وجهة نظر للمناقشة
العمليات الاستشهادية وواجب المراجعة
العمليات الاستشهادية وواجب المراجعة
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد
باحث بقسم الشريعة - دار العلوم
حاشايَ أن أقلل من قيمة المقاومة الصامدة ومشروعيتها, أو أشكك في كون العمليات الاستشهادية من أعظم صور الجهاد في هذا العصر. لكن مشكلتنا - كما هي عادتنا في قضايانا الفكرية والواقعية - أن ننقسم إلي فريقين: فريق أقصي اليمين, والآخر أقصي اليسار. والصواب هو المنهج الوسط والقول الوسط الذي لا يقصر أو يغالي, ولا يفرًط أو يفرًّط.. {وكذلك جعلناكم امةوسطا ..} [البقرة:143].
وقد انقسم الناس تجاه العمليات الاستشهادية إلي فريقين: فريق يحاربها ويري حرمتها الشرعية والدولية, وأنها - بزعمهم - اعتداء علي حقوق المدنيين, وإزهاق لأرواح الآمنين. وفريق آخر يري مشروعيتها في أي وقت وتحت أي ظروف, فما دام هناك وجود لإسرائيل لا ينبغي أن تتوقف ولا أن تتواري, إنما يجب أن تكون حاضرة في أي وقت لا تغيب, وقوية تحت أي ظرف لا تخبو.
وأنا مع الفريق الثاني الذي يري مشروعيتها, بل يري وجوبها وأنها من أعظم ضروب الجهاد في عصرنا الحاضر.. إن لم تكن أعظمها علي الإطلاق. لكن لي تحفظات وملاحظات علي هذه العمليات خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي شهدت أحداثًا مروعة ومجازر وحشية في جنين ونابلس وغيرهما. فلا ينبغي أن نقوم بهذه العمليات تحت أي ظرف وفي أي وقت, إنما نتخير الوقت المناسب والمكان المناسب اللذين من خالهما نحقق أهدافنا المرصودة, ونقوم بواجبنا الذي يفرضه علينا ديننا, ثم نحظي بعد ذلك بتأييد الرأي الدولي والعربي والإسلامي.
فلم يكن هناك داعي - فيما أري - للعملية التي تمت في «ريشون لتيسيون» مساء الثلاثاء 7/5/2002م, وذلك لاعتبارات عديدة:
أولها: أنها تمت بعد أن أنهي شارون حملته المذعورة.
ثانيها: أنها تمت أثناء زيارة شارون لواشنطن, فلو افترضنا أن عند بوش تهديدات من السعودية أو غيرها من الدول العربية بعرقلة مصالحها مثلاً, فهو حريص علي مصلحة بلده في الشرق الأوسط, ومن هنا يريد أن يهدئ شارون بطريقة أو بأخري, إنقاذًا لمصالحه ومصالح بلده.
ونحن بقيامنا بهذه العمليات في هذا الظرف نعطي لكلام شارون مع بوش مصداقيته, ونتيح له الحجج الدامغة والبراهين الساطعة أمام بوش وأمام الرأي العام لما يصنعه من سفك وقتل ودمار.
وثالثها: أننا نؤلب الرأي الدولي, والرأي العربي والإسلامي أحيانًا علي المقاومة وما تقوم به من عمليات.
ورابعها: أننا نسد الباب أمام قادة العرب والمسلمين لمساعيهم - إن كانت لهم مساعي - نحو السلام الذي يتشدقون به صباح مساء, فإن كان في الباب مواربة لهم فلا ينبغي أن نسد أمامهم الأبواب ونغلقها.
إن المحلل للأحداث لا يستطيع إنكار أن عملية «نتانيا» التي تمت في أواخر مارس الماضي, والتي تمت في أحد الملاهي الليلية أثناء احتفالهم بعيد الفصح قد أعطت لشارون الذريعة والمبررات التي يقوم من خلالها بأعمال القتل والحصار والاعقال وتدمير مؤسسات السلطة وممتلكات الناس, كما دمر مخيم جنين ومناطق واسعة من نابلس, فقتل ما لا يقل عن 300 فلسطيني, وجرح قرابة 300, كما اعتقل ما يزيد علي 6000, بقي منهم 2000 حتي الآن في سجون الاحتلال يعانون أشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي, كما كانت هذه العملية سببًا رئيسًيا في تنفيذ «عملية الجدار الواقي» التي زرعت القتل والدمار في شتي أنحاء الضفة الغربية.
مع الأخذ في الاعتبار رغم هذا أن شارون - كما تقول حماس - لديه مخطط قديم منذ الستينيات يقوم علي قتل أكبر قدر من الفلسطينيين وتهجيرهم, وضم مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية, وتدمير السلطة الفلسطينية, وفرض قيادة بديلة عميلة, وتدمير عملية السلام ونسف نتائجها علي الأرض, وشطب الاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية التي تم التوصل إليها منذ عام 1993م حتي الآن, وتحطيم مقومات قيام دولتهم المستقلة... إلخ.كل هذا مأخوذ في الاعتبار, ولن يمنع هذا السفاح - أهلكه الله - من تنفيذ مخططه شيء مهما كان, ولكن علينا نحن أن نفوت عليه الفرصة وأن لا نهيئ له ما يبرر به ما يمارسه أمام الرأي العام من سفك وقتل وتدمير. فهو يتربص لأي سبب أو مبرر حتي يفرغ ما يغلي به صدره من حقد دفين فيظهر أمام الرأي الدولي بأنه المظلوم والمغلوب والمدافع عن نفسه أمام هذا الإرهاب المبين.
ومن ناحية أخري, نحن نتربص بهم كما يتربصون بنا لأدني سبب حتي نفعل المقاومة ونطلق لها لعنان. فمثلاً عندما اغتيل البطل يحيي عياش 5/1/1996م أطلقت حماس لأبطالها كل عنان, ورفعت عنها كل قيد, فأعملوا فيهم الضرب والقتل واستطاعوا أن يقتلوا منهم عددًا كبيرا. في هذه الحالة لا يستطيع أحد أن يتكلم سواء في الخارج أو الداخل» لأن الفعل له ما يبرره ويسوغه, و هو التصرف المناسب في الوقت المناسب, وإن كان حق المقاومة قائمًا أصلاً لوجود الاحتلال.
ليس معني هذا أن تظل المقاومة مكتوفة الأيدي حتي يحدث لهم حادث, أو يموت منهم أحد كي يبدءوا في تنفيذ عملياتهم. كلا... فحق المقاومة مشروع لهم ما دام هناك إسرائيل في المنطقة, لكن كل ما نطلبه هو التصرف الذكي في الوقت المناسب. ينبغي علي إخواننا هناك أن يقدروا الأمور حق قدرها - وأحسبهم كذلك - حتي لا يوقعوا أحدًا في حرج ولكي تظل القنوت العربية والإسلامية والدولية مفتوحة للدفاع عنهم والمطالبة بحقوقهم, كل ذلك في إطار تقدير فقه الواقع وفقه المصلحة.
والرسول صلي الله عليه وسلم لم يكن يقاتل حيثما اتفق, فكان أحيانًا يسالم وأحيانًا يقاتل وأحيانًا أخري يبرم المواثيق والمعاهدات, لما كان له من إدراك لقوته وقوة عدوه, وبصر بعيد بالواقع والمصلحة, وواقعة الحديبية - التي سماها الله فتحًا - أصدق شاهد يقوم لهذا.
وفي النهاية أقول: إن أولي الناس وأقربهم لتقدير فقه الواقع وفقه المصلحة هم أصحاب القضية الأساسيون - وإن كانت القضية قضية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها - ذلك أنهم أبصر الناس بواقعهم, وأدري الناس بمصلحتهم, وأعرف الناس بقوتهم وقوة عدوهم, والموضوع مطروح للمناقشة وتبادل الرأي.
جريدة آفاق عربية العدد 558 بتاريخ: 23/05/2002م.
باحث بقسم الشريعة - دار العلوم
حاشايَ أن أقلل من قيمة المقاومة الصامدة ومشروعيتها, أو أشكك في كون العمليات الاستشهادية من أعظم صور الجهاد في هذا العصر. لكن مشكلتنا - كما هي عادتنا في قضايانا الفكرية والواقعية - أن ننقسم إلي فريقين: فريق أقصي اليمين, والآخر أقصي اليسار. والصواب هو المنهج الوسط والقول الوسط الذي لا يقصر أو يغالي, ولا يفرًط أو يفرًّط.. {وكذلك جعلناكم امةوسطا ..} [البقرة:143].
وقد انقسم الناس تجاه العمليات الاستشهادية إلي فريقين: فريق يحاربها ويري حرمتها الشرعية والدولية, وأنها - بزعمهم - اعتداء علي حقوق المدنيين, وإزهاق لأرواح الآمنين. وفريق آخر يري مشروعيتها في أي وقت وتحت أي ظروف, فما دام هناك وجود لإسرائيل لا ينبغي أن تتوقف ولا أن تتواري, إنما يجب أن تكون حاضرة في أي وقت لا تغيب, وقوية تحت أي ظرف لا تخبو.
وأنا مع الفريق الثاني الذي يري مشروعيتها, بل يري وجوبها وأنها من أعظم ضروب الجهاد في عصرنا الحاضر.. إن لم تكن أعظمها علي الإطلاق. لكن لي تحفظات وملاحظات علي هذه العمليات خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي شهدت أحداثًا مروعة ومجازر وحشية في جنين ونابلس وغيرهما. فلا ينبغي أن نقوم بهذه العمليات تحت أي ظرف وفي أي وقت, إنما نتخير الوقت المناسب والمكان المناسب اللذين من خالهما نحقق أهدافنا المرصودة, ونقوم بواجبنا الذي يفرضه علينا ديننا, ثم نحظي بعد ذلك بتأييد الرأي الدولي والعربي والإسلامي.
فلم يكن هناك داعي - فيما أري - للعملية التي تمت في «ريشون لتيسيون» مساء الثلاثاء 7/5/2002م, وذلك لاعتبارات عديدة:
أولها: أنها تمت بعد أن أنهي شارون حملته المذعورة.
ثانيها: أنها تمت أثناء زيارة شارون لواشنطن, فلو افترضنا أن عند بوش تهديدات من السعودية أو غيرها من الدول العربية بعرقلة مصالحها مثلاً, فهو حريص علي مصلحة بلده في الشرق الأوسط, ومن هنا يريد أن يهدئ شارون بطريقة أو بأخري, إنقاذًا لمصالحه ومصالح بلده.
ونحن بقيامنا بهذه العمليات في هذا الظرف نعطي لكلام شارون مع بوش مصداقيته, ونتيح له الحجج الدامغة والبراهين الساطعة أمام بوش وأمام الرأي العام لما يصنعه من سفك وقتل ودمار.
وثالثها: أننا نؤلب الرأي الدولي, والرأي العربي والإسلامي أحيانًا علي المقاومة وما تقوم به من عمليات.
ورابعها: أننا نسد الباب أمام قادة العرب والمسلمين لمساعيهم - إن كانت لهم مساعي - نحو السلام الذي يتشدقون به صباح مساء, فإن كان في الباب مواربة لهم فلا ينبغي أن نسد أمامهم الأبواب ونغلقها.
إن المحلل للأحداث لا يستطيع إنكار أن عملية «نتانيا» التي تمت في أواخر مارس الماضي, والتي تمت في أحد الملاهي الليلية أثناء احتفالهم بعيد الفصح قد أعطت لشارون الذريعة والمبررات التي يقوم من خلالها بأعمال القتل والحصار والاعقال وتدمير مؤسسات السلطة وممتلكات الناس, كما دمر مخيم جنين ومناطق واسعة من نابلس, فقتل ما لا يقل عن 300 فلسطيني, وجرح قرابة 300, كما اعتقل ما يزيد علي 6000, بقي منهم 2000 حتي الآن في سجون الاحتلال يعانون أشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي, كما كانت هذه العملية سببًا رئيسًيا في تنفيذ «عملية الجدار الواقي» التي زرعت القتل والدمار في شتي أنحاء الضفة الغربية.
مع الأخذ في الاعتبار رغم هذا أن شارون - كما تقول حماس - لديه مخطط قديم منذ الستينيات يقوم علي قتل أكبر قدر من الفلسطينيين وتهجيرهم, وضم مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية, وتدمير السلطة الفلسطينية, وفرض قيادة بديلة عميلة, وتدمير عملية السلام ونسف نتائجها علي الأرض, وشطب الاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية التي تم التوصل إليها منذ عام 1993م حتي الآن, وتحطيم مقومات قيام دولتهم المستقلة... إلخ.كل هذا مأخوذ في الاعتبار, ولن يمنع هذا السفاح - أهلكه الله - من تنفيذ مخططه شيء مهما كان, ولكن علينا نحن أن نفوت عليه الفرصة وأن لا نهيئ له ما يبرر به ما يمارسه أمام الرأي العام من سفك وقتل وتدمير. فهو يتربص لأي سبب أو مبرر حتي يفرغ ما يغلي به صدره من حقد دفين فيظهر أمام الرأي الدولي بأنه المظلوم والمغلوب والمدافع عن نفسه أمام هذا الإرهاب المبين.
ومن ناحية أخري, نحن نتربص بهم كما يتربصون بنا لأدني سبب حتي نفعل المقاومة ونطلق لها لعنان. فمثلاً عندما اغتيل البطل يحيي عياش 5/1/1996م أطلقت حماس لأبطالها كل عنان, ورفعت عنها كل قيد, فأعملوا فيهم الضرب والقتل واستطاعوا أن يقتلوا منهم عددًا كبيرا. في هذه الحالة لا يستطيع أحد أن يتكلم سواء في الخارج أو الداخل» لأن الفعل له ما يبرره ويسوغه, و هو التصرف المناسب في الوقت المناسب, وإن كان حق المقاومة قائمًا أصلاً لوجود الاحتلال.
ليس معني هذا أن تظل المقاومة مكتوفة الأيدي حتي يحدث لهم حادث, أو يموت منهم أحد كي يبدءوا في تنفيذ عملياتهم. كلا... فحق المقاومة مشروع لهم ما دام هناك إسرائيل في المنطقة, لكن كل ما نطلبه هو التصرف الذكي في الوقت المناسب. ينبغي علي إخواننا هناك أن يقدروا الأمور حق قدرها - وأحسبهم كذلك - حتي لا يوقعوا أحدًا في حرج ولكي تظل القنوت العربية والإسلامية والدولية مفتوحة للدفاع عنهم والمطالبة بحقوقهم, كل ذلك في إطار تقدير فقه الواقع وفقه المصلحة.
والرسول صلي الله عليه وسلم لم يكن يقاتل حيثما اتفق, فكان أحيانًا يسالم وأحيانًا يقاتل وأحيانًا أخري يبرم المواثيق والمعاهدات, لما كان له من إدراك لقوته وقوة عدوه, وبصر بعيد بالواقع والمصلحة, وواقعة الحديبية - التي سماها الله فتحًا - أصدق شاهد يقوم لهذا.
وفي النهاية أقول: إن أولي الناس وأقربهم لتقدير فقه الواقع وفقه المصلحة هم أصحاب القضية الأساسيون - وإن كانت القضية قضية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها - ذلك أنهم أبصر الناس بواقعهم, وأدري الناس بمصلحتهم, وأعرف الناس بقوتهم وقوة عدوهم, والموضوع مطروح للمناقشة وتبادل الرأي.
جريدة آفاق عربية العدد 558 بتاريخ: 23/05/2002م.