الثلاثاء، 17 يونيو 2008

أسس التعامل مع القرآن الكريم


أسس التعامل مع القرآن الكريم
بقلم -
وصفي عاشور أبو زيد

الأساس الأول: معرفة قيمة القرآن الكريم.
الأساس الثاني: معرفة مقاصد القرآن الكريم.
الأساس الثالث: معرفة الله تعالى والقرب منه.
الأساس الرابع: التلاوة الصحيحة.
الأساس الخامس: الحفظ.
الأساس السادس: الفهم.
الأساس السابع: العمل والتطبيق.
الأساس الثامن: التبليغ.
غني عن البيان أن القرآن الكريم له أهمية بالغة في حياتنا؛ فهو شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وهو كتاب خالد ووحي مقدس ونص معجز ودستور نظام ومنهاج حياة، بلسم ناجع، ونبراس مضيء ودليل هادٍ ونور مشع لا يخفت نوره حتى قيام الساعة، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد.
غير أن ظروفا حياتية كثيرة حالت وتحول بيننا وبين الاهتمام بهذا الكتاب: قراءة، وفهما، وتدبرا، وعملا، وجهادا، وتبليغا؛ حيث المشاغل الحياتية، والهموم الأسرية، والأوجاع المجتمعية، والمصائب العالمية التي لا تدع للإنسان فرصة للعيش السعيد، أو القرار الهادئ المكين.
ولا مخرج لنا أو نجاة من كل هذه المدلهمات إلا بالرجوع إلى كتاب الله، فالقرآن الكريم هو المصدر الأول للداعية وللفقيه ولكل مسلم؛ لأنه كتاب الإسلام الخالد الذي نزلت السنة لتبينه وتوضحه، وتخصص عامه أو تقيد مطلقه وتبين مبهمه، إلى آخر ما ذكره الأصوليون: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل : 44].
ولا يصح أن يكون المسلم داعية وصلته ضعيفة بهذا الكتاب في كل جانب من جوانبها، فهو داعية إلى الله تعالى، وإنما نعرف الله من خلال كلامه، فكيف يدعو إلى الله من لا يفقه كلام الله، أو لا يدرك حكمه وأسراره، أو لا يعرف كيف يتعامل مع القرآن الكريم؟!
لذلك كان لزاما علينا أن نضع أهم المعالم والأسس التي من خلالها يمكننا أن نتعامل مع هذا الكتاب الكريم، ومن أهم هذه الأسس ما يلي:
معرفة قيمة القرآن الكريم
أول أساس من هذه الأسس أن نعرف قيمة القرآن الكريم حتى ننزله منزلته ونقدره التقدير اللائق به، والإنسان مفطور على الاهتمام بالشيء إن كانت له قيمة، ولن يهتم بشيء إلا إذا عرف قيمته ووقف على أهميته.
1- فالقرآن هداية للمتقين، فمتى أخلص المسلم للقرآن أعطاه الله من هذا الكتاب، وهداياته ونوره وموعظته وبشراه إنما ينعم بها المؤمنون وينتفع بها المتقون: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ" [البقرة : 2].
2- القرآن يحتوي ما جاءت به الكتب السابقة، "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ" [المائدة : 48].
3- القرآن الكريم له أسماء تنبئ عن مكانته وقيمته، فهو الذكر الحكيم: "ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ" [آل عمران : 58]، وهو الفرقان: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ" [البقرة : 185]، وهو النور: "قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ" [المائدة : 15].
4- القرآن هو المصدر الوحيد الذي يمكن أن نثق به في قصص السابقين وعالم الغيب والشهادة، فعن الحارث الأعور قال: "مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على علي، فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار ضمه الله، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا يزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم". سنن الترمذي: أبواب فضائل القرآن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل القرآن، وقال أبو عيسى: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول. وفي حديث الحارث مقال".
5- القرآن الكريم فيه عز الأمة وذكرها ومجدها: "لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" [الأنبياء : 10].
6- تلاوة القرآن نور للقلوب ونور للبيوت، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب". سنن الترمذي أبواب فضائل القرآن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. باب : 18. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة". رواه النسائي في السنن: (10801).
7- القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي لم تمتد إليه يد بالتحريف ولا بالتغيير: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" [الحجر : 9].
8- القرآن له أوصاف كلها تدل على مكانته وعظمته فهو موصوف بالبرهان: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً" [النساء : 174]. وموصوف بالرحمة والهدى والبشرى: " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ " [النحل:89]. وموصوف بالبصيرة: "هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ" [الجاثية : 20]. وموصوف بالكريم: "إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ" [الواقعة : 77]. وموصوف بالحق: "المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [الرعد : 1]. كما أنه موصوف بالحكيم، والذكرى، والشفاء، والعزيز، والعظيم، والمبارك، والمبين، والمجيد، والمفصل، وغيرها من صفات.
9- القرآن كتاب الإنسانية في كل زمان ومكان؛ ولذلك نجد فيه نداءات متنوعة يخاطب فيها الناس، من ذلك نداء: "يَا أَيهَا الناس"، وقد وجدت هذا النداء متكررا في القرآن (19) مرة. كما أن هناك نداء آخر يقول: "يا بني آدم" وقد تكرر في القرآن الكريم (4) مرات.
10- القرآن يشتمل على شئون الحياة جميعا؛ فهو ليس كتاب مواعظ فقط، ولا تشريع فقط، ولا اقتصاد فقط، ولا تربية فقط، وإنما هو كتاب شامل تحدث في كل الأمور وبين كل الشئون، قال تعالى: "مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [يوسف : 111]. ولقد قال سيدنا ابن عباس رضي الله عنه: "لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى". وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها‏".
معرفة مقاصد القرآن الكريم
والأساس الثاني للتعامل مع القرآن الكريم أن نفهم مقاصده وندرك غاياته، ونقف على أهدافه وما يرمي إلى تحقيقه في النفس والمجتمع، فمعرفة مقاصد القرآن ابتداء تجعل لدى الإنسان تصورا عاما عن موضوعات القرآن الكريم، ومجالات اهتمامه، والموضوعات التي يتناولها.
وقد ذكر الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار في كتابه "الوحي المحمدي" للقرآن الكريم عشرة مقاصد، ونَحَى بها نحوا يتعلق بالإصلاح التربوي، انظر ما ذكره رشيد رضا من مقاصد في "الوحي المحمدي"، 105 - 235. طبعة الزهراء للإعلام العربي.. وذكر الشيخ القرضاوي سبعة مقاصد للقرآن الكريم تتداخل كثيرا وتتماس مع ما ذكره رشيد رضا. انظر كيف نتعامل مع القرآن العظيم، 73-125. دار الشروق. ط 4. 1425هـ/2005م.
ومن أفضل التفاسير التي نعرف من خلالها مقاصد القرآن ومقاصد السور "في ظلال القرآن" للأستاذ سيد قطب يرحمه الله.
والقرآن نفسه يتحدث عن مقاصده وغاياته؛ فهو للهداية: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [المائدة : 15 - 16].
وهو لإخراج الناس من الظلمات إلى النور: "الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" [إبراهيم : 1].
وهو لسعادة الإنسان: "مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى" [طه : 2].
وهو كتاب لإعزاز الأمة: "لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" [الأنبياء : 10]." وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ" [الزخرف : 44].
معرفة الله تعالى والقرب منه

وذلك أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، ولن يتأتى لنا فهم كلام الله أو تتشرب نفوسنا ببركاته وخيراته وفتوحاته إلا إذا اقتربنا من قائله سبحانه وتعالى، عندئذ نستطيع أن نفهم مرادات الله من كلامه ومقاصده من تشريعه، وغايته مما يحلل أو يحرم.
والطرق الموصلة إلى معرفة الله تعالى كثيرة ومتعددة، وليست محصورة في عدد معين، ويمكنني أن أقسم هذه الطرق إلى طريقين:
الأول: طريق الكتاب المنظور؛ ذلك لأننا إذا أمعنا النظر في هذا الكون الواسع الفسيح وجدنا أن كل شيء فيه دليل واضح على وجود الله، وطريق إلى معرفته سبحانه، وإذا تجاوزت نظرتنا النظرة المادية الظاهرية للأشياء، تلتها نظرة ثاقبة وفاحصة تصل إلى بواطن الأشياء، وقد قال تعالى: "قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ" [يونس : 101].
الثاني: كتاب الله المسطور، وهو القرآن الكريم، فهو دليل التعامل مع كتاب الله المنظور "الكون"، وكتاب الله المنظور هو برهان الإيمان بكتاب الله المسطور، فكلا الكتابين لا غني عنهما في الوصول إلى رب العالمين، وبلوغ سعادة الدارين، فهذه المعرفة وذلك القرب من الله تعالى يؤهل المؤمن لفهم كتاب الله وقراءته قراءة مبنية على الدليل والبرهان، ومؤسسة على الفهم والبصيرة.
التلاوة الصحيحة
ومن الأسس المهمة في التعامل مع القرآن أن نتلوه تلاوة صحيحة، وليس وراء ذلك من البدهيات حبة خردل، فهي من الأساسيات الأولى التي لا يصح للمسلم فضلا عن الداعية أن يتعامل مع القرآن الكريم بدونها. وفي القرآن الكريم ما يدل على هذا الوجوب: "إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ" [النمل : 91 - 92]" [النمل : 91].
وأحرى بالمسلم أن تكون له تلاوة يومية مع كتاب الله تعالى، ويجتهد أن يقرأ جزءا يوميا فيختم القرآن في كل شهر مرة، وإذا كان المسلم مطلوبا منه أن يكون هذا حاله، فماذا يكون حال الداعية؟ لا شك أنه يجب عليه الاهتمام به أضعاف اهتمام المسلم العادي، وما ينبغي للمسلم أن يكون إلا داعية بقدر علمه واستطاعته.
الحفظ
الحفظ هو أساس مترتب على حسن التلاوة وصحتها، وحفظ المسلمين للقرآن هو طرف من تحقيق وعد الله تعالى بحفظ هذا الكتاب: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" [الحجر : 9].
وحفظ القرآن يجعل الداعية مستظهرا للقرآن الكريم متمكنا منه، ما يجعله طليقا في الحديث، يحتج لأي قضية يتحدث فيها بما يتقافز على ذاكرته من كلام الله تعالى، فتتنادى له الآيات وتجتمع عنده عبر الحفظ المتقن والمراجعة الدائمة.
واعلم أن بداية العلم هو حفظ القرآن، وكل آية تحفظها باب مفتوح إلى الله تعالى، وكل آية لا تحفظها أو أنسيتها باب مغلق حال بينك وبين ربك.
الفهم
إذا قرأ المسلم القرآن وأتقن القراءة، وحفظه وأتقن الحفظ، فأحرى به أن يكون له وقفات عقلية مع آياته وقصصه وقيمه وموازينه وتصوراته وأفكاره وأسسه ومبادئه وأهدافه ومقاصده؛ لأن التدبر نوع من الاهتمام بالقرآن الكريم.
وقد قال الله تعالى: "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً" [النساء : 82]. وقال أيضا: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد : 24].
يقول الأستاذ سيد قطب: "ويتساءل في استنكار: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ).. وتدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير. وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير، ( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، فهي تحول بينها وبين القرآن، وبينها وبين النور، فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور".
وقد وضح الإمام ابن القيم قيمة الفهم وهو يشرح كتاب عمر في القضاء، فقال: وقوله "فافهم إذا أدلي إليك" صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى". إعلام الموقعين: 1/87. طبعة دار الجيل.
العمل والتطبيق

وهذا الأساس يعتبر ثمرة للأسس السابقة جميعا، ونتيجة طبيعية لها، وإلا تكون الشخصية غير سوية، فلا توجد نفس سوية محبة للناس والخير تحصل هذا الخير العميم ثم تحبسه على شخصها من دون الناس، والقرآن الكريم يومئ إلى معنى التطبيق والتنفيذ وتفعيل هذا الكتاب في حياة الناس، ومن ذلك: "إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ" [النساء : 105].
والمتأمل في القرآن الكريم يجد العمل الصالح مقرونا دائما بالإيمان، وحسبنا أن نص قوله تعالى: "آمَنوا وَعَمِلوا الصالِحَاتِ" مكرر في القرآن (48) مرة.
والعمل أو التطبيق له دوائر:
الأولى: دائرة فردية، وهي دائرة إصلاح النفس وتهذيبها وتزكيتها بما فرضه الله تعالى وسنه النبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: دائرة أسرية، وهي مسئولية الإنسان عن أسرته؛ زوجا وأبناء، وأبا وأما، وإخوة وأخوات، قال تعالى: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى" [طه : 132]. وقال أيضا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" [التحريم : 6].
الثالثة: دائرة مجتمعية، وهي الدعوة العامة في المجتمع عبر مؤسساته وهيئاته والوزارات التي تهتم بالدعوة والمجتمع، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك.
الرابعة: دائرة عالمية، وفيها تتحقق شهادة الأمة الإسلامية على سائر الأمم، وتكون فيها الأمة مسئولة عن هداية هذا العالم وتبليغ الدين له صافيا نقيا كما نزل به القرآن وجاءت به السنة النبوية.
التبليغ
وهو الأساس الأخير الذي تكتمل به دوائر التعامل مع القرآن الكريم، وبه تتحقق الربانية للمسلم، فلن يبلغ المسلم أن يكون ربانيا إلا إذا تعلم ما يجهل، وعمل بما تعلم، وعلّم ما تعلم، قال تعالى: "وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" [آل عمران : 79].
ولا يقبل الإسلام من المسلم - فضلا عن الداعية - أن يكون صالحا في نفسه وكفى، بل لابد أن يعمل الخير وينفع الغير؛ ولهذا قال تعالى: " وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ" [الأعراف : 170].
وفي سياق آخر يرمي القرآن غير المصلحين بصفة "الإجرام"؛ فيقول تعالى: " فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" [هود : 116 - 117]. فانظر كيف علق القرآن الكريم عدم الإهلاك بوجود المصلحين رغم وجود الظلم فيها.
وإذا كانت الصلاة فرضت بعد العام العاشر من البعثة، والزكاة والصيام والحج والجهاد بعد ذلك، فإن الدعوة مفروضة منذ اليوم الأول بمقتضى قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ" [المدّثر : 1 - 2].
والعلماء لم يختلفوا في فرضية الدعوة ووجوبها، لكنهم اختلفوا هل هي فرض عين أم فرض كفاية، وإذا اخترنا بأقل ما قيل وهو فرض كفاية، فمعنى الكفاية أن تتحقق الكفاية أو الاكتفاء في الأمة، وهو غير متحقق لاسيما في هذا العصر؛ ولذلك فإنني أميل إلى أن الدعوة والتبليغ فرض عين على كل مسلم حسب استطاعته وقدرته، وفي حدود علمه على طريقة: "بلغوا عني ولو آية".
والنماذج التبليغية كثيرة ومتنوعة في القرآن الكريم، منها الرسل والأنبياء، ومنها مؤمن آل ياسين، ومؤمن آل فرعون، كل هذه نماذج قرآنية وغيرها كثير تؤكد وجوب الدعوة حتى مع وجود الأنبياء والمرسلين، فما بالك بعد ذهاب الرسل، وبقاء الدعاة والمصلحين!! لا شك أن الأمر أوجب والمسئولية أكبر.

طلب العلم الشرعي ..الأولويات والمنهج


بحار - مصر
الاسم
طلب العلم الشرعي ..الأولويات والمنهج
العنوان
السلام عليكم مشكلتي إجمالا هي نسياني العجيب(بلا سبب عضوي) بالإضافة إلى قلة همتي سواء في العبادة أو تحصيل العلم + شعور كبير بالضياع في محيطات الكتب التي أقتنيها والشرائط الدينية وأمهات الكتب، ولا أعلم من أين ابدأ وفي أي منهم ومن ثم أنظر لهم وأتحسر ولا أفعل شيئا!! : أما تفصيل ذلك فالآتي:
مطلقة، قاهرية، 35 سنة، ليسانس آداب، من أسرة نسيبة ومرتفعة المستوى الاجتماعي والديني، منتقبة، أسبوعي يتكون من 3 دروس أحضرها، درسين يستغرق كل منهما 3 ساعات، خاصين بالتجويد وحفظ القرآن، ودرس آخر في تفسير القرآن يستغرق ساعتين، بخلاف هذا ليس هناك أي شيء مرتبطة به على مدار اليوم سوى الأمور العادية، إن كانت أمي تريد أن اذهب معها في مكان أو جاءنا ضيوف أو الأكل والنوم وأداء الصلوات.
ليس لي ورد يومي محدد فأحيانا أقرأ جزء وأحيانا اقرا صفحات قليلة وأحيانا أقرا آيات، أصلي فقط ركعتين قيام وأصلي الفجر حاضرا، كذلك أشاهد برامج دينية على الستالايت، مشكلتي هي أنني أنسى بشكل رهيب بالإضافة إلى أنني لا أجد طاقة في تحصيل العلم، فحتى واجب التجويد أكتبه قبيل الدرس بليلة، وبعد تسويف وشعور بالملل من أدائه.
أما القرآن فنفس الأمر، أراجعه قبيل الدرس، بمعنى أنني في حقيقة الأمر لا أخصص أساسا وقتا للمدارسة والاستذكار، ولا أجد وقتاً لمراجعة القرآن، مع أنني كنت متفوقة في الجامعة وأحصل على تقدير جيد، والمشكلة هي أنني أحب جدا اقتناء الكتب الدينية القيمة، فعندي كل كتب ابن القيم ومعظم كتب العقيدة وكتب التراجم والتفاسير و.. و.. و..و..، إلا أنني لا أقرأ منهم إلا اليسير وعلى فترات متباعدة، وهذا يصيبني بالحزن والضيق من نفسي إلا أنني اشعر بضعف بدني وخوار ورغبة كبيرة في النوم معظم الوقت (دون سبب صحي أو ضعف).
ماذا أفعل؟ أتمنى أن أقرأ ما لدي من كتب وأن أستمع إلى الشرائط، وخاصة أن كل ما أتعلمه أو تعلمته يتفلت مني، وقد كنت قد درست بمعهد إعداد الدعاة وانتهيت من العام الثالث ثم لم أكمل لزواجي، ماذا أفعل وكيف أنظم وقتي ومن أين أبدا؟ هل أبدأ بكتاب تفسير ثم عندما انتهي منه أمسك بآخر في العقيدة مثلا؟ أم ماذا؟ هل أخصص شريطا وكتابا أنتهي منهما في عدد محدد من الأيام؟ ماذا أفعل وكيف أتخلص من الخمول العجيب الذي يكتنفني وعدم الإقبال على العلم؟ بالرغم من توفر كل أدواته لدي ومن تيسرها لي تماما وبالرغم من أنني جسديا وصحيا لا تشوبني أي علة تفسر ما يكتنفني، جزاكم الله خيرا.
وأرجو الاهتمام وأرجو وصف خطوات عملية محددة يسيرة أبدأ بها، وأن تحددوا لها زمنا من ثم أتابع معكم إنجازها، أو أن تشيروا علي بمختص يساعدني على ما أنا فيه.


السؤال
29/01/2008
التاريخ
وصفي عاشور أبو زيد, سعدية أعنطري
المستشار
الرد
الأخت السائلة، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد
فإن مشكلتك تجمع بين أكثر من مجال وتحتاج في كل مجال متخصصا، وأما عن القراءة في الكتب الشرعية والتثقيف الإسلامي فهو أمر محمود ومطلوب من كل مسلم، وهو فرض عين في بعض الأمور مثل العلم بطيفية أداء الفرائض الواجبة على كل مسلم.
ومن المهم أن تحددي أولوياتك في تحصيل العلم الشرعي، وأولى الأولويات أن تتفقهي فيما لا يصح التعبد لله وأداء الفرائض إلا به كأداء الصلاة، وصيام رمضان، وإيتاء الزكاة إن كنت من أهلها، وتعلم مناسك الحق إن كنت ممن وجب عليهم، والأحكام الخاصة بالمرأة التي لا تخفى عليك.
فإن أردت أن تتزودي أكثر وتحصلي أكثر فهناك مجالات يجب أن ندركها في التثقيف الإسلامي، وهي العقيدة وعلوم القرآن وعلوم السنة، والفقه والأصول، والسيرة والتاريخ، والتزكية، والفكر الإسلامي، والعلوم الإنسانية الأخرى مثل الاجتماع والفلسفة وعلم النفس، والسياسة والاقتصاد، وغيرها من مجالات.
ومن الحكمة في البداية بالتعلم في أي مجال أن نبدأ بالسهل والقريب ونؤخر الصعب والبعيد في التناول والفهم والاستيعاب، وقد قيل: الربانيون هم الذي يربون الناس على صغار العلم قبل كباره.
ففي العقيدة يمكنك أن تبدئي بما كتبه الشيخ السيد سابق "العقائد الإسلامية"، والشيخ محمد الغزالي: "عقيدة المسلم"، ثم نتدرج بعد ذلك للكتب الأعمق فالأعمق.
وفي التفسير يمكنك قراءة ابن كثير، وفي ظلال القرآن، ثم القرطبي والطبري وهكذا، ويليق بك أن تأخذي فكرة عن علوم القرآن عبر كتاب مثل: "مباحث في علوم القرآن" لمناع القطان، أو الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي.
وفي الفقه : "فقه السنة" للشيخ سيد سابق مع تعليقات الشيخ الألباني، ثم كتاب بداية المجتهد لابن رشد، أو نيل الأوطار للشوكاني، وهكذا.
وفي الأصول: "تيسير علم أصول الفقه" للشيخ عبد الله الجديع، أو "الأصول من الأصول" للشيخ ابن عثيمين، أو "علم أصول الفقه" لعبد الوهاب خلاف، وكتب أبي زهرة والخضري وعبد الكريم زيدان، ثم إرشاد الفحول للشوكاني، والموافقات للشاطبي.
وفي مصطلح الحديث: "الباعث الحثيث في شرح علوم الحديث" لأحمد شاكر، وتيسير مصطلح الحديث لمحمود الطحان، ومباحث في علوم الحديث لمناع القطان، وقواعد التحديث لجمال الدين القاسمي، وهكذا.
وفي التاريخ والسيرة: كتاب الرحيق المختوم وسيرة ابن هشام، والكتب الحركية والدعوية مثل فقه السيرة للغزالي والبوطي والغضبان، والمنهج الحركي للغضبان، والمنهج التربوي للغضبان، وفي التاريخ يمكن مطالعة التاريخ الإسلامي لأحمد شاكر، والبداية والنهاية لابن كثير.
وفي الفكر الإسلامي: مؤلفات الدكتور محمد عمارة، ومحمد قطب، وسيد قطب، وعلي الطنطاوي وعلي جريشة، وسالم البهنساوي، ومالك بن نبي، ومحمد الغزالي، وغيرهم.
وفي التزكية: كتب الإمام ابن القيم، وإحياء علوم الدين للغزالي مع تعليقات الحافظ العراقي على الأحاديث والآثار، وكتب الشيخ سعيد حوى، وحكم ابن عطاء الله مع شروحها.
وهكذا في العلوم الإنسانية والاجتماعية وغيرها، وأنصحك أن تتعرفي على إحدى الداعيات المثقفات أن تعرضي عليها أمورك الثقافية لتتابعك وتجيبك عن تساؤلاتك التي تعن لك.
واعلمي أن الوقت في حياة الإنسان أهم من أن يعجز الإنسان عن ترتيبه، وأقصر وأسرع مرورا من أن يضيع في الحديث عن عدم ترتيبه أو استغلاله، فهذه طامة كبرى في عصر أصبحت السرعة من خصائصه الأصيلة، فلابد من الاهتمام بالوقت وتنظيمه، ويمكن أن تقرئي: الوقت في حياة المسلم للقرضاوي، وقيمة الزمن عند العلماء لعبد الفتاح أبي غدة.
وأسأل الله أن يشرح الله صدرك، وأن ينير بصيرتك، وأن ييسر لك الطريق.
وتضيف
أ‌.سعدية أعنطري عضو لجنة الأسرة بمؤسسة بسمة للتنمية الاجتماعية بالمغرب:
بداية أود أن أحييك على غيرتك على طلب العلم واقتنائه وكذا طلب المزيد من التواصل مع الله سبحانه وتعالى من خلال كتابه ومن خلال مدارسة العلم.
وأود أن أطمئنك برغم كل ما تحمله رسالتك من حزن وهم أن ما ينتابك من إحساس بالملل وضعف الإقبال على القراءة والمطالعة وتحصيل العلم ما هو إلا مسألة تنتاب أغلب الناس في عصرنا الحالي نظرا لهذه المفارقة العجيبة التي أصبحنا نعيشها كلنا يوميا، ألا وهي قوة وكثرة وسائل الإعلام ووسائل التثقيف والتي يقابلها ضعف وكسل وعدم رغبة في العلم من جهة أخرى.
فأغلب الناس والطلاب يشعرون بهذا الإحساس نظرا ليسر وسائل وصول المعلومة إلى بيوتهم ويتساءلون: "لماذا لم نعد تحصيل العلم في هذا الزمان؟".
ولذلك أود أن أثير انتباهك إلى أن المسألة ليست مرضية، ولكن هي نابعة من وعيك ومن صدقك نظرا لأنك تقولين إنك لا تعانين أي مرض عضوي.
وأما بالنسبة للحل فأود أن أنصحك بطلب الإرشاد من طرف طبيب يستطيع أن يساعدك فيما يخص قضية الذاكرة لأننا نعلم أنها مرتبطة بالعامل النفسي ومرتبطة حتى بالنظام الغذائي؛ لذلك يمكنك البحث حتى شخصيا في هذا المجال والاستعانة بنظام غذائي يقوي ذاكرتك، كما أنصحك أختي الكريمة بممارسة الرياضة على الأقل مرة أو مرتين في الأسبوع، وأخص بالذكر المشي لما له من تأثير إيجابي على الذاكرة.
وأما فيما يخص البرنامج العملي الذي تستطيعين تطبيقه فأنصحك بداية بتحديد أهداف صغيرة من خلالها تضعين سلسلة كتب للمدة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر ثم تأخذين النقط الأساسية بشكل انسيابي حيث تركزين فقط على أهم الأفكار التي أخذتِها من هذه الكتب.
كما أنصحك لتركيز هذه الأفكار بإلقائها شفويا أمام مجموعة من أخواتك أو صديقاتك بحيث تستطيعين مناقشتها، وبالتالي استيعابها بشكل قوي، وهكذا تمرين إلى محور آخر بنفس الطريقة ونفس المنهجية.
وأخيرا أنصحك بالابتعاد عن تأنيب ضميرك لأن هذا يهزمك أكثر مما يشجعك على الإقبال والاستمرار.

جمال الدين عطية.. رحلة العطاء والتجديد




جمال الدين عطية.. رحلة العطاء والتجديد *
وصفي عاشور أبو زيد

د. جمال الدين عطية
لكل عالم أو مفكر مراحل فكرية وعلمية تمثل قمة نضجه وعطائه، وتمثل مرحلة من هذه المراحل قمة المنحنى في النشاط العلمي والفكري والحركي؛ حيث يكون المنحنى قبلها منخفضا، وبعدها منخفضا أو يكاد يكون منعدما، أما أن تكون حياة العالم أو المفكر في تجدد وتجديد دائم ومستمر، وتنتقل من مرحلة جهادية فكرية إلى مشروعات إصلاحية فكرية وتجديدية شرعية فهذا ما لا نجده إلا عند القليل من مفكرينا وعلمائنا.
ويعد الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية من هذا القليل الذي ينتقل من نجاح إلى نجاح، ومن مشروع تجديدي إلى مشروع مثله، ومن موسوعة شرعية إلى أخرى، ومن كتابات تجديدية في مجالات الإسلام المتنوعة إلى مشروعات عملية واقعية تنهض بالأمة وتجدد دنياها بدينها.
المولد والنشأة والتعليم
ولد جمال الدين عطية محمد في قرية "كوم النور" إحدى قرى مركز "ميت غمر" التابع لمحافظة الدقهلية بجمهورية مصر العربية في 22-11-1346هـ الموافق 12-5-1928م لأسرة من الطبقة المتوسطة في ذلك الوقت ولأبوين كريمين، وإذا كان هذا هو تاريخ الميلاد المدون رسميا فإن الدكتور جمال عطية يرجع يوم ميلاده حقيقة إلى ما قبل هذا التاريخ بأربعين يوما؛ حيث كان لقيد الميلاد وقتها ظروف خاصة، ثم انتقل إلى القاهرة بعد الولادة بأسبوعين.
تعلم الدكتور جمال عطية حتى درس القانون في كلية الحقوق بجامعة "فؤاد الأول" (القاهرة حاليا)، وتخرج فيها عام 1367هـ/ 1948م، وحاول أن يتخصص تخصصا شرعيا فحصل على دبلوم الشريعة من كلية الحقوق عام 1369هـ/ 1950م، ثم سافر إلى الكويت بعد تخرجه، ثم إلى سويسرا ليحصل على الدكتوراة من جامعة جنيف عام 1379هـ/ 1960م، ثم عاد إلى الكويت ليعمل بالمحاماة، إلى أن جاء عصر الانفتاح، وبدأ يفكر في مشروعات تحتاج إلى ذلك الانفتاح، فساهم مع آخرين في إنشاء بعض الشركات، وعادوا إلى القاهرة ثم إلى لوكسمبورج، وبدأ نشاطه في مجال البنوك؛ حيث قضى هناك إحدى عشرة سنة.
ثم عاد إلى القاهرة، وبدأ الإشراف على المعهد العالمي للفكر الإسلامي لمدة 4 سنوات منذ 1408- 1412هـ/1988-1992م، وكان يقوم في المعهد بأنشطة ثقافية وعلمية مختلفة، وألَّف كتابًا عن حركة المعهد لا يزال -حتى كتابة هذه السطور- تحت الطبع، ثم التحق بهيئة التدريس في كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وكان رئيس قسم القانون فيها؛ حيث أنشؤوا تخصص القانون في حضن كلية الشريعة، وظل بجامعة قطر حتى عام 1419هـ/ 1998م، يقول عن هذه الفترة: "لما عملت في قطر شعرت أنني وجدت نفسي، وأنها هي الحياة التي يجب أن أبدأ بها، وكانت علاقتي طيبة بالزملاء والطلاب الذين لم تحدث بيني وبينهم أي مشكلة في هذه الجامعة".
تأثر الدكتور جمال عطية في أثناء دراسته في الحقوق بالشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ محمد أبي زهرة، وبعض القانونيين مثل حامد زكي وسامي جنينة.
وفي خطٍّ موازٍ لهذا في الساحة الإسلامية كانت هناك اتصالات مع الشيخ محب الدين الخطيب، وعلي الطنطاوي، ومحمد أبو ريدة، وعباس العقاد، وغيرهم.
مع الإخوان
انضم الدكتور جمال الدين عطية لجماعة الإخوان المسلمين مبكرًا حيث كان يقيم بالسكاكيني أحد أحياء القاهرة، ويحكي عن هذه الفترة: "وكانت أقرب شعبة لنا هي شعبة الظاهر، حيث كنت أصلي الجمعة هناك وأحضر الدرس بعدها الذي كان يلقيه الشيخ جبر التميمي عام 1364هـ/1945م".
اعتقل الدكتور جمال عطية ضمن اعتقالات الإخوان الأولى لمدة سنتين ونصف بين عامي 1368 – 1371هـ/1949-1952م في سجن مصر بالقلعة الذي تم هدمه فيما بعد.

عاش حياته متنقلا من نجاح إلى نجاح ومن مشروع إلى أخر
وعمن تأثر بهم داخل الإخوان يقول: "تأثرت بالشيخ حسن البنا بالدرجة الأولى؛ حيث كانت له تأثيراته وروحانياته وإشعاعاته فيمن حوله، وكنت دائما أحضر له درس الثلاثاء، ثم بالأستاذ محمد فريد عبد الخالق؛ حيث كان لنا معه درس خاص يوم الخميس، ثم بالدكتور عبد العزيز كامل".
كما تأثر الدكتور جمال عطية بزملاء وأقران من نفس جيله منهم: الشيخ عبد البديع صقر، وسعيد رمضان، ومصطفى مؤمن، وعبد الحليم أبو شقة، وعز الدين إبراهيم، ويوسف عبد المعطي، يقول الدكتور عن هذه الفترة: "إنها فترة غنية بالتأثيرات؛ حيث تشكلت فيها نفسي وعقليتي".
وكان هو والشيخ أبو شقة يخططان معا للاهتمام بالجانب العلمي على المستوى الشخصي وعلى مستوى الجماعة كذلك، وكان يسميه بـ"المشروع"، وبلغ اهتمامه بهذا المشروع أن رفض تسلم عمله بالضرائب حتى لا ينشغل عنه.
مؤلفات علمية وبحوث محكمة
للدكتور جمال عطية عدة مؤلفات وبحوث مهمة تنبئ عن روح علمية تجديدية، ونظرة شاملة عميقة، وتناول فكري رصين، من أبرزها: تراث الفقه الإسلامي ومنهج الإفادة منه على الصعيدين الإسلامي والعالمي، والتنظير الفقهي، والنظرية العامة للشريعة الإسلامية، ونحو تفعيل مقاصد الشريعة، وعلم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية، والاستفادة من مناهج العلوم الشرعية في العلوم الإنسانية، والأولويات الشرعية- نظامها وتطبيقاتها، والعلاقة بين الشريعة والقانون، ونحو فلسفة إسلامية للعلوم، وسنن الله في الآفاق والأنفس.
وهناك بعض الكتب التي كانت مذكرات لطلاب الجامعة الليبية مثل: القيم الحضارية في الإسلام، ودور الموسوعات في تقريب التراث الإسلامي من الدارسين، والإطار العام للنظام الاجتماعي في الإسلام، ومفهوم العبادة في الإسلام وارتباطها بالعقيدة والأخلاق، وصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.
ومن مؤلفاته وأبحاثه: الدفاع الشرعي في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ومجموعات الضغط الدولية- ترجمة من الفرنسية لكتاب مينو، ونحو منظور إسلامي معاصر للعلاقات الدولية، وعلى هامش الدولة المسلمة والشريعة الإسلامية والقانون، وأسس الحكم في الإسلام، والنظرية العامة لحقوق الإنسان في الإسلام، والصعوبات التي تواجه البنوك الإسلامية، ومظاهر التعاون بين البنوك الإسلامية في أوربا والبنوك الغربية، والأعمال المصرفية في إطار إسلامي، وتطوير الأدوات المصرفية والاستثمارية الإسلامية، والأوراق التجارية المنشأة، وأساليب التمويل الصناعي المتاحة للبنوك الإسلامية، وحاجة البنوك الإسلامية إلى أساليب إضافية للتمويل الصناعي، والمشاكل القانونية في عقود البنوك الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي بين النظرية والتطبيق، والبنوك الإسلامية– سلسلة كتاب الأمة، والجوانب القانونية لتطبيق عقد المرابحة، ومقاصد علم الاقتصاد الإسلامي.
وله بعض المؤلفات والبحوث التصنيفية التي تصنف العلوم وتساعد على استيعابها وتعمل على سهولة البحث فيها مثل: تصنيف العلوم الإسلامية، ودليل الباحث في الشريعة الإسلامية باللغات الأجنبية، ومصطلحات أصول الفقه، ودليل لتكشيف القرآن الكريم وعمل مكانز لأغراض التكشيف (بالاشتراك)، ونحو مكنز إسلامي للمرأة، وأصول العلوم الإنسانية من القرآن الكريم: كشاف موضوعي بالاشتراك، بالإضافة لمجموعة كبيرة من الأبحاث الحيوية والنافعة في مجلة المسلم المعاصر وغيرها من الدوريات والمجلات المحكمة.
وبالنظر في عناوين الكتب والأبحاث نجدها غطت مجالات علمية متنوعة منها: الفكر الإسلامي، والشريعة الإسلامية، والقانون الدولي العام، والسياسة الدولية، والقانون الدستوري، والأعمال المصرفية، والبنوك الإسلامية، والتأمين، وعلم المكتبات والمعلومات.
وعلى عكس المجالات حينما تتوزع كاتبا أو عالما ومفكرا فيحدث له نوع من التسطيح أو التكرار نجد الأمر مختلفا عند د. جمال؛ حيث لا يكرر نفسه في بحث من الأبحاث أو كتاب من الكتب، إنما يتحدث عن قضايا مهمة، ومسائل حيوية بشكل معمق ومركز، تتصل اتصالا وثيقا بعملية الإصلاح العلمي والمنهجي والفكري والقانوني.
مناصب قيادية وأعمال علمية
عمل الدكتور جمال الدين عطية في مجالات عديدة منها: ممارسته للمحاماة في مصر والكويت، وتوليه أمينا عاما للموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف بالكويت، ورئيس تحرير مجلة المسلم المعاصر، ورئيس تنفيذي للمصرف الإسلامي الدولي في لوكسمبورج (بيت التمويل الإسلامي العالمي حاليًا)، ومستشار قانوني وشرعي للمعاملات المالية والمصرفية (مكتب خاص في لوكسمبورج)، ومستشار أكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي (واشنطن) ومدير مكتبه بالقاهرة.
وعمل الدكتور عطية أستاذا زائرًا بالجامعة الليبية سنة 1393هـ/1973م، وزائرًا بكلية الشريعة جامعة قطر في الفترة من 1406–1408هـ/1986-1988، ثم عمل مستقرا فيها من عام1408-1413/1988-1993بالإضافة لعضويته في جمعيات ونقابات ومراكز عالمية مثل: الجمعيات العلمية والمهنية، ونقابة المحامين القاهرة، والجمعية الدولية للقانونيين الديمقراطيين بروكسل، ونقابة المحامين الدولية لندن، والجمعية الدولية للمحامين الشبان ببروكسل، ومركز السلام العالمي من خلال القانون بواشنطن، وعضوية مجلس أمناء معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية بفرانكفورت، وعضوية مجلس إدارة المجلس العالمي للبحوث الإسلامية بفادوتس- لختنشتاين، وعضوية المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
ولقد أكسبت هذه المجالات والمؤسسات مفكرنا بعدًا مهمًّا وهو إدراك الواقع بما أضفى على كتاباته فيها نوعًا من الجدية والعملية والعمق، متجاوزًا التنظير المجرد إلى تقديم حلول لمشكلات حية موجودة في هذا الواقع الذي عايشه وعاناه.
المشروع الفكري
أما المشروع الفكري للدكتور جمال الدين عطية فيتشكل -من خلال النظر في إنتاجه العلمي كتبا وأبحاثا، ومن خلال التأمل في نشاطه الثقافي والفكري والحركي- في ستة محاور تخللت حياته بمراحلها المختلفة؛ حيث كانت نقطة الانطلاق فيها الاهتمام بالجانب العلمي (التربية عموما، والجانب الفكري على وجه الخصوص)، ومن هنا أتت العلاقة بالتخصص العلمي الذي اهتم بالتربية ابتداء من الفرد ومرورا بالأسرة والمجتمع، وانتهاء بالجماعة والأمة.
المحور الأول: مجلة المسلم المعاصر
وكان تتويج هذا الاهتمام -التربوي والفكري- في مرحلة من المراحل بـ"مجلة المسلم المعاصر" التي ينصب اهتمامها الأول على قضايا الاجتهاد المعاصر وإسلامية المعرفة؛ إذ كتب مؤسسها د. جمال الدين عطية في كلمة التحرير لأول عدد صدر منها واصفًا المجلة بأنها: "مجلة الاجتهاد"، وأنها: "تنطلق من ضرورة الاجتهاد، وتتخذه طريقًا فكريًّا، ولا تكتفي بالبحث في ضرورة فتح باب الاجتهاد في فروع الفقه، بل تتعداه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه"، وقد أصبحت المجلة مقبولة كمجلة محكمة من عدد من الجامعات في مصر والسودان والسعودية وغيرها.
ولهذه المجلة قصة يحسن بي أن أرويها على لسان الدكتور جمال عطية ـ كما حكاها لي ـ قبل أن نبدأ في محاور مشروعه الفكري.
يقول: "قبل أن أغادر مصر عام 1373هـ/1954م كنت ألتقي يوميا مع نفس المجموعة، ونسهر حتى الفجر نتجاذب أطراف الحديث حول مشكلات الأمة وقضايا الفكر وأعمال الإخوان، ولما وقعت الفتنة في مصر نجونا منها وتفرقنا في البلاد، فكان البديل الطبيعي أن يكون هناك لقاء روحي ثقافي، فجاءت فكرة المجلة، كما كانت فكرتها تلبية لحاجة فكرية عند مجموعتنا، ولكن حصلنا على الرخصة بعد زمن طويل، وحصلنا عليها من لبنان بعد حصولي على الجنسية اللبنانية؛ حيث إن اللبنانيين كانوا يهاجرون خارج لبنان إلى أمريكا وغيرها ثم يعودون بعد زمن لاسترداد جنسيتهم، فاستخرجت الجنسية اللبنانية في هذه الظروف؛ حيث كنا في فترة الضغط الناصرية في مصر، حتى وصل الأمر إلى سحب الجنسية عن سعيد رمضان، وكذلك الشهادات، فجاءت محاولة الحصول على الجنسية اللبنانية من هنا ثم أخذنا الموافقة على الرخصة عام 1394هـ/1974م، وعملت رئيسا لتحريرها حتى الآن".
المحور الثاني: تجديد الفقه:
يعد الدكتور جمال عطية من أبرز الدعاة لتجديد الفقه الإسلامي، ويمثل كتابه: "تجديد الفقه الإسلامي" بالاشتراك مع الدكتور وهبة الزحيلي -من مطبوعات دار الفكر- أقصى ما وصل إليه فكره في هذا المجال، حيث يقسم فيه التجديد الفقهي القائم على منهج معين إلى نوعين:
الأول: هو التجديد الذي يأتي من خارج النسق الإسلامي.
والثاني: هو التجديد الذي يأتي من داخل النسق الإسلامي.
ويعرض لكيفية تخليص الفقه مما انتهى إليه، ويضع الأسس والقواعد والبدائل المقترحة للخروج به إلى آفاق التجديد والإبداع، ويؤكد الكتاب على ضرورة وجود مشروع فقه إسلامي معاصر يراعي النواحي المتجددة في حياة المسلم المعاصر، كما يتناول العلاقة ما بين الشريعة والفقه والعقل، ويبين الثوابت والمتغيرات في الفقه، وشروط أهلية المجدد، ويعرض لبعض ما يقبل التجديد وما لا يقبله، وضوابط التجديد وطرائقه ومدى الحاجة إلى ذلك، مع الأمثلة والتطبيقات لما يقول.
ومن مجالات تجديد الفقه عند الدكتور جمال عطية مشروع الموسوعة الفقهية التي اقترح مشروعها في أثناء عمله بالمحاماة في الكويت على وزير الأوقاف الكويتي في ذلك الوقت؛ فوافق واستدعى الشيخ مصطفى الزرقا الذي استدعى بدوره الدكتور جمال ليكون أمينا عاما للموسوعة، وذلك في أوائل السبعينيات، وكانت له بصماته في هذا المشروع، لكن سرعان ما محاها الزمن عندما تركها حيث لم يستطع التكيف في العمل بها.
وفي التنظير لها وبيان أهميتها كتب بحثين: الأول بعنوان: مدى الحاجة إلى موسوعة الفقه الإسلامي، والثاني بعنوان: التخطيط التفصيلي لبعض موضوعات الموسوعة، وكلاهما في دار البحوث العلمية بالكويت.
المحور الثالث: تجديد أصول الفقه:
وفي أحد أعداد مجلة المسلم المعاصر مقال رئيس له عن هذه القضية، بعنوان: "تجديد الفكر الاجتهادي"، يستعرض المقال حكم وكيفية توسيع مجال الاجتهاد عن المفهوم التقليدي الفقهي. ويعرض مدى الحاجة إلى تجديد المنهج وبلورة السلطة التشريعية. ويناقش موقف المجتهد من النصوص في العصر الحاضر، مشيرًا إلى مشكلة تكوين المجتهدين والشروط الفقهية والأصولية المتعددة للمجتهد؛ مع التركيز على ضرورة التعرف على الواقع، ويورد المقال بعض مسائل التجديد في أصول الفقه، مثل: العلة والحكمة، كما يبين كيفية تطوير مباحث مقاصد الشريعة والاستنباط من القواعد والاستدلال بالمقاصد، ويختم المقال بتوضيح علاقة أصول الفقه بالعلوم الأخرى وطرق تجديد تبويب مادة أصول الفقه.
كما أن هناك عددين بمجلة المسلم المعاصر (الافتتاحي والذي يليه) خُصِّصا لطرح هذه القضية، وكان التركيز على أن التجديد وارد على علم الأصول، لا سيما في التحقيق والتدقيق وتمحيص المسائل وإعادة الهيكلة، وكان لهذين العددين صدًى واسع في الأوساط العلمية والفكرية.
المحور الرابع: القواعد الفقهية:
حيث بدأ الاهتمام به من منطلق التنظير الفقهي، ويمثله كتابه: "التنظير الفقهي" الذي يعد انطلاقة طيبة في هذا المجال، قسمه إلى مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة؛ ففي المقدمة تناول التعريف والتقسيمات والأنواع، والباب الأول تحدث عن النظريات الفقهية في علم أصول الفقه، مستعرضا مناهج التأليف فيه ومضمون وترتيب هذه المؤلفات، وفي الباب الثاني تكلم عن النظريات الفقهية في علوم التراث الأخرى مثل المقاصد والقواعد بأنواعها، وفي الباب الثالث تحدث عن النظريات الفقهية في الكتابات المعاصرة، وشرح في الخاتمة وظائف هذه العلوم وقدم نظرة مستقبلية لها.
وقد كان هذا الكتاب سببا لاستدعائه لمشروع "معلمة القواعد الفقهية" التابع لمجمع الفقه الإسلامي في جدة المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي؛ حيث تبنى هذا المشروع الدكتور عز الدين إبراهيم خريج قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة.
وهذا المشروع عبارة عن مسح شامل لما جاء في كتب التراث الإسلامي والمؤلفات المعاصرة بشأن القواعد، وتنقسم المعلمة أربعة أقسام: القواعد الأصولية، والقواعد المقاصدية، والقواعد الفقهية، والضوابط الفقهية.
وحسبنا ما قاله أستاذنا الدكتور أحمد الريسوني عن هذا المشروع في أحد الاجتماعات الثقافية حوله: "إنني أعتبر هذا المشروع أهم مشروع في تاريخ الإسلام بعد تدوين السنة النبوية"، وقد سألت الريسوني عن هذه العبارة فقال: "نعم.. فإذا كان تدوين السنة يمثل جانب الرواية للإسلام؛ فإن تدوين قواعد وضوابط الفقه بتطبيقاتها يمثل جانب الدراية".
المحور الخامس: مقاصد الشريعة:
وهو مجال ضرب فيه الدكتور جمال عطية بسهم طيب، وكان ذروة إنتاجه في هذا المجال كتابه: "نحو تفعيل مقاصد الشريعة" الذي يعد - في تقديري- نقلة نوعية في هذا المجال.
تضمن الكتاب فصولا ثلاثة، تحدث في الأول منها عن قضايا محورية حول دور العقل والفطرة والتجربة في تحديد المقاصد وإثباتها، وعلى ترتيب المقاصد وترتيب الوسائل في كل مقصد وتطبيق ذلك.
وفي الثاني: تحدث عن تصور جديد للمقاصد مناقشا مسألة حصر المقاصد الضرورية في خمسة، وتحدث عن أنواع المقاصد ومراتبها، وعن الانتقال منها إلى مجالات أربعة هي: الفرد والأسرة والأمة والإنسانية.
وفي الثالث: يتحدث بالتفصيل عن كيفية التفعيل مبينا الصورة الحالية لاستخدامات المقاصد، ويتحدث عن علاقة النظريات بالعلوم الشرعية، ثم العقلية المقاصدية للفرد والجماعة، ثم العقلية المقاصدية "المجال الفكري"، ثم العقلية المقاصدية لدى الجماعة "مجال السياسة الشرعية"، وختم بحديث عن مستقبل علم المقاصد هل سيصبح علما مستقلا أم يكون ضمن مباحث أصول الفقه.
المحور السادس: البنوك الإسلامية:
وقد نشأ الاهتمام به عند مفكرنا في فترة مبكرة قبل نشأة هذه البنوك؛ حيث شارك في اللجنة التحضيرية لأول بنك إسلامي عام 1394هـ/1974م، وهو بيت التمويل الكويتي، وبدأ يخوض هذا المجال عمليا فسافر إلى لوكسمبورج لإنشاء مؤسسة على هذا النحو، ثم حصل -مع آخرين- على رخصة في الدنمارك لإنشاء أول بنك إسلامي هناك، وكتب في هذا عن البنوك الإسلامية في سلسلة "كتاب الأمة" بالإضافة لعدد من المقالات التي نشرت في مجلة "المسلم المعاصر"، وبعض المجلات المتخصصة في المملكة العربية السعودية.
بين في هذه البحوث أهم الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلامية التي تعمل في محيط البنوك الأخرى، مثل: الصعوبات القانونية، والصعوبات الفقهية والصعوبات المصرفية، والصعوبات المعنوية النفسية والخلقية، والصعوبات الإدارية، والصعوبات الأساسية، وحاول أن يضع ما يتصور أنه حلٌّ لها.
وأكد على أهمية استكمال البنوك الإسلامية لأنظمتها وتطويرها، وكذلك ضرورة تعاون البنوك الإسلامية بدافع من إخلاص النية لله ومن الوعي بالأهداف والمصالح والمخاطر المشتركة، مبينا أهم مظاهر ذلك التعاون لا سيما بين البنوك الإسلامية في أوربا والبنوك الغربية.
إضافة إلى ما تحدث عنه من حماية الفكرة التي قامت البنوك الإسلامية لتحقيقها، وضبط إطار المعاملات الحالية، واستحداث أدوات بديلة وأدوات رائدة، وتقديم مقترحات تهدف إلى حماية صغار المساهمين بتجميعهم وتنظيم جهودهم، وإنشاء بنوك إسلامية تأخذ صورة الشركة التعاونية، واقتراحات كذلك تهدف إلى حماية المودعين، وحماية البنوك من عملائها وتحقيق المصلحة الإسلامية العامة.
وقال: مرت فترة طويلة على نشأة البنوك الإسلامية، ومع ذلك لا نجد في كتب الاقتصاد بابا يتحدث عن البنوك الإسلامية، ولا في كتب الفقه أبوابا تُعنى بهذا النوع من النشاط، ومع هذا فإن معالجة هذا الموضوع تعد نوعا من الاجتهاد المعاصر.
وبعد هذا النشاط الفكري والحركي الواسع للدكتور جمال الدين عطية الذي يعمل مديرًا لمشروع "معلمة القواعد الفقهية" ومسئولا عنه، يقول عن نفسه: "ما زلت أكتشف نفسي، حتى قلت لعز الدين إبراهيم عندما عَيَّنتُ الخبراء في المعلمة: إنني بدأت تدب فيَّ حياةٌ جديدة في هذا المشروع؛ فكان اجتماعٌ عام بالعاملين فيها، واجتماع خاص للخبراء فقط، وبدأتُ أطرح رؤايَ التي كنت أفكر فيها؛ فوجدت تجاوبا كبيرا في كل جلسة، وبدأت أسجل الجلسات والمناقشات في محاضر، فشعرت بأن هناك طاقاتٍ جديدةً تتفجّرُ في نفسي، والمرء لا يزال يكتشف نفسه حتى يموت".
*نقلا عن موقع "الوسطية أون لاين" بتاريخ 22-1-2008.




استشارات إيمانية عامة


بيانات الحوار
أ. وصفي عاشور أبو زيد
اسم الضيف
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الوظيفة
استشارات إيمانية عامة
موضوع الحوار
2008/1/17 الخميس
اليوم والتاريخ
مكة من... 13:30...إلى... 16:00 غرينتش من... 10:30...إلى...13:00
الوقت

حنان -
الاسم
الوظيفة
السلام عليكم. أنا فتاة غير محجبة، منذ مدة وأنا أخصص وقتًا معينًا فقط لذكر الله والاستغفار، وكنت أحب هذا الوقت وكنت أجبر نفسي على النوم حتى أستطيع الاستيقاظ في اليوم التالي كي أعمل، وأحد أسباب تخصيصي هذا الوقت هو التقرب من الله لاستجابة دعاء لي وكنت على يقين بأن الله سيستجيب لي. ولكن منذ مدة قرأت أحد الآراء عن غير المحجبات، وصرت أغصب نفسي غصبا على هذا الوقت الذي أخصصه للاستغفار وحتى دعائي صرت أدعو ربي وأنا مترددة وأشعر أن الله لن يستجيب دعائي بسبب عدم تحجبي. أنا مقتنعة بالحجاب وأدعو ربي حتى أتحجب، ولكن حتى ذلك الحين هل أنا منبوذة من قبل ربي؟ الرجاء أن تساعدوني لأني صرت أخشى على نفسي من أن أبتعد عن الطريق الصحيح أكثر وأكثر، ولا تقل لي: ارتدي الحجاب؛ فأنا أعرف أنه واجب علي، ولكن أجبني: هل حجابي أو عدمه هو المقياس الوحيد لإيماني؟
السؤال
الأخت الكريمة حنان، وعليكم السلام ورحمة الله ليس الحجاب وحده دليل الإيمان، ولكنه أحد المظاهر والدلائل على الإيمان، فالمؤمن يأخذ أحكام الله جملة ولا يأخذ حكما ويترك الآخر: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب". ثم إنك ما دمت مقتنعة بأنه واجب فما الذي يحول بينك وبينه؟ هل كلام الناس؟ أم زميلاتك المتبرجات؟ أم وضعك العام الذي لا يسمح لك؟ أم مقولات الناس عنك؟ أم أنك تستحيين أن تظهري في مظهر الاحتشام والعفاف؟ أختي الكريمة أنا على يقين أنك طاهرة القلب نقية السريرة، لكن دعي كل هذه الهواجس وتقبلي فرائض الله وأوامره بصدر رحب، فبئست الحياة والأحياء إن كانت سببا في بعدنا عن الله.
الإجابة

أم محمد -
الاسم
الوظيفة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أرجو أن أجد عندكم حلا للمشكلة التي أعيشها وأجد نفسي عاجزة عن حلها، فأنا سيدة متزوجة وعندي ولدان وبنت، الولدان سن 18 و16 سنة والبنت 14 سنة وأجد صعوبة في الإجابة عن أسئلتهم وخاصة التي تخص ديننا الإسلامي والتي يثيرها هنا بعض أقرانهم من الأمريكان. وخاصة عندما يسألني أحدهم ما الذي يدل على أن الإسلام هو دين الحق والأولى بالاتباع؟؟ ولا أجدني قادرة على الإجابة، فهو يريد إقناعا وبراهين ودلائل!! أرجو منكم الاهتمام برسالتي لأني فعلا حزينة جدا لوضعهم هذا وعجز كلماتي عن الإجابة عليهم وجزاكم الله كل الخير.
السؤال
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، الأم الكريمة أم كمال، وعليكم السلام ورحمة الله، وبعد. فاعلمي -علمني الله وإياك- أن الشاب عند بلوغ سن المراهقة تكثر مشكلاته وتتنوع تساؤلاته، ويصعب استيعابه وتوجيهه إلا على من هدى الله. وهي سن خطيرة بلا شك لما يحدث فيها من تحولات عقلية ونفسية وجسدية وجنسية في حياة الولد أو البنت، وهذا كله يقابله تغير في الإدراك والاهتمامات والتطلعات. وكل هذا يوجب على الأب والأم أن يكونا على قدر المسئولية، وعلى إدراك تام بمتطلبات كل مرحلة. وفي حالة هذه الأسئلة يتوجب عليك أن تكوني محيطة أولا بطبيعة المرحلة، وما تطرحه من مشكلات وتساؤلات وتطلعات، ثم تكوِّني ثقافة تستطيعين من خلالها أن تلبي حاجاتهم، وللأب دور كبير هذا. ويحسن بك أن تحيطي أبناءك بمن تثقين فيه من الأصدقاء دينا وخلقا؛ حيث تتقارب الاهتمامات والتطلعات والأفكار، والمرء على دين خليله. الفضائيات بفضل الله اليوم أصبحت تتحدث عن تربية الأبناء كثيرا كيف تكون، وعن كل مرحلة، وعن علاج مشكلاتها، فتابعي هذه البرامج وأفيدي منها. من الممكن أن تزوري أحد الدعاة أو العلماء، أو تدعوه عندكم للزيارة إن أمكن ليجلس مع الأبناء ويتجاذب معهم أطراف الحديث، ويجيب عن كل تساؤلاتهم، فنحن نتحرك لجلب الأطباء عندما نمرض عضويا، ولا نجلب لأنفسنا أطباء القلوب والعقول حين وقوع الشبهات. حفظ الله لك أبناءك وجعلهم قرة عين لك.
الإجابة

عزيزة -
الاسم
الوظيفة
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته أود من سيادتكم إفادتي في مشكلتي جزاكم الله عنا كل خير إن شاء الله. أنا أمي كانت مريضة منذ فترة، لكن حالتها كانت مستقرة، إلى أن اشتد عليها المرض في الفترة الأخيرة وأصبحت كل يوم أسوء من سابقه، كنت أنا وإخوتي جميعا في خدمتها وربنا يعلم أننا لم نقصر لحظة في خدمتها، لا بالمجهود ولا بالمال، لكن أنا مشكلتي أن زوجي في نفس الفترة كان يستعد للسفر للخارج لبعثة علمية، فسافر هو وتركنا إلى أن تستقر الحالة، لكنها كانت دائما إلى أسوء، وبدأ يسألني متى سنأتي أنا والأولاد لأنه بحاجة إلينا، وأن هناك غيري من يقوم بالخدمة، وبإلحاح منه ومن والدي أيضا اضطررت للسفر وتركها مع الآخرين، وكنت أكلمها يوميا إلى أن علمت أن حالتها ساءت كثيرًا وهم لم يخبروني، فقررت النزول، ولكن لم يشأ الله أن أراها في هذه الحالة؛ فقد توفيت وأنا في طريقي إلى المطار. سؤالي هو: هل أنا عاقة أمي أم مطيعة زوجي؟ وكيف أعلم إن كانت ماتت وهي راضية عني أم غاضبة مني؟ وآسفة على الإطالة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السؤال
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، الأخت الفاضلة عزيزة، أسأل الله أن يجزيكم خيرا على هذا البر، أنت وإخوتك؛ وهذا هو الواجب عليكم، فالأم لا تعوض ورضا الله تعالى من رضاها وكذلك الأب. وأود أن أشيد بفعل الوالد معك الذي لم يمنعك من السفر ولم يرفض طلب زوجك بالسفر أو يتعنت معه بل أمرك بالسفر له، وألح عليك، وهكذا الآباء الكرام الواعون. ويجب أن تعلمي أن برك بأمك واجب وطاعتك لزوجك -في غير معصية- واجبة، وأنا بالفعل مقدر للموقف الصعب الأليم الذي مررت به، لكن في كل الأحوال طاعة الزوج مقدمة على طاعة الأم أو البر بها حين التعارض، والزوج في غربة وله حاجاته الأساسية التي تعرفينها، وربما يؤدي عدم تلبيتها إلى الوقوع في غضب الله. أما عن كونك عققت أمك أم لا، فأبشرك إن شاء الله أن هذا ليس عقوقا، إنما أنت قمت بما تستطيعين، ولم تتركيها إلا تحت إلحاح الوالد والزوج، بالإضافة إلى ذلك فأنت غير راضية عن تركها في هذه الحال لولا رغبة الزوج. وأنا أعتقد أن الأم سوف تقدر هذه المشاعر، وهي كزوجة تعلم احتياج الزوج وضرورة وجودك معه، فلا أشك أنها راضية عنك. أسأل الله أن يتغمدها برحمته، ويسكنها في أعلى الجنان، ورزقنا الله جميعا البر بالآباء والأمهات.
الإجابة

كريمة - مصر
الاسم
الوظيفة
لي صديقة لا ترتدي الحجاب، ولقد حاولت إقناعها بكل الطرق دون جدوى، أرجو أن ترشدوني إلى طريقة لإقناعها.
السؤال
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، الأخت الفاضلة كريمة، أهلا بك على هذا الموقع ونرجو أن نكون عند حسن ظنك بنا. وأريد في البداية أن أبين لك أنك غير مطالبة بالنتائج، ولكن مطالبة بالتبليغ فقط، فإن قمت بالتبليغ فقد قمت بواجب الدعوة، ولن يسألك الله عنها هل تحجبت أم لم تتحجب. ثانيا: للدعوة آداب وطرق ينبغي للداعي أن يتعلمها، وقد أجملها الله تعالى بقوله: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة". وفصلتها سنة النبي صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله، فعلينا التنقيب عنها والاهتداء بها. ثالثا: أن الوعظ لن يأتي بثمرته إلا إذا كان حب الله ورسوله يملأ قلبها، واستحضارها لليوم الآخر لا يفارقها، ومن ثم ينفع الوعظ ويثمر التذكير، "إن المحب لمن يحب مطيع". ويحضرني في هذا المقام قصة لا بأس أن أقصها عليك للعبرة والإفادة، مما حدث للداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله: دخلت عليه في مكتبه ذات مرة امرأة متبرجة، تبدو عليها التوبة والانكسار، فكلمته وكلمها، وكان عند الشيخ شاب تبدو عليه مظاهر الالتزام، فلما خرجت المرأة نهر الشابُّ الشيخ الغزالي، وقال له يا شيخ: كيف تتحدث معها وهي متبرجة؟ فقال: يا بني! الطبيب يأتيه الصحيح والمريض ويتعامل مع هذا وذاك، وإذا قصرنا حديثنا على الملتزمين فما دورنا تجاه غيرهم، وما قيمة الدعوة والإسلام إذن؟ فقال له: كان ينبغي أولا أن تأمرها بالنقاب!! فقال له الشيخ: ما يسرني أن تأتيني منقبة وقلبها خال من الله ورسوله، فقال له: لا يصح أن تكلمها وهي متبرجة، فلم يطق الشيخ حديث الشاب وقال له: يا بني إنني لا أحسن جر الدين من أذياله كما تفعلون، إنما أؤسس البنيان وأشيد الأركان، فما لبثت أن جاءته بعد ذلك المرأة، وقد غطت رأسها وسترت عورتها. رابعا: ينبغي أن تحيطيها بمن تحب من الصالحات، فالصحبة مؤثرة ومهمة، والمرء على دين خليله. خامسا: إذا ترسخ في قلبها حب الله واستحضار اليوم الآخر، ولازمت الصالحات القانتات فسوف يكون الأمر سهلا وهينا، ويمكنك أن تهديها أشرطة الشيخ وجدي غنيم أو الأستاذ عمرو خالد عن الحجاب، وتقبل الله منا ومنكم.
الإجابة

رانيا - الكويت
الاسم
الوظيفة
يا شيخ.. كيف أدعو الله بيقين؟ كيف أصل إلى هذا الشعور؟ أحيانا بعد ما أدعو الله أقول لنفسي كيف ربي سيحقق لي هذا الشيء من غير سبب؟ مع أني أعلم قدرة الله ولكن تأخذني الأفكار وأصاب بالهم.. الله يجزيك الجنة يا رب.
السؤال
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، الأخت العزيزة رانيا، أهلا بك على هذا الموقع ونشكر لك ثقتك فيه، وسؤالك هذا قديم جديد لأننا نحتاج إليه دائما. أولا: الحمد لله أن عندك يقينا بأن الله قادر ويجيب من يدعوه. ثانيا: لكن علينا أن نكون أهلا لهذه الإجابة بأن يكون مطعمنا وملبسنا من حلال، وأن نتوجه إلى الله في ثقة وطمأنينة ورضا واستسلام، فإنه متى توجه الإنسان لربه بهذه الحال أجاب الله دعاءه: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء". وتحضرني قصة هنا للشيخ محمد الغزالي حيث يقول: "تحرّكت قدماي بلا وعي إلى البيت، ورأيت أبي يصرخ من (مغص كلوي) أصيب به، والأولاد من حوله حيارى، وقد أعطاه الطبيب بعض الأقراص المخدّرة، ولكن الآلام كانت أربى وأقسى، وقالوا: لا بد من جراحة تستخرج ما في الكلى من حصيَّات... وفتحت الدكان ووقفت مكان أبي أعمل، وأنا خبير بذلك لأني في أثناء الإجازة الصيفية أساعده، ومضت عدة أيام ونحن نتروّى ونتدارس ما نصنع... أجور الأطباء فوق الطاقة، ولو أمكن إعدادها فإن الجراحة يومئذ غير مأمونة العقبى، وقد مات عمٌّ لي في جراحة مشابهة... ماذا نصنع؟ وحاصرني غم ثقيل، وأخذت شخوص الأشياء تتقلص أمام عيني، وثبتت بصيرتي على شيء واحد، الله وحسب! وكأنما كنت أكلم الناس وأنا حالم... وجاء رجل يشتري بعض الأغذية، ولما قدمتها له قال لي بصوت ضارع: ليس معي ثمن الآن، وأقسم بالله أنه صادق، وأنه غدا يجيء بالثمن! ووقر في نفسي أن الرجل محرج فقلت له: خذ البضاعة وهي مني إليك... وانصرف الرجل غير مصدّق ما سمع...! أما أنا فذهبت إلى ركن في الدكان، وقلت: يا ربّ، نبيّك قال لنا داووا مرضاكم بالصدقة! فأسألك أن تشفي أبي بهذه الصدقة...! وجلست على الأرض أبكي، وبعد ساعة سمعت من يناديني من البيت –وكان قريباً- فذهبت على عجل وقد طاش صوابي... وفوجئت بأبي يلقاني وراء الباب يقول: نزلت هذه الحصاة مني –وكانت حصاة أكبر قليلا من حبة الفول- لا أدري ما حدث، لقد شفيت...! وفي صباح اليوم التالي كنت في الكلية أحضر الدروس مع الزملاء...! إن الذي يجيب المضطر إذا دعاه رحمني ورحم الأسرة كلها، فله الحمد". انتهى كلام الشيخ الغزالي. ثالثا: كيف تستبعدين أن يستجيب الله لك، وهو الذي استجاب لإبليس حينما قال: "أنظرني إلى يوم يبعثون". فقال الله له: "إنك من المنظرين"، فهل أنت شر من إبليس أو مثله، الحمد لله أنت ملتزمة وعزيزة على الله، والله أكرم من أن يرد دعاءك أو يخيب رجاءك، فأبشري وأقبلي على الله تعالى.
الإجابة

أشرف -
الاسم
الوظيفة
أنا شخص أريد التوبة من معصية مشاهدة الأفلام الخليعة كيف أتوب؟
السؤال
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، الأخ الفاضل الأستاذ أشرف، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. خير ما نوصيك به هو تقوى الله تعالى، والحذر من نقمته وغضبه، وأليم عقابه، فإن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وما يؤمنك أن يطلع الله عليك وأنت على معصيته فيقول: وعزتي وجلالي لا غفرت لك. وانظر إلى هذه الجوارح التي تسعى بها إلى المعصية، ألا ترى الله قادرا على أن يسلبك نعمتها، وأن يذيقك ألم فقدها؟ ثم انظر إلى ستر الله تعالى لك، وحلمه عليك، وأنت تعلم غيرته على عباده، فما يؤمّنك أن يغضب عليك، فيكشف أمرك، ويطلع الناس على سرك، وتبوء بفضيحة الدنيا قبل الآخرة. وهل ستجني من النظر المحرم إلا الحسرة، والشقاء، وظلمة القلب؟ وهب أنك شعرت بمتعة أو لذة، يوما أو يومين، أو شهرا أو سنة.. فماذا بعد؟! موت.. ثم قبر.. ثم حساب، فعقاب... ذهبت اللذات وبقيت الحسرات. وإذا كنت تستحيي من أن يراك أخوك على هذه المعصية، فكيف تجعل الله تعالى أهون الناظرين إليك؟! أما علمت أن الله يراك، وأن ملائكته تحصي عليك، وأن جوارحك غدا ستنطق بما كان؟ واعتبر بما أصبح عليه حالك بعد المعصية: هم في القلب، وضيق في الصدر، ووحشة بينك وبين الله.. ذهب الخشوع.. ومات قيام الليل.. وهجر الصوم.. فقل لي بربك ما قيمة هذه الحياة؟ كل نظرة تنظرها إلى هذه النوافذ الشيطانية، تنكت في قلبك نكتة سوداء، حتى يجتمع السواد فوق السواد، ثم الران الذي يعلو القلب، فيحرمك من لذة الطاعة، ويفقدك حلاوة الإيمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله في قوله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}". (رواه الترمذي وابن ماجة وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه). فكن ممن نزع واستغفر وتاب، وأكثر من التضرع لله تعالى أن يُطهر قلبك وأن يُحصن فرجك، وأن يُعيذك من نزغات الشيطان، واجتنب كل وسيلة تدعوك أو تذكرك بالحرام، إن كنت صادقا راغبا في التوبة. فبادر بإخراج هذا الدش من بيتك، واقطع صلتك بمواقع السوء على الإنترنت، واعلم أن خير وسيلة تعينك على ترك ما اعتدته من الحرام، أن تقف عند الخاطرة والهم والتفكير، فادفع كل خاطرة تدعوك للمشاهدة، قبل أن تصبح رغبة وهمّا وقصدا ثم فعلا. وقد قال الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين: "الخطوة الأولى في الباطل إن لم تدفع أورثت الرغبة، والرغبة تورث الهم، والهم يورث القصد، والقصد يورث الفعل، والفعل يورث البوار والمقت، فينبغي حسم مادة الشر من منبعه الأول وهو الخاطر، فإن جميع ما وراءه يتبعه". وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} (النور:21). وإن أمكنك الاستغناء التام عن الانترنت فافعل، إلى أن تشعر بثبات قلبك، وقوة إيمانك. واحرص على الرفقة الصالحة، واحرص على أداء الصلوات في أوقاتها، وأكثر من نوافل العبادة، وتجنب الخلوة والتفكير في الحرام ما أمكن.
الإجابة

زينب -
الاسم
الوظيفة
السلام عليكم.. إخوتي في الله: ما هي الأعمال التي تعيننا على الثبات في هذا الزمن المليء بالفتن، فإني -والله يعلم ما في الصدور- ليس القلب بالغافل ولكني أعرف أنني مقصرة في عبادتي، تصيبني من فترة لأخرى حالة فتور والله المستعان لا أعرف ماذا أعمل؟ دائما أشعر بأنني مقصرة وأفتقد الصحبة الصالحة، لا أدري.. هذا أيضا يؤثر على حياتي كاملة، لا أستطيع اتخاذ أي قرار ولا أعرف لماذا أنا مذبذبة في كل أموري؟ دلونا جزاكم الله خيرا في أقرب وقت
السؤال
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد الأخت الكريمة زينب، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أنت بالفعل وضعت يدك على بعض الحلول لمشكلتك، وهي افتقاد الصحبة الصالحة؛ فهي في غاية الأهمية، والمرء على دين خليله كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، لكن يعينك على الصبر والثبات أيضا ما يلي: أولا: القراءة في القرآن الكريم ومطالعة قصص الأنبياء وكيف كان صبرهم مع أقوامهم، ومنهم نوح الذي مكث ألف سنة إلا خمسين عاما استخدم فيها كل وسائل الدعوة. ثانيا: جميل أن يشعر الإنسان بالتقصير، وأجمل منه أن يبدأ في إجراءات إصلاحية مع نفسه، حتى لو كانت جزئية، ولا يترك نفسه للندم حتى لا يجلد ذاته. ثالثا: التأمل في سير الصالحين والمبتلين على مر التاريخ، فنستوعب قدر البلاء الذي مروا به، ونقف على مدى صبرهم على ذلك. رابعا: زيارة المستشفيات لرؤية المرضى وأصحاب الحاجات لنرى ونشعر بنعمة الله علينا. خامسا: متابعة أخبار المسلمين في كل مكان وبخاصة فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال وغيرها، لنر شلال الدماء ومقدار الأرواح التي تزهق يوميا لندعو لهم ونساعدهم، ونستشعر نعمة الأمن والأمان التي من الله بها علينا. سادسا: أما حالة الفتور فأحيلك إلى كتاب "آفات على الطريق" للمرحوم الدكتور سيد نوح، فقد فصل فيه الحديث بما لا مزيد عليه، نفعنا الله وإياكم وألهمنا وإياكم الصبر وعلو الهمة.
الإجابة

مصطفى كمشيش - مصر
الاسم
محاسب قانوني
الوظيفة
أستاذنا الكريم الأستاذ وصفي.. حفظكم الله ووفقكم لكل خير.. وأنتهز هذه الفرصة لأتوجه إليكم بالسؤال الذي نلحظ آثاره جيدا، وهو: كيف يتأتى للإنسان المعاصر أن يلتزم بالطاعات وأن يبتعد عن المنكرات، فإن كان شابا فالزواج جد متعثر، والفتن في الشارع والسوق والجامعة والعمل بل وفي البيت (النت والفضائيات)، وقد حاصرته في نفس الوقت قيم استهلاكية لا يرى فكاكا منها تزيد في إرهاقه كالمحمول ومتعلقاته.. وإذا كان رجلا فهو محاط بطلبات أبنائه الأساسية والفرعية (التي جعلها المجتمع أساسية).. وإن كان محكوما فهو يلقي بالتبعة على الحكام، وإن كانوا حكاما فإنهم يتعللون (بظروف الواقع وخلل موازين القوى) وهكذا أصبح لكل مفرط علة وتبريرًا.. فأين المخرج في ظل هذا الواقع المتأزم سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا؟ وكيف العلاج؟.. شكر الله لكم
السؤال
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد أعز الله أخي الكبير الداعية الأستاذ مصطفى كمشيش الذي يتكرم علي دائما بتواصله الكريم، وما المسئول بأعلم من السائل، فلا يخفى عليكم أن لكل عصر فتنا وتحديات ومصاعب ومنكرات تتناسب مع طبيعته ومقوماته، وقد قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور". فلم يخل عصر من احتياج الشباب للزواج، أو وجوب التزامهم بالطاعة، وبعدهم عن المعصية، ومتطلبات الأهل والأبناء. لكن أتفق معك في أنه أصبح تحديا كبيرا في هذا العصر لما اتسم به من تعقيد وتركيب ومتطلبات أصبحت أساسية بعد أن لم يكن لها وجود على الإطلاق، مما أحدث نوعا من زيادة العبء ومضاعفة الهم، لكن ليس معنى وجود الفتن أو الصعاب والواجبات المضاعفة أن نركن إليها أو أن نرتكب معصية أو نترك طاعة وواجبا، فالحياة تسير بإيجابياتها وسلبياتها. لكن علينا أن ندرك ما يلي: أولا: أنه كلما ظهرت وسائل اتصالات أو تكنولوجيا حديثة شكلت عبئا على الإنسان، لكنها في الوقت نفسه تقضي له مصالح وتحقق له مكاسب، فالغرم بالغنم كما يقول الفقهاء. ثانيا: أن جهاد الإنسان في وقت الفتن له أولوية على جهاده في وقت الأمن والدعة وهو ما ذكره العلامة القرضاوي في كتابه فقه الأولويات. ثالثا: ينبني على ذلك أن الأجر والثواب على الصبر والتحمل والمجاهدة في عصور تلك طبيعتها أكبر وأعظم من عصور أخرى لم تتصف بهذه الصفات، ولذلك روى الطبراني عن عتبة بن غزوان أن نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن من ورائكم أيام الصبر، المتمسك فيهن يومئذ بمثل ما أنتم عليه له كأجر خمسين منكم". قالوا: يا نبي الله، أو منهم؟ قال: "بل منكم". قالوا: يا نبي الله، أو منهم؟ قال: "لا، بل منكم". ثلاث مرات أو أربعا، رواه في الكبير (13736). رابعا: أنه يجب على كل منا أن يلزم نفسه إلزاما بالفرائض ويبعد نفسه عن المحرمات مطلقا، ثم يجتهد ما استطاع في أداء النوافل. خامسا: أن يتخفف من كماليات الحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ففي كثير من الأحيان نكلف أنفسنا فوق الطاقة ليس من أجل أننا في حاجة لأشياء احتياجا حقيقيا، ولكن من أجل أن هذه سمة العصر وهذا موجود عند فلان وفلان فلا يجوز -وأنا أرقى منه منزلة أو اسما أو علما- أن أكون أقل منه، وهذا ما يوقعنا في مشكلات كثيرة مثل تأخر سن الزواج، والوقوع في ديون كبيرة إذا تم الزواج، ما يؤدي إلى حالة من انعدام الأمن وانتشار الجريمة في المجتمع، فيجب أن يكون المعيار هو حاجياتنا بالفعل لا تقليد الناس، ويربي أبناءه على ذلك. سادسا: أن لكل إنسان دورا في الحياة، وواجبا يؤديه لله وللناس، ولا ينبغي أن نحمل غيرنا مسئولية فشلنا، وهل الشعوب دائما على صواب؟ والحكومات دائما على خطأ؟ لا شك أن الكل له ميزاته وله سلبياته وإن كانت سلبيات الحكومات لا تقارن بسلبيات الشعوب، كما أنه لا يحق لإنسان أن يطالب بحقه قبل أن يؤدي واجبه، فلنسأل ماذا علينا قبل أن نسأل ماذا لنا، فلو أدى كل إنسان دوره في الحياة لأحيانا الله حياة طيبة. شكر الله لكم، وأعاننا وأعانكم، ويسر لنا ولكم
الإجابة

صبحي -
الاسم
الوظيفة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن مشكلتي ضخمة جدا، وتتلخص في أنني أعاني من عزلة اجتماعية واضحة، وأنا في غاية الألم لهذا الأمر، أنا طالب بكلية الهندسة ولكن لا أشعر بذلك لما أرى من أمور واضحة فيما يختص بمعاملتي مع زملائي، ومنها حينما يطلب عمل مشروع جماعي أشعر بالحزن، حيث هذا سيتيح لعدد أكبر من الزملاء للتعرف على عيوبي، والمشكلة الأصلية في أنني لا أستطيع مجاراتهم في الحوارات، حيث أشعر أن لدي معلومات ضئيلة في هذه الحوارات، هذه المشكلة كانت من قبل أن أبلغ، وهذا الأمر جعلني أقع في العادة السرية، منذ ساعتها وحتى الآن لم أستطع منها فكاكا، والأمر يزداد سوءا، وأشعر أن مستقبلي المهني مهدد بالدمار، حيث إنني على وشك التخرج من الكلية، فما وكل هذه الأمور ولدت فشلا في أغلب الأمور إن لم يكن كلها. فما الحيلة أفادكم الله؟
السؤال
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، وعليكم السلام أخي وائل ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله أن يكتب لك التوفيق والسداد. فإن أصل مشكلتك يرجع إلى بداية نشأتك، ويبدو أن البيئة التي نشأت فيها والأسرة التي ترعرعت في كنفها كرست داخلك هذا الشعور الذي يضاد طبيعة الإنسان وفطرة الإنسان، وبالتالي فهذا درس للآباء والأمهات -والإخوة أيضا- أن يهتموا بهذا الأمر مبكرا في حياة الأبناء حتى لا يقعوا في مثل ما تقع فيه الآن، ويشعروا بما تشعر به. أقدِّر يا أخي ما تشعر به من آثار هذه العزلة، وهو شعور بالحرج والضيق والكبت، وحالة من فقدان الثقة بالنفس، وبالتالي حالة من الفشل الحياتي العام؛ لأنك لا تستطيع أن تناقش الناس كما يتناقشون، ولا تملك القدرة أن ترد عليهم حين يخطئون، أو تدافع عن نفسك حين يسيئون، أو توضح الأمور حين تلتبس قضية من القضايا أو شبهة من الشبهات. لكن يجب عليك أن توقن بأن لكل مشكلة حلا ولكل داء دواء، فإذا تيسر لنا تشخيص الداء سهل علينا وصف الدواء، والوقوف على المرض نصف العلاج كما يقولون. علاج الأمور النفسية والمعنوية -كما لا يخفى عليك- أشد وأصعب من الأمور المادية بكثير، ولذلك فهو يحتاج إلى صبر ومكابدة ومجاهدة للنفس مع قوة نفسية، وجرأة منضبطة، وطرح للشعور بالخجل والإحجام جانبا، هذه أمور أولية حتى تستطيع معالجة هذا الداء، فإذا نويت ذلك أنصحك بالآتي: أولا.. أن يكون معظم وقتك مع الناس: أصدقائك، جيرانك، أقربائك، وهكذا، فهذا يحقق لك نوعا من الاجتماعية والخروج من هذا الشعور، الذي وصفته بقولك: "حينما يطلب عمل مشروع جماعي أشعر بالحزن حيث هذا سيتيح لعدد أكبر من الزملاء للتعرف على عيوبي". ثم لماذا تجعل ذلك مصدرا للحزن والخوف والتردد، هل كشف العيوب ومعالجتها أفضل أم الإبقاء عليها والانطواء معها طول العمر؟؟. المعادلة صعبة بالطبع لكن يجب أن تتوفر لديك الجرأة لأخذ القرار وتحمل أدنى الضررين. ثانيا: ناقش أصدقاءك والمقربين منك في قضايا فكرية أو دعوية أو حتى علمية في تخصصك الذي تتقنه، والذي تتوفر لديك فيه المعلومات والحقائق المؤكدة الموثقة، ومن هنا فلن تشعر بما وصفته حين قلت: "والمشكلة الأصلية في أنني لا أستطيع مجاراتهم في الحوارات حيث أشعر أن لدي معلومات ضئيلة في هذه الحوارات". فمتى توفرت لديك المعلومات في موضوع معين ووثائق وحقائق، فتدريجيا تستطيع اكتساب المناقشة والجدال والأخذ والرد، ولتبدأ به مع إخوانك وأبيك وأمك إن كنت تستحي من الآخرين في البداية، حتى تعود أفراد الأسرة الباقين الذين ربما يعانون من مثل ما تعاني منه في الاجتماع والنقاش والحوار. ثالثا: اجعل معظم أصحابك الذين تختارهم من المرحين الاجتماعيين الذي يحبون الاجتماع بالناس والالتقاء بهم، هذه الصحبة من أنفع الأدوية، فالطبع سراق، والقلب يتأثر بالقلب، وتستمد الروح من الروح، فاجتهد أن تجد لك من الأرواح الصالحة صاحبا. رابعا: ادع الله أن يعينك على نفسك، وتوجه إليه بصدق وإخلاص أن يكشف عنك ما أنت فيه مع الأخذ بالأسباب والصبر والجرأة والقوة النفسية، وأن ترتمي في أحضان مجتمعك لا في أحضان حجرتك التي تجرك إلى ارتكاب المحظورات، والله يرعاك ويحفظك ويهديك سواء الصراط.
الإجابة

محررة الحوارات -وفاء محسن -
الاسم
الوظيفة
هل بدأ الحوار؟
السؤال
نعم........ الإخوة والأخوات الكرام.. ، لقد بدأ الحوار، وستتوالى الإجابات تباعاً إن شاء الله. ونرجو من الإخوة والأخوات الزوار مراعاة الالتزام بموضوع الحوار، حيث إنه حول " استشارات إيمانية عامة"، ونعتذر عن عدم الإجابة على الأسئلة التي تصلنا خارج الموضوع. ونرحب بأية أسئلة في موضوع الحوار. وكذلك ننبه إلى أن إدخال الأسئلة للضيف يتم من خلال العلامة الوامضة بجوار "إدخال الأسئلة" في أعلى الصفحة أثناء التوقـــيت المحـــدد للحوار فقط.

ثوابـت الإيمـان بعـد رمضـان



قراءة في كتاب:
ثوابـت الإيمـان بعـد رمضـان
بقلم -
وصفي عاشور أبو زيد

في بداية رمضان يقبل المسلمون على المساجد وتنتعش في قلوبهم معاني الإيمان، فتشف النفس وينشرح الصدر وتسمو الروح وتقترب الدمعة ويعيش المسلم الصائم أسمى لحظات الإيمان والرضا، ثم تأخذ أعداد المصلين في التناقص شيئا فشيئا، فإذا ما انقضى رمضان عادت المساجد إلى ما كانت عليه قبل رمضان بالرغم من تحذير الخطباء الذي نسمعه كل عام: "كن ربانيا ولا تكن رمضانيا، وإذا كان رمضان مضى فإن الله هو رب رمضان ورب باقي الشهور".

حمل النسخة الكاملة للكتاب
لكن.. لماذا نشهد هذا التراجع في العبادة بعد رمضان؟ وكيف نوازن بين مطالب الدنيا والاستعداد للآخرة؟ وما الوسائل والأساليب التربوية العملية لمجاهدة النفس وحملها على المكارم والثوابت الإيمانية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يطالعنا د.صلاح الدين سلطان بكتابه الصادر في شوال 1428هـ تحت عنوان: "ثوابت الإيمان بعد رمضان"، وهو العدد الخامس ضمن سلسلة قضايا اجتماعية وإسلامية التي ينشرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمملكة البحرين.
ويبحث هذا الكتاب عن الحلول العملية، ويقدم رؤية راصدة للواقع بآلامه وآماله بشأن ظاهرة تراجع الإيمان بعد رمضان، ويطرح تساؤلات حولها، ليست عتابا، بل مراجعة وإنصافا من النفس، ثم يعرض مقارنة بين ثوابت الدنيا الفانية والآخرة الباقية، ثم يقترح أربعة ثوابت لا يحق لمسلم أن تكون واحدة منها بين اهتمام وإهمال، وأخيرا يقدم رؤية عملية تساعد من أراد أن يرقى بنفسه وينجو من عذاب ربه، ويحسن إلى نفسه وأهله ومجتمعه، فيقاوم هذا الفتور بعد النشاط لتتحقق صبغة الله في حياتنا حتى لا تتحول العبادات والشعائر إلى مواسم متقطعة، فجاءت دراسة ـ كما قال عبد الله بن خالد آل خليفة رئيس المجلس في تقديمه للكتاب ـ "تجمع بين النص والفكر، والأصل والواقع، والألم والأمل، والعمل بهذه الثوابت التي يجب أن تلازم المسلم في كل زمان ومكان".
رمضان بين الأمل والألم
يستعرض د. صلاح سلطان هنا علامات الأمل وأمارات الفرحة البالغة التي تظهر في الأمة مع قدوم رمضان؛ حيث الإقبال الكبير على الصلوات في المساجد، وقيام الليل ، والبرامج الدعوية في المساجد والفضائيات وغيرها، وموائد الرحمن التي تنتشر في كل مكان، ودعوات بين الأهل وذوي الرحم للقاء والإفطار، وصدقات تجري كالريح هنا وهناك، وشغف برحلات العمرة، ولقاءات بين القيادات الإسلامية لمناقشة هموم الأمة وقضاياها الكبرى، وحيوية في الشوارع من زينة ولوحات وتهنئات، وفعاليات عديدة تحيي القلوب وتذكر النفوس بالأقصى الأسير وأهل فلسطين... إلخ
ثم ما يلبث هذا كله أن يعقبه ألم كبير وكأن صلاة عيد الفطر علامة فاصلة بين رمضان وما بعده، فتعود المساجد خاوية كأن لم تغن بالأمس، ويفتر كثير من المسلمين عن قيام الليل، وتنمحي علامات الخير والبر والصدقة وموائد الرحمن إلا ما رحم ربي، وتتراجع الأسر والأرحام والأهل والأصحاب عن الاجتماع والتواصل ، وتتقلص البرامج الدينية سواء في المساجد أو على الفضائيات الإسلامية، ويعود المدخنون إلى هذه العادة الخبيثة، ويشكو القرآن من شوال إلى شعبان طول الهجران واستمرار النسيان.
تساؤلات لإنصاف النفس
ويطرح د.صلاح مجموعة من التساؤلات التي يجب علينا طرحها على أنفسنا قبل أن يسألنا إياها ربنا يوم اللقاء.
من منا كان يأكل القديد من العيش فرزقه الله ألوانا وأصنافا من الطعام ثم عاد إلى القديد والقليل؟!
من منا كانت تغسل الملابس أو الأواني بيديها ثم صارت تغسل في غسالات تجفف الملابس ثم استغنت عن ذلك ورجعت تغسل بيدها؟!
من منا كان يضرب أكباد الإبل لزيارة الأهل والإخوان والشعوب ثم صارت الرسائل والهواتف والنقال والإنترنت، فاخُتصرت المسافات والأوقات لدرجات مهولة، ثم عاد إلى السعي على قدميه أو ركوب دابة ليصل إلى حيث يريد؟!
من منا يذكر يوم أن كان عنده ثوبان أو ثلاثة يقضي بها كل المناسبات ثم صار يلبس كل يوم جديدا، ثم عاد بعد ذلك إلى ملبس أو ملبسين؟!
من منا يذكر يوم أن كان يفترش الأرض ويلتحف السماء وإن أكرم نفسه نام على جلد ماعز أو غنم، ثم صار في غرف النوم، حيث السرر مرفوعة والأكواب الموضوعة والنمارق مصفوفة والزرابي المبثوثة و... و... و...، ثم عاد إلى افتراش الأرض والتحاف السماء؟!
وهكذا يمضي بنا د. صلاح سلطان بمصداقية عالية ليعدد التناقضات ويرصد التقلبات في حياتنا؛ فلا يوجد أحد منا إلا مر بها، ثم يأخذنا إلى حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - القدوة والأسوة، ويشرح لنا كيف كان يعيش.
فلم يعرف منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأثاث ولا الرياش، بل كان لا يجد ما يفرشه لضيفه سوى وسادة من ليف، ولم يعرف بيته مطبخا ولا فرنا، بل كان يمر الهلال والهلالان والثلاثة ولا يوقد في بيته نار، ولم يجد آل محمد - صلى الله عليه وسلم - التمر في كل أوقاتهم، وما شبع من خبز بر مأدومٍ ثلاثة أيام حتى لحق بالله.
وربما يتبادر إلى الذهن سؤال بعد عرض هذه التقلبات الحياتية والحياة النبوية، وهو سؤال محق وواقعي: هل حرام أن نستمتع بهذه الطيبات والزينات من الأطعمة والملابس والمراكب والمخترعات؟!
والجوب بالنفي، لكن يجب أن نتأمل كيف توسعنا في ثوابت الدنيا "الحلال" الفانية، وقللنا ثوابت الآخرة الباقية، فالمطلوب التوازن والاعتدال، وإعطاء كل دار ما تستحق من العمل والاجتهاد، وفي القرآن الكريم والسنة النبوية العديد من النصوص التي تبيح التمتع بالدنيا وتبين قيمتها، وتحذر من إغفال الآخرة وتوضح بقاءها ومكانتها.
ثوابت الإيمان في حياتنا
إذا علم المسلم قيمة الدنيا ومكانة الآخرة، ثم ذاق حلاوة الطاعة في رمضان، فإنه لا يسعه في هذه الصراحة مع النفس إلا أن يسعى إلى تثبيت عباداته في يومه وليله حتى تكون جزءا من

كيانه، وعلامة على صدق إيمانه، وقد عدد د.صلاح من هذه الثوابت أربعة:
الأول: من زيارة المساجد إلى عمارتها، فهناك من المسلمين من يقاطع المسجد، وهناك من هو زوار لها، وهناك صنف آخر قلبه معلق بالمسجد لا يستطيع العيش بدون أن يعمر بيت الله: "إنما يَعْمُرُ مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين". (التوبة:18). وفي قراءة: "إنما يُعَمِّرُ...". فلا يسع أي مسلم إلا أن يعمر بيوت الله ابتغاء هذا الثواب الكبير والأجر الجزيل، بأن نستمر في التردد على المساجد لأداء الصلوات، والعمل على توسيع دور المسجد ليقوم بمهمته الشاملة كما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
الثاني: تعاهد القرآن تلاوة وفهما وعملا ودعوة، فلنعترف أننا نقرأ القرآن إذا قرأناه ونحن مرضى القلوب؛ لأن القرآن الذي صنع جيلا فريدا وحضارة شامخة لم يتغير، وإنما نفوسنا هي التي تغيرت، ومن هنا وجب أن نتعامل مع القرآن معاملة خاصة، فنتعلم أحكام التجويد، وننتظم بدقة في قراءة الورد اليومي وليكن بعد صلاة الفجر وقت البركة، ونعايش الآيات وندرب أنفسنا على التفكر والتدرب ولنبدأ بالتقاط آية وجدنا معها أنفسنا فنتأملها طول اليوم لنجد فتوحات لا حدود لها، وننتظم في حلقة قرآنية أسبوعية للفهم والمدارسة والتعلم، ونضع معنى عمليا كل أسبوع تحتاج النفس أن تحمل عليه، ثم نعلِّم الناس هذا الكتاب مما تعلمناه، ولا مانع شرعا من جعل جزء لصلاة قيام الليل قراءةً من المصحف.
الثالث: الانتظام في ورد دائم من الصيام بعد رمضان، فهي من الثوابت المهمة والثمرات الطيبة التي يخرج بها المسلم من رمضان وقد عاش حلاوة الصيام ولمس أثره من تقريب للدمعة وشفافية في النفس وصفاء في القلب والعقل، فهناك صيام النذر والكفارات من الفروض، ومن المندوبات هناك صيام الستة من شوال، ويوم عرفة، وعاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، والإثنين والخميس، وصيام يوم وإفطار يوم، ومن صام يوما في سبيل الله باعد الله به وجهه عن النار سبعين خريفا، كما جاء في الصحيح.
الرابع: المشاركة الفعالة في أعمال البر والنفع العام، فشهر رمضان تكثر فيه أعمال البر والخير، ومن ذاق حلاوة عمل الخير والإحسان حري به أن يواصل مسيرته بعد رمضان، فأجر الإنفاق وأعمال البر والخير معلوم للجميع، وكم نعاني في حياتنا من الرتابة والملل وأوقات الفراغ التي نضيعها هدرًا، فأولى بنا توظيف هذا الوقت في العمل الخيري والنفع العام، ففي ذلك حل لكثير من مشكلاتنا النفسية والاجتماعية والمجتمعية.
نحو الثبات على الطاعات
ومن مواضع القوة في هذا الكتاب أنه لم يكتف برصد واقعنا بين الأمل والألم، ومواجهة النفس بتساؤلات واقعية وصريحة، بل رسم لنا طريق النجاة، ووضح لنا سبل الهداية، فحدثنا عن خطوات عملية نحافظ بها على إيماننا، ونجعله دائما في زيادة ونماء، وقد أورد د. صلاح سلطان خطوتين، هما: العلم، ومجاهدة النفس.
الخطوة الأولى: العلم:
ففضل العلم ومكانة العلماء أشهر من أن نورد فضلها وثوابها في الدنيا والآخرة، فالعلم أول باب لمعرفة الرحمن، وفهم رسالة الإسلام، ومعرفة مداخل الشيطان؛ ولذلك فإن فقيها واحدا أشد على الشيطان من ألف عابد.
ومن هنا يقترح د. سلطان أن ننتظم في حلقات قرآنية نتعلم فيها التجويد والتفسير والحفظ، ونقرأ الأربعين النووية ورياض الصالحين، ودراسة السيرة النبوية من "الرحيق المختوم" أو كتاب موثق، ودراسة الأخلاق الإسلامية، ومن أفضلها "خلق المسلم" للغزالي، ودراسة العقيدة الإسلامية من كتابيّ "العقيدة الطحاوية" و "العقائد الإسلامية" لسيد سابق، ودراسة مصطلح الحديث من "تيسير مصطلح الحديث" لمحمود الطحان، ودراسة كتاب في أصول الفقه وأيسرها "تيسير أصول الفقه" للدكتور عبد الله الجديع، و"مدخل للفقه الإسلامي" لمحمد مصطفى شلبي.
وتعميق الصلة باللغة العربية والشعر والنثر لتكوين الملكة اللغوية والأدبية، وقراءة كتاب: "شمس الله تشرق على الغرب" للدكتورة نجريد هونكا، وهو أفضل ما كتب عن روائع الحضارة الإسلامية، والقراءة عموما في كتب العلماء الموثوق بهم، خاصة أولئك الذين يجمعون بين الحجة الشرعية والخشية القلبية، ويلتزمون منهج الإسلام في الوسطية، ومتابعة نشرات الأخبار ليعرف المسلم ما يجري في العالم؛ اهتماما بواقع المسلمين.
الخطوة الثانية: مجاهدة النفس:
فإذا كان العلم يزيل الشبهات، فإن مجاهدة النفس تلجم الشهوات، فتكبح جماحها وتملك زمامها، وتحملها على ما يرضي ربها، وقد عرفها د. سلطان بأنها حمل النفس على أداء الواجبات، والتزام المكارم والمروءات، وترك المحرمات، والترفع عن السفاسف والمكروهات.
ولمجاهدة النفس أهمية لا تخفى، فمهما جلس الإنسان في قاعات التدريس في أحسن الجامعات فتعلم فنون الخطابة وقواعد السباحة وآداب القيادة للسيارات، أو توسع في حفظ النصوص الشرعية واستظهارها عن فضل القيام والصيام مع الخضوع والخشية - فلن يتحصل له الصلاح والإصلاح واستقامة النفس إلا بمجاهدتها ومعالجتها، وأن يعصر قلبه ويظل ذاكرا لله تعالى، ذاكرا لذنبه، متذكرا موقفه بين يدي ربه، وعندئذ سيتذوق حلاوة هذه المجاهدة ويحيا حياة طيبة.
ويورد الدكتور صلاح صورا من مجاهدة النفس عبر التاريخ والسيرة من خلال قصة طالوت وجالوت، وعرب الجاهلية لما أسلموا، وقصص الجهاد والتضحية والفداء في جيل الصحابة الذين لم يتأت لهم ذلك إلا بمجاهدة النفس، وكثير من المسلمين الذين هاجروا إلى بلاد الغرب فلم يستجيبوا للشهوات والإغراءات على كثرتها، بل ظلوا أوفياء لدينهم وأمتهم وأخلاقهم من خلال مجاهدة النفس بالليل والنهار، والعمل الدعوي المتواصل ليحيا الناس بالإسلام ويسعدوا به.
ويضع د.صلاح - عضو المجالس الفقهية في أمريكا وأوربا والهند - في نهاية الكتاب قواعد وأساليب خاصة تعين على مجاهدة النفس لا تغني إحداها عن الأخرى، وجعل منها قواعد عامة وقواعد خاصة.
فمن القواعد العامة: إحياء حب الله تعالى في القلب عن طريق العبادات المتنوعة من ذكر وصلاة وصيام وتفكر وغيرها، وإحياء الخوف من الله تعالى عبر التدبر في مصارع الظالمين ومهالك الفاسقين، واستحضار عظيم نعمة الله مع عظيم تقصيرنا نحوه، وقوة الإرادة والعزيمة على مواجهة النفس بجناحي الخوف والرجاء والرهبة والرغبة.
أما القواعد والأساليب الخاصة فهي تعتمد على صدق العبد مع ربه، ومعرفته بمواضع ضعفه وقوته فلا يضع نفسه في موضع يعلم أن نفسه ستئول فيه للميل مع الهوى ومخالفة الرشاد والهدى.
ويسوق الدكتور أمثلة لذلك بألا يجعل المسلم نفسه أسيرا لعادة، كشراب متكرر من الشاي أو القهوة، ويترك بين فترة وأخرى على المائدة نوعا من الطعام، وهو أحب الأنواع إليه، لتهذيب سطوة النفس في التلذذ بالطعام، ومجاهدة النفس على الاعتدال في النفقة، والخروج من حالة الخرس الزوجي بين الزوجين بالكلمة الطيبة واستشعار أجر ذلك، وحمل النفس على القراءة والتثقيف، وأن يظل على وضوء دائم، ومن فاتته أي طاعة من الطاعات التي يلزم بها نفسه فليفرض على نفسه أنواعا من العقوبات بأن يحرمها من بعض العادات، وحبذا لو كان العقاب من جنس الطاعة التي فرط فيها.
والواقع أن هذا الكتاب على صغر حجمه قد حوى معاني عظيمة ومعالم إيمانية كبيرة جديرة بأن يتأملها كل مسلم، لا سيما أن صاحبه قد جمع فيه بين كل من التأصيل الشرعي، والجوانب التربوية والإيمانية، و الدعوية والحركية.
باحث مصري في العلوم الشرعية

الاعتكاف.. مقاصد وغايات


الاعتكاف.. مقاصد وغايات
وصفي عاشور أبو زيد
**
من القواعد الأساسية في أعمال القلوب وأعمال الجوارح أنه "لا عمل إلا بنية"، ومما يضاعف اللهُ به الأجرَ على الأعمال استحضارُ المسلم نيته قبل العمل، ومراقبة نيته أثناء العمل، وبعد العمل رجاء الله تعالى أن يتقبله، وبقدر ما تتعدد النوايا للعمل الواحد يكون أجره وثوابه عند الله.
لهذا كان من الضروري رفع مقاصد الاعتكاف أمام عين المسلم حتى يكون على بصيرة من أمره، ويقين من عمله، وحب في الله، ورجاء في ثوابه، فيحصل من الأجر والثواب ما لا يحصله دون علمه بهذه المقاصد ووقوفه عليها، وبالتأمل في طبيعة الاعتكاف وأعماله تبين أن أهم مقاصده ما يلي:
أولا: مغفرة الذنوب:
فمغفرة الذنوب مقصد كبير من مقاصد العبادات بصفة عامة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة: "الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر"
(1).
وقال الله تعالى عن الزكاة: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها". يقول الإمام الطبري في تفسيرها: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها صدقة تطهرهم من دنس ذنوبهم".
وعن الحج ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه"
(2).
أما عن الصوم فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه..."
(3).
فغفران الذنوب ما تقدم منها وما تأخر هدف يرصده المسلم ويستحضره في عبادته لله تعالى، وبخاصة في رمضان الذي وردت فيه مغفرة الذنوب فيمن قام رمضان إيمانا واحتسابا، ومن صامه إيمانا واحتسابا، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا كما مر، ولا يكون الاعتكاف إلا في المسجد.
ثانيا: الفوز بثواب ليلة القدر
فالمسلم يتحرى ليلة القدر امتثالا لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- واتباعا لهديه، ومن أجل قيمتها وثوابها، ومن قدْرِها الرفيع عند الله أنه جعلها محلا زمانيا لنزول أفضل كتبه، وهو القرآن الكريم: "إنا أنزلناه في ليلة القدر"، أما ثوابها فمعروف مشهور: "ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر". سورة القدر. فقيام هذه الليلة وإحياؤها أفضل من أن ينقطع المسلم عبادة لله ثلاثة وثمانين عاما وأربعة أشهر، وهو ما لا يستطيع الإنسان فعله في أمة توسطت أعمارها بين الستين والسبعين.
ثالثا: الخلوة بالله والأنس به:
فما أعظم اللحظات التي يقضيها المسلم حين ينقطع عن الدنيا ويقبل على الله تعالى بكليته، إنه يتحصل لديه من المشاعر النبيلة والأحاسيس البهيجة ما لا تلحقه الإشارة، ولا تدركه العبارة.
ولن يستعذب المسلم هذه المشاعر ويعيشها إلا بهمة تصون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني، وتحمله على الرغبة في الباقي، وتصفيه من كدر التواني، قال ابن القيم رحمه الله: "الفاني: الدنيا وما عليها أي يزهد القلب فيها وفي أهلها، وسمى الرغبة فيها وحشة؛ لأنها وأهلها توحش قلوب الراغبين فيها وقلوب الزاهدين فيها، أما الراغبون فيها فأرواحهم وقلوبهم في وحشة من أجسامهم إذ فاتها ما خلقت له فهي في وحشة لفواته، وأما الزاهدون فيها فإنهم يرونها موحشة لهم؛ لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم ولا شيء أوحش عند القلب مما يحول بينه وبين مطلوبه ومحبوبه"
(4).
ومن أجل أن يكون التفرغ لله وحده دون شيء سواه منع الشرع أن يخرج المسلم من معتكفه إلا لضرورة أو حاجة، لأنها فترة تجرد لله ومن ثم امتنعت فيها المباشرة -مباشرة النساء- تحقيقًا لهذا التجرد الكامل، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء، ويخلص فيه القلب من كل شاغل كما قال سيد قطب رحمه الله.
رابعا: إحياء القلب واجتماعه على الله:
ففي الانعزال عن الدنيا -انعزالا مؤقتا- والبعد عن الشواغل حياةٌ للقلب وأنس بالله، ومع الذكر والدعاء والقيام والقرآن يرق القلب وتشف النفس ويصفو الذهن، فيعيش الإنسان أسمى لحظات الأنس والرضا، ولم لا، وقد تخلص من تَشَتُّتِ قلبه وتفرق ذاته هنا وهناك، وفاز بالاجتماع على الله والإقبال عليه، ومن هنا قال ابن القيم في عبارة شهيرة: "ومن له أدنى حياة في قلبه ونور فإنه يستغيث قلبه من وحشة هذا التفرق كما تستغيث الحامل عند ولادتها، ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا"
(5).
فالتفرق يوقع وحشة الحجاب، وألمه أشد من ألم العذاب قال الله تعالى: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم". فاجتمع عليهم عذاب الحجاب وعذاب الجحيم كما قال ابن القيم رحمة الله عليه.
خامسا: تهذيب النفس وتقريب الدمعة:
إذ الانقطاع التام للعبادة يجعل النفس مقبلة بالكلية على مطلوبها الأعلى، منصرفة عن كل ما سواه، وهذا من شأنه أن يرقق القلب ويهذب النفس، ويزيل الران شيئا فشيئا الذي تراكم على القلب عبر أيام السنة، ومن هنا تصبح الدمعة قريبة، والنفس شفافة رفافة تكاد تنير.
وهنا معنى مهم في تشريع العبادات في الإسلام أو مقاصده، وهي أن العبادات لا تبرح النفس لحظة من اللحظات، من صلوات خمس في اليوم والليلة، وحج وعمرة، وزكاة وصدقات، ونوافل لهذا كله، ثم يأتي الصيام لينظف النفس والقلب، ثم تأتي العشر الأواخر لتبلغ النفس أسمى ما يمكن أن تبلغه من شفافية ورقة وحضور؛ ليكون شهر رمضان انطلاقة كبرى لبقية العام.
وهذا كله يصب في تحقيق معاني التقوى في النفس الذي هو المقصد الأكبر من الصيام، بل من العبادات كلها؛ حيث يقول الله تعالى: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون". البقرة: 21.
هذه بعض المقاصد للاعتكاف وليست على سبيل الحصر، بل غيرها كثير مثل: الانقطاع التام إلى العبادة الصرفة من صلاة ودعاء وذكر وقراءة قرآن، وحفظ الصيام من كل ما يؤثر عليه من حظوظ النفس والشهوات، والتقلل من المباح من الأمور الدنيوية، والزهد في كثير منها مع القدرة على التعامل معها، كل هذا وغيره من مقاصد ينبغي أن يبتغيها المسلم في اعتكافه، ويضعها نصب عينيه حتى يحقق المقصود من الاعتكاف، ومن الله العون والقبول.
** باحث دكتوراه في مقاصد الشريعة الإسلامية
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة كتاب الطهارة. باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
(2) صحيح البخاري: كتاب الحج. باب: فضل الحج المبرور.
(3) صحيح مسلم: كتاب الصوم. باب: من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية.
(4) مدارج السالكين: 3/4. بتحقيق محمد حامد الفقي. طبعة دار الكتاب العربي. بيروت. ط ثانية. 1973.
(5) مدارج السالكين: 3/164.

التعددية الدعوية بين القبول والرفض


قـراءة في كـتاب
التعددية الدعوية بين القبول والرفض
إعداد - وصفي عاشور أبو زيد

أودع الله لهذا الكون سنناً عامة، وقوانين ثابتة، أمرنا بتدبرها والاستفادة منها وتسخيرها في مجالات الحياة جميعا، ومن هذه السنن الكونية سنة التنوع والتعدد، وقد جعل الله التعدد والتنوع نعمةً من نعمه علينا، وآية من آياته العظيمة في هذا الكون؛ حيث اختلاف الليل والنهار، واختلاف النخل والزرع والثمرات "وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ"، واختلاف الألسنة والألوان، كما عبر القرآن الكريم عن هذا في أكثر من موضع، أما الله تعالى فقد اختص بالوحدانية والانفراد،: "قلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لهُ كُفُوًا أحَدٌ".
وإن الناظر في الساحة الدعوية، يجد أن ظاهرة التعدد والتنوع قد شملتها، ويرى الاتجاهات الدعوية في هذا العصر قد برزت بشكل كبير وواضح، ويرى مواقف الناس عامة والدعاة منهم خاصة متباينة من هذه الظاهرة الدعوية، فمن قائل بمشروعيتها ومستحسن لها، ومن قائل بمنعها ومستهجن لها، فظهرت آراء متعددة الوجهات، كل يؤيد ما ذهب إليه ويدلل على موقفه.
وقد أدى هذا التباين في وجهات النظر إلى سلبيات كثيرة على العمل الإسلامي، حتى وصل الأمر إلى ما هو عليه في واقعنا الحالي، من التفرق والتشتت والتنافر، بل والمخاصمة أحيانا، فظهرت الفتن والعقبات، مما أبطأ بمسيرة الدعوة الإسلامية، وترك المجال لأعدائنا ليحققوا بعضا من طموحاتهم ومطامعهم.
وأمام هذا الواقع المؤلم، وقف شباب الصحوة الإسلامية وقفة الحائر من ظاهرة التعددية الدعوية، والتي شكلت ـ بواقعها الحالي ـ عقبة كؤوداً في وجه الدعوة الإسلامية، متسائلا عن مشروعيتها، وعن كيفية التعامل معها، وعن الموقف الصحيح الذي يجب اتخاذه منها، ومن المصيب ومن المخطئ، وكيفية تجنب الآثار السلبية، التي أدت إليها هذه المواقف المتباينة من ظاهرة التعددية الدعوية.
ومن هنا تبدو الحاجة ملحة إلى دراسة هذه الظاهرة الدعوية، وتوضيح ماهيتها ومظاهرها، ومناقشة الآراء حولها، وربطها بالظواهر الكونية الطبيعية، وبيان مدى انسجامها معها، ومن ثم تأصيلها ووضع الضوابط التي تكفل حسن التعامل معها وتوظيفها لصالح الدعوة الإسلامية.
وفي ضوء ما سبق صدرت مؤخرا دراسة جديدة بعنوان: "التعددية الدعوية، دراسة منهجية شاملة: نشأتها وتطورها ومظاهرها، ومواقف الناس منها، وإيجابياتها، وسلبياتها". لمؤلفها الأخ الداعية الدكتور معاذ محمد أبو الفتح البيانوني، ابن العالم والداعية المعروف، وهي في أصلها رسالة أكاديمية حصل بها صاحبها على الماجستير في الدعوة والثقافة الإسلامية، من جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، بجمهورية السودان، ونشرتها دار إقرأ عام 1427هـ/2006م.
تمهيد ومنطلقات
وقد قدم الدكتور معاذ بين يدي دراسته تمهيدا بين فيه أن الملة والدين هما أصل العقيدة، وهما لا يتعددان، وأما الشرائع والمناهج والأساليب فمتعددة ومتنوعة داخل الدين الواحد؛ ولذلك فملة الأنبياء كلهم واحدة، فلا يضر التنوع في الشرائع والمناهج والأساليب والوسائل، أما التنوع في الأديان والملل فهو من التناقض الممنوع، وأوضح أن الحق أمر نسبي فالحق بالنسبة لله سبحانه وتعالى واحد لا يتعدد، وهو الحق المطلق ويقابله الباطل، وأما الحق بالنسبة للمجتهدين وعامة الناس فهو متعدد ومتنوع، وهو ما أُطلق عليه اصطلاح الصواب ويقابله الخطأ، أو ما انقسم إلى فريقين عرف الأول بـ "المصوبة"، والثاني بـ "المخطئة"، وقد أحسن الباحث إذ جعل هذه المسألة من مقدمات بحثه.
وعرَّف التعددية الدعوية بأنها: "تنوع الاتجاهات الدعوية القائم على أساس تنوع المناهج والأساليب والوسائل في تبليغ الإسلام للناس وتعليمهم إياه وتطبيقه في واقع الحياة".
وهي ليست أمرا طارئا على الدعوة الإسلامية، بل إن لها جذورا تاريخية، ابتداء من التعددية العلمية والتربوية، وانتهاء بالتعددية بصورتها الحالية غير أن بروز ظاهرة التعددية الدعوية بشكلها الحالي كانت لها دواع كثيرة على رأسها غياب خلافة الدولة الإسلامية، وهدفها جميعا إرضاء الله تعالى ونصرة دينه، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
مظاهر التعددية الدعوية
للتعددية الدعوية مظاهر كثيرة لا يمكن حصرها؛ لأنها تشمل كل عمل يؤسس لخدمة الإسلام، في مختلف مجالات الحياة، فيمكن أن يتعدد بتعدد مجالاتها؛ فهناك الاتجاهات الاجتماعية، والاتجاهات الاقتصادية، والاتجاهات التبليغية، والاتجاهات التربوية، والاتجاهات التعليمية، والاتجاهات الجهادية، والاتجاهات الخيرية، والاتجاهات السياسية، والاتجاهات الفكرية، والاتجاهات الشمولية التي اهتمت بكل هذه الاتجاهات، وكل اتجاه من هؤلاء يغلب على اهتمامه في الفكر والحركة ما ينطبق على مسماه.
موقف الرفض للتعددية الدعوية وأدلته
وقد انقسم العلماء والدعاة إزاء قضية التعددية موقفين: موقفا يرفض هذه التعددية ويراها شرا ومرضا وبلاء على الأمة، وموقفا يراها ظاهرة صحية وخيرا على الأمة الإسلامية وصحوتها المباركة، وللقائلين بالمنع من التعددية الدعوية والرافضين لها أدلتهم واجتهاداتهم، وهم يمثلون وجهة نظر مرجوحة في نظر الباحث، واتجاها محددا في الساحة الدعوية.
ومن أبرز القائلين بهذا الاتجاه الشيخ حسين بن محسن بن علي جابر صاحب كتاب "الطريق إلى جماعة المسلمين"، والشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين، والدكتور فتحي يكن(
1 ) الذي يعتبرها ظاهرة مَرَضية، والدكتور صالح الفوزان، وهؤلاء وغيرهم من أصحاب هذا الاتجاه منهم من تناول الأمر بشكل علمي على أساس من الأدلة ومناقشتها والاجتهاد فيها وبيان الرأي حولها، ومنهم من تناول الموضوع بشكل يبعد تماما عن العلمية والموضوعية، فهو أشبه بالهجوم العاطفي الأهوج بدلا من النقاش العلمي الهادئ الرصين.
وتتبلور أدلة هذا الاتجاه في نوعين من الأدلة: أدلة نقلية، وأدلة عقلية.
فأما النقلية فالآيات والأحاديث التي توجب لزوم جماعة المسلمين والتزام الوحدة والحض عليها ، والآية المصرحة بأن حزب الله هم الغالبون، والآيات التي تحذر من الاختلاف والفرقة والشقاق والتنازع، والحديث الذي يقول بافتراق الأمة إلى بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ونصوص أخرى في هذا المعنى.
وأما الأدلة العقلية فتتلخص في أن للتعددية الدعوية آثار سلبية وأن مفسدتها غالبة على مصلحتها، وأن التعدد يوحي بالتناقض والاختلاف، وأن التعددية الدعوية وسيلة لتعجيل ضربات أمنية للدعوة الإسلامية، وأن هذا التعدد يوقع المسلم في حيرة أيها الصواب وأيها الخطأ، فضلا عن أن هذه التعدديات لم تكن على عصر النبي حسب رأيهم.
وقد رد الباحث على هذه الأدلة ردا علميا، وهو يسير كما هو ظاهر من طبيعة الأدلة سواء كانت نقلية أم عقلية، ولعل أبرز ما جاء في رده أن ما جاء من النصوص الشرعية دالا على الوحدة الإسلامية حُمل على الأصول الشرعية والثوابت القطعية التي ليس للاجتهاد والرأي فيها مجال، وهي التي تمثل الحد الأدنى من القواسم المشتركة لجمع شمل المسلمين، وتمثل كذلك وحدتهم العامة، وأي خروج عن هذه القواطع إنما هو خروج عن ملة الإسلام، فهي نصوص محمولة على الملة والدين، وكذلك النصوص التي تحرم التفرق والتنازع محمولة على الملة والدين كذلك.
موقف القبول للتعددية الدعوية وأدلته
وأما القائلون بمشروعية التعددية الدعوية، والمستحسنون لها، لهم أدلتهم واجتهاداتهم كذلك، وهم يمثلون وجهة نظر أخرى راجحة في نظر الباحث، واتجاه محدد في الساحة الدعوية.
ومن أبرز من قال بهذا الاتجاه ورآها ظاهرة صحية الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور محمد عمارة والدكتور محمد أبو الفتح البيانوني، وكان بإمكان الباحث أن يزيد هذه الجزئية ثراء بإيراد أسماء كثيرين يؤيدون هذا الاتجاه، بدلا من اقتصاره على هؤلاء الأعلام، وقد أصبح هذا الفريق هو الغالب اليوم في واقع الدعوة الإسلامية.
وقسم الباحث أدلتهم إلى نقلية وعقلية كذلك، فمن الأدلة النقلية الآيات والأحاديث التي تحذر من الافتراق في الدين والملة، فهي دليل على مشروعية التعدد في الاجتهادات؛ إذ لما علم الله أن دواعي الاختلاف في هذه الأمة موجودة حذر من أمرين: الاختلاف الذي يكون في غير محله حيث توجد الواضحات القاطعات، والبغي في الاختلاف المشروع واتخاذه وسيلة للتفرق واتباع الهوى، وقوله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم".
وما رواه أبو داود بسنده عن العرباض بن سارية أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعظهم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا، فقال: "أوصيكم ونفسي بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
فهذا دليل على جواز التعدد ومشروعيته، وأنه غير مناف لوحدة الأمة؛ ذلك أن سنة الخلفاء الراشدين وما كان عليه الصحابة اجتهادات متعددة وآراء مختلفة، فكم من مرويات تؤكد اختلافهم، وتعدُّد أقوالهم ومواقفهم، فهم أنوار ومصابيح يسع كل مجتهد أن يقتبس من هديهم وأنوارهم، وفي ذلك توسعة على المسلمين ورحمة بهم.
ومن الأدلة العقلية التي استدل بها هذا الفريق أن الكون قائم على التعدد والتنوع وأن التعدد والتنوع سنة من سنن الله في خلقه، كما أن التعدد منسجم مع شمول الإسلام وعالميته، وأن أي جماعة لا يمكن أن تقوم بمهام الدعوة وحدها، وأن في التعددية نماء وحفاظا على الدعوة الإسلامية، فإذا أصيبت إحدى هذه الجماعات الدعوية قامت الأخرى لتسد هذه الثغرة التي تركتها، وما أكثر ما تجهض أو تُضعَف الحركات الإسلامية اليوم وبخاصة في الدول المستبدة المتسلطة، إضافة إلى أن عصرنا هو عصر التخصص في جميع المجالات، ولذك تعددت الجامعات في تخصصاتها، والكليات في أقسامها، فلا عجب أن تهتم كل جماعة بجانب تبرع فيه وتخدم الإسلام من خلاله غير متضاربة ولا متعارضة مع غيرها من الجماعات، إلى غير ذلك من أدلة في هذا البحث القيم.
ضوابط للتعددية الدعوية
فإطلاق القول بالمنع أو بالمشروعية للتعددية الدعوية إطلاق فيه نظر، ويحتاج إلى دراسة وتدقيق، فلا إفراط ولا تفريط، بل الوسطية والاعتدال في ذلك؛ أن نقبل التعددية الدعوية بضوابط مقيدة لها، وقد وضع الفريق المؤيد لها ضوابط وحدودا لابد من مراعاتها للقول بجواز التعدد والتنوع واستحبابه، ومن هذه الضوابط:
أولا: مراعاة الثوابت الأساسية العامة للإسلام التي هي الجامع الذي يجمع المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم الدعوية وانتماءاتهم الحزبية، والتي لا يمكن الخروج عنها بحال من الأحوال، ومن هذه الثوابيت: وحدة العقيدة، ووحدة الغاية "مرضاة الله تعالى ونصرة دينه"، ووحدة المصادر والموارد "كتاب الله وسنة رسوله".
ثانيا: حصر الخلاف في نطاق المسموح به في الاجتهاد بحيث لا يكون في الثوابت المذكورة ولا يعيق النشاطات الأخرى.
ثالثا: صياغة منهج حركي واضح؛ لأن العمل الإسلامي ليس ارتجاليا إنما هو عمل منهجي علمي دقيق.
رابعا: مراعاة كافة الجوانب الدعوية، فمن برع وتخصص في جانب من الجوانب يلزمه أن يحيط بالحد الأدنى من الجوانب الأخرى؛ لأنه من الصعب الفصل التام بين مجالات الدعوة المختلفة، ومن ناحية أخرى فإن في إحاطتهم بالحد الأدني من الجوانب الأخرى تَفهُّمًا لما تقوم به الحركات الأخرى في اتجاهات أخرى مما يجنبنا الصراع والتضارب.
خامسا: أن يكون التعدد تخصُّصيا وتكامليا متضافرا، ويتم توزيع المهام على الشركاء في العمل الدعوي، مما يؤدي بمجموعهم إلى الكمال المنشود، والشمول المطلوب.
سادسا: التفريق بين المجالات التي يسمح فيها بتعدد المواقف والمجالات التي تتطلب موقفا موحدا من جميع الدعاة بالرغم من تعدد الاجتهادات والآراء حولها؛ فالتعدد وإن كان سنة كونية فإن هناك ظروفا وأوضاعا توجب على الجميع اتخاذ موقف واحد والقول برأي واحد وبخاصة في قضايا الأمة المصيرية.
سابعا وأخيرا: أن يكون انتماء أفراد دعوة معينة إلى المبادئ والأفكار لا إلى الأشخاص والأسماء؛ لأن الأمر إذا أصبح ولاء وانتماء للأشخاص يكون تحزبا وتعصبا مذموما، وهو ما يؤدي إلى الخروج عن المبادئ المرسومة له، فتذهب ثمراته وتكثر سلبياته، إضافة إلى أنه لا عصمة لبشر، ولا تؤمَن على حيٍّ فتنة.
إيجابيات التعددية الدعوية
وتحت هذا العنوان يذكر الدكتور معاذ مجموعة من الإيجابيات للتعددية الدعوية في ساحة العمل الإسلامي، منها: التعاون على تحقيق الأهداف المشتركة، وإحياء نظرة التكامل والتعاون بين فصائل العمل الإسلامي على كافة اتجاهاته، وضمان شمول الدعوة الإسلامية لكافة الاتجاهات الدعوية المطلوبة واستمرارية العمل، وذلك بإحياء نظرة التخصص في العمل الدعوي، واستيعاب أكبر عدد من المسلمين في العمل الإسلامي، وإحياء الهمة والجودة في العمل الدعوي، وفسح المجال للتجارب الدعوية المتنوعة، وبروز روح التطوير والتجديد في مسيرة العمل الإسلامي، مما يناسب الأماكن المتعددة والأحوال المختلفة، وشيوع روح التنافس الإيجابي والتسابق في الخيرات، إضافة إلى أن التعددية الدعوية تطبيق عملي لجواز الاختلاف في الآرء وتعدد وجهات النظر.
سلبيات التعددية الدعوية
وفي مقابل الإيجابيات للتعددية الدعوية لا شك أن هناك سلبيات لها كما هي طبيعة كل عمل، ومن هذه السلبيات:
طغيان الحزبية بين الأفراد العاملين في حقل الدعوة وانتشار التعصب المذموم، مما يؤدي إلى احتكار الصواب ورؤية الآخر عدوا له فيتم إقصاؤه من خلال طغيان فكرة جماعة المسلمين والانتقال من الولاء للمبادئ والأفكار إلى الأشخاص والأسماء، والاهتمام بالكم بدلا من الكيف بالحرص على إدخال أكبر عدد ممكن لدعوتهم دون نظر للتربية والتكوين، وضعف النقد الذاتي والتنبه لفقه المراجعات.
ومن السلبيات كذلك عدم التنسيق في العمل الدعوي بين كافة الاتجاهات الدعوية مما يضيع الجهود ويبعثرها، ومنها: تكرار الكثير من الأخطاء التي وقع فيها الآخرون بحكم ضعف الاستفادة من تجارب الآخرين في كثير من الحركات الإسلامية، كذلك وقوع العديد من المسلمين في الحيرة والاضطراب تجاه هذه النشطاطات والتيارات الدعوية أيها صواب وأيها خطأ، وأيها يعبر عن مضمون الإسلام وأيها لا يعبر؛ وذلك نتيجة لسوء الواقع العملي لهذه الحركات، ولعدم استيعاب هؤلاء المسلمين لمبدأ التعدد والتنوع، وكذلك من السلبيات إسناد المناصب القيادية في بعض الأحيان لمن ليسوا أهلا لها، إما بسبب جمودهم وعدم مرونتهم، أو بسبب تحمسهم والسير وراء عواطفهم، وغالبا ما يظهر ذلك فيما يسمى بطبقة القيادات الوسطى.
منهاج التعامل مع التعددية الدعوية
ومن خلال ما سبق من إبراز لجوانب الإيجاب وجوانب السلب استطاع الباحث أن يضع منهاجا للتعامل مع التعددية سواء كان التعامل بين بعضها وبعض أم في ظل غياب الدولة الإسلامية أو وجودها، وكذلك من خلال صيغ وتجارب للتعامل مع التعددية الدعوية.
ومن أبرز المعالم لتزكية الإيجابيات وتلافي السلبيات تحقيق الإخلاص والتجرد لله تعالى ومراجعة النفوس والنيات والمقاصد، وإحياء مفهوم الأمة الإسلامية بإطارها العام الشامل لجميع الحركات والأنشطة الدعوية؛ إذ الدعوة الإسلامية ليست حكرا على تيار بعينه، وتحقيق مبدأ النقد الذاتي البناء وإحياء فقه المراجعات الذي به تتقدم الحركات وتتطور الدعوات، والاعتراف بالتعددية الدعوية والقناعة بضرورتها، وإحياء نظرة التخصص في العمل الدعوي، والتبصير بحقيقة مفهوم الاختلاف بين المسلمين والوعي بفقهه ومراعاة آدابه، وترسيخ مبدأ الشورى بين الدعاة على مختلف اتجاهاتهم للتنسيق فيما بينهم والاجتماع على أصول عامة تكون أرضا مشتركة يلتقي عليها الجميع، وإفشاء الحوار بين العاملين في الحقل الإسلامي بحيث يكون هذا الحوار منضبطا بآدابه وأخلاقه وقواعده حتى يؤتي ثمراته المرجوة، والتركيز على الثوابت والكليات والتعاون عليها لتكون هي الحد الأدني للالتقاء عليها مع إعذار بعضنا بعضا فيما يجوز فيه الخلاف، ومع ذلك يجب إحياء فقه الأولويات وفقه الموازنات وفقه مراتب الأعمال، وهي من الأمور المهمة التي تقارب المسافات بين العاملين في ساحة الدعوة وتجعلهم منسجمين في واقعهم.
ويؤكد الباحث أن التعددية الدعوية ليست مرتبطة بقيام الدولة الإسلامية الراشدة أو غيابها، وإنما تتعلق بوجود الدواعي لقيامها، وقد وجدت جذور للتعددية الدعوية منذ كانت الدولة الإسلامية قائمة، واستمرت وتزايدت بازدياد المؤثرات الباعثة لها، وكان من هذه البواعث سقوط الخلافة الإسلامية حتى أصبحت في عصرنا حقيقة واقعية لا يمكن لأحد إغفالها، ومن الواجب أن قيام التعددية الدعوية في ظل دولة إسلامية لابد أن يكون منسجما مع اتجاهاتها ومنضبطا وأكثر تنسيقا؛ إذ الجميع يخضعون فيها لإمام مسلم راشد له الحق في أن يسدد وينصح، ويمنع ويسمح، فيفصل في الأمور ويقطع دابر الخلاف.
ويقدم الباحث صيغا تَظهر التعددية الدعوية في ظلها بشكلها الإيجابي المنسجم والمتآلف والمتكاما، يتلوها إبراز تجربة معاصرة من أحدث التجارب على طريق وحدة الصف ووحدة الكلمة والذوبان الكلي في ظل الوحدة الإسلامية الجامعة وهي حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب التي تأسست في العاشر من شهر ربيع الثاني عام 1427هـ، والتي جمعت بين حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي، مع اختلاف الحركتين في اتجاهاتهما، وقد استنتج الباحث مجموعة من المعالم أوصلت الحركة للوحدة عمليا، ومن هذه المعالم: الإيمان القوي بأهمية الوحدة والتفكير الجاد في كيفية الوصول لها، والبدء بالخطوات العملية، والتصميم على تجاوز العقبات التي تعترض طريق الوحدة، والحرص على تفعيل المكتسبات السابقة لكلا الطرفين والعمل على ترشيدهما ومراجعتهما، والتمسك بالوحدة وعدم الالتفات إلى الشائعات المغرضة، وتحجيم المسائل الخلافية والتركيز على المتفق عليه، والاتفاق على كيفية حسم الأمور المهمة، والانسجام مع الواقع ومراعاة الظروف المحيطة، وترتيب الأولويات الجديدة للوحدة والاتفاق عليها والتركيز على الأمور العملية.
وما أجدر أن تعمم هذه التجربة في بلدان العالم الإسلامي للالتقاء على أصول مشتركة وتخفيف حدة الخلاف وانحساره، لإثراء جوانب العمل فيها، وترسيخ ثقافة التعددية الدعوية التي إذا قامت على أساس سليم فإنها تكون خطوة على طريق الوحدة الإسلامية، وتكون النواة الأولى لإيجاد أهل الحل والعقد في هذه الأمة التي فقدت السلطة السياسية الواحدة بسقوط الخلافة، مع إدراك أن الاتفاق الكامل بين التيارات والاتجاهات الدعوية أمر مستحيل؛ لأنه ينافي سنن الله في كونه وفي خلقه وفي شرعه، وهو أمر يأباه الواقع العملي كما بينه هذا البحث بما لا مزيد عليه.
تنبيه
ومما أريد أن أنبه إليه أخي الكريم الدكتور معاذ في هذه الدراسة القيمة أنه في بعض الأحيان ينقل نقولا عن العلماء السابقين ـ ابن تيمية والشاطبي مثلا ـ وينزلها على التعددية الدعوية في واقعنا المعاصر، وهم يقصدون بها الفرق التي سادت في زمانهم، فلابد من مراعاة البيئة والملابسات التي قال فيها هؤلاء العلماء كلامهم ومراعاة الفروق الدقيقة بين واقعنا وواقعهم ومرادهم ومرادنا عند تنزيل كلامهم على واقعنا، ومن ناحية أخرى كان يحسن بالباحث أن يفرق بين الفرقة والجماعة الدعوية، وهو أمر مهم لابد من ذكره في مثل هذا البحث؛ إذ الفرق تختلف في أصل الدين فضلا عن فروعه، أما الجماعات والتيارات الدعوية فتتفق على الأصول وبعض الفروع، وتختلف فيما دون ذلك، والبحث جديد في بابه لم يجمعه أحد من قبل إلا متناثرات، والباحث جاد وواعد ومبشر، وأمامه مستقبل مشرق إن شاء الله.
(1) من العجيب أن يضع الباحثُ الدكتور فتحي يكن مع هذا الفريق القائل بمنع التعددية الدعوية بالرغم من فكره المعروف بالاعتدال؛ لكن الباحث أورد له نصا يؤكد هذا من كتابه الإيدز الحركي ص: 24، يقول فيه: "فالساحة الإسلامية تشهد ولادة حركات وتنظيمات وجمعيات وفرق إسلامية على نطاق واسع، وإن كان البعض يعتبر ذلك ظاهرة صحية، فإنني من خلال المفهوم الشرعي للعمل الإسلامي، ومن خلال التقدير الصحيح للمصلحة الإسلامية، ومن خلال متابعة ما يجري عليها: أعتبره ظاهرة مرضية وخطيرة وتنذر بعواقب وخيمة لا يعلم مداها إلا الله". وأعجب من ذلك أنه نقل عنه مع الفريق القائل بالجواز نصا يضع فيه ضوابط للتنوع والتعدد الدعوي، ولعل ذلك تطور في فكر الدكتور أو قال القول السابق في ظروف معينة وواقع محدد، والله أعلم.