الاثنين، 7 أبريل 2008

في رحيل عالم حلب الشهباء .. الشيخ عبد الله سراج الدين

في رحيل عالم حلب الشهباء .. الشيخ عبد الله سراج الدين
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد(*)

انضم إلي قافلة الراحلين من العلماء إلي الدار الآخرة الشيخ عبد الله سراج الدين, العلامة المحدث المفسر الفذ, الذي ودعته مدينة حلب الشهباء مساء يوم الاثنين 20 من ذي الحجة 1422هـ, الموافق 4/3/2002م.
وهو استكمال لسلسلة البلاء الذي كتبه الله علي الأمة في الآونة الأخيرة من قبض العلم بقبض العلماء, كما روي البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو, قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء...».
وموت العلماء - كما جاء عن السلف - مصيبة, و مؤذن بخراب الدنيا, فإن أعظم ما تصاب به الأمة بعد مصابها بسيد الأنبياء - صلي الله عليه وسلم - أن تصاب في علمائها وقادة الرأي فيها.
ومن أشد الأخطار التي تهدد الأمة - لا سيما في ظروفنا الحالية - أن يموت العلماء, ويبقي الجهلاء الذين يُستفتون فيفتون بغير علم, فيضلون ويضلون.
وقد اشتد عجبي وذهب بي كل مذهب عندما مات الرجل ولم يسمع به أحد, بل مر علي موته ما يقارب الشهرين, ومع ذلك لم تكتب عنه جريدة رسمية أو غير رسمية, ولا ذكره أحد من أهل العلم والفكر باستثناء أستاذنا العلامة الشيخ يوسف القرضاوي, وهو يتحدث عن مناسبة الهجرة في برنامج «الشريعة والحياة» قال عنه: «فقد جرت عادتنا في هذا البرنامج أن نودع العلماء الكبار الذين يرحلون عن عالمنا هذا ويفارقوننا إلي العالم الآخر, وفي الأسبوع الماضي ودع إخواننا في سوريا الشقيقة وفي حلب الشهباء أحد العلماء الكبار الربانيين الذين عاشوا للعلم وللدين و للدعوة وللتربية وهو الشيخ عبد الله سراج الدين, نسأل الله - سبحانه وتعالي - أن يتغمده برحمته وأن يسكنه الفردوس الأعلي, الشيخ عبد الله سراج الدين رجل علم ودين وهو وارث العلم عن أبيه وهو من أقران أخينا وصديقنا الحبيب - رحمة الله عليه - الشيخ العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة, وهذا الرجل كان من علماء الحديث ومن علماء الفقه, ومن الدعاة والمربين حتي قالوا إنه كان يحفظ كتاب «تيسير الوصول إلي أحاديث الرسول» يحفظه برواياته وألفاظه ويذاكره مع تلاميذه.
لم أسعد باللقاء مع الشيخ عبد الله سراج الدين, ولكني عرفته من مريديه ومن تلاميذه الذين حكوا لي عنه حكايات كثيرة, ومنهم الأخ العزيز الحبيب العالم الباحث الداعية الشيخ مجد مكي.
والشيخ عبد الله سراج الدين هو خال أخينا وصديقنا العالم الباحث الجليل أستاذ التفسير والحديث الأستاذ الدكتور نور الدين عتر, وهو أستاذ الأخ العالم الباحث الشيخ محمد عوامة, فهذا الرجل ودعه إخواننا في مدينة حلب الشهباء, فنحن نعزيهم ونعزي أنفسنا معهم, ونحن الآن في هذه الأيام يرحل الكثير من العماء الكبار عن هذه الأمة ونسأل الله تعالي أن يعوضهم خيرًا». أ.هـ.
يعتبر الشيخ سراج الدين أحد كبار علماء بلاد الشام, الذين تخرج علي يديهم كثير من العلماء والمفكرين الذين تبوءوا مناصب رفيعة, من أخصهم: د. عبد المجيد معار, ود. عبد الستار أبو غدة, ود. أحمد الكردي, د. محمد أبو الفتح البيانوني.
ولد عام 1924م لأسرة معروفة بالتقوي والصلاح, حيث كان والده «محمد نجيب سراج الدين ت: 1954م» من أكبر علماء مدينة حلب في عصره.حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة, ولازم والده, وتلقي العلم علي يدي عدد من علماء عصره, منهم الشيخ أحمد الشماع, والشيخ محمد راغب الطباخ, والشيخ محمد سعيد إدلبي.
أسس بحلب جمعية التعليم الشرعي التي تقوم علي التدريس للطلاب ورعايتهم, وكان - رحمه الله - مديرًا لها.
كان له نشاط تدريسي بارز في مساجد سوريا خاصة مدينة حلب, وذلك بعد الصلوات المختلفة من بينها صلاة الفجر, في التفسير ومصطلح الحديث والأخلاق والتصوف وغيرها.
وقد كان - رحمه الله - يمتاز في دروسه باستحضاره للنصوص, ومخاطبة العقل والقلب معًا, وكان كبير التأثير في العامة والخاصة, شهد له بذلك الجموع الحاشدة التي كانت تتدافع علي دروسه.
أقام أربع سنوات مجاورًا في المدينة المنورة ثم رجع بعدها إلي حلب ليعقد مجالسه العلمية, ويلتف الناس حوله من جديد.
وفي آخر حياته ألمّ به مرض مال معه إلي العزلة, وعكف علي إخراج بعض مؤلفاته التي تجاوزت العشرين في الحديث والتفسير والأخلاق وغيرها.
ففي التفسير فسر سور: (الفاتحة, وق , والحجرات, والملك, والإنسان, والعلق, والكوثر, والإخلاص, والمعوذتين) كل سورة في مجلد مستقل, كما كتب «هدي القرآن, إلي الحجة والبرهان», و«هدي القرآن إلي معرفة العوالم والتفكر في الأكوان».
وفي العقيدة ترك لنا «الإيمان بالملائكة», و«الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها».وفي مصطلح الحديث: «شرح المنظومة البيقونية».وفي الآداب والأخلاق: «الهدي النبوي والإرشادات المحمدية إلي مكارم الأخلاق», و«التقرب إلي الله», و«صعود الأقوال ورفع الأعمال إلي الله الكبير المتعال». وغير ذلك من مؤلفات, إلي أن كان آخرها حول ترجمة والده, أسماها: «المرحوم العارف الكبير: محمد نجيب سراج الدين».
هكذا يموت العلماء دون أن يحفل بهم أحد من ملأ الأرض, ولكن حسبهم الاحتفال الذي يجدونه في ملأ السماء.
وعزاؤنا ما تركوه من علم وفكر نحيي به ذكرهم, و نجد فيه بعدهم تعزية وسلوي.وقد قال ألكسيس كارليل صاحب كتاب «الإنسان ذلك المجهول»: «وتشعر الجماهير بالألم حين لا تجد أحدًا تعجب به, ومن حسن الحظ أن المجتمع لا يتكون من الأحياء وحدهم, بل من الأموات أيضًا, فعظماء الراحلين لا يزالون يحيون بيننا».
نسأل الله أن يتغمد الشيخ بواسع رحمته, وأن يهيئ لنا علماء يقومون بحجته في الأرض, ولله الأمر من قبل ومن بعد, وإنا لله وإنا إليه راجعون.* باحث بقسم الشريعة - دار العلوم.

جريدة آفاق عربية العدد 556 بتاريخ: 09/05/2002م.

ليست هناك تعليقات: