السبت، 5 فبراير 2011

تحديات أمام حركة النهضة التونسية

تحديات أمام حركة النهضة التونسية
وصفي عاشور أبو زيد
كاتب مصري
Wasfy75@yahoo.com
تمر تونس اليوم بمرحلة حرجة في تاريخها ـ وتاريخ العالم العربي من ثَمَّ ـ فتقف على مفترق طرق في جميع المجالات: الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية، تتطلب معها وعيًا كبيرًا، وسعيًا دءوبًا، وائتلافًا واسعًا، وجهادًا متواصلاً.
وينظر النظام العالمي ـ الغربي، والشرقي أيضا ـ بتوجس إلى صعود إسلاميين في تونس، وإذا ذكر الإسلاميون في تونس انصرف الذهن إلى حركة النهضة التي يقودها الشيخ راشد الغنوشي، وهذا يضع الحركة أمام عدد من التحديات الصعبة، أُقسِّمها إلى تحديات داخلية وتحديات خارجية:

أولا: التحديات الداخلية:
وللحديث عن التحديات الداخلية أولوية، وتأتي أهمية وأولوية التحديات الداخلية أمام الحركة كونها لن تستطيع التحرك والتعاطي مع الواقع الجديد إلا إذا أصبح صفها الداخلي مهيأ للتعامل مع المعطيات الجديدة، المتنوعة والواسعة، والتحديات الداخلية تنقسم إلى تحديات خاصة بالحركة نفسها، وتحديات خاصة بالداخل التونسي.
ومن أهم التحديات الخاصة بالحركة نفسها:
1ـ القدرة النفسية على الانتقال من ثقافة التخفي والسرية والعمل في الأنساق المغلقة إلى الانطلاق في الفضاء المفتوح والعمل المجتمعي الواسع الذي برز وظهر بعد هروب الرئيس بن علي، ولا شك أن هذا يتطلب مرونة نفسية وحركية ليست بالقليلة، ونجاح الحركة مرهون بقدر ما تملكه من قدرة ومرونة نفسية على هذا التحول المطلوب.
2ـ القدرة على التحول من الحفاظ على تنظيم الحركة واستبقاء هيكلها في أوقات الاستبداد وحكم الفرد إلى تسخير هذا التنظيم بكل ما يملك لخدمة الوطن في ظل الانفتاح والتحرر الذي جرى لإعادة بناء الوطن سياسيا وثقافيا وأخلاقيا واجتماعيا وتعليميا، فتصير مصلحة الوطن العليا هي الأولى ثم تأتي بعد ذلك مصلحة الحركة الخاصة.
3ـ تغيير المناهج التربوية والكيفيات الإدارية بما يتناسب مع المرحلة ومقتضياتها، وهذا يتطلب قدرة فائقة على هذا التحول، كما أنه بحاجة إلى أفق واسع وإدراك عميق للمتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية.
أما التحديات الخاصة بالداخل التونسي فأهمها ما يلي:
1ـ الحفاظ على أن تنسب هذه الثورة إلى الشعب دون نسبتها إلى فصيل دون آخر، أو حزب أو حركة دون أخرى، فاختطاف طرف للثورة يُقزِّمها، ويفقدها معناها، ويضيع ثمرتها وآثارها؛ فضلا عن أنه يخالف الحقيقة والواقع.
2ـ الانفتاح الفكري والسياسي على جميع فصائل المجتمع بكل أطيافه وأحزابه وتجمعاته، فلن يستطيع فصيل دون آخر بناء الوطن والحكومة والدولة التونسية، فالحرص على العمل مع الجميع يختصر الطريق أمام الجميع ويصب في المصلحة العليا للوطن سياسيا واجتماعيا.
3ـ العمل على إيجاد توافق وطني، والقدرة على التفاهم الذي يستوعب الجميع حتى لو تم التنازل عن بعض المصالح الشخصية تحقيقا للمصلحة العليا، وهذا يتطلب تجردًا وطنيًا وإسلاميًا لا يخفى.
4ـ إبراز طبيعة نظرية الحركة في التغيير والإصلاح أمام جميع فصائل المجتمع، حتى تتبدد المخاوف المحلية التي قد تنظر إليها نظرة تخرجها من الاعتدال إلى التطرف، ومن السلم إلى الإرهاب والعدوانية، لا سيما بعد الكبت والقمع لكل ما هو إسلامي في العهد البائد، وهذا يتطلب جهودا إعلامية كبيرة، وهو ليس عسيرا في ظل الانفتاح الإعلامي بوسائله المتعددة في هذا العصر.
5ـ الموازنة بين المشاركة في الحكومة القادمة وعدم المشاركة فيها، وتعديد المصالح والمفاسد المترتبة على كلٍّ، وهذا تحدٍّ يحتاج لمزيد نظر وكثير تأمل يراعى فيه الحفاظ على الأصول الوطنية، والمتغيرات الدولية.

ثانيًا: التحديات الخارجية:
وأما التحديات الخارجية؛ فهي ليست كثيرة بحجم التحديات الداخلية بنوعيها؛ إذ إن صلاح الداخل وتماسكه يؤهل الجسد لأداء الأدوار الخارجية باقتدار، ومع ذلك فإن التحديات الخارجية ليست هينة، وبخاصة في ظل النظام العالمي المعاصر، وأهم هذه التحديات ما يلي:
1ـ بذل جهود إعلامية كبيرة لإظهار المنهاج الحقيقي للحركة في الممارسة السياسية، وطريقتها في التعامل مع الأطراف المختلفة؛ لأن أنظمة الغرب ـ والشرق أيضا ـ تتصور أن الإسلام ـ أو الإسلاميين ـ يقوم منهجهم على الإقصاء والحكم باسم الله!
2ـ إبراز الفروق الكبيرة بين الدولة الدينية والدولة المدنية؛ لأن هذا أكبر فزّاعة يوظفها من أراد للتحذير من الإسلاميين؛ حيث يرون أن حكم الإسلاميين أو مشاركتهم ستكون "ثيوقراطية"، لا مكان فيه لاجتهادات أو آراء، إنما هو رأي واحد باسم الدين.
3ـ الحرص على إقامة علاقات دولية تجمع بين التواصل والتلاقي، وبين الاستقلالية وعدم التبعية في الوقت نفسه.
4ـ محاولة بذل الجهد والفكر لاستيعاب تجربة تركيا، ليس في الحكم فقط وإنما في كل مراحله المختلفة، وطريقته في التعاطي مع القضايا المختلفة داخليا وخارجيا.

أحسب أن أمام حركة النهضة التونسية تحديات كبيرة وخطيرة ينبغي استنفار كل الطاقات معها، وامتلاك القدرة النفسية والحركية على التغير الداخلي بما تقتضيه طبيعة المرحلة وطبيعة الواقع الجديد والمتغيرات المعاصرة، فهل ترى الحركة قادرة على التعامل مع هذه التحديات الجديدة؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.

الأربعاء، 2 فبراير 2011

السلوك الحضاري لمتظاهري التحرير

السلوك الحضاري لمتظاهري التحرير
وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@yahoo.com
لا توجد أي ألفاظ في معجم اللغة العربية ولا أشعار ولا أدباء ولا أقلام تستطيع أن تعبر عن مشهد ميدان التحرير بما فيه من مشاعر ومشاركات وتحضر وتقدير وفرحة عارمة تسود أوساط المتظاهرين وصلت لحد الزغاريد، ومشاعر الإحساس بالحرية والأمان في ظل غياب الشرطة وسيطرة الأهالي على الموقف عبر اللجان الشعبية التي استطاعت أن توفر لشعب مصر من الأمن والأمان ما عجزت وتعجز عنه الشرطة التي أطلقت يد الفاسدين والمجرمين لأعمال السطو والبلطجة وإرهاب الناس وإرعابهم، فما أن اختفت الشرطة من ميدان الشارع المصري حتى عاد الأمن والأمان للناس.
أريد أن أتوقف فقط عند مشهد واحد ومعنى واحد من مشاهد ومعاني ميدان التحرير، وهو السلوك الحضاري للمتظاهرين؛ حيث مع هذا الزحام الشديد الذي وصل أمس إلى أنك لا تكاد تجد موضع قدم خالية في الميدان وفي الشوارع المؤدية إليه حتى امتدت الحشود إلى ميدان رمسيس...أقول مع هذا الزحام الشديد مع وجود الصغار والكبار والنساء والرجال والشباب والشابات المتبرجات والمحجبات وجدنا الآتي:
1- التكاتف الشامل بين المتظاهرين جميعا وسعة الصدر التي شملت الجميع للجميع.
2- مشاعر التقدير من الصغير للكبير، وأخلاق الإكبار والاحترام من الرجال للنساء.
3- لم نسمع أو نسهد حادثة تحرش واحدة في ميدان التحرير الذي كان مكانا لهذا التحرش في المناسبات والأعياد، رغم الحشود الهائلة.
4- الشباب الجميل والشابات الرائعات الكل يحرص على نظافة المكان، فتجد النساء تحمل أكياس القمامة وتدور على المتظاهرين لتجمع منهم القمامة، وتجد الجميع يحمل قماماته في يده لا يلقيها في الأرض منتظرا من يمر عليه ليجمعها.
5- الشوارع الجانبية تطوع لها شباب واعٍ لتنظيفها، وجمع ما فيها من مخلفات.
6- تطوع كثير من الشباب بل الفتيات للتفتيش الذاتي لمن يدخلون الميدان بحثا عن المندسين والفاتنين الذي اكتشفوا منهم مع قوات الجيش الكثير والكثير وبخاصة أمس الثلاثاء الأول من فبراير 2011م.
7- تطوع الكثير من أبناء ميدان التحرير بإحضار الطعام والشراب والمشروبات، ويقومون بتوزيعها حسبة لله وحبا في الناس، بل إن عددا من أبناء مصر الموسرين تبرعوا بمبالغ كبيرة لكفالة المعيشة اليومية للمتظاهرين.
8- الوعي الكامل والمذهل للمتظاهرين فلا تنطلي عليهم إشاعة من الإشاعات، ولا يتجمعون بكثرة حول أحد المندسين ممن يريدون التخذيل والتثبيط ويعارضون المتظاهرين؛ حيث يتركونه بلا معارضة ولا جدال منصرفين إلى حيث التظاهر والاحتجاج والتركيز على المطالب المقصودة.
9- التصميم والإصرار على إبقاء سقف المطالب عاليا مهما طلع رئيس الجمهورية وقدم تنازلات عبر تصريحات أو بيانات أو تكليفات أو حتى كلمات يلقيها على شعبه، ورفض الجميع الحوار مع النظام إلا بعد رحيل الرئيس.
10- التلاحم المعجب والمذهل بين جميع الموجودين في الميدان بلا نعرات ولا تحزب ولا انكفاء على الذات بل الجميع منفتح على الجميع، والكل يسعى لتحقيق أهداف محددة ومطالب معينة علتْ على كل الانتماءات والآفاق الضيقة والحسابات المحدودة.
إنني مهما كتبت عن السلوك الحضاري لمتظاهري ميدان التحرير ـ وهو مشهد واحد وملمح واحد من ملامحه ومشاهده التي لا تحصى ـ فلن أستطيع أن أنقل ما في مشاعري ولا ما في نفسي، ليس راءٍ كمن سمع.
إن العالم كله يرقب اليوم ميدان التحرير بمشاعر متباينة، فالحكومات العربية تهرول إلى إحداث إصلاحات وتغييرات عاجلة، وتُهرَع إلى تعديلات فاصلة في الحياة السياسية والدستورية، والحكومات الغربية تتابع بقلق خوفا من رحيل النظام المصري ومجيء بآخرين لا يعرف مدى تجاوبهم مع أمريكا وإسرائيل، والشعوب المقهورة في كل مكان تتابع بفرحة عارمة، ويتنمرون لحكامهم يضعونهم بين خيارين: إما الرحيل، وإما الحياة الكريمة.
إن إصلاح العالم العربي والإسلامي سينطلق من ميدان التحرير، وإن كان لتونس فضل السبق وإطلاق الشرارة، لكن مصر ليست تونس، وتونس ليست مصر، وواجب الوقت علينا في ميدان التحرير ألا ننتقل من الفصل الثاني إلا بعد الانتهاء من الفصل الأول تماما، وهو رحيل هذا النظام بشكل كامل؛ لأننا لو تحدثنا عما بعد ذلك لن نُنهي الفصل الأول من المشهد ولا الفصل الثاني، ونكون كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كالمنبتّ، لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى". والله أكبر ... ولله الحمد.

الحلول الجزئية لن تغني شيئا

الحلول الجزئية لن تغني شيئا
وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@yahoo.com
انتفض الشعب المصري بكل أطيافه، شبابا وكهولا، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، أحزابا وحركات، انتفاضة هي حصاد عقود من الجوع، والفقر، والاستبداد، والاحتكار، والجهل، والمرض، والتعذيب، وانعدام الأمن، والتزوير، والفساد الشامل، والسلب والنهب، فما لا يزيد عن 5% يملك ثروة لا يملكها 95%.
إن المشهد الذي نراه اليوم في مصر ليس وليد الفيسبوك ولا وليد الشباب الذي انتفض، وإنْ مثَّل ذلك الشرارة الأولى، وإنما هو حصاد عقود من الاستبداد والفساد والاعتقال والمحاكمات العسكرية وإهدار أحكام القضاء، وحرمان الشعب من حقوقه الأساسية، حتى طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، فما كانت إلا انتفاضة عارمة وانفجار شعبي كبير يصعب استيعابه أو وقفه إلا بتحقيق مطالبه.
إن خطاب الرئيس المصري جاء مخيبا للآمال، ثم التغييرات الشكلية التي أحدثها كانت على نفس الشاكلة وأكثر، ولن يتزحزح الشعب المصري حتى تتحقق مطالبه جميعا.
لو كانت التغييرات الشكلية جاءت قبل يوم الثلاثاء 25 يناير كان يمكن للشعب أن يقبل بها على مضض، ولكن بعد عشرات الشهداء ومئات الجرحى وآلاف المعتقلين لن تضيع هذه التضحيات سدى، وستشعل الثورة أكثر، وتزيد الشعب إصرارا ومضاء واستمرار، ولن نستطيع حصار الفتنة والانفلات الأمني إلا برحيل النظام كاملا، وفي مقدمته رأس هذا النظام.
إن حوادث السرقة والنهب التي أطلقتها قوات الشرطة ورجال الحزب الوطني عبر إطلاق "بلطجية" الانتخابات من السجون وأصحاب السوابق ـ لن تنطلي على أبناء الشعب المصري الذي أدرك أن هذا النظام الفاجر يريد أن يؤدب الشعب على ثورته حتى يرجع إلى النظام مستجيرا ومستغيثا.
إن الثورة التي قامت كانت من أجل رفض حكم العسكر، فلا يمكن قبول تعيين نائب للرئيس من العسكر، ورئيس وزراء من العسكر كذلك، وأصدق ما ينطبق على تعيين النائب ورئيس الحكومة قول من قال: "أعطى من لا يملك من لا يستحق".
لقد آن الأوان للشعب المصري أن يحقق ما يريد، وأن يخط مستقبله بيده بعيدا عن أمريكا وإسرائيل، وإذا نطقت الشعوب فالكلمة كلمتها والرأي رأيها، ولن يستطيع أحد كائنا من كان أن يلتفّ على مطالب الشعب وقراراته الواضحة.
إن الرأي العام الأمريكي والأوربي وكذلك الرأي الرسمي غير واضح تماما، فيه تلكؤ وتباطؤ وحيرة، يفسرها أنهم بين مطرقة الثورة الشعبية، وسندان المجيء بإسلاميين في مصر، ولهذا لا يوجد رأي واحد ينحاز إلى النظام أو إلى الشعب.
إن مصر لها مكانتها التي لا تخفى: سياسيا وجغرافيا واجتماعيا، وأي تغيير سيحدث في مصر لابد أن ينسحب على الوطن العربي كله...هكذا أنبأنا التاريخ.
ليس هناك من حل للقضاء على ذلك إلا رحيل النظام تماما، ثم تشكل حكومة إنقاذ من كل أطياف المجتمع المصري، ويحل مجلس الشعب ومجلس الشورى، وتقوم لجنة حكماء من كبار القانونيين والوطنيين في مصر لصياغة دستور جديد يضمن الحريات والمواطنة والعيش الكريم.
أما هذه الحلول الشكلية فلن تزيد الأمر إلا سوءا، والفتنة إلا اتساعا، والشهداء إلا كثرة، والانفلات الأمني إلا انتشارا، والسرقة والنهب إلا ازديادا وضرواة... وقى الله مصر وأبناءها شر الفتن، وحقن الدماء وحفظ الأرواح... آمين.

الجمعة، 21 يناير 2011

تحيات ورجاءات لشعب تونس الأبي

تحيات ورجاءات لشعب تونس الأبي

وصفي عاشور أبو زيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد،،

فقد تابعت وأتابع عن كثب ما جرى ويجري في تونس، مثلي في ذلك مثل كل إنسان في العالم يتطلع إلى الحرية والتحرر، ويطيب لي أن أعرب عن تقديري الكامل لحركة الاحتجاج التونسية الشعبية التي طالبت بحقوقها المشروعة، وأؤيد هذه الحركةَ السلمية التي انطلقت من أرجاء تونس إلى العاصمة حتى تحقق لها بعض ما أرادت؛ إذ لم يزل أمامها طريق طويل...

وإنني إذ أحيي هذه الحركةَ أودُّ أن أبين وأؤكد عددًا من الأمور:

أولا: نحتسب ضحايا هذه الحركة من الشعب التونسي شهداء عند الله تعالى؛ فهؤلاء قاموا يطالبون بالعيش الكريم، وبالكرامة التي جعلها الله من خصائص بني آدم: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً". سورة الإسراء: 70، وخرجوا يطالبون بحقوقهم الأساسية التي ضاعت عبر عقود من الزمان دون أن يرقب فيها أحدٌ إلا ولا ذمة، فهنيئا لهؤلاء الذين نحسبهم شهداء مكانتهم عند الله، ومكانتهم بين الناس، وهنيئا لهذه الدماء الزكية التي سالت دون الكرامة والحرية والشرف، ونؤكد أن هذه الدماء لن تذهب هدرًا؛ فقد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، ولن تزال تعمل عملها في هذا الشعب الأبي، وفي غيره من شعوب العالم، ونحمِّل إثمَ هذه الدماء التي أريقت كلَّ مَنْ شارك فيها أو حرض عليها، أو رضي بها....

ثانيا: ينظر العالم كله بكل إعجابٍ وتقدير إلى سلمية هذه الحركة ـ بكل فصائلها وتنوعها ـ التي لم ترفع سلاحا، ولم تقصد إلى تخريب شيء، بل انطلقت طَوْعية سلمية مُحدِّدة أهدافها التي قامت من أجلها، راسمة طريقها التي أرادت، وندعو إلى عدم الخروج عن هذه السلمية مهما كانت الأحوال، فإن حفظ المجتمعات والعمل على أمنها من المقاصد العليا للإسلام.

ثالثا: نناشد شعب تونس الخضراء أن يقف بكل حزم في وجه كل من تسول له نفسه العمل على زعزعة أمن بلادهم ونشر الفتنة بينهم، فإن هناك من يتربص بهذه الحركة الدوائر، ومن يريد أن يفسد طبيعتها، ويحطم نتائجها، ويسرق إنجازاتها عبر إشاعة الفتنة وسرقة الأموال العامة وتخريب المجتمع؛ ليكون ذلك ذريعة لرفضها والانقضاض عليها محليا وإقليميا وعالميا.

رابعا: نحيي الجيش التونسي الذي دلَّل على وطنيتهِ الأصيلة حين اتخذ موقفًا شريفًا، مُحتَرِمًا الإرادة الشعبية، مُقَدِّرًا حَقَّها في قول كلمتها وتوصيل رسالتها وتقرير مصيرها.. حافِظًا في كُلِّ ذلك الجبهة الداخلية موَفِّرًا لها أسباب التماسك والثبات في وجه التحديات...

خامسًا: تنثمِّن المواقف الرسمية والشعبية، وبخاصة على مستوى العالم العربي التي أيدت خيار الشعب التونسي، وتعاطفت مع مطالبه، وتشيد بالمواقف والمشاعر الصادقة للشعوب العربية التي أظهرت أصالة هذه الشعوب ونقاء معدنها، وإحساسها الصادق بالحق، ووقوفها ضد الظلم والقهر والاستبداد، وهذه مواقف ومشاعر نأمل أن يكون لها ما بعدها من الدعم والمساندة والمعاضدة.

سادسًا: نؤكد لشعوبنا العربية والإسلامية عامة، وللشعب التونسي خاصة، أن القوى الخارجية لا تتحرك إلا وفق مصالحها، وتكيل بأكثر من كيل بما يحفظ وجودها في مجتمعات الشرق، وهذا يقتضي الحذر منها والبعد عنها في تقرير مصير الشعوب، بل يجب أن تكون الكلمة الأولى والقرار الأول للشعوب نفسها، ولا تركن إلى هؤلاء بأي حال..

سابعًا: نناشد التونسيين الذين يعيشون خارج تونس أن يعودوا فورًا إلى بلادهم للمشاركة الفعلية في بناء تونس الخضراء، ويضعوا أيديهم في أيدي الشرفاء من أبناء هذه الثورة لبناء البلد من جديد، بعد أن تم تجفيفها وتجريفها، فتونس في حاجة إلى بناء حضاري وبناء اقتصادي وبناء روحي وبناء سياسي وبناء علمي، بناء شامل يعيد إلى العالم صورة تونس الزيتونة، تونس العلماء والمصلحين والثوار الأحرار من أبناء هذا الشعب العربي المسلم.

ثامنًا: ونناشد شعب تونس الأبي ألا يسمح ببقايا الظلم والفساد في حزب ونظام بن على أن يسرقوا ثورتهم، ويخدعوهم بوعود كاذبة، بعد أن كانوا أدوات القهر والفساد، وقد ذم الله فرعون وجنوده معا، في قوله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ". القصص: 8.، وسئل أحد العلماء من رجل: إني أخيط أثوابا للظلمة، فهل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال الشيخ : لا، لست من أعوان الظلمة، بل أنت من الظلمة أنفسهم.

تاسعًا: ونلفت نَظَرَ كل زعيم ظالم وطاغية مستبد بمصير شعبه: أن يأخذ العبرة والعظة مما حدث في تونس قبل فوات الأوان، وندعو كلَّ حكام البلاد العربية والإسلامية أن يُراجعوا أنفسهم؛ فيرجعون إلى شعوبهم، ويحاورونهم، ويمدون أيديهم إليهم؛ بناءً للأوطان وصيانةً لهوية الأمة وصناعةً لمستقبلها وحمايةً لها مِمّا يتربّص بها... فلن يجدوا أفضل من شعوبهم بعد الله نصيرا ومعينا، ولن يحميهم أحد سوى شعوبهم، كما لن يحميهم أحد من شعوبهم، ونذكرهم بقول الله تعالى: "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً". سورة طه: 111. وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة". رواه مسلم.

وختامًا نهيب بالشعب التونسي الأصيل أن يحافظ على مكتسبات هذه الحركة المباركة، وأن يدرك أنه يمر بظرف دقيق واختبار عسير يجب أن يتمخض عما فيه صلاح البلاد والعباد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

الأربعاء، 5 يناير 2011

تكريمًا لنهى

تكريمًا لنهي


وصفي عاشور أبو زيد


رزقني الله بمولودة في ثالث أيام عيد الأضحي المبارك الثاني عشر من ذي الحجة 1426هـ 12/1/2006م. وكنت قد نويت أن أسميها نهي إحياء لاسم أختي ـ كانت شهرتها نهى، واسمها نقلة عاشور علي أبو زيد ـ التي اختطفها الموت من بيننا في 20 رجب 1424هـ/ الموافق 17/9/2003م. وكانت لاتزال في مقتبل العمر -24 عاما- حيث كانت تتمتع بصفات إنسانية نبيلة تجعل من فقدها مصيبة, ومن فراقها حزنا في القلب لا يمحوه اختلاف الليل والنهار.

ولكن خشيت أن تجدد هذه التسمية الحزن في القلب كلما تذكرت هذا الاسم الحبيب, ولكن حسم هذا التردد موافقة الاسم إحدي السيدات العظيمات التي صنعت موقفا بطوليا شجاعا أصبح مضرب الأمثال في العالمين, وهي المستشارة الدكتورة نهي الزيني -نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية- التي شاركت في الإشراف القضائي علي الانتخابات البرلمانية في دائرة بندر دمنهور يوم الأحد 20/11/2005م» إذ أدلت بشهادتها التي قضت بتزوير الانتخابات لصالح مرشح الحزب الوطني الدكتور مصطفي الفقي وأن الفائز الحقيقي هو مرشح الإخوان الدكتور محمد جمال حشمت।


استطاعت هذه المرأة أن تقوم بواجبها في مشهد نادر الوجود, وأن تصدع بكلمة الحق في زمن عز فيه من يعلي صوته في حرية وجرأة وشجاعة, وفي الوقت الذي ارتشي فيه كثير من القضاة الرجال, فشوهوا سمعة القضاء المصري محليا وعالميا, وباعوا مبادئهم وشرفهم بثمن بخس دراهم معدودة।هذا أقل ما يمكن أن نقدمه تكريما لها, وشدًا من أزرها, وتضامنا معها, وتكريما للقضاة الشرفاء الذين شهدوا معها, وتكريما لكل من يشهد بالصدق, ويصدع بكلمة الحق أيا كان عمله, وأيا كان موقعه.

وصفي عاشور أبو زيد

جريدة آفاق عربية عدد (745) 3 محرم 1427هـ/ 2 فبراير 2006م.

الجمعة، 31 ديسمبر 2010

أهل القرآن ودورهم في النهضة

أهل القرآن ودورهم في النهضة


وصفي عاشور أبو زيد
wasfy75@yahoo.com


حينما نقرأ في مدونات السنة النبوية الشريفة عن أنس، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن لله تعالى أهلين من الناس" قيل: يا رسول الله، ومن هم؟ قال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته "(
[1]). ويقول المناوي: "أي الذين يختصون بخدمته ... فإنه لما قربهم واختصهم كانوا كأهله([2])।


حينما نقرأ ذلك ندرك ـ تمامًا ـ ما لأهل القرآن عند الله تعالى من مكان ومكانة ؛ فليس بعد هذا التشريف تشريف، وليس بعد هذه الأهلية الإلهية من تكريم ورفعة، وليس بعد هذا الاختصاص والاصطفاء من كرامة وشرف: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا"। فاطر: 32। وإذا كان خير الكلام كلام الله، فكذلك خير الناس بعد النبيين من يتعلم القرآن ويعمل به ويعلِّمه، وليس مجرد حفظ حروفه فقط، وهذا مقتضى وصف الربانيين الذين قال الله عنهم: "وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ". آل عمران: 79॥


من معالم النهضة في القرآن
وحين نتحدث عن دور أهل القرآن في إحداث نهضة الأمة وقيادة تلك النهضة، فلا يسعنا أن نتجاوز الحديث عن دور القرآن نفسه في إحداث تلك النهضة وريادتها وبيان معالمها وموجباتها.


**إن أول ما يلفت النظر في هذا السياق في القرآن الكريم أنه "كتاب الإنسانية"؛ فلم ينزل القرآن للمسلمين فقط إنما نزل للناس كافة؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، إنه نداء للإنسانية قبل أن يكون نداء للمؤمنين رغم كثرة النداءات الإيمانية في هذا الكتاب العزيز.
حسبنا أن "يا أيها الناس" ذكرت في القرآن 19 مرة، وكلمة "الناس" في القرآن 138 مرة، و"بني آدم" 5 مرات؛ ومن ثم يفتح هذا الكتاب الباب على مصراعيه للحوار مع الآخر، واستيعاب البشرية بما فيه من مبادئ إنسانية، وتعاليم بشرية تصلح للبشر ـ كل البشر ـ رغم اختلاف الزمان والمكان والإنسان والحال؛ فهي الرسالة التي "امتدت طولاً ـ كما قال الإمام حسن البنا ـ حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضًا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عُمقًا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة".


** إنه الكتاب الوحيد ـ من الكتب السماوية التي بين أيدينا ـ الذي أعلى مكان "الآخر"، ورفع قدره، وأوجب له التقدير والإجلال والإقساط والإحسان والبر دون نظر أو اعتبار لعقيدته أو لونه أو جنسه أو لغته، كيف لا وقد قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا". الحجرات:13.
** ومع هذا الشمول في مساحات الخطاب نجد شمولا من نوع آخر، وهو في مجالات توجيه هذا الخطاب، ففي القرآن اهتمامات واسعة بمجالات الحياة كلها؛ عقيدةً وعبادةً، أخلاقًا ومعاملات، نظمًا وأحكامًا، قوانينَ وتشريعاتٍ، قيمًا ومُثلا، عاداتٍ وتقاليدَ، أعرافًا وموازينَ...الخ؛ فالأول شمول في المستهدفين من الخطاب، والثاني شمول في مجالات هذا الخطاب.


** هو الكتاب الوحيد الذي ظل محفوظًا لم تمتد ـ ولن تمتد ـ إليه يد بالتحريف أو التغيير أو التبديل أو التزوير، بمقتضى وعد الله بحفظه حين قال: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"। الحجر:9. فنجد فيه الأخبار الصادقة، والوقائع الحقيقية، وهو الوثيقة الوحيدة التي نطمئن إليها في قصص الأنبياء وسيرهم وتاريخهم؛ حيث نلتمس منها العبرة البليغة، والحكمة النافعة.


** من معالم النهضة كذلك في هذا الكتاب أن كل شيء فيه قائم على التوازن، توازن في الخلق وتوازن في الأمر، توازن في الكون وتوازن في التشريع؛ فتعاليمه وتشريعاته جمعت بين الدعوة والحركة، ومزجتْ بين العلم والعمل، ووصلتْ بين التأصيل والتطبيق، وربطتْ بين الدنيا والآخرة، في غير ما طغيان ولا إخسار.
لم يأمر باعتبار الآخرة وإهمال الدنيا، إنما جعل عمارة الدنيا طريقًا للفوز في الآخرة، فخلق الخلق وأمرهم بعمارة الأرض: "هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا". هود: 61. ولم يأمر المؤمنين أن يتبتلوا ويتعبدوا ثم يهملوا أبدانهم أو عقولهم، كما لم يأمرهم بالترهبن دون الزواج والإنجاب لتسير حركة الحياة ويعمر الكون.
كل هذا يدلك على رغبة القرآن في إحداث "حراك" في الحياة له شموله وتوازنه وعمقه واستمراره।


** إن من خصائص هذا الكتاب ومقومات النهضة فيه أنه ـ كما روى الترمذيُّ في سننه بسندٍ فيه مقال عن الحارث الأعور أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عنه ـ : "...هو الذي لا يزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه...".، وهو الذي وصفه الإمام الشاطبي بأنه: "كليةُ الشريعة، وعمدةُ الملة، وينبوعُ الحكمة، وآيةُ الرسالة، ونورُ الأبصار والبصائر، وأنه لا طريقَ إلى الله سواه، ولا نجاةَ بغيره، ولا تَمَسُّكَ بشيء يخالفُه ... وإذا كان كذلك لَزِمَ ضرورةً لمن رامَ الاطلاعَ على كلياتِ الشريعة، وطَمِعَ في إدراك مقاصدِها واللِّحاقِ بأهلها أن يتخذَه سميرَه وأنيسَه، وأن يجعلَه جليسَه على مَرِّ الأيام والليالي؛ نظرًا وعملاً، لا اقتصارًا على أحدهما، فيوشك أن يفوزَ بالبُغْيَةِ، ويَظْفرَ بالطُّلْبَةِ، ويجدَ نفسَه من السابقين وفي الرعيل الأول"(
[3])।


**ومن خصائص هذا الكتاب ومعالم النهضة فيه أنه خالد وخاتم، كما أن الذي أنزل عليه خاتم، وكما أن الذي أنزل لهم خاتمون؛ فليس بعد القرآن كتاب، وليس بعد محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسول، وليس بعد أمة الإسلام أمة.
ومقتضى هذه "الخاتمية" أن أودع الله في القرآن أصولاً وكلياتٍ ومبادئَ، ثابتةً لا تتغير ولا تتبدل مهما تبدلت الأجيال والأزمان والأحوال والعوائد، فهي بمثابة الجبال الرواسي التي تمسك الأرض أن تميد بالناس؛ يرجع الناس إليها، وينشئون حضارتهم وعمرانهم على أساس منها واستبصار بها وبصيرة فيها، يرجعون إليها عند الفزع، ويأوون إليها عند الخوف، ويلتمسون فيها الفرج عند الضيق، ويجدون عندها ـ مهما كان الألم واليأس وتردي الواقع ـ الرَّوْح والراحة والأمل والرضى والرضوان واليقين.
وجعل فيه متغيراتٍ تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والعوائد؛ احتضانًا للواقع، واستيعابًا لمتغيراته، وإحداثًا لأحكام وتشريعاتٍ تنبثقُ من تلك الكليات والمبادئ والمقاصد، ولا تتعارض معها أو تتصادم بها।


أهل القرآن والنهضة
إننا مهما حاولنا أن نكتب عن معالم النهضة الحضارية القرآنية لن ننتهي من الحديث، ولن ينتهي بنا بحره إلى ساحل، فالقرآن بحر، من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله؛ ذلك إن كان له بَرٌّ، أو وجد له ساحل.
ولما كان أهل القرآن ـ الذين هم أهل الله وخاصته ـ يحملون هذا القرآن؛ حفظًا وتلاوةً وتدبرًا وعملاً وتعليمًا؛ فلا يتصور أبدا أن تجدهم منفكين عن هذه المعالم أبدًا، بل دائمًا متلبسين بها جميعًا؛ فهم عن القرآن يصدرون، وإليه يرجعون، ومنه يغترفون، وفي نوره يسيرون، وبه يجاهدون البشرية جميعًا جهادًا كبيرًا.
إن أهل القرآن هم أهل السماحة والتواصل الفعال الحضاري بين البشر؛ حوارًا موصولاً، وعطاءً ممدودًا.
لن تجد أحدًا منهم مصابًا بالتعصب أو الانغلاق، ولن تجد أحدهم موبوءًا بالتحجر أو التحلل أو احتقار الخلق، إنما هو شخص منفتح على "الإنسانية"، على "البشرية"، على "بني آدم"، كيف لا، وهو يُدرِجُ بين جنبَيْهِ كتاب الإنسانية؟!.
إنهم يحمون الناس من اليأس، ويضيئون أمامهم الطريق، وييسرون لهم العسر، ويذللون لهم الصعب، ويبثون فيهم الأمل، ويحيونهم بعد موات، ويهدون البشرية للتي هي أقوم: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا". الإسراء: 9.

ومن الأدوار التي يمكن أن يؤديها أهل القرآن للأمة في هذا السياق ما يلي:
** دور تربوي جماهيري، بحيث ينشرون هدايات القرآن، ومنهجه في إصلاح النفوس وترقيتها في مدارج الكمال الإنساني المنشود؛ فيصير الفرد إنسانًا صالحًا مصلحًا، تتحقق فيه مقتضيات الاستخلاف والتكليف والعمارة।


** دور إصلاحي اجتماعي؛ بحيث ينبني هذا الدور على الدور السابق، فمتى تحققت الربانية في الأفراد سهل تحقيق الإصلاح الاجتماعي العام بحفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان، وهو المقصد الأعلى من وضع الشريعة كما قال العلامة الطاهر بن عاشور وغيره।


**دور تيسيري تبشيري، وهو دور يتغلغل في الأدوار الأخرى وينسرب في تضاعيفها؛ بحيث يظهرون سماحة الإسلام ويسر الشريعة؛ فيستوعبون الناس، ويبسطون مظلة الإسلام على قطاعات البشرية العريضة بما أودع الله في هذا الدين من أصول جامعة وفروع متغيرة، تتغير بتغيرات الزمان والمكان والأشخاص والأحوال والعوائد، وفي الوقت نفسه يبشرون بظهور الإسلام إن عاجلاً أو آجلاً، وينشرون الأمل بين الناس رغم وجود الألم، فإن تَبَلُّجَ الإصباح يَخْرُجُ من رحم الظلام الدامس، وإن سورة الفجر نزلت بعد سورة الليل!.

وكما أن معالم النهضة الحضارية في القرآن لا تنتهي، فكذلك معاني النهضة الحضارية في أهله لن تنتهي، ولن نستطيع حصرها إلا كما روى الإمام أحمد بسنده عن سعد بن هشام بن عامر قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن قول الله عز وجل: "وإنك لعلي خلق عظيم"(
[4])। وصدقت السيدة عائشة رضي الله عنها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله العظيم॥!!.


الحواشي:
([1]) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم بسندهم عن أنس رضي الله عنه، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تعليقاته على المسند، وقال المناوي: "قال الحاكم: روي من ثلاثة أوجه هذا أجودها اهـ، وفي الميزان: رواه النسائي وابن ماجه من طريق ابن مهدي عن عبد الرحمن بن بديل، وأحمد عن عبد الصمد عن ابن بديل تفرد به، وقد ضعفه يحيى، ووهاه ابن حبان، وقواه غيرهما". فيض القدير: 2/629. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. الطبعة الأولى. 1415 هـ– 1994م.
([2])فيض القدير: 2/628-629.
([3])الموافقات: 4/346. طبعة دار الفكر العربي.
([4]) مسند أحمد: (24645)، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح.

الأحد، 31 أكتوبر 2010

عبد الصبور شاهين: مشروع مالك بن نبي درس في مسالك النهضة الحضارية ودروبها


الحوار الأخير مع د. عبد الصبور شاهين حول مالك بن نبي
د عبد الصبور شاهين: مشروع مالك بن نبي درس في مسالك النهضة الحضارية ودروبها

حاوره/ وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@yahoo.com
يعتبر مالك بن نبي واحداً من رجالات القرن العشرين الذين شغلوا أنفسهم بقضايا أمتهم، وسعوا إلى بلورة الحلول والاقتراحات الكفيلة بإخراج الأمة المسلمة من تخلفها الشامل المركب، ودفعها إلى معانقة العصر بفاعلية، من خلال تقديمه مشروعاً فكرياً متكاملاً في وقت كان فيه العالم الإسلامي يعارك فلول الاستعمار أو يعيش مخلفاته التي كبلت حركته، وسممت أجواءه الثقافية والفكرية بإفراز نخبة منه حاولت إفهام الرأي العام المسلم بأن القوة في اتباع سبل الغرب وتقليد نموذجه الحضاري، وقد وقف مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ ضد هذه الدعوات اليائسة والمضللة وصاغ مقولة "القابلية للاستعمار"، مقتنعاً بأن الهزيمة الحقيقية للجيل المسلم ـ وكل جيل استوفى شروطه نفسها ـ هي هزيمة نفسية لا تزول إلا بتغيير ما بالنفس مصداقاً لقوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". (الرعد: 11).
وفي إطار مشروعه الفكري العام وتحديد نوعية وطبيعة المشكلات التي يواجهها المجتمع الإسلامي، كرس مالك بن نبي أغلب جهده الفكري لبحث مشكلة نهوض المجتمع المسلم من الهوة الحضارية التي يعاني منها.
واليوم قد مر على وفاة ابن نبي أكثر من سبعة وثلاثين عاما، ومن الخير أن نقف أمام فكره وبعض مواقفه ورؤيته الإصلاحية، لنأخذ منها الدرس والعبرة النافعة لتسديد مسيرة أمتنا، وتعزيز طريقها نحو التغيير والإصلاح، كل ذلك من خلال حوار مع أفضل من يحدثنا عنه، وهو مترجمه الأشهر الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين الذي ترجم ثمانية كتب من كتبه من الفرنسية إلى العربية، ودارَسه وعايشه فترة طويلة من الزمان، فإلى تفاصيل الحوار

***بداية نود أن نتعرف من سيادتكم على قصة تعارفكم بالمفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله.
تعرفت به في ظروف تعتبر أقسى ما يواجهه شاب في حياته، فقد كنت آنذاك متخرجا في دار العلوم بالقاهرة، ودارسا في كلية التربية جامعة عين شمس، ومفرجا عني من السجن.
وشاب في مثل حالتي في ذلك الوقت لم يكن من حقه أن يعمل في وظيفة حكومية، وليس في السوق مجال للعمل الحر، ومعنى ذلك أن الإحساس بالضياع كان يحوطني من كل جانب، وأذكر أني كنت أقرأ في ذلك الوقت كل إعلانات الصحف التي تطلب عاملين، وكان من بين هذه الإعلانات إعلان للجامعة العربية عن حاجتها إلى ملحقين دبلوماسيين، وكنت ـ في مرحلة مبكرة قد درست شطرا من القانون والاقتصاد في كلية الحقوق الفرنسية بالقاهرة، فتقدمت في هذا الإعلان ونجحت، ولكني لم أُعَيَّن، فقرأت ـ وكنت في الفصل الدراسي الأول في كلية التربية ـ إعلانا للإذاعة المصرية عن حاجتها إلى مذيعين محررين، فتقدمت، وكان من حظي أن أكون أول الناجحين في هذه المسابقة من بين 330 متقدما، وذلك عام 1957م، ونشرت الصحف الخبر المدهش، وأرسل إليَّ مفتش المباحث العامة آنذاك "القائمقام" العميد أحمد صالح داود بضرورة أن ألقاه، وكنا في الفصل الدراسي الأول، وذهبت ولقيني بوجه متجهم، وقال لي بعد قليل من السخرية والاستهزاء: "انت عاوز تتسلل للإذاعة من ورانا – اسمع يا واد انت ما لكش عمل في البلد دي – لا قبل التخرج ولا بعده – انت عاوز تمارس نشاطك ضد الريس والثورة – شوف لك شغله برة".
وضغط على الكلمة الأخيرة وكررها، وهي كانت تعني عندي الكثير في ذلك الوقت، وخرجت من عنده كاسف البال لا أملك دموعي، منقطع السبيل، لا أمل لي في شيء.
وفكرت في الطريق، وعزمت على أنه ينبغي ألا أيأس، فإن اليأس لا يعرفه قلب المؤمن، لا سيما عندما يكون معه ما يشجعه على عدم اليأس، ولقد كنت أملك ميزة يمكن أن أستغلها، وهي معرفة اللغة الفرنسية، فقلت في نفسي بصوت خفيض تسمعه أذناي: "لو أنني عملت في حقل الترجمة من الفرنسية إلى العربية لن يستطيع أحد ـ ولا عبد الناصر ـ أن يمنعني من العمل في هذا المجال، واللهِ العظيمِ لن أترك هذا البلد".
كنت في ذلك الوقت منتسبا إلى كلية التربية من ناحية، وإلى الدراسات التمهيدية للماجستير بدار العلوم من ناحية أخرى، والحمل ثقيل، ولكن الإنسان أحيانا يشعر بأن في وسعه أن ينقل جبلا من مكانه إلى مكان آخر، وفي ساحة كلية دار العلوم القديمة، وأنا ذاهب إلى إحدى محاضرات الدراسات العليا بدار العلوم، في يوم من أيام مارس 1957، نادى عليَّ باسمي مَنْ لا أزال أذكره وأحمل اسمه في قلبي، تعرف إليَّ، وأخبرني باسمه: "أنا عبد السلام الهراس من المملكة المغربية"، ثم قال لي: "هل تحب أن تترجم كتابا؟" لم أكن حدثت أحدا بما دار في نفسي من العزم على الاشتغال بالترجمة؛ ولذلك فأنا ما زلت ـ بعد مرور نصف قرن على هذه الحادثة ـ مندهشا لما جرى، ما الذي ساق إليَّ هذا الرجل ليحدثني في أمر حدثت به نفسي، مجرد حديث نفس؟!
لم يكن يخامرني شك في أن الشاب عبد السلام الهراس الذي ساقه القدر إليَّ ـ لم يكن سوى حامل رسالة ملائكية، هي رسالة الرحمة الإلهية التي أخرجتني من ظلمة اليأس إلى ساحة الفرج، وأغلقت حانوت التحكم في مصائر العباد لتفتح بدلا منه ساحة اللطف والتدبير العلوي الحكيم.
وكانت البداية مع هذه اللحظة في كتاب: "الظاهرة القرآنية" للأستاذ مالك بن نبي، وكان قد هرب من باريس إلى مصر إبَّان إعلان الثورة الجزائرية، حين شعر أن الحكومة الفرنسية توشك أن تلقي عليه القبض، فهرب إلى مصر لاجئا سياسيا، ومعه مجموعة من كتبه التي كتبها بالفرنسية، ولم يكن يعلم شيئا عن العربية، وكانت خطته لكي يعيش في القاهرة أن يترجم كتبه إلى العربية، ويعيش مما تدره عليه ترجمتها، هكذا فكر، وهكذا كنت قد فكرت، والتقينا على هدف واحد ونية واحدة وعزيمة واحدة، وكنت في ذلك الوقت في الفصل الدراسي الثاني من كلية التربية بالإضافة إلى انشغالي بالدراسات العليا بدار العلوم، ومع ذلك فإن الهم الثقيل المزدوِج لم يمنعني أن أخوض غمرات التجربة الأولى في الترجمة، فأنجزت للأستاذ مالك في الترجمة كتابه الأول: "شروط النهضة" وتم طبعه.
ويوم ذهبت لأعرف نتيجتي في كلية التربية كانت معي النسخة الأولى من الكتاب أُزْهَى بها على زملائي وأقراني، ولا أعتقد أن أحدا قد مر بمثل هذه اللحظة من السعادة التي مررت بها، حين وجدتني ناجحا في كلية التربية، ناجحا في الدراسات العليا بدار العلوم، ناجحا في الترجمة بظهور الكتاب الأول للأستاذ مالك، وكان ذلك إيذانا بأن الطريق صارت معبدة نحو المضي في طريق التحدي والقهر الذي فرضه الحاكم الطاغية المستبد عبد الناصر على كل من قال له "لا"، وخالفه في اتجاهه.

*** هل تذكر مواقف لها ذكراها وأثرها في نفسك مع الأستاذ مالك؟
لا شك أنني لا أنسى ما دار بيننا في أول لقاء، وكنت قد ترجمت فصلين من كتاب "الظاهرة القرآنية" عن المذهب المادي والمذهب الغيبي، وقرأت عليه الترجمة الأولى، فما سمعت منه سوى لفظين اثنين بلهجته المغربية: "باهي"، و"الله يجازيك خير"، وتعلَّم مالك بعد ذلك العربية على يدي من خلال مراجعتنا للكتاب الأول: "شروط النهضة"، وللثاني: "فكرة الإفريقية الآسيوية"، والثالث: "الظاهرة القرآنية، إلى آخر الكتاب الثامن: "فكرة كومنولث إسلامي"، وبمناسبة الكتاب الثاني: "فكرة الإفريقية الآسيوية" فقد ترجمته ابتداء من الإجازة الصيفية بعد ظهور نتيجة كلية التربية حتى ظهر في طبعته الأولى في 28 ديسمبر 1957م، أي أن ترجمة الكتاب وتصحيحه وطبعه وإصداره كان ذلك كله في خمسة أشهر مع أن الكتاب حجمه كبير، وكنت قد عينت مدرسا للغة العربية في مدرسة السويس الإعدادية للبنين، وفي الثاني من يناير 1958م بعد ظهور الكتاب بثلاثة أيام ذهبت أنا ومالك لتقديم نسخة منه إلى جمال عبد الناصر، وعليه إهداء رقيق مطبوع: "للرئيس الذي يمسك بيده مقود التاريخ" كما قال مالك، ونشر خبر ذهابنا يوم الجمعة 3/1/1958م في تشريفات رئيس الجمهورية، وذهبت يوم السبت مع ضوء الفجر إلى السويس لأبدأ يوما دراسيا جديدا في عملي التدريسي، وكانت المفاجأة رهيبة ومذهلة أني منعت من دخول الفصل الدراسي، ووقعت على ورقة بالطرد من التدريس، وخرجت منها بين دموع الزملاء وسواد الرؤية المستقبلية، ومضيت إلى القاهرة ولم أعد إلى السويس منذ ذلك التاريخ حتى الآن.
وقد انتهيت ـ بحمد الله ـ من ترجمة ما تيسر لي من كتب مالك بين عامي: 1962 و1963م، وذهب مالك إلى الجزائر، وكان كثيرا ما يتردد على بيروت حيث بدأت كتبه المترجمة تنتشر في المشرق العربي، وما زالت حتى الآن.

***الاحتلال الفرنسي للجزائر لم يُبق شيئا من هويتها ولا عروبتها، فهل كان للأستاذ مالك دور في إعادة الهوية الإسلامية والعربية للشعب الجزائري؟
في الواقع يعد مالك أول وجه ثقافي يطل من شرفة الجزائر على العالم العربي، وكان وجها مشرِّفًا، وله جاذبيته الأسلوبية التي لا ينكرها من يناقشه أو يعايشه، ولا شك أن الجزائر والشعب الجزائري لا ينكر أثر مالك وكتبه المترجمة في النُّقْلة الحضارية التي حققها هذا الشعب من الفرنسية إلى العربية.
لكن تعريب الجزائر أسهمت فيه عوامل كثيرة جدا، من أهمها البعثات المصرية التي اشتغلت في مجال التعليم بالجزائر؛ حيث كانت ذات أثر حاسم في تحقيق التعريب وعودة الشعب الجزائري إلى أصله، مع تسليمنا بأن الفرنسيين ما زالت بصماتهم مطبوعة على جبين الجزائر حتى الآن.

*** الأستاذ مالك بن نبي كان معاصرا لعبد الحميد بن باديس، وهما جزائريان، فهل تأثر مالك بدعوة ابن باديس ومشروعه الإصلاحي؟
كان مالك يحبه ويعتبره من العلامات المضيئة على طريق حرية الشعب الجزائري وتربية الجيل الذي قاد الثورة الجزائرية إلى الاستقلال فيما بعد؛ ولذلك فإن هذا الشعب مدين للشيخ ابن باديس وفكره الإصلاحي فيما يتعلق بتحقيق الحرية، فلم يكن لأي عامل آخر كالماركسية أي أثر في الثورة الجزائرية فيما أعتقد، ولا شك أن كل الإصلاحيين الإسلاميين يتماثلون في الأساس والجوهر، وإن اختلفوا في التفريعات والتفصيلات.

***نشأ مالك بن نبي في فترة كثرت فيها الحركات الإسلامية الإصلاحية التي كان ظهورها نتيجة طبيعية لظروف العالم العربي والإسلامي في ذلك الوقت، فهل استفاد ابن نبي من هذه الحركات أو تأثر بأي منها؟
الأستاذ مالك كانت عنده فكرة عن الحركة الوهابية، وكذلك كانت عنده فكرة عن حركة الإخوان المسلمين، لكني كنت ألاحظ أن بعض أفكاره عن الإخوان يشوبها الخطأ والتشويه؛ ولذلك تدخلت في ترجمة كتابه: "وجهة العالم الإسلامي" في تعديل فكرته عنهم، وقد كانت شديدة الانحراف والظلم، والسبب في ذلك أنه لم يكن قد عاش في زمان الإخوان، بل كان متأثرا بما كتب عن الحركة أيام عبد الناصر، وهي كتابات مغلوطة وظالمة، والذين يقولون عن الإخوان ما يقولون ـ في هذه الأيام ـ ويصدرون أحكاما جزافية على الحركة هم في الواقع متعسفون؛ لأن الإخوان منذ عام 1948م وحتى الآن في حرب مستمرة مع الأمريكان وإسرائيل وأتباعهما، ومع ذلك فإن جوهر الحركة لم يتغير رغم عوامل البلاء المستمر، ومن المؤكد أن تقدير الإنسان المسلم لهذه الحركة تقدير عميق لا يتأثر بالأحكام الماركسية ولا العلمانية التي يصدرها بعض الكتاب الطفيليين الذين يتعيشون من وراء هجاء الإخوان.
وعلى الرغم من ذلك ستبقى حركة الإخوان المسلمين أعظم الحركات تعبيرا عن الحقيقة الإسلامية، وأقل الحركات تعلقا بالتفاصيل والجزئيات والفرعيات، وأعمق الحركات تأثيرا في وجدان المسلمين في العالم، فهم الذين قاتلوا في أفغانستان، وهم الذين حرروا شعوبا كثيرة في العالم الإسلامي، وحافظوا على الوجود الإسلامي ماثلا منتصب القامة أمام العوامل المعادية والتيارات الهدامة؛ ولذلك فإني أعتقد أن حركة الإخوان هي أصدق الحركات تعبيرا عن الأمل في بقاء الإسلام وفي انتشاره، ولو عاش حسن البنا مزيدا من العمر لحقق للأمة الإسلامية مشروع الوحدة الكبرى بجهاده وإخلاصه.
ونعود إلى الأستاذ مالك فأقول: إنه ـ في تقديري ـ صنع نفسه بنفسه، ولم يتأثر بأي من الحركات التي كانت شائعة آنذاك لكنه كان عميق التقدير للشيخ عبد الحميد بن باديس.

***نموذج الثقافة الغربية أو الغريبة عن الإسلام ـ في نظر البعض ـ دائما هناك حساسية بيننا ـ نحن الإسلاميين ـ وبينه، لكن شخصيات: مالك بن نبي في الجزائر، وسيد قطب في مصر، وعلي شريعتي في إيران هي في الحقيقة نماذج عملية أثبتت غير ذلك، كيف ترون ذلك من خلال ثقافة كل منهم وما انتهى إليه؟
لكل واحد من هؤلاء الثلاثة ـ كما ذكرت ـ أسلوبه الخاص به؛ فمالك متأثر بطريقة التفكير الغربية الفرنسية، وعلي شريعتي له روافده الشيعية في البيئة الإيرانية، وسيد قطب روافده إخوانية سجونية حيث قضى وقتا طويلا من حياته في السجن، فكلٌّ له طابعه الخاص، لكن الهدف واحد والرسالة واحدة.
وأعتقد أن مالكا لم يكن لديه صفات الزعامة، إنما كان عنده صفات المفكر، أما سيد قطب فكانت له صفات الزعامة لكنه لم يدرك فرصتها قبل أن يكون نزيل السجن بشكل دائم، وأما علي شريعتي فكانت بيئته ـ في تقديري ـ بمثابة السجن أيضا من حوله حيث حالت بينه وبين المجالات الأخرى مثل مجالات أهل السنة.
وهناك أمر عجيب في كل منهم: مالك بن نبي كان مهندسا في الكهرباء، وسيد قطب كان متخصصا في الأدب والنقد، وعلي شريعتي كان متخصصا في علم الاجتماع، إلا أنه جمعهم هدف واحد، وغاية واحدة هي غاية النهضة والإصلاح والفكر الإسلامي.
وأمر آخر أنبه عليه من خلال هؤلاء الثلاثة بالذات، وهو أن ثقافتهم الإسلامية والعربية بحكم البيئات التي نشأوا فيها ـ لم تمنعهم من الاطلاع على ما عند الغرب والاقتباس منه بما لا يتعارض مع مبادئ العروبة والإسلام؛ فسيد قطب تعلم كثيرا في أمريكا، وحصل على الماجستير من هناك، ومالك عاش في فرنسا جل حياته ما عدا فترة اللجوء السياسي والثورة الجزائرية، وعلي شريعتي هو الآخر اقتبس من الثقافة الغربية كثيرا، وهذا دليل على أن الفطرة الإسلامية دائما تغلب كل العوامل الطارئة، والواقع أن أنموذج الأستاذ مالك دليل قاطع على ما أقوله الآن، حيث إن سفره وإقامته في فرنسا هذه الفترة جعلت منه شخصية إسلامية كأنها نبتت في بيئة إسلامية.
*** يعتبر مالك بن نبي دارسا للقضاء، ومتخصصا في الهندسة الكهربائية، فما سر هذا التحول في حياته من الكهرباء إلى هموم النهضة ومغارم الإصلاح باعتباركم عايشتموه وحدثتموه فترة طويلة؟
في الواقع إن هذا الموضوع ثار مرة بيني وبينه عليه رحمة الله، وذلك حين سألته: أنت تعلمت في كلية الهندسة لتكون مهندسا في الكهرباء، فما الذي دفعك إلى طريق الاهتمام بقضايا النهضة والحضارة؟ فقال لي ـ فيما أذكر الآن ـ: "إنني بعد أن أصبحت مهندسا في الكهرباء رأيت أن أمتي بحاجة إلى مهندس للأفكار أكثر من حاجتها إلى مهندس للكهرباء، فعكفت على دراسة كتب التاريخ والفلسفة والاجتماع لأحقق ما رأيت أنني أستطيع أن أقدمه في بلدي ولأمتي العربية والإسلامية".
ولذلك ـ كما قلت ـ يعتبر مالك بن نبي نموذجا فريدا في هذه الطريق الوعرة.
*** لا شك أن لكل مفكر أو مصلح مصادره التي يستفيد منها، ومرتكزاته التي ينطلق من خلالها، فما أهم المصادر التي اعتمد عليها مالك في مشروعه الحضاري؟
لو نظرت إلى الجو الذي عاشه مالك بن نبي في باريس لوجدت أنه قد ترامت في مجاله أصداء الحركة الإسلامية المجاهدة، لا سيما تلك الحركات التي أسهمت في العمل العسكري خلال الأربعينيات، وقد كان هذا تجسيدا لما يملأ واقع العالم الإسلامي من إمكانات مادية وإنسانية، ولا بد أن مثل هذا قد أثر على فكر مالك بن نبي، وإن اختلف المنهج بينه وبينها، بالإضافة إلى أنك لو قرأت في كتبه لوجدت منطلقاته ومرتكزاته إسلامية أيضا، فهو ينطلق نحو الفاعلية في العقيدة الثقافة ومقاومة الاستعمار والقابلية له وتغيير الواقع عموما من قول الله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". (الرعد: 11).

*** الأمة الإسلامية اليوم تحتاج إلى كثير من المشروعات النهضوية الحضارية؛ وذلك لاستعادة مكانتها وريادتها، ففي رأي الدكتور عبد الصبور شاهين ما مدى حاجة الأمة الآن إلى المشروع الحضاري للمفكر مالك بن نبي؟
في الحقيقة مشروع مالك بن نبي النهضوي هو مشروع عقلاني ومنطقي يصلح درسا للشباب يتعلمون منه مسالك النهضة الحضارية ودروبها، لكن في هذا المشروع نقطة ضعف هي أن مالكا لم يكن يمثل قيادة فكرية جماهيرية، بل كان منحصرا في ذاته، ربما ألجأه إلى هذا الانحصار قدر كبير من الوسوسة والشك فيمن حوله، فلم يكن يثق كثيرا بأحد إلا بضعة أفراد تبين له من خلال المواقف المختلفة أنهم ليسوا عملاء للاستعمار، ولا يمثلون اتجاها استعماريا إلى اغتياله، وهذا هو مجمل تقديري وتقريري عن الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله.

مالك بن نبي في سطور
مالك بن نبي من مواليد قسنطينة بالجزائر (1905-1973) مفكر إسلامي بارز، درس القضاء بالمعهد الإسلامي المختلط، نال شهادة الهندسة الكهربائية من باريس وفيها أصدر عدداً من كتبه الهامة التي تناول فيها أبرز مشكلات العالم، لجأ إلى القاهرة عام 1956 وأصدر بعض كتبه فيها بالفرنسية ثم عاد إلى الجزائر بعد الاستقلال مديراً عاماً للتعليم العالي ثم تفرغ للعمل الفكري.
د. عبد الصبور شاهين في سطور
ولد في القاهرة 18 مارس 1929م، كان والده عالما أزهريا، ودخل الكتاب فحفظ القرآن قبل أن يتم سبعة أعوام، والتحق بالأزهر، ثم تخرج في دار العلوم عام 1956م، ، وتدرج في المناصب العلمية حتى أصبح أستاذا غير متفرغ للدراسات اللغوية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، تنوعت ثقافته بين أزهرية وفرنسية، وشارك في العمل السياسي من خلال مجلس الشورى المصري عام 1987م، كما اشتغل في مجال الدعوة إلى الله، وكان له نشاط بارز في الخطابة، وأوذي في سبيل الله كثيرا، فاعتقل لمدة عام من مارس 1955 إلى فبراير 1956م، ثم منع من التليفزيون الذي كان من أوائل العاملين فيه، كما منع من الإذاعة، ومن الخطابة، وله نشاطه ومجهوداته ومؤلفاته الإسلامية والفكرية واللغوية।



ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرته مجلة المجتمع الكويتية عام 2003م، وأعادت نشره جريدة العرب القطرية بعد وفاة د। عبد الصبور بقليل جدا.