى تظهر أو أي بحث يُطبع، دائمًا ما يعنون بـ"العمليات الاستشهادية"، فيقال حكم العمليات الاستشهادية، أو العمليات الاستشهادية في الميزان، حتى السؤال نفسه الذي يوجهه البعض لأهل العلم يكون بهذا الشكل: ما حكم العمليات الاستشهادية؟ وهذا لا يصح لا عقلاً ولا شرعًا؛ لأننا إذا قلنا العمليات الاستشهادية حلال، فما الذي أفادته كلمة حلال بعد قولنا "استشهادية"؟، وإذا كانت "استشهادية" فلماذا نسأل عن حكمها؟ و"الاستشهاد" معروف حكمه في الإسلام، سواءٌ في أحكام الدنيا أو أحكام الآخرة.
ولهذا آثرنا أن نسمي البحث "تفجير النفس في العدو"؛ لأن هذا هو طبيعة الفعل الذي يقوم به المقاوم، ومن ثم يتطلَّب حكمًا شرعيًا، فيفتي العلماء ويحكمون على هذا الفعل بالاستشهاد أو بغير ذلك.
الحكم على أي عمل يتوقف على النيَّة:
والحكم على هذا النوع من المقاومة- بل على أي عمل- يتوقف على نية صاحبه، وهذا هو محك الخلاف بين من قال إنه انتحار ومن قال إنه استشهاد، وبه ينحسم الخلاف بين الفريقين.
عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلَّم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال كذبت. ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال كذبت ولكنك فعلت ليُقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار"([8]).
إذا تبيّن ذلك فإن نفسيَّة المنتحر ونيَّته تخْتلف تمامًا عن نية المقاوِم ونفسيَّته، فإذا كان المنتحِر معترضًا على قضاء الله ومتسخِّطًا على قدَره، فإن الاستشهاديّ قدَرٌ من أقدار الله وجُند من جنوده يُبطل الله به كيدَ الكافرين، ويُدخِل به الرعبَ والفزع في قلوب المعتدين؛ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
([1])أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. كتاب الإيمان. باب الجهاد من الإيمان.
([2])اعتمدتُ في ذكر أسماء هؤلاء العلماء لهذا الرأي والرأي التالي على كتاب: "العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي" لنواف هايل تكروري، طبْع مركز الإعلام العربي بالقاهرة. رقم 23 ضمن سلسلة كتاب القدس- الطبعة الأولى 1424هـ، وموقعَي: المركز الفلسطيني للإعلام وإسلام أون لاين.
([3]) انظر: الجهاد والفدائية في الإسلام للشيخ "حسن أيوب": 243-244 نقلاً عن العمليات الاستشهادية: 94-95.
([4]) في الشريط الرابع والثلاثين بعد المائة من سلسلة الهدى والنور.
([5]) انظر تاريخ الطبري: 2/125. دار الكتب العلمية. بيروت. ط أولى 1407هـ، وسيرة ابن هشام: 4/292. تحقيق طه عبد الرءوف سعد. دار الجيل بيروت ط أولى 1411هـ.
([6]) مغني المحتاج: 4/220. دار الفكر. بيروت.
([7]) المغني: 9/174. دار الفكر بيروت. ط أولى. 1405هـ.
([8]) رواه مسلم. كتاب الإمارة. باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار.
وصفي عاشور أبو زيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الجهاد طريقة متبعة، وسنة ماضية، وفريضة محكمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولقد رفع الإسلام شأنه، وأعلى في الدنيا والآخرة ذكره، فجعله ذروة سنام الإسلام في أحكام الدنيا، وجعل صاحبه مع النبيين والصديقين والربانيين في أحكام الآخرة.
الجهاد في القرآن والسنة والتاريخ:
والقرآن الكريم تفيض من بينه الآيات التي تُوجب الجهاد وتحرض عليه، وتبين عاقبته وفضله في الدنيا والآخرة، بل إن سُوَرًا كاملةً سُميت بأسماء تُشير إليه وتدل عليه، مثل سورة "الأنفال" وهي من آثار القتال، وسورة "القتال" التي تعرف بسورة "محمد".
والسنة النبوية هي الأخرى حافلة بالأحاديث التي تُبين موقع هذه الفريضة الغائبة من الدين، وتبرز مكانة الشهيد ومنزلته في الجنة، وحسبنا قولُ النبي- صلى الله عليه وسلم-: "انتدب الله- عز وجل- لمن خرج في سبيله، لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل"([1]).
والتاريخ الإسلامي مليء بالقصص والمعارك البطولية التي جاد فيها أبطال المسلمين بأرواحهم ودمائهم، وقدموها رخيصةً في سبيل الله طلبًا لرضاه، وفوزًا بجنته، وحمايةً للأعراض، وذَوْدًا عن الحرمات، واستبقاء للأرض والمقدسات، حتى إن بعضهم كان يرمي تمرات في يده استعجالاً للشهادة وفوزًا بجنات النعيم.
وليس الجهاد مقصورًا على القتال فقط- كما شاع بين الناس اليوم- فإذا ذُكر الجهاد انصرفت الأذهان إلى المواجهة والقتال، والواقع أن الجهاد أشملُ من هذا بكثير، وقد نيَّفه العلامة المحقق "ابن قيم الجوزية" على عشرة أنواع في كتابه: "زاد المعاد".
وأساليب أعدائنا دائمًا في تطور وتقدم مذهل وسريع في المكر والخداع، والقوة والإعداد، والتخطيط والتدبير، ومطلوب من المعسكر الإسلامي أن يكون على نفس المستوى- إن لم يكن أعلى- من التخطيط والتدبير، والتقدم والتطور، ومسايرة هذه الأساليب، بل يجب سبقها وابتكار ما يقذف في قلوبهم الرعب والفزع، واستحداث ما يلقي في نفوسهم الرهبة والهلع؛ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ...﴾ (الأنفال:60).
نوع جديد من المقاومة:
ولقد أفرز العدوان الصهيوني في أرض البطولات ومحضن الرسالات الإلهية "فلسطين"- التي جعلها الله سببًا للصراع بين الحق والباطل على مر التاريخ- نوعًا جديدًا في شكله قديمًا في مضمونه من المقاومة لهذا الطغيان الهادر، والحاجة أمّ الاختراع كما يقولون.
هذا النوع عبارة عن: أن يذهب الشاب المسلم "مُقنبِلاً" نفسه، فيملأ حزامًا ناسفًا أو حقيبة أو سيارة بالمواد المتفجرة ثم يقتحم على العدو مكان تجمعهم أو يشاركهم في وسيلة من وسائل المواصلات ويتظاهر بالاستسلام لهم، ويوهمهم أنه واحد منهم، حتى إذا أيقن أنه سيقتل أكبر عدد ممكن ورأى الفرصة مواتيةً فجَّر ما يحمله من هذه المواد في نفسه ومن حوله فيخرُّون بين قتلى وجرحى، وحتمًا سيكون هذا الشاب من بين القتلى؛ لأنه يكون الأقرب إلى المادة المتفجرة.
اختلاف العلماء حوله:
وقد اختلف العلماء حول هذا النوع من المقاومة بين مجيز ومحرّض، ومانع ومحذّر، ومتوقّف متبين، وسوف نشير فيما يلي إلى رأيَين تلخَّصت فيهما- تقريبًا- آراء العلماء المعاصرين، يتبلور الأول في إجازة هذا النوع من المقاومة والتحريض عليه ومدِّه ومؤازرته بكل أنواع المؤازرة، إذ إن هذا الفريق رأى أن هذا النوع من المقاومة يُعد أرقى أنواع الجهاد في سبيل الله في هذا العصر.
والفريق الثاني يجيزها بضوابط وشروط ما تحققت فهي جائزة، وما لم تتحقق فهي ممنوعة، وقد يدخل صاحبها في زمرة المنتحِرين.
الرأي الأول:
يرى أصحاب هذا الرأي أن هذه العمليات من أرقى أنواع الشهادة في سبيل الله، وأنها جندٌ من جنوده سبحانه، وأنها هي التي أفقدت الصهاينة وأعوانهم الأمن والسلام، وقذفت في قلوبهم الرعب والفزع، وأحدثت توازن الرعب الذي نسمع عنه كثيرًا ونقرأ عنه أكثر، ولا تمت بصلة إلى الانتحار أو الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة.
ومن العلماء الذين أيدوا هذا الرأي: جبهة علماء الأزهر، ومجموعة من العلماء في الأردن، والدكتور "محمد الزحيلي" والدكتور "وهبة الزحيلي"، والدكتور "محمد سعيد رمضان البوطي"، والدكتور "نزار عبد القادر ريان"، والشيخ "عكرمة سعيد صبرى"، والدكتور "علي محمد الصوا"، والدكتور "همام سعيد"، والدكتور "يوسف القرضاوي"، والدكتور "جاسم عجيل النشمي"، والدكتور "عبد الرزاق الشايجي"، والداعية "فتحي يكن"، وشيخ قراء الشام "محمد كريم راجح"، والشيخ "محمد متولي الشعراوي"، والدكتور "إبراهيم البيومي"، والشيخ "عبد المجيد زيدان"، والشيخ "سلمان بن فهد العودة"، والدكتور "محمد عبد الحليم عمر"، والدكتور "جلال الدين عبد الرحمن"، والشيخ "جمال قطب"، والدكتور "محمد بلتاجي حسن"، والشيخ "فيصل مولوي"، والشيخ "عبد الوهاب الديلمي"، والشيخ "سليمان بن ناصر العلوان"، والدكتور "رفعت فوزي عبد المطلب"، وغير ذلك من علماء([2]).
وسوف نقتصر من هذا الفريق على فتوى الشيخ "يوسف القرضاوي"؛ لأنها أبينُها وأوضحُها، وأكثرها إيرادًا لأقوال الفقهاء والمفسرين، وأكثرها توضيحًا لهذا الرأي، وأيضًا فهي أدفع فتاوى هذا الرأي للشبهات.
يقول فضيلة الشيخ الدكتور "يوسف القرضاوي":
تساءل الكثيرون بعد التفجيرات الأخيرة التي تمت في القدس وتل أبيب وعسقلان، وقتل فيها من قتل من الصهيونيين، نتيجة العمليات الاستشهادية التي قام بها شباب من حركة المقاومة الإسلامية (حماس).. تساءلوا عن حُكم هذه العمليات التي يُسمونها (انتحارية) هل تُعد جهادًا في سبيل الله أو إرهابًا؟ وهل هؤلاء الشباب الذين يضحون بأنفسهم في هذه العمليات يعتبرون شهداء أو يعتبرون منتحرين؛ لأنهم قتلوا أنفسهم بأيديهم؟ وهل يعتبر عمل هؤلاء من باب الإلقاء باليد في التهلكة الذي نهى عنه القرآن في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة:195)؟!.
وأود أن أقول هنا: إن هذه العمليات تُعد من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله، وهي من الإرهاب المشروع الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال:60)، وتسمية هذه العمليات (انتحارية) تسمية خاطئة ومضللة، فهي عمليات فدائية بطولية استشهادية، وهي أبعد ما تكون عن الانتحار، ومن يقوم بها أبعد ما يكون عن نفسية المنتحر.
إن المنتحر يقتل نفسه من أجل نفسه، وهذا يقدم نفسه ضحيةً من أجل دينه وأمته، والمنتحر إنسان يائس من نفسه ومن روح الله، وهذا المجاهد إنسان كله أمل في روح الله تعالى ورحمته.. المنتحر يتخلص من نفسه ومن همومه بقتل نفسه، والمجاهد يقاتل عدو الله وعدوه بهذا السلاح الجديد، الذي وضعه القدَر في يد المستضعفين ليقاوموا به جبروت الأقوياء المستكبرين: أن يصبح المجاهد (قنبلة بشرية) تنفجر في مكان معين وزمان معين في أعداء الله والوطن، الذين يقفون عاجزين أمام هذا البطل الشهيد، الذي باع نفسه لله، ووضع رأسه على كفه، مبتغيًا الشهادة في سبيل الله.
فهؤلاء الشباب الذين يدافعون عن أرضهم- وهي أرض الإسلام- وعن دينهم وعرضهم وأمتهم- ليسوا بمنتحرين، بل أبعد ما يكونون عن الانتحار، وإنما هم شهداء حقًا، بذلوا أرواحهم- وهم راضون- في سبيل الله، ما دامت نياتهم لله، وما داموا مضطرين لهذا الطريق لإرعاب أعداء الله، المصرِّين على عدوانهم، المغرورين بقوتهم، وبمساندة القوى الكبرى لهم، والأمر كما قال الشاعر العربي قديمًا:
إذا لم يكن إلا الأسنةَ مركبٌ فما حيلة المضطر إلا ركوبها!
وليسوا بمنتحرين، وليسوا بإرهابيين، فهم يقاومون- مقاومة شرعية- من احتل أرضهم وشردهم وشرد أهلهم، واغتصب حقهم، وصادر مستقبلهم، ولا زال يُمارس عدوانه عليهم، ودينهم يفرض عليهم الدفاع عن أنفسهم، ولا يجيز لهم التنازل باختيارهم عن ديارهم، التي هي جزء من دار الإسلام.
ولا يعد عمل هؤلاء الأبطال من الإلقاء باليد إلى التهلكة، كما يتصور بعض البسطاء من الناس، بل هو عمل من أعمال المخاطرة المشروعة والمحمودة في الجهاد، يقصد به النكاية في العدو، وقتل بعض أفراده، وقذف الرعب في قلوب الآخرين، وتجرئة المسلمين عليهم.....ولا بأس أن أسوق هنا ما ذكره الفقهاء في هذا الجانب وما ذكره المفسرون في آية ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة:195).
ما قاله "الجصاص الحنفي":
قال الإمام "الجصاص الحنفي" في كتابه (أحكام القرآن) في تفسير هذه الآية: قد قيل فيه وجوه، أحدها: ما رواه بسنده عن أسلم بن عمران قال غزونا بالقسطنطينية وعلى الجماعة "عبد الرحمن بن الوليد"، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله! يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه الإٍسلام، فقلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة:195) فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد، قال أبوعمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية.. فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية في ذلك نزلت، ورُوي مثله عن ابن عباس وحذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.
ورُوي عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني... الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو اليأس من المغفرة بارتكاب المعاصي، وقيل: هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما يأكل ويشرب فيتلف، وقيل: هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو، وهو الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم "أبو أيوب" وأخبر فيه بالسَّبب، وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مراده بالآية لاحتمال اللفظ لها، وجواز اجتماعها من غير تضادّ ولا تناف.
فأما حمله على الرجل الواحد يحمل على حلبة العدو، فإن "محمد بن الحسن" ذكر في السير الكبير: أن رجلاً لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس، إذا كان يطمع في نجاة، أو نكاية، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، فإني أكره له ذلك، لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، ولكنه يجَرّئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل، فيقتلون ويغيظون العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله، لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة، لم أر بأسًا أن يحمل عليهم، فكذلك إذا طمع أن ينكى غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك، وأرجو أن يكون فيه مأجورًا، وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه، وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه مما يرهب العدو فلا بأس بذلك؛ لأن هذا أفضل النكاية، وفيه منفعة المسلمين.
ما قاله "القرطبي" المالكي:
وقال الإمام "القرطبي" المالكي في تفسيره: اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال "القاسم بن مخيرة" و"القاسم بن محمد" و"عبد الملك" من علمائنا: لا بأس أن يُحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة.
وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فيُحمل؛ لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بيِّنٌ في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ (البقرة من الآية 207).
قال "القرطبي": ومن هذا ما رُوي أن رجلاً قال للنبي- صلى الله عليه وسلم-: أرأيت إن قُتلت في سبيل الله صابرًا محتسبًا؟ قال: (فلك الجنة)، فانغمس في العدو حتى قتل، ثم ذكر "القرطبي" كلمةَ "محمد بن الحسن"، التي نقلها "الجصَّاص".
ما قاله "الرازي" الشافعيّ:
وقال الإمام "الرازي" الشافعي في تفسيره: المراد من قوله ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة من الآية 195) أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع، ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم، فإن ذلك لا يحلّ، وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فأمَّا إذا كان آيسًا من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول فليس له أن يُقدِم عليه، وهذا الوجه منقول عن "البراء بن عازب"، ونُقل عن "أبي هريرة"- رضي الله عنه- أنه قال في هذه الآية: هو الرجل يستقلّ بين الصفَّين. قال "الرازي": ومن الناس من طَعن في هذا التأويل، وقال: هذا القتل غير محرم، واحتج عليه بوجوه:
(الأول) روي أن رجلاً من المهاجرين حُمل على صف العدو فصاح به الناس: ألقى بيده إلى التهلكة! فقال "أبو أيوب الأنصاري": نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا.. وذكر خلاصة ما حكاه "الجصَّاص" في سبب نزول الآية.
(والثاني) روى "الشافعي" رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذكر الجنَّة، فقال له رجل من الأنصار: أرأيت، يا رسول الله، إن قُتلت صابرًا محتسبًا؟ قال- عليه الصلاة والسلام-: لك الجنة. فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله.. وإن رجلاً من الأنصار ألقَى درعًا كانت عليه حين ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- الجنة، ثم انغمس في العدو فقتله.
(والثالث) روي أن رجلاً من الأنصار تخلَّف عن بني "معاية"، فرأى الطير عطوفًا على من قُتل من أصحابه، فقال لبعضِ من معه: سأتقدَّم إلى العدو فيقتلونني، ولا أتخلَّف عن مشهد قُتل فيه أصحابي، ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم-، فقال فيه قولاً حسنًا.
(الرابع) روي أن قومًا حاصروا حِصنًا، فقاتل رجل حتى قتل، فقيل: ألقى بيده إلى التهلكة، فبلغ "عمر بن الخطاب"- رضي الله عنه- ذلك فقال: كَذَبوا أليس يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ (البقرة من الآية207)، ولمن نصر ذلك التأويل أن يجيب عن هذه الوجوه فيقول: إنا إنما حرمنا إلقاء النفس في صف العدو إذا لم يتوقع إيقاع نكاية فيهم، فأما إذا توقع فنحن نجوّز ذلك.
ما رواه "ابن كثير" و"الطبري":
روى الحافظ "ابن كثير" أن رجلاً قال لـ"البراء بن عازب" الأنصاري: إن حملت على العدو فقتلوني أكنت ألْقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا، قال الله لرسوله: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ (النساء:84)، وإنما هذه في النفقة، أي في ترك النفقة في الجهاد.
وروى الإمام "الطبري" بسنده في تفسيره عن أبي إسحاق السبيعي قال: قلت للبراء بن عازب (الصحابي): يا أبا عمارة، الرجل يلقَى ألفًا من العدو، فيُحمل عليهم، وإنما هو وحده (يعني: أنه مقتول في العادة لا محالة) أيكون ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾؟ فقال: لا، ليقاتل حتى يُقتل، قال الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ (النساء:84).
ما قاله "ابن تيمية":
وذكر نحو ذلك شيخ الإسلام "ابن تيمية"- في فتواه المشهورة في قتال التتار-، مستدلاً بما روى مسلم في صحيحه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- من قصة أصحاب الأخدود، وفيها: أن الغلام أَمر بقتل نفسه؛ لأجل مصلحة ظهور الدين (حين طلب إليهم أن يرموه بالسهم ويقولوا: باسم الله رب الغلام)، قال: ولهذا جوَّز الأئمة الأربعةُ أن ينغمس المسلم في صف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحةٌ للمسلمين.
ما قاله "الشوكاني":
وقال الإمام الشوكاني في تفسيره (فتح القدير): والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلُكة في الدين أو في الدنيا فهو داخل في هذا، ومن جملة ما يدخل تحت الآية: أن يقتحم الرجل في الحرب فيُحمل على الجيش، مع عدم قدرته على التخلُّص، وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين، ومعنى هذا: أنَّه إذا كان لاقتحامه أثر ينفع المجاهدين- كإرهاب العدو وإفزاعه- لم يُعدّ هذا في التهلكة.
ما قاله صاحب تفسير المنار:
وفي عصرنا قال العلامة "رشيد رضا" في تفسير المنار: "ويدخل في النهي الدخول في الحرب بغير علم بالطُّرق الحربية، التي يعرفها العدو، كما يدخل فيه كلُّ مخاطرة غير مشروعة، بأن تكون لاتباع الهوى لا لنصر الحق وتأييده" .
ومفهوم هذا أن المُخاطَرة المشروعة المحسوبة- التي يرجى بها إرهاب عدو الله وعدوّنا، ويُبْتَغَى فيها نصر الحق لا اتباع الهوى- لا تكون من الإلقاء باليد إلى التهلكة.
أعتقد أن الحق قد تَبَيَّن، وتبين الصبح لذي العينين، وأن هذه الأقوال كلها ترد على أولئك المتطاولين، الذين اتهموا هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، والذين باعوا أنفسهم لله، وقُتلوا في سبيله بأنهم قد انتحروا، وألقوا بأيديهم إلى التهلكة، فهم- إن شاء الله- في طليعة الشهداء عند الله، وهم العنصر الحيّ المعبّر عن حيوية الأمة، وإصرارها على المقاومة، وأنها حية لا تموت، باقية لا تزول.
كل ما نطلبه هنا أن تكون هذه العمليات الاستشهادية بعد دراسة وموازنة لإيجابياتها وسلبياتها، وينبغي أن يتم ذلك عن طريق تفكير جماعي من مسلمين ثقات، فإذا وجدوا الخير
في الإقدام أقدموا وتوكلوا على الله ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:49). انتهت الفتوى، والله أعلم.
الرأي الثاني:
ويضع أصحاب هذا الرأي بعض الشروط التي يجب أن تتوافر في هذا النوع من المقاومة، على رأسهم الشيخ "حسن أيوب"، والشيخ "محمد ناصر الدين الألباني".
فتوى الشيخ "حسن أيوب":
يرى الشيخ "حسن أيوب" ـ رحمه الله ـ أن من ألقى نفسه في الهلاك لصالح دينه أو لصالح المسلمين، فقد فدى دينه وإخوانَه بنفسه، وذلك غاية التضحية وأعلاها، فكم للمسلمين الأوائل من مواقف مشهودة كلها تضحية وفداء، وبذلك تستطيع أن تجيز ما يعمله الفدائي في عصرنا هذا من أعمال يذهب هو ضحيتها بعد أن يكون قد نكل بالعدو ودمر، وذلك مثل: إغراق سفينة بمن فيها من الأعداء وهو معهم، احتلال فندق لقتل من فيه من المقاتلين وهو يعلم أنه يقتل معهم، وضع المتفجرات في معسكر أو في مصنع حربي، أو في إدارة عسكرية للقضاء على من فيها وهو يعلم أنه لا نجاة له إلى آخر مثل هذه الأمور.
ولكن لا يجوز أن يلتفَّ بحزام ناسف لينسف نفسه ومن بجواره، والفرق أن الأصل في الحالة الأولى أنه يقتل عدوه، وجاء قتله تبعًا لذلك، ولذلك لو استطاع الهروب من القتل والنجاة بعد التفجير وجب عليه ذلك، أما الحالة الثانية فالأصل فيها قتل نفسه أولاً ليقتل غيره، وقد لا يقتل هذا الغير لسبب من الأسباب، وإقدامه على قتل نفسه ابتداءً لا يحل في مثل هذه الظروف([3]).
فتوى الشيخ "الألباني":
وقد تعرّض العلامة "الألباني"- رحمه الله- إلى تطاول البعض، فنسبوا إليه زورًا وبهتانًا أنّه حكم على من يُقتَل في عمليّة تفجير- يقوم بها في صفوف العدو- بالانتحار، والشيخ بريء من ذلك، ومن فتاواه في هذا الباب ما هو مثبت بصوته([4])، حيث سُئل- رحمه الله- سؤالاً قال صاحبه: هناك قوات تسمَّى بالكوماندوز، فيكون فيها قوات للعدو تضايق المسلمين، فيضعون- أي المسلمون- فرقة انتحارية تضع القنابل ويدخلون على دبابات العدو، ويكون هناك قتل... فهل يعد هذا انتحارًا؟ فأجاب بقوله: "لا يُعد هذا انتحارًا؛ لأنّ الانتحار هو أن يقتل المسلم نفسه خلاصًا من هذه الحياة التعيسة، أما هذه الصورة التي أنت تسأل عنها فليست انتحارًا، بل هذا جهاد في سبيل اللّه، إلا أن هناك ملاحظة يجب الانتباه لها، وهي أن هذا العمل لا ينبغي أن يكون فرديًّا شخصيًّا، إنما هذا يكون بأمر قائد الجيش، فإذا كان قائد الجيش يستغني عن هذا الفدائي، ويرى أن في خسارته ربحًا كبيرًا من جهة أخرى، وهو إفناء عدد كبير من المشركين والكفار، فالرأي رأيه، وتجب طاعته، حتى ولو لم يرضَ هذا الإنسان فعليه الطاعة".
إلى أن قال: "الانتحار من أكبر المحرَّمات في الإسلام؛ لأنّه لا يفعله إلا غضبان على ربه ولم يرض بقضاء اللّه، أما هذا فليس انتحارًا، كما كان يفعله الصحابة.. يهجم الرجل على جماعة من الكفار بسيفه، ويعمل فيهم بالسيف حتى يأتيه الموت وهو صابر؛ لأنه يعلم أن مآله إلى الجنة، فشتَّان بين من يقتل نفسه بهذه الطريقة الجهادية وبين من يتخلص من حياته بالانتحار، أو يركب رأسه ويجتهد بنفسه، فهذا يدخل في باب إلقاء النفس في التهلكة". ويركز الشيخ على حتمية وجود القائد، وإلا فلا يجوز أي نوع من أنواع المقاومة. انتهى.
مناقشة الفتويين:
يفرق الشيخ "حسن أيوب" بين من يغرق سفينة وهو منهم، وبين من يفجِّر في نفسه بين الأعداء حزامًا ناسفًا، فيُجيز الأولى ويحرِّم الثانية، ووجه ذلك عنده أن الأصل في الحالة الأولى أنه يقتل عدوه، وجاء قتله تبعًا لذلك، أما الحالة الثانية فالأصل فيها قتل نفسه أولاً ليقتل غيره، وقد لا يقتل هذا الغيرَ لسبب من الأسباب.
والذي نراه أن أقوال الفقهاء في الاقتحام على العدو اقتحامًا لا تُرجى معه نجاة تتَّسع لهذا النوع الذي حرمه الشيخ ما دام يغلب على الظن النكاية بالأعداء، بل إن هذا النوع هو الأكثر نكايةً بالأعداء، حيث يتحكم المجاهد مع هذا النوع في الوقت المناسب والمكان المناسب؛ فيكون أكثر نكاية بالأعداء.
أما القول بأن المجاهد في هذا النوع يقتل نفسه وقد لا يقتل غيره فهذا وارد في أي من الحالتين، فهو مجرد ظن لا اعتبار له؛ وذلك لأن الحكم يُعطَى لغلبة الظن، ويغلب الظن بل يتأكد أن نوع الحزام الناسف وما شابهه من أنكى الوسائل بالأعداء، كما أثبت الواقع ويثبت.
أما رأْي الشيخ "الألباني" فنتفق معه في إباحة هذا النوع من المقاومة أصلاً، وإلا لم تكن جائزة بإذن الإمام؛ لأن طاعة الإمام في دائرة المباحات، وإلاَّ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذا مفهوم رأْي الشيخ ابتداءً.
أمَّا ما يشترطه الشيخ من إذْن الإمام فهذا ما يحتاج إلى مناقشة، هل اشترط الفقهاء وجود خليفة لجواز القتال، وما حكم القتال حال وجوده دون إذنه؟ والحقيقة أنه لم يرِدْ عن أحد من العلماء اشتراط وجود خليفة لجواز قتال الأعداء، بل إن كثيرًا من الأحداث في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- تدل دلالةً واضحةً على عدم اشتراط وجود وليّ أمر لمباشرة القتال، ومن ذلك قصة "أبي بصير" ومن معه من المستضعفين([5]).
أما القتال بغير إذن الإمام حال وجوده فقد قال "الخطيب الشربيني" من فقهاء الشافعية: "يكره غزوٌ بغير إذن الإمام أو نائبه تأدبًا معه، ولأنه أعرفُ من غيره بمصالح الجهاد، وإنما لم يحرم لأنه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفوس وهو جائز في الجهاد، وينبغي كما قال "الأذرعي" تخصيص ذلك بالمتطوعة، أما المرتزقة فلا يجوز لهم ذلك؛ لأنهم مرصدون لمهمّات تعرض للإسلام، يصرفهم فيها الإمام فهم بمنزلة الأُجَراء".
ثم قال "الشربيني": "تنبيه: استثنى "البلقيني" من الكراهة صورًا:
أحدها: أن يفوت المقصود بذهابه للاستئذان.
ثانيها: إذا عطل الإمام الغزو، وأقبل هو وجنوده على أمور الدنيا كما يشاهَد.
ثالثها: إذا غلب على ظنه أنه لو استأذنه لم يأذن له"([6]).
وقال "ابن قدامة": "إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين فوجب على الجميع، فلم يجز لأحد التخلُّف عنه، فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر الحرب موكول إليه وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يرجع إلى رأيه؛ لأنه أحوط للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه لمفاجأة عدوهم لهم فلا يجب استئذانه؛ لأن المصلحة تتعين في قتالهم والخروج إليهم، ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي- صلى الله عليه وسلم- فصادفهم "سلمة بن الأكوع" خارجًا من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن فمدحه النبي- صلى الله عليه وسلم-، وقال: خيرُ رجالَتنا "سلمة بن الأكوع"، وأعطاه سهم فارس وراجل"([7]).
ومعنى ذلك أن الأمر ليس محرَّمًا على إطلاقه، كما ذهب الشيخ "الألباني"، فالأمر يدور مع تحقيق المصلحة والنكاية كما ذكر الفقهاء.
أثر السياسة في آراء بعض العلماء في هذه المسألة:
الفريقان السابقان الأول منهم أجاز وحرَّض، والثاني منهم من منع ومنهم من أجاز بشروط، لكن هناك فريقًا من العلماء الذين يُعدون رموزًا للإسلام ومراجع له داروا مع السلطان ولم يدوروا مع القرآن، فأباحوه عامًا وحرموه عامًا، كما تمليه عليهم رغبات الحكام وشهواتهم.
وللسياسة دور منذ القدم في اختلاف الفقهاء، وأثر واضح في التحليل والتحريم في الفتاوى الصادرة، وهذا ناتج عن الضعف النفسي والإيماني لهؤلاء العلماء فيُثنيهم الوعد، ويرهبهم الوعيد، ويتزلفون وينافقون، حتى لو كان على حساب الدين، فيبيعون دينهم بدنيا غيرهم، أو يبيعون دينهم بعرض من الدنيا.
وهذا الأمر- أعني أثر السياسة- في حاجة إلى باحث جاد وواعد يتناوله على مدى تاريخنا الإسلامي، ويبين ما للسياسة والسلطان من أثَر ملحوظ في اختلاف الفقهاء.
تسميتها بـ"الاستشهادية" لا يصح ابتداءً:
ومن الأمور التي شاعت مع ظهور الانتفاضة والمقاومة عموما أن أيّ فتوى تظهر أو أي بحث يُطبع، دائمًا ما يعنون بـ"العمليات الاستشهادية"، فيقال حكم العمليات الاستشهادية، أو العمليات الاستشهادية في الميزان، حتى السؤال نفسه الذي يوجهه البعض لأهل العلم يكون بهذا الشكل: ما حكم العمليات الاستشهادية؟ وهذا لا يصح لا عقلاً ولا شرعًا؛ لأننا إذا قلنا العمليات الاستشهادية حلال، فما الذي أفادته كلمة حلال بعد قولنا "استشهادية"؟، وإذا كانت "استشهادية" فلماذا نسأل عن حكمها؟ و"الاستشهاد" معروف حكمه في الإسلام، سواءٌ في أحكام الدنيا أو أحكام الآخرة.
ولهذا آثرنا أن نسمي البحث "تفجير النفس في العدو"؛ لأن هذا هو طبيعة الفعل الذي يقوم به المقاوم، ومن ثم يتطلَّب حكمًا شرعيًا، فيفتي العلماء ويحكمون على هذا الفعل بالاستشهاد أو بغير ذلك.
الحكم على أي عمل يتوقف على النيَّة:
والحكم على هذا النوع من المقاومة- بل على أي عمل- يتوقف على نية صاحبه، وهذا هو محك الخلاف بين من قال إنه انتحار ومن قال إنه استشهاد، وبه ينحسم الخلاف بين الفريقين.
عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلَّم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال كذبت. ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال كذبت ولكنك فعلت ليُقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار"([8]).
إذا تبيّن ذلك فإن نفسيَّة المنتحر ونيَّته تخْتلف تمامًا عن نية المقاوِم ونفسيَّته، فإذا كان المنتحِر معترضًا على قضاء الله ومتسخِّطًا على قدَره، فإن الاستشهاديّ قدَرٌ من أقدار الله وجُند من جنوده يُبطل الله به كيدَ الكافرين، ويُدخِل به الرعبَ والفزع في قلوب المعتدين؛ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
([1])أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. كتاب الإيمان. باب الجهاد من الإيمان.
([2])اعتمدتُ في ذكر أسماء هؤلاء العلماء لهذا الرأي والرأي التالي على كتاب: "العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي" لنواف هايل تكروري، طبْع مركز الإعلام العربي بالقاهرة. رقم 23 ضمن سلسلة كتاب القدس- الطبعة الأولى 1424هـ، وموقعَي: المركز الفلسطيني للإعلام وإسلام أون لاين.
([3]) انظر: الجهاد والفدائية في الإسلام للشيخ "حسن أيوب": 243-244 نقلاً عن العمليات الاستشهادية: 94-95.
([4]) في الشريط الرابع والثلاثين بعد المائة من سلسلة الهدى والنور.
([5]) انظر تاريخ الطبري: 2/125. دار الكتب العلمية. بيروت. ط أولى 1407هـ، وسيرة ابن هشام: 4/292. تحقيق طه عبد الرءوف سعد. دار الجيل بيروت ط أولى 1411هـ.
([6]) مغني المحتاج: 4/220. دار الفكر. بيروت.
([7]) المغني: 9/174. دار الفكر بيروت. ط أولى. 1405هـ.
([8]) رواه مسلم. كتاب الإمارة. باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق