الاثنين، 7 أبريل 2008

عبد الحي إبراهيم سليمان.. دروس من حياته

عبد الحي إبراهيم سليمان.. دروس من حياته

بقلم/ وصفي عاشور أبو زيد
«وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقمًا في جسده, أو إقتارًا في رزقه, أو مصيبة في ماله, أو ولده, حتي أبلغ منه مثل الذر, فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتي يلقاني كيوم ولدته أمه».تذكرت هذا الحديث القدسي وأنا بجواره ساعة الاحتضار, وكم كانت سكرات الموت شديدة وطويلة عليه, وكان يغفو إغفاءة ثم يفيق, فتذكرت أيضًا مع هذا المشهد قول النبي -صلي الله عليه وسلم- ساعة احتضاره: «سبحان الله! إن للموت لسكرات». ثم شهق بين يديَّ ثلاث شهقات وفاضت روحه الطاهرة إلي بارئها, وذلك يوم الثلاثاء منتصف الليل تمامًا 24/12/1426 هـ 24/1/2006م, عن عمري يُناهز السابعة والسبعين.
إنه الحاج عبد الحي إبراهيم سليمان, أحد رجال الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين» الذي ولد سنة 1929م بقرية شبرا خلفون بشبين الكوم بمحافظة المنوفية لأسرة تتكون من سبعة إخوة: 4 ذكور و3 إناث, وكان والده -رحمه الله- يعمل بمهنة الزراعة.استقرَّ فيما بعد في منطقة إمبابة بمحافظة الجيزة, وهناك تعرف علي شعبة الإخوان المسلمين, وظل يتردد عليها حتي التحق بإحدي شعب الإخوان بمنطقة العصارة بإمبابة, ثم تطوَّع في كتائب الإخوان المسلمين إبان حرب 1948م, وكم كان سعيدًا بهذا التطوع» لأنه ظل طوال حياته يتمني الشهادة, لكنه نتيجة لأسباب «ما» لم يلتحق بكتائب المجاهدين, والتحق -رحمه الله- بالتنظيمً الخاص للإخوان المسلمين بعد ذلك.وقد أُلقي القبض عليه في محنةً الإخوان سنة 1954م, وحُكًم عليه -رحمه الله- بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة, ثم خرج بعد قضائها, وأُعيد اعتقاله ثانية في محنة 1965م ليخرج في أبريل سنة 1970م.وظلت سلطات الأمن تطارده مدة خمس سنوات أخري حتي عام 1975م, وهو نفس العام الذي تزوج فيه, وكان عمره عند زواجه 46 عامًا, فأكرمه الله بستة أبناء: ولدين, وأربع بنات.تعرَّض -رحمه الله- لجلطة بالقلب منذ خمسة عشر عامًا, كما كان يُعاني السكر والمرارة, وقد أُجريت له عملية جراحية في الصيف الماضي» الأمر الذي أثَّر علي عضلةً القلب وحركته, وكان سببًا في الوفاة.
دروس دعوية
لقد كانت حياة الفقيد -تقبله الله في الصالحين- كلها دروس وعبر دعوية وإنسانسة وعملية في كل الجوانب, ومن أهم الدروس التي تستلفت الانتباه في حياته وتستوقف النظر: درس الثبات والصمود» فقد قضي خمسة عشر عامًا سجينًا تنقل خلالها بين السجن الحربي وليمان طرة والواحات وأبي زعبل وقنا.. تعرض في هذه السنوات لتعذيب وحشي فاشي نازي, يكفيك أن تعرف أن جسده قد علاه القيح والصديد من شدة التعذيب الذي لاقاه, فكان سوط الزبانية ينزل علي ظهره فيتناثر جلده الممزق المقيح علي حوائط السجن, بل إن بعضهم كان يسحب الدود علي جسده, بخلاف أعقاب السجائر التي كانوا يطفئون نارها في أدبارهم, والكلاب المسعورة التي كانوا يدخلونها عليهم فتنهش في أبدانهم وتمزق أجسادهم.لم يحك الأستاذ عبد الحي هذه المشاهد -وغيرها كثير- لأحد من إخوانه إلا بكي وأبكي, بل إن بعض من كان يسمع إليه كان يصرخ -وليس من عايش كمن سمع- من هول ما يسمع وما يتصور.كل هذا وغيره حديث ومع ذلك لم يتزحزح عن دينه, ولم يتنازل عن دعوته أو فكرته, بل ظل ثابتًا عليها صامدًا في وجه الطغاة, فلم يكتب كلمة تأييد لطاغية, بل كان يري أن الأخذ بالعزيمة وترك الرخصة هو واجب الوقت الذي لا يجوز للإخوان أن يحيدوا عنه إلي غيره.ومن دروس حياته البارزة: الصبر والاحتساب» فقد كان عاقدًا علي إحدي البنات, فلما سُجن وحكم عليه بعشر سنوات بدا عليها التلكؤ والقلق والخوف علي مستقبلها, فقالت له: وماذا لو أيدت وخرجت من السجن ليتم لنا الزواج? فأبي أن يبيع مبدأه وفكره بزيجة من الزيجات, فطلقها لرغبتها في الطلاق. مات أبوه -رحمه الله- وهو في السجن فصبر واحتسبه عند الله. جاءت إليه أمه العجوز ترجوه أن يخرج حتي تراه سالمًا بجوارها ولو يومًا واحدًا قبل أن تموت, فأبي وقال لها: «إن موتك وأنا داخل السجن يضاعف لك الأجر عند الله». فماتت أيضًا وهو في السجن. مات ولداه وإحدي البنات فغسلهم ودفنهم بيده, واحتسبهم عند الله.. هكذا كان صبره وثباته وصموده واحتسابه ما حدث له عند الله.ومن دروس حياته الرائعة: أنه لم يكن يتواني أو يتكاسل عن دعوته بالرغم من سنه المتقدمة ومرضه الشديد, فكان لا يرد طالبًا, ولا يتأخر عن عمل دعوي, فطوف محافظات مصر ومدنها وقراها, داعيًا ومبلغًا ومُورّثًا وقاصًّا هذا التاريخ الدموي الوحشي الذي سيظل لعنة علي حكامه, وشاهدًا علي عصر الظلم والقهر واللاإنسانية التي لم يكد يشهدها التاريخ في فترة من فتراته.ومن دروس حياته أيضًا: انضباطه الحركي وحفاظه علي الوقت, ونصحه الشديد والأمين لإخوانه ودعوته, فكان لا يتستر علي خطأ, ولا يسكت علي عوج, بل كان يصحح ويعدّل ويقوّم» لأنه أخلص حياته للّه, فأخلصه الله له ولدعوته.
دروس إنسانية
كان فقيد الإخوان -رحمه الله- يتمتع بصفات إنسانية نبيلة جعلت كل من حوله يحبونه ويلتفون حوله ويأنسون به صغارًا كانوا أو كبارًا, أطفالاً أو شبابًا. لم يُهًنٍ زوجته يومًا, بل كان يقضي لها بنفسه كل ما تريد, حتي مطالب البيت كان يقضيها بنفسه, وكان دائمًا في مهنة أهله كما كانت سنة النبي -صلي الله عليه وسلم.لم أشهد أبًا عطوفًا علي أبنائه كما كان رحمه الله معهم» حيث رباهم تربية إسلامية صحيحة, ونشأهم علي مبادئ الإسلام وأركان الإيمان ومكارم الأخلاق, وكان جدًا حنونًا علي أحفاده, ترك خمسة أحفاد: ثلاثة ذكور وبنتين.. لم يسمع بكاء أحد منهم إلا تحرك له قلبه, وطار إليه علي بعد المسافات بالرغم من كبر سنه وضعف صحته, كان يحب أحفاده حبًا جمًا, ويود ألو كانوا حوله دائمًا.لم يتشدد يومًا مع أصهاره الذين تشرفوا بمصاهرته والزواج من بناته الثلاث, بل كان يُمضي الأمور ويُبرم الاتفاقيات معهم بسهولة وتسامح, دون أن يتكلف أو يُحمّل أحدهم فوق ما يطيق.خرج من السجن بعد أن جاوز الأربعين, وحكمت له المحكمة بمرتبه بأثر رجعي بعدد السنين التي قضاها في السجن معتقلاً» حيث كان يعمل بهيئة المطابع الأميرية, وكان ينبغي أن يتزوج بهذا المبلغ غير أنه آثر أخاه الآصغر -مكفوف البصر, الأصغر منه بعشر سنوات- بهذا المبلغ ليتزوج» حتي يكون معه من يقوم بحاجته ويقضي له شأنه. كفل كثيرًا من أفراد عائلته, وكان يغدق وينفق ويعطي من حوله عطاء من لا يخشي الفقر, فكانت البركة دائمًا في بيته وأهله وماله وولده.فاللهم بحق هذا الإنفاق, وبحق هذا الجهاد والصبر والثبات, وبحق جسده الذي واراه التراب وبه آثار التعذيب, وبحق بكائه من أجل نيل الشهادة, بلًّغه منازل الشهداء, وارحم جسده الذي عُذب في الدنيا أن يُعذَّب في الآخرة, وارحمه رحمة تغنيه بها عن رحمة من سواك, وارزقنا الصبر علي فراقه, والسير علي منهاجه, وإنا للّه وإنا إليه راجعون, وإنا لفراقه لمحزونون... لمحزونون.

جريدة آفاق عربية العدد 746 بتاريخ: 09/02/2006م.

ليست هناك تعليقات: