الأربعاء، 24 يونيو 2009

الوسطــية السياســية


سلسلة الأمة الوسط (11)
الوسطــية السياســية


وصفي عاشور أبو زيد
wasfy75@hotmail.com

"الوسطية السياسية" للأستاذ الدكتور محمد سليم العوا، هو عنوان الكتاب الحادي عشر في سلسة الأمة الوسط التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بدولة الكويت؛ حيث يؤكد في بدايته أن "الوسطية" هي خصيصة هذه الأمة التي ميزتها عن غيرها من الأمم، وحفظت لها دينها عدلا لا غلو فيه ولا تفريط. والوسطية روح يسري في جميع أجزاء الفقه، وفي جميع تجليات الفكر التي يقيمها أصحابها على الفهم الصحيح لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو يستصحبونه في علمهم وعملهم.
وفي هذا الكتاب يحاول العوا أن يلفت الانتباه إلى ضرورة البحث في معنى الوسطية، وعلاقتها بمختلف جوانب الحياة التي ندعو الناس إلى إقامتها على أساس الإسلام فقهه وفكره، وأحكامه وقيمه، ومبادئه وتوجيهاته، فالوسطية المعاصرة تيار يسري في الجسد الفكري والثقافي للأمة العربية الإسلامية، تيار يستنهض العزم نحو التقدم، ويقاوم الاستكانة إلى حال التخلف والجمود في مجالات الحياة كافة. وهو تيار يستلهم الطبيعة الأصيلة للأمة العربية الإسلامية، كما يعبر عنها تاريخها، وكما قررها القرآن الكريم.

معالم الوسطية
ويشير العوا إلى أن هذا الفهم للوسطية باعتبارها تيارا في طريق التشكل النهائي، أو باعتبارها تيارا يستمر في التشكل جيلا بعد جيل، وعصرا بعد عصر حتى تبلغ الجماعة الإسلامية في كل عصر مقام الكمال – بهذا الفهم ننظر إلى الوسطية السياسية باعتبارها فرعا من فروع الوسطية الواجبة على هذه الأمة بجعل الله إياها ﴿أُمَّةُ وَسَطا﴾؛ فنراها تتمثل في معالم عدة نحاول أن نوجزها فيما يلي.

مفهوم الدين والدولة
المعْلَم الأول من معالم الوسطية الإسلامية السياسية أنها تنظر إلى مسألة العلاقة بين الدين والدولة على أنها علاقة اجتهادية، توجب على العلماء المؤهلين للبحث السياسي على أساس فقهي إسلامي استمرار الاجتهاد في كل عصر، فيكون المراد من كون الإسلام (دينا ودولةً) هو قبول المرجعية الإسلامية العامة التي تسمح بتعدد الآراء وتنوعها في الشأن السياسي، كما تسمح بتعددها وتنوعها في كل شأن إسلامي آخر؛ وبهذا الفهم يتجنب المسلم المعاصر الوقوع في القول بالفصل التام بين الدين والسياسة، وهو فصل غير صحيح نظريا، وغير واقع عمليا مع فهم معنى (الدين) على أنه الشريعة الحاكمة لمعاملات الناس الدنيوية، ويتجنب الوقوع في وهم أن النظام السياسي المقبول إسلاميا هو نظام بعينه، لا يصح الاختلاف حوله ولا الاجتهاد في تفاصيله.
ويستدرك العوا أنه لا يُعترض على ما قلناه بمسألة نظام الخلافة؛ لأن هذا اللفظ -الذي أصبح منذ تدوين العلوم الإسلامية عَلما على نظام الحكم في الدولة الإسلامية- لا يعني في مدلوله السياسي أو الدستوري أكثر من تنظيم رئاسة الدولة الإسلامية تنظيما يشمل اختيار رئيسها وتحديد حقوقه وواجباته، على نحو يشير إلى محاولة الصحابة -الذين ابتكروا لفظ الخلافة- السعي إلى محاولة اتباع المثل الأعلى الذي كان قائما في بداية نشوء الدولة الإسلامية التي تولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رئاستها؛ ولذلك لم تستقر التسمية نفسها؛ حيث لُقّب أبو بكر بالخلافة (خليفة رسول الله)، ثم لُقّب عمر بإمرة المؤمنين (أمير المؤمنين)، ثم استعمل الفقهاء لفظ (الإمام) في بحوثهم المتعلقة بالتولية والعزل والخروج على الحاكم (البغي) وما إليه.

طبيعة الاجتهاد المعاصر في الفقه السياسي
ويبين العوا أن الاجتهاد في الفقه السياسي اجتهاد يتعدد بتعدد مذاهب المجتهدين في عشرات المسائل الأصولية، وفي مسائل من علوم الرواية والدراية، وفي مسائل لغوية مما يتعلق به تفسير النصوص وفهمها وتنزيلها على الواقع الذي يجري الاجتهاد في ظله، ومؤدى ذلك وجوب التزام المرجعية الإسلامية في شأننا الديني التعبدي، وفي شأننا الدنيوي أيا كان مجاله؛ فإن كان ثمة نص تفصيلي قطعي الثبوت والدلالة وجب تطبيقه كما ورد عن الله أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يكن -بأن كان النص ظنيا في دلالته أو ثبوته- وجب الاجتهاد في الأمرين أو أحدهما؛ فحيث كانت قطعية الورود والدلالة التزمنا بها، وحيث كانت ظنيتهما، أو ظنية في أحدهما اجتهد المؤهَّلون للاجتهاد في فهمها، ووسعهم أن يختلفوا بالشروط المقررة للاجتهاد والاختلاف في علم الأصول -أعني علم أصول الفقه- وفي هذا الاجتهاد الذي قد تتباين نتائجه سعة وتيسير مما تضمنته مبادئ الشريعة بلا خلاف.
فالاجتهاد الفقهي المعاصر يرى أن مسألة النسب القرشي كانت متصلة بزمان نشأة الإسلام، والظروف القَبَلية التي أحاطت بهذه النشأة، كما يرى أنه لا يلزم المسلمين أن يبايعوا من يختارونه لحكمهم بيعةً أبديةً؛ بل يجب أن تكون هذه البيعة لمدة محدودة، فليس في النظم التي عرفتها البشرية نظام يحول بين الحكام وبين الجور والظلم -وهما من المحرّمات القطعية في الإسلام- ويحول بين الاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة، ويحول بين الحاكمين وقمع المخالفين بالقوة الغاشمة.. ليس هناك نظام يحول بين الناس وهذه المآثم جميعا إلا نظام يتقرر فيه وجوب تداول السلطة بالطرق السلمية.

أهمية القيم الإسلامية السياسية
وفي معلم مهم من معالم الوسطية يؤكد العوا أن إيقاع الاجتهاد الإسلامي السياسي يضبطه الالتزام بالقيم السياسية المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية، وما بُني على هذه القيم من قواعد فقهية، وهي أحكام ملزمة للحكام والمحكومين، والفقهاء والمجتهدين، على السواء؛ ذلك أنها كلها محل نصوص صريحة في القرآن الكريم والسنة النبوية، والالتزام بها موضع إجماع من الأمة على امتداد العصور. وأما القواعد الفقهية المستنبطة من هذه القيم فهي قوانين كلية تُستخرج منها أحكام المسائل التفصيلية كمثل قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، وقاعدة (وجوب جلب المصلحة ودرء المفسدة)، وأن (دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة)، وأن (تصرف الإمام على الرعية منوط بتحقيق مصلحتهم). وهذه القواعد كما يقول العلامة مصطفى الزرقا ـ رحمه الله ـ "أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية، تتضمن أحكاما تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها".
والقيمة الأساسية التي تتفرع عنها سائر القيم السياسية الإسلامية هي مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ المقرر في القرآن الكريم في كثير من محكم آياته، وفي السنة النبوية طائفة كبيرة من الأحاديث الصحيحة التي تأمر الأمة بأداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما القيمة السياسية الإسلامية التي تلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأهمية فيذكر العوا أنها الشورى، وقد ذكرها القرآن الكريم في آيتين كريمتين، إحداهما مكية، وهي في سورة الشورى، نزلت قبل أن تكون للمسلمين دولة أو حكومة، لتدل على أصالة هذه القيمة في البنيان الإسلامي، وأنها من خصائص الإسلام التي يجب أن يلتزمها المسلمون، سواء أكانوا يشكلون جماعة لم تقم لها دولة -كما كانت حالهم في مكة- أم كان لهم دولة قائمة بالفعل، كما كانت حالهم في المدينة، والآية الثانية في سورة آل عمران، وفي السنة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "ما رأيت أحدا أكثرَ مشورة لأصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
وقد بيّنت أحداث غزوة أحد ـ التي وردت في سياقها آية آل عمران ـ أن ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يميل إليه من البقاء داخل المدينة كان أصوب مما نزل عليه من رأي أصحابه من الخروج، ومع ذلك نزل القرآن في أعقاب ذلك يأمره بالعفو عن أصحابه والاستغفار لهم ومشاورتهم في الأمر كله. والنص بهذه الصورة، وفي هذه الظروف، قاطع في أن الشورى قيمة ملزمة لكل ذي سلطان، في وضع إسلامي، لا يسعه التخفف منه تحت أي سبب كان.

التعددية السياسية
ويبين الدكتور العوا أن التعددية السياسية أصل من الأصول التي تسلّم بها المدرسة الوسطية في الفكر الإسلامي المعاصر. والتعددية تعني في جوهرها التسليم بالاختلاف: التسليم به واقعا لا يسع عاقلا إنكاره، والتسليم به حقا للمختلفين لا يملك أحد أو سلطة حرمانهم منه، وهي توصف بالموضوع الذي يكون الاختلاف حوله والذي ينحصر فيه نطاقه؛ فتكون سياسية أو اقتصادية أو دينية أو عرقية أو لغوية أو ثقافية أو غير ذلك، والتعددية (بمعنى الاختلاف) في أنواع الخلق، وبين أفراد كل نوع من حقائق الإبداع الرباني المسلّمة، والتعددية في نوع الإنسان، وانتمائه، ومستوى أدائه لواجباته وممارسته لمكانته أجلى وأوضح.
ويخلص العوا إلى أن التسليم بالتعددية البشرية تبعا للتسليم بحق الاختلاف يقود بغير جهد كبير إلى التسليم بحق التعددية في المذهب السياسي، وأنه لا يجوز للدعاة إلى إصلاح سياسي يستند إلى الإسلام أن تغيب عنهم حقيقة يشهد بها تاريخ البشرية في مختلف أديانها؛ وهي أن أسوأ صور الظلم وأفدحها، وأبشع حالات الطغيان وأقساها ما كان مستندا إلى نظرة دينية يساء فيها استخدام نصوص الدين الصحيحة بتأويلها على وفق أهواء الظالمين، أو يُدسّ فيها على الدين ما ليس منه لتحقيق نزواتهم، والقضاء على خصومهم. وهذه الحقيقة تجعل بيان جوهر الموقف الإسلامي من التعددية السياسية باعتبار حق الاختلاف حقا إنسانيا أصيلا ألزم الآن منه في أي وقت مضى.
ويتساءل العوا تساؤلا مهما في هذا الصدد: ما الذي توجبه النصوص أو الأصول الإسلامية على الناس في حياتهم السياسية؟ وما الذي منعتهم منه؟ وهل حددت لهم طرقا معينة لبلوغ ما توجبه أو لتجنب ما تمنعه؟. ويقول: إن الناظر في أصول الإسلام (مصادره) لا يجد إلا مثل هذه القيم الكلية التي توجبها نصوص يبلغ عموم ألفاظها مبلغا لا يكاد يفيد المجتهد بشيء في سبيل تنظيم وضعها موضع التنفيذ.
وتبقى بعد ذلك الوسائل التي تبدعها الأمة لتحفظ لنفسها حقها في العيش تحت لواء هذه القيم الإسلامية، ولتحول بين الحاكمين وبين الاستبداد والطغيان، سواء أكان هذا الطغيان باسم الدين أم كان بأي اسم آخر لمسمى سواه، مؤكدا على أن الذي أوجبته الشريعة (المصادر أو الأصول) يجب الوقوف عنده ولا يجوز التحلل منه، وعدم العمل به معصية مستمرة لا تتقادم، ولا يسقطها مرور الزمان أو مضي المدة؛ لأن النصوص لا يلغيها الإهمال، ولا يفقدها قوتها الملزمة عدم الإعمال. ولقد أوجبت النصوص القرآنية والنبوية ما أسلفنا -بإيجاز- ذكره وذكر أدلته من القيم السياسية.

المرأة والعمل السياسي
وينتقل الدكتور العوا إلى منطقة حساسة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر وهي المرأة والعمل السياسي، حيث تثور في كل حديث عن الإسلام والسياسة في هذا العصر مسألة الدور السياسي للمرأة، والحديث عن هذا الدور في حياتنا السياسية الحاضرة مطلوب ومهم في المجتمع الإسلامي كله؛ لأن المرأة المسلمة بين شقي رحىً، أو بين أمرين أحلاهما مر: بين فريق من أهل الرأي والقدرة على الفعل يرون أنها لا تصلح لشيء إلا إنجاب الأطفال ورعاية المنزل بحجة أنها عورة، والمصدر الوحيد للفتنة، وليس أشد خطأ من أصحاب هذا الرأي إلا أصحاب الرأي النقيض له؛ الذين يرون أن كل قيد متعلق بحشمة المرأة وحجابها أو عفتها وصيانتها تخلف ورجعية، ويدعون المرأة المسلمة إلى التشبه بنساء الغرب اللاتي لم يعد يحول بينهن وبين شيء مما حرمه الله دين، ولا التزام خُلُقي، ولا محاسبة اجتماعية، ولا روابط أسرية.
وينتهي العوا إلى أن الأصل في العمل السياسي كله أنه تطبيق من تطبيقات أصل إسلامي أعم؛ بل فرض من فروض الكفاية على الأمة، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يرمي في النهاية إلى غاية أساسية واحدة هي تحقيق الصلاح الاجتماعي ومنع الفساد الاجتماعي، وآيات القرآن الكريم التي تحدثت عن أمور السياسة الشرعية من شورى وأمر بمعروف ونهي عن منكر لم تفرق بين الرجال والنساء، وكذلك السنة النبوية المطهرة.
فإذا تبين هذا لم يعد لأحد في إبعاد النساء عن العمل العام بسبب أنهن نساء، ويتأكد هذا بالسوابق الإسلامية الثابتة منذ عهد النبوة لمشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية، وقد شاركت النساء في الهجرة إلى الحبشة، وفي الهجرة إلى المدينة، والهجرة عمل سياسي بلا شك، وقد استخرج الأستاذ عبد الحليم أبو شقة -رحمه الله- في موسوعته "تحرير المرأة في عصر الرسالة" نحوا من ثلاثمائة دليل من السنة الصحيحة وحدها على أن مشاركة النساء في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية أمر لا يمنعه الشرع، ولا يحول بين المرأة وبينه صحيح الفقه.

وضع غير المسلمين في الدولة الإسلامية
وعن معلم مهم من معالم الفقه السياسي يشير العوا إلى وضع غير المسلمين في النظام السياسي الإسلامي في التساؤل الذي سيؤول إليه وضعهم إذا أقيمت الدولة الإسلامية، وأشار إلى انقضاء عقد الذمة بانقضاء الدولة الإسلامية، والعقود بطبيعتها قابلة للانتهاء والإنهاء، أما الأوضاع فهي باقية؛ فقد نشأ الوضع الجديد: وضع المواطنة الذي يستوي فيه المسلم وغير المسلم في الحقوق والواجبات القانونية أمام الدولة، وأمام قضائها، وأمام سلطاتها.
وأشار إلى أن الدفاع عن الوطن عند المسلمين هو جهاد قي سبيل الله، وغير المسلم مكلف به من حيث هو مواطن، ويجب أن يُسمح لهم بإقامة دور العبادات الخاصة بهم، ولا صحة لما يلهج به كثيرون من أن ذلك لا يجوز.

العلاقات الدولية المعاصرة
وينهي الدكتور العوا كلامه بالحديث عن آخر معلم من معالم الوسطية السياسية وهو العلاقات بين الدول الإسلامية وغيرها، فالفقه الإسلامي التقليدي كان يقسم العالم إلى دارين: دار الإسلام ودار الحرب، أو إلى ثلاثة بإضافة دار العهد، وهو مفهوم يستمد من حقيقتين: العقيدة، والظرف الواقعي، وتترتب عليه أحكام فقهية ليس بينها حكم واحد يجيز العدوان؛ وهذا المفهوم الإسلامي قد أدى دوره في تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، وهو مقصد من مقاصد الشرع باتفاق الفقهاء، وأشار إلى أن هذا التقسيم قد انقضى زمنه، وأن الفقه المعاصر يجب أن يتوجه صوب واقع العلاقات الدولية المعاصرة إذا انتقلت من حال السلم إلى حال الحرب، وليس دور الفقهاء والمفكرين أن يبحثوا في حال السراء وأحكامها ثم يسكتوا عن سواها، بل عليهم كذلك النظر في حال الضراء، وساعة يحين البأس، بل لعل الناس عندئذ يكونون إلى فكرهم ورأيهم أكثر حاجة وأشد طلبا.

ليست هناك تعليقات: