الاثنين، 29 سبتمبر 2008

عصام البشير.... معالم إنسانية


عصام البشير.... معالم إنسانية
وصفي عاشور أبو زيد
باحث شرعي بالمركز العالمي للوسطية




عن كَثَبٍ لا عن كُتُبٍ، وعن معايشة لا عن سماع أخط هذه السطور العرجاء في مقام الشيخ الجليل، والداعية الإسلامي اللامع، وخطيب الدعوة المفوَّه الأستاذ الدكتور عصام أحمد البشير حفظه الله وسدد خطاه.
لقد عرفته منذ أكثر من خمسة عشر عاما حينما كنا نجتمع ـ نحن الشباب ـ على أشرطة الفيديو المسجلة له في مؤتمرات في الغرب عن موضوعات دعوية وقضايا شرعية، فكنت أشعر فيه بالاتزان في الحديث، والاعتدال في التناول، والوسطية في الطرح، وألمس فيه الروح المشرقة المحلقة التي زادها بهاء وجمالا تمكُّنُه من الأدب نثرا وشعرا، وحفظه للعديد من قِطَع الأدب المُصفَّى التي يُزيِّن بها كلامه، ويؤيد بها أفكاره، فكانت الكلمات والعبارات والأفكار تخرج صحيحة جميلة جليلة رائقة.
ثم تقابلنا ـ في أول لقاء ـ في مصر في صيف عام 2006م من أجل العمل معه في المركز العالمي للوسطية بدولة الكويت، وكان شرفا لي أفاخر وأباهي به أن أقضي معه هذه الفترة منذ ذلك التاريخ حتى الآن، والتي تعاونا فيها على البر والتقوى، ورابطنا فيها على عمل الخير وخير العمل، وحاولنا القيام بما فيه صالح الكويت والأمة الإسلامية كلها.
وأشهد خلال تلك الفترة أنني وجدت في الشيخ البشير صفات إنسانية نبيلة، وخصالا خلقية حميدة يحسن أن أسجلها في هذا المقام ـ وقد أعفي من منصبه أمينا عاما لمركز الوسطية 21/9/1429هـ/21/9/2008م ـ وفاء لبعض حقه علينا، وعرفانا بمعاملته الراقية التي غمرنا بها، واستبقاء لأخلاق التقدير والإجلال والوفاء التي أصبحت نادرة بين المسلمين في هذا الزمان.
ومع أن الدكتور عصام يتمتع بمواهب في جوانب عديدة؛ فهو السياسي الذي قضى أربعة عشر عاما عضوا في البرلمان السوداني، وأربعة أعوام وزيرا للأوقاف والإرشاد الديني، وهو الخطيب المفوه، والمتحدث البليغ، والمحاور الناجح، والداعية اللامع ـ فإني آثرت أن أكتب عنه من ناحية "الإنسان الفاضل"؛ ذلك لأن الناس إذا عرفوا فيه الخطيب والداعية والعالم والسياسي، فإن كثيرا منهم لا يعرف هذا الجانب الإنساني الذي لا يعلمه إلا من عاشره وعايشه، وقد وجدت فيه معالم هذه الإنسانية متمثلة فيما يلي:

أولا: التواضع المخجل:
من الصفات الإنسانية النبيلة التي رأيتها في الشيخ البشير أنه متواضع لدرجة تخجلك، فما من يوم يأتي في للعمل إلا ويسلم على إخوانه من الباحثين العاملين معه، وإذا كان على سفر ورجع مر عليهم فردًا فردا يسلم عليهم ويعانقهم بحرارة، ولو كان غيرُه لصعَّر خدَّه، وجلس في مكانه ليتوارد عليه المصافحون، فهو اللامع وذو المكانة الكبيرة!!
ولقد رأيته حين يكون اجتماعٌ على طعام يقوم بنفسه ويمر على الضيوف ـ بل على إخوانه من الباحثين الذين يصغرونه ربما بعشرين سنة ـ ويسألهم عن احتياجاتهم، ويعرض عليهم أنواعا من الطعام، ولو كان غيره لجلس في مكانه وجاءه الخدم من يمين وشمال.

ثانيا: السؤال عن إخوانه:
ومن الإنسانيات الجميلة التي عرفتها في البشير أنه دائم السؤال عن إخوانه وتفقد أحوالهم، فإذا سافر أحدنا خارج الكويت اتصل به وسأل عنه، وإذا تغيب البعض عن العمل تفقده وحض الإخوة الباحثين على تفقده وزيارته، بل إنه كان يزور إخوانه في بيوتهم، وإذا دعاه أحدهم لبيته فلا يتأخر، وإذا ألم مرض بأحد كان كثير السؤال عنه، وشديد الحفاوة به، ودائم الإحسان إليه.
وهذه صفة نادرة في زماننا، فالمسئول في العمل ـ غالبا ـ لا يكترث كثيرا ولا قليلا بهذه الإنسانيات في علاقة الرئيس بالمرؤوسين، أو المدير بالمدارين، إنما الهم الأكبر والشغل الشاغل هو الإنجاز في العمل، وممارسة الحدة والغلظة والشراسة.
فكان البشير يهتم بالإنجاز، وفي الوقت نفسه لا يهمل الجوانب الإنسانية التي تُضْفي على العمل فيما بعد أجواء صحية وروابط حميمية تصب في صالح العمل، وتعزز العلاقات الإنسانية، وهي طريقة ناجحة في إدارة الأفراد، تجمع بين الإنجاز واستبقاء العلاقة طيبة صافية صحية نقية، وما استفاد المرء بعد الإيمان أفضل من صحبة صالحة وعلاقة إنسانية راقية.

ثالثا: المزاح المحمود:
مع المهام الكبيرة والانشغالات العديدة والأسفار الكثيرة يغلب على الإنسان طابع الجد، ويكون قليل المزاح والمداعبة، غير أن الدكتور عصام لم يكن هكذا، بل كان كثير المزاح مع إخوانه، لطيف المداعبة طيب المعشر، يحكي وقائع من نوادر العرب، ويورد شعرا ونثرا، ويحكي قصصا تاريخية وواقعية يُدخل بها السرور على من معه، في الرحلات وأماكن اللهو المباح.
وكان يُسمِّي بعضَنا بألقاب تصير علمًا عليه، ويُعرف بها بين الباحثين، ويُذكِّر البعض الآخر ـ وهو يمر هنا أو هناك ـ بكلمة يمازحه بها تلخص موقفا من المواقف، أو معنى من المعاني، أو مشهدا من المشاهد التي شهدها معه وشهدها آخرون، فيضفي على أجواء العمل روحا من المودة والأخوة والسرور، ويعيش الجميع في جوٍّ صحي يساعد على الإنجاز والإتقان والإحسان.

رابعا: حرصه على مشاعر الآخرين:
ومن الصفات الرائقة التي لمستها في البشير أنه يحرص حرصا نادرا على مشاعر الآخرين، فالإنسان أمام مشاغل الحياة وضغوط العمل ـ وما أكثر الضغوط النفسية التي كانت وما تزال تحوط المركز العالمي للوسطية ـ قد يتكلم بكلمة أو يتلفظ بلفظ أو يمارس أسلوبا فيه جفاء، أو يتحدث بطريقة تجرح مشاعر الآخرين.
لكن د. عصام كان حريصا على ألا يقع منه شيء من هذا، وإذا وقع كان سريع الفيء والاعتذار للشخص، حتى الذين يكلفهم بأعمال كثيرة تمثل نوعا من الضغط الجسدي والنفسي كان يأتي أمام جمع من الباحثين أو العلماء الضيوف ويشكره أمامهم، ويبين مدى جهوده الحثيثة وتحمُّله لضغوط العمل، وهذا من شأنه أن يمسح ما ران على القلوب ويزيل ما استقر في الصدور من آثار الضغوط والمعاملة.

خامسا: التواصل مع المخالف:
خلال الفترة التي شرفت فيها بالعمل مع د. عصام البشير لم أر أحدا يملك مهارة التواصل مع المخالف، ويحسن أساليب بناء العلاقات معه من الصفر، وتجسير هذه العلاقة، وتحويل البعض من المهاجمين للفكرة إلى المدافعين عنها كما رأيتها مع هذا الرجل.
ومع أن التواصل مع المخالف صفة علمية ومهارة فكرية، فإنها لا تخلو من المعاني الإنسانية، والفكر شيء والمعاملة شيء، والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية كما يقولون.
فتواصُلُ الشيخ كان معروفا ومشهودا مع الكتاب المعارضين وأصحاب الأعمدة المهاجمين عبر اللقاءات المباشرة وإرسال مطبوعات المركز والتعريف بإنجازاته، وما من فعالية أو مؤتمر أو منشط قام به المركز إلا دعا له كل ألوان الطيف في المجتمع، من إسلاميين وقوميين، وسنة وشيعة، وإخوان وسلفيين، وعلمانيين ودينيين، وموافقين ومخالفين، ومحبين ومبغضين.
ومع أن هجوم الكاتب على الشخص يجعل الشخص متدابرا ومتنافرا معه، وكاشحا ومعرضا عنه، فقد كان البشير يوجه الدعوة إليهم جميعا ولا يجد في هذا غضاضة، بل يرى فيه نوعا من العمل الصالح، والتواصل المحمود لإجراء حوار بناء حول قضايا الأمة يرفع اللبس، ويدحض الشبهات، ويبدد المعلومات المغلوطة؛ ليتضح الحق، وتستبين السبيل، ويظهر الصبح لذي عينين.
وكان من نتائج ذلك التواصل تحقيق ثمار حميدة، فتحول بعض أصحاب الأقلام من الهجوم إلا الدفاع، والتزم آخرون الصمت بعدما تم تحييدهم، بينما ظل البعض الآخر مهاجما وشانئا، وهذا من طبيعة الأشياء والأشخاص.

سادسا: دموع الفراق:
بعدما صدر القرار بإعفاء الدكتور عصام من منصبه أمينا عاما لمركز الوسطية اجتمع بإخوانه من الباحثين والمسئولين في المركز، وشكرهم على المعاملة الطيبة، وقال كلمة بليغة، لا أقول "كأنها موعظة مودع" لأنها كانت كذلك بالفعل، وطلب العفو والصفح من إخوانه إن كان صدر منه ما يسيء إليهم، وعندها فاضت دموع نبيلة من عينيه تأثرا بالمشهد وتفاعلا مع النفوس الصادقة التي عملت معه وحزنت على فراقه.
ولما صدر قرار بوقفه من الخطابة ذهب ليصلي مأموما هذه المرة في الجمعة الأخيرة من رمضان في مسجده الذي طالما هز أعواد منبره بخطب بليغة عميقة فريدة جامعة، وبعد انتهاء الصلاة التف حوله جمهور المسجد، وظلوا يصافحونه لما يقرب من ساعة في مشهد مملوء بالعواطف الجياشة، ومحموم بالدموع النبيلة، ومسكون بالحزن والألم حتى قال له أحدهم: "نشعر بفراقك أننا أصبحنا أيتاما".
كانت هذه دموعا في وداع البشير ليُسدَل الستار على صفحة مهمة في تاريخ الكويت التي كانت وما تزال مصدرا للإشعاع الخيري والعمل الإسلامي، وليس معنى ما سبق أن د. عصام البشير فوق الخطأ أو المراجعة أو النقد، بل كلٌّ يخطئ ويصيب، ويؤخذ منه ويرد عليه، ولم يدَّعِ لنفسه العصمة ولا ادعاها له أحد، ولكن كما قال الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
في تقديري أن هذه الصفات الإنسانية النبيلة، وتلك الأخلاق الإسلامية الكريمة التي تمتع بها شيخنا البشير كانت من آثار تربيته التي تربى عليها، ونشأته التي نشأ فيها بين صفوف أبناء الحركة الإسلامية التي تُربِّي أبناءها على التواضع والتواصل وخفض الجناح وحب الإخوان، بالإضافة إلى تجربته في الحياة، وخبرته في التعامل مع الناس، ومشاركاته الفاعلة في الدعوة الإسلامية المعاصرة.

ليست هناك تعليقات: