الأربعاء، 24 يونيو 2009

كلمة في جمع الكلمة


سلسلة الأمة الوسط (14)
كلمة في جمع الكلمة


وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@hotmail.com


"كلمة في جمع الكلمة" لصاحبة الأستاذ الدكتور سلمان بن فهد العودة، العالم السعودي والمفكر المعروف، هو الكتاب الرابع عشر في سلسلة كتاب الأمة الوسط التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بالكويت.
وهو يصدر في وقت تعاني منه الأمة من آلام التفرق والتشرذم، والضعف والهوان والوهن، ففقدت الأمة مقومات ظهورها، وانتفت عنها خصيصة الشهود الحضاري التي هي من أخص خصائصها، فلم تعد مسئولة عن العالم ولا شاهدة عليه بل مشهودا عليها متحكما في شئونها ومقدراتها.

الفرق بين الاختلاف والتفرق
وفي البداية يوضح الدكتور العودة الفرق بين الاختلاف والتفرق، فالله سبحانه وتعالى في تنزيله نهى عن التفرق مطلقاً؛ ولهذا فكل تفرق فهو مذموم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن التفرق بالأجساد.
فالتفرق مذموم في الأحوال، والأقوال، والمذاهب، والمواقف، والأبدان؛ إذا كان تفرقاً مبنياً على غير سبب؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) (آل عمران: من الآية105).
أما الاختلاف فليس مذموماً بالإطلاق، فمنه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى في الآية بعدها: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: من الآية105)، فالاختلاف المذموم هو الاختلاف في الكتاب، والاختلاف على الكتاب واتباع الهوى، وهو أن يختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وإلا فقد يكون اختلافاً محموداً، ومن أمثلة الاختلاف المحمود اختلاف التنوع.
ثم يقرر المفكر الإسلامي أن التنوع سنة ربانية قامت الحياة على أساسها؛ فالله سبحانه وتعالى خلق من كل شيء زوجين، وجعل التنوع في أشكال الناس ومظاهرهم وألوانهم وأصواتهم، وفي مخلوقاته سبحانه وتعالى وفيما يراه الإنسان من حوله، فهذا التنوع جزءٌ من ثراء الحياة الإنسانية، وجزء من التجدد والطرافة فيها.
ومن الأمور الهامة التي تحافظ على الحد الأدنى للوحدة وجمع الكلمة هي الأخوة التي هي شرط الإيمان، وقد ذكرها في القرآن كثيرا، وفصلتها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن تتفاوت هذه الأخوة في درجاتها، فليس حق آحاد الناس أو حق شخص مضيّع أو مفرّط كحق شيخك العالم الجليل صافي المشرب والمذهب، صادق السريرة، صالح القول والعمل المؤثّر عليك.

تقسيم الناس إلى ملتزمين وغير ملتزمين
في معظم أو كل المجتمعات الإسلامية؛ تسمع بهذا التقسيم المشهور، القسم الأول: أناس ملتزمون. القسم الثاني: أناس غير ملتزمين، وهذه القسمة شاعت وذاعت، حتى أصبحنا نجد كثيراً من الشباب قد يتصل بك أو يقابلك فيقول لك: أنا شخص غير ملتزم، ولكني أحب الخير، ومحافظ على الصلوات، فتتعجب لذلك.
وينبغي أن نحدد أولا المعيار للالتزام، هل نقصد بالالتزام: فهل الالتزام أن يكون مظهر الإنسان متفقاً ومنسجماً مع سنة النبي وهديه فقط؟ أو نقصد بالالتزام التمسك بالدين؟
هناك نوعان من الناس:
الأول إنسان مفرط في مظهره وعنده معصية ظاهرة، لكنه قد يكون من جهة أخرى ملتزماً.
والثاني: إنسان عنده التزام في هديه الظاهر وسمته الخارجي؛ في ملابسه في شكله في شعره في هيئته، ولكن هل يمنع هذا أن يكون عنده نقائص داخلية وعيوب خفية.
ومن ناحية أخرى فإن لهذه القسمة إلى ملتزم وغير ملتزم تبعات، فربما تقتضي عندنا نوعاً من الانفصال بين الناس بعضهم البعض وتفريقهم إلى فرق وأحزاب وجماعات؛ فإذا كنت أنا غير ملتزم بهذا الاعتبار الذي ذكرناه قبل قليل فأنا محتاج إلى أولئك الملتزمين؛ لأستفيد منهم، وأنهل من علمهم، وأقتدي بأخلاقهم، وأقتبس من مشكاتهم، والملتزم- أيضاً- محتاج إلى أن يسوِّق بضاعته ودعوته التي يريد بها وجه الله عند من يسميهم بغير الملتزمين، وعلى هذا فهي مجموعات داخل هذا المجتمع يحتاج بعضها إلى بعض.
ويبين العودة أن هناك مؤثرات خارجية -من الخطورة بمكان- على كثير من شبابنا، بل لها تأثير قد يكون أقوى نتيجة وأعمق أثراً من تأثير أب عاجز أو أم فاقدة للسيطرة أو الضبط لأبنائها، فمن هذه المؤثرات الأرصفة، الاستراحات، المنتديات، المدارس، القنوات الفضائية، مواقع الإنترنت، المجلات، السفريات، العلاقات الخاصة والمجموعات، وغير ذلك، ولا يشك عاقل في أن هذه المؤثرات تؤتي ثماراً مرة في غياب وعي المسئولين عن الشباب من والدَيْن ومربين وموجهين، وفي كثير من الأحيان يستطيع الزملاء في المدارس- ومن في نفس سن أبنائنا- أن يؤثروا عليهم تأثيراً بعيداً عميقاً إذا حانت لهم الفرصة في ظل أب عاجز وأمّ خرجت عندها ضوابط التربية عن طوقها.

ألوان التفرق
هناك ألوان ونماذج من تفرق الأمة الإسلامية ماضياً وحاضراً ذكرها الشيخ سلمان، على النحو التالي
أولاً: الانتساب للمذاهب الفقهية حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي وأوزاعي وظاهري إلى غير ذلك، فهذا الانتساب هو نوع من التفرق إذا ترتب عليه تعصب.
ثانياً: الانتساب لجماعة أو مجموعة أو حزب أو حركة من حركات الدعوة في العالم الإسلامي، إننا كثيراً ما نسمع من يقول مثلاً هذا من الإخوان، وهذا من السلفيين، وهذا من التبليغ، وهذا من هذه الفئة، وذاك من تلك، وأحياناً تلاحظ ولعاً وانهماكاً واندماجاً في التصنيف والتعديل والتجريح بشكل عجيب، حتى أصبح هذا فناً يُدرس وعلماً يُلقى.
إن التعاون على البر والتقوى مطلوب ومرغب فيه، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من دين الله عز وجل واجتماع المسلم مع إخوانه، والتّشاور معهم، وتنسيق المواقف، والاستفادة منهم كل ذلك طيب ولا حرج فيه، وكل هذه المعاني تعني مزيداً من الصلة والتلاحم والترابط بين المؤمنين، لكن لا تعني مجافاة من قد يكون له اجتهاد آخر، أو يسكن في بلد معين، أو يكون في واجب، أو فرض كفائي آخر يقوم به، فهذه المعاني التي ذكرتها ينبغي ألا تتحول إلى حواجز بين المؤمنين، وألا نحاكم الناس أو نحاسبهم أو نصنّفهم على أساس القائمة.
ثالثاً: التعصب للقبيلة، وهذا أمر عريق عند العرب، ونجد اليوم التعصب القبلي يضرب بجرانه في كثير من البلاد والمجتمعات الإسلامية، ليس ثمت مشكلة أن يعرّف الإنسان نفسه بأنه من قبيلة كذا وكذا، لكن المشكلة أن يتحول هذا إلى ولاء وبراء، بحيث تجد أن فزعة هذا الإنسان، وقيامه، ومحبته وبغضه وجهده ينصرف إلى من يوافقه في هذا الانتساب.
رابعاً: الانتساب لمنطقة أو إقليم أو شعب من الشعوب أو جنسية من الجنسيات، فهذا نجديّ، وهذا حجازيّ، وهذا غربيّ وهذا شرقيّ، وهذا خليجيّ، وهذا شاميّ، وهذا مصريّ، وهذا عراقيّ، وهذا كذا، وهذا كذا، فهذه الانتسابات إذا كانت مجرد تعريف فلا تضر، وقد كان الصحابة ومَن بعدهم يتعرفون بمثل هذه الأشياء.
وبعد سرد هذه الألوان من التفرق يقول الشيخ: لم يبق أمامنا نحن المسلمين ونحن نعيش في هذا العالم المضطرب، ونواجه هذه التحديات الصعبة التي أصبحت تستهدف ديننا وإيماننا وعقائدنا، ووحدتنا وإخاءنا، وخيراتنا وثرواتنا، وحاضرنا ومستقبلنا، وأجيالنا الحاضرة وأجيالنا القادمة،لم يبق لنا إلا أن نلتزم بضرورة المنهج الشرعي النبوي في التعامل مع الخلاف، الشرع الذي أقر الخلاف، واعترف به كجزء من الطبيعة البشرية، إلا أنه وضع مفردات في منهج التعامل مع هذا الخلاف.

مهمات في منهج التعامل
وبعد هذا التوضيح يضع الدكتور العودة معالم للتعامل مع هذا التنوع ، أهمها ما يلي:
أولاً: المجادلة بين المتخالفين بالتي هي أحسن، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:من الآية125)، (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت: من الآية46)؛ فإذا كان القرآن الكريم يرشدنا إلى مجادلة اليهود والنصارى بالتي هي أحسن، فكيف بمجادلة من يتفقون معك في أصل الدين وأصل الانتماء، ولكن قد يختلفون معك في اجتهاد أو رأي أو موقف أو حتى مصلحة دنيوية، أو موقف دنيوي، وهنا تأتي قضية المجادلة بالتي هي أحسن تبدأ من علاقة الإنسان مع زوجته، مع طفله في المنزل، مع شريكه في العمل، مع رئيسه، مع مرؤوسه، وتنتهي بالحوار العام مع جميع فئات الأمة وطوائفها.
ثانياً: التفريق بين الشأن الشخصي والموضوع العلمي؛ فحينما تبحث مسألة علمية، فقهيةً أو دعويةً أو ما أشبه ذلك عليك ألا تدخل فيها القضية الشخصية مع الشخص الذي تتحدث معه أو تحاوره.
ثالثاً: عدم الدخول في قضية أو مسألة لا يد للإنسان فيها ولا يدرك الإنسان أبعادها، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36).

من آداب المجادلة بالتي هي أحسن
وتحت هذا العنوان يكتب العودة بعض الآداب في الجدال بالتي هي أحسن، ومنها:
أولا: الحرص على التي هي أحسن كما سبق القول.
ثانياً: أن تنصف الآخرين من نفسك، فحينما نحاول أن نزن حسنات الآخرين وسيئاتهم تجدنا في الغالب نضع إصبعنا على طرف الكفة؛ لترجح هنا أو هناك بحسب ميلنا أو هوانا، ومعنى الإنصاف من نفسك: هو الجري على سنن الاعتدال والاستقامة على طريقه الحق وأن تضع نفسك في موضع الطرف الآخر؛ فتعامله كما لو كنت أنت في مكانه، وبالتجربة والمعايشة للناس في هذه القضية، ربما لا تستطيع أن تظفر بإنسان يوصف بأنه منصف من نفسه، لكن بعض الناس مسرف، وبعض الناس متوسط أو معتدل.
ثالثاً: الالتزام بنظام الخُلق الإسلامي من حسن الأدب، وحسن الحديث مع الآخرين، وحسن الاستماع، وحسن الظن بهم، والتماس المعاذير، والرفق، والصبر، والصفح.
وهنا لدينا مستويات:
المستوى الأول: أن لا يبدأ الإنسان أخاه بشيء من الشر؛ فإن البادئ أظلم. فكونك تبدأه بذلك تكون استثرته.
المستوى الثاني: هو أنه إذا بُدئ بشيء من ذلك؛ فعليه ألا يرد، وهذا مستوى راقٍ، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيم) (فصلت:35).

تسعة أسباب لكظم الغيظ
ولما كان كظم الغيظ من صفات المتقين كما ذكر القرآن، وله أثره في جمع الكلمة والتعايش مع الآخرين، كان موضوعا من الأهمية بمكان استحق أن يبين العودة أسبابه، وقد ذكر تسعة أسباب له على النحو التالي:
أولاً: الرحمة بالمخطئ والشفقة عليه، واللين معه والرفق به.
ثانياً: من الأسباب التي تدفع أو تهدئ الغضب سعة الصدر وحسن الثقة؛ مما يحمل الإنسان على العفو.
ثالثاً: شرف النفس وعلو الهمة، بحيث يترفع الإنسان عن السباب، ويسمو بنفسه فوق هذا المقام.
رابعاً: طلب الثواب عند الله.
خامساً: استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة المخطئ.
سادسًا: التدرب على الصبر والسماحة فهي من الإيمان.
سابعاً: قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم، وهذا لا شك أنه من الحزم.
ثامناً: رعاية المصلحة.
تاسعاً: حفظ المعروف السابق والجميل السالف.

اختلاف الاجتهاد بين العلماء والدعاة
ومن الاختلاف المقبول الذي يتطرق إليه هنا الشيخ سلمان هو الاختلاف بين العلماء والدعاة، وعن أسباب هذا الاختلاف يذكر العودة أربعة أسباب هي:
السبب الأول من أسباب الاختلاف هو الاختلاف في التكوين الفطري والنفسي والجبلي في المزاج الذي ركب منه هذا الإنسان.
السبب الثاني هو الاختلاف في التحصيل، أي: قدر ما حصله هذا الإنسان من المعرفة، والعلم، والفهم، والإدراك.
السبب الثالث هو الاختلاف في الظرف الذي يعيشه هذا الإنسان، فقد يعيش شخص ظرفاً معيناً يختلف عن الآخر، بحسب تغير الأحوال، والظروف، والمجتمعات، والسلم والحرب، والقوة والضعف، والصحة والمرض، وغير ذلك.
السبب الرابع الهوى الخفي، وقل من يسلم منه، حتى ذكر الإمام ابن تيمية - رحمه الله- أنه قد وقع فيه كثير من الأكابر من أهل الفضل والعلم، ومن السابقين من الأئمة والعلماء.
ويرى العودة أن هذا الاختلاف أمر طبعي لا حيلة فيه، بل من المصلحة بقاؤه، والله سبحانه وتعالى يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)(التين:4)، فهذا جزء من خلقة الإنسان، فالناس مختلفون في البصمة (عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه)(القيامة:4)، مختلفون في حدقة العين، مختلفون في العقل والنظر في الأمور ومجرياتها وفي التفكير، مختلفون في نبرة الصوت، فكل إنسان له نبرة، وبصمة، وحدقة مختلفة عن غيره، لكن حين نراعي آداب الخلاف وطبيعته، وندرك ما تعانيه أمتنا من تفرق في الكلمة وحاجتها إلى الوحدة والتضام، عندها ستبدأ أمتنا تستعيد قوتها وتسترد عافيتها، وما ذلك على الله بعزيز.

ليست هناك تعليقات: