الثلاثاء، 1 أبريل 2008

الرحلات المختلطة بين أبناء الحركة ـ فتوى

استشارة فقهية
تعلمون جيدا ما يقوم به شباب الحركة الإسلامية من رحلات ترفيهية بين الحين والآخر، وقد ظهرت في الآونة الأخيرة ظاهرة أحدثت جدلا كبيرا بين صفوف الحركة في إحدى المدن المصرية، ألا وهي ظاهرة الرحلات الأسرية.
فقد قامت مجموعة من الأزواج وزوجاتهم بالجلوس على منضدة واحدة رجالا ونساء، وأخذوا يتبادلون أطراف الحديث في بعض القضايا؛ هذا يرد على تلك، وهذه تناقش هذا في رأيه، وما يستتبع ذلك من ضحكات وابتسامات أحيانًا، وهناك انطباعات تؤخذ من خلال الحوار، هذا مثقف، وهذا متخلف، وهذا أسلوبه جميل ، وذاك يتكلم بخشونة، وكذلك الحال بالنسبة للزوجات.....وهكذا
فهل هذا الصورة حلال أم حرام، أم أنها لا تباح بإطلاق ولا تحرم بإطلاق ؟؟
أرجو الإجابة الشافية الكافية الشاملة، ولا أريد إجابة تقليدية تذكر ضوابط الاختلاط المعروفة ، بل الإجابة التي تتناول المسألة من وجهة شرعية واجتماعية ونفسية مدعمة بأدلة واضحة: تاريخية وشرعية ومقاصدية.....الخ

الجواب:
بقلم/وصفي عاشور أبو زيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،،، فللجواب على هذا الاستفسار ينبغي تقرير أمور، منها:
أولا: يجب التفريق بين المتفق عليه والمختلف فيه، فالمتفق عليه لا يسع مسلما ردُّه أو الجدال فيه، والمختلف فيه يسعنا فيه ما وسع السابقين من تقبل رأي الآخر، وعدم الإنكار عليه، وعدم جواز إلزام الآخر برأيك ما دام في الأمر متسع.
ثانيا: يجب أن ندرك أن أحكام الشرع شيء، وما نشأنا عليه شيء آخر، فربما كان ما نشأنا عليه موافقا للشرع، وربما كان مخالفا، فيجب في كل الأحوال أن نتحاكم إلى الشرع ونرجع إليه ونصدر عنه، فالشرع هو الحاكم لسلوكنا وأخلاقنا، وليست عاداتنا وما نشأنا عليه هو الحاكم للشرع.
ثالثا: يجب التفريق بين الحرام لذاته والحرام لغيره، فهناك أفعال محرمة لذاتها مثل الزنى، وشرب الخمر، والسرقة، فهذه أمور حرمها الشارع لذاتها، وهناك أفعال وسلوكيات حرمها الشارع لغيرها، يعني تكون في أصلها حلالا، وتنشأ الحرمة مما يطرأ على هذا الحلال من محرمات، أو ما يمكن أن يكون مآله حراما، مثل استخدام الأجهزة الحديثة من تلفاز وإنترنت وهواتف وغير ذلك، فهي في أصلها حلال، لكن يمكن أن يؤدي استخدامها إلى الحرمة إذا استخدمت لأغراض محرمة، فالحرمة هنا ليست ناشئة عن استخدام الآلة، بل ناتجة عن أمر خارج ماهية الشيء، ولذلك فلا تكون حراما لذاتها بل لغيرها وما يطرأ عليها.
رابعا: ينبغي أيضا أن ندرك أن كل جديد في السلوك والأقوال والأفعال لابد أن يثير جدلا ويحدث انقساما، وقد يصل الأمر إلى التشنيع على المخالف في هذا السياق، ولعل سيرة الإمام ابن تيمية العلمية والعملية تثبت هذا، فقد عانى الأمرَّيْن بسبب آرائه التجديدية والإصلاحية، وسجن أيضا. وليس معنى ذلك أن كل جديد يكون موافقا للشرع، بل ربما يكون الجديد موافقا، وربما يكون مخالفا، فما كان موافقا قبلناه، وما كان مخالفا رددناه، وما كان مختلطا فيه الحق والباطل قبلنا حقه ورددنا باطله، لكن هكذا جُبل الإنسان على استنكار كل جديد لا سيما إن خالف ما نشأ فيه وتربى عليه.

وبالنظر إلى المسألة محل السؤال نجد ما يلي:
ـ أنها صورة جديدة على أبناء الصحوة، وربما تكون جديدة على أهل المكان الذي تمت فيه هذه الرحلة، وبسبب جدتها ثار حولها الجدل.
ـ أنها تخالف ما تعوَّده أبناء الحركة داخلها في مثل هذه الرحلات حيث تكون منعزلةً فيها الأخواتُ عن الإخوة.
ولا يُصدر الإسلام حكمًا عامًا في مثل هذا الموضوع، وإنما ينظر فيه على ضوء الهدف منه، أي المصلحة التي يحققها، والضرر الذي يخشى منه، والصورة التي يتم بها، والشروط التي تراعى فيه.. إلخ.
ولا يوجد نص شرعي يحرم اجتماع الرجال ـ في حد ذاته ـ مع النساء أو الأزواج مع الزوجات، وبالتالي فإن الاجتماع ابتداء مشروع في حد ذاته، فهو حلال لذاته، وفي سيرة النبي ما يدل على ذلك:
ـ فالمرأة شاركت في القتال أيام النبي بما يتلاءم معها؛ حيث تضميد الجرحى وإعداد الطعام، بل شاركت في القتال والدفاع عن النبي كما قامت أم عمارة يوم أحد، حتى قال عنها -صلى الله عليه وسلم-: " لمقامها خير من مقام فلان وفلان ".
ـ وكان النساء يحضرن دروس العلم، مع الرجال عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويسألن عن أمر دينهن مما قد يستحي منه الكثيرات اليوم. حتى أثنت عائشة على نساء الأنصار، أنهن لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، فطالما سألن عن الجنابة والاحتلام والاغتسال والحيض والاستحاضة ونحوها، ولم يشبع ذلك نهمهن لمزاحمة الرجال واسـتئثارهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فطلبن أن يجعل لهن يومًا يكون لهن خاصة، لا يغالبهن الرجال ولا يزاحمونهن وقلن في ذلك صراحة: "يا رسول الله، قد غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك " فوعدهن يومًا فلقيهن فيه ووعظهن وأمرهن. (رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه).
ـ والمرأة تشارك في العبادات وتحضر مع الرجال كما هو في صلاة العيد مثلا، روى مسلم: عن أم عطية قالت: " كنا نؤمر بالخروج في العيدين، والمخبأة والبكر"، ومن الوقائع المشهورة رد إحدى المسلمات على عمر في المسجد في قضية المهور، ورجوعه إلى رأيها علنًا، وقوله :" أصابت المرأة وأخطأ عمر ".وقد ذكرها ابن كثير في تفسير سورة النساء، وقال: إسنادها جيد.
واجتماع الرجال بالنساء خلاف الخلوة التي نهى عنها الشرع نهيا صريحا مبينا عاقبتها ومغبتها الوخيمة حين قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ألا لا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما...". رواه الحاكم، وأحمد، والسيوطي في الصغير. قال المناوي في فيض القدير: "ثالثهما بالوسوسة وتهييج الشهوة ورفع الحياء وتسويل المعصية حتى يجمع بينهما بالجماع أو فيما دونه من مقدماته التي توشك أن توقع فيه، والنهي للتحريم".

أما الاختلاط فإن الحرمة فيه تنشأ عما يطرأ عليه من أمور تخرجه من الحل إلى الحرمة مثل ملابس النساء وطريقتهن في الكلام وكل ما من شأنه أن يوقع الشهوة في قلب الرجل نحو المرأة أو قلب المرأة نحو الرجل، أو ما يخالف ما رضيه الإسلام لها؛ ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى أن اجتماع الرجال بالنساء لا يكون إلا لحاجة تقتضي الاختلاط وفق الضوابط والشروط التي أوجبها الشرع، ومما يدعو لذلك: الاختلاط لغرض خدمة الضيوف، كما دعا أبو أسيد الساعدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حينما عرس، فما صنع لهم طعامًا ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد، ومما يدعو إلى الاختلاط أيضا: إكرام الضيف بالأكل معه، وقصة الرجل الذي أطفأ السراج ليوهم هو وزوجته ضيفهما أنهما يأكلان، وعجب الله من صنيعهما ـ قصة مشهورة، لكن ينبغي أن تكون هذه الحالات عند الأمن من الفتنة، ومراعاة ما يجب علي المرأة من الستر.
وهناك اختلاط يقع لا لحاجة وإنما لجريان العادة به ـ ومنه الحادثة محل السؤال ـ قال المواق- وهو من فقهاء المالكية- في "الموطأ": "هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم أو مع غلامها؟ قال الإمام مالك: لا بأس بذلك على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال، وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يواكله". فالمرأة يجوز لها أن تأكل مع زوجها ومع من اعتاد أن يأكل معه، وكذلك يجوز لها أن تأكل مع من عرف عن المرأة أنها تأكل معه، كما لو كانت تأكل مع قريب لها غير ذي محرم منها.
ولكن هذا الجواز لجريان العادة به يجب أن تلتزم المرأة عند مباشرته بالآداب الإسلامية والأحكام الشرعية في لباسها، وكلامها، وصوتها، وما تبديه من زينتها، وفي نظرها الأجنبي، وفي نظر الأجنبي لها.

ولقد جرت العادة بالاختلاط في الوقت الحاضر حيث اختلاط النساء بالرجال، في مناسبات مختلفة، فهذا النوع من الاختلاط جائز، إذا التزم الجميع فيه بالآداب الإسلامية والأحكام الشرعية المتعلقة باللباس والكلام والنظر وستر ما يجب ستره شرعًا من البدن بالنسبة للنساء والرجال، فعلى المرأة مثلاً أن تلبس اللباس الشرعي الذي تتوافر فيه صفاته الشرعية، وأن لا تبدي من بدنها إلا الوجه والكفين، وأن يكون كلامها وصوتها على النحو المشروع، وأن يكون نظرها إلى الرجال خاليًا من الشهوة وكذا يجب أن يكون نظر الرجال إليهن، فإذا لم يحصل التزام بهذه الحدود والأحكام الشرعية فلا يجوز هذا الاختلاط.
وأرى أن الأولى عدم إجراء هذا النوع من الاختلاط كما هو السؤال لعدة اعتبارات:
** ليست هناك حاجة له، فماذا لو تم الحديث عن الشأن العام بين الرجال وحدهم، وبين النساء وحدهن؟، ولن يضيف جديدا اجتماع الجنسين للنقاش حول أمور في الشأن العام، ولذلك لو صنع هذا بين مجموعة من غير المتزوجين مع غير المتزوجات بهدف التعارف للزواج ( أي أن تكون جلسة واحدة لهذا الغرض) لما كان به بأس لهذه الحاجة.
** يخشى من هذا التجمع عند حديث أحد الإخوة أو إحدى الأخوات ـ وهو لقاء الأزواج والزوجات ـ أن تتعلق زوجة بغير زوجها لحسن حديثه، أو يتعلق قلب زوج بغير زوجته لثقافتها وجميل منطقها، ومن هنا ينشأ التمرد الأسري وتسري حالة من السخط في بعض الأسر نظرا لرغبة زوج أو زوجة من التخلص من الزوج، وربما جرت اتصالات ومهاتفات بين هؤلاء الفرقاء فيصير من ذا فتنة.
** أن الصورة كما وصفها السائل فيها بعض الخروج عن آداب اللقاء بين الرجال والنساء حيث الضحكات والابتسامات والانطباعات التي ربما تؤدي إلى ما يخالف الشرع الذي أوجب غض البصر منعا لما يمكن أن يترتب عليه من محظورات، وهو من باب سد الذرائع.
** أن الطعام عورة من العورات، وكثير من النساء يقع في الحرج حينما يأكلن أمام الرجال، ثم ماذا لو كانت إحدى الزوجات منتقبة وهو حقها الشرعي؟ وقد جاء الشرع برفع الحرج ودفعه.
لهذه الأسباب أرجح عدم جواز هذا اللقاء بهذه الصورة مع تقرير أن اللقاء والاجتماع على الطعام ليس حراما في ذاته، وإنما يأتي المنع من خارج اللقاء، وهو ما يخرج باللقاء عن آدابه المرعية وحدوده الشرعية، التي يترتب على عدم مراعاتها الوقوع فيما حرم الله، فالأولى أن يأكل الرجال في مكان، والنساء في مكان، فهو أسلم لدين المرأة والرجل، وأدعى للأكل بلا حرج، وأبعد عن الخلاف في وقت نحتاج فيه إلى الالتفاف حول المتفق عليه، وفيه السلامة للمسلم والمسلمة من القيل والقال، والله أعلم.


خاص بالمدونة

ليست هناك تعليقات: