الأربعاء، 13 فبراير 2008

قواعد في أدب الخلاف ـ استشارة دعوية


عبد الله - ليبيا
الاسم
قواعد في أدب الخلاف
العنوان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،سؤالي عن الجماعات الإسلامية، وهو أن هناك الكثير من أبناء بلادنا قد انتمى بعضهم للجماعة السلفية، أو هكذا يسمّون أنفسهم، ولا يقتنعون إلا بكلام بعض العلماء مثل: الشيخ الألباني، وغيره من علماء السلفية.وفي نفس الوقت ينتقدون الكثير من العلماء والدعاة مثل: الشيخ القرضاوي والعوده والقرني وغيرهم، ويحذرون منهم، ويقولون: إن العلماء حذروا منهم، فهل هذا الكلام صحيح؟ وهل السلفية نوعان أم ماذا؟.علما بأن بداية التزامي كانت في التسعينيات، وكانت بفضل الله، ثم بفضل سماعي لأشرطة علماء ودعاة من بلاد الحجاز، مثل: الشيخ ابن باز وعائض القرني وسلمان العودة وغيرهم، ولم أكن أعرف في بداية التزامي شيئا عن هذه الجماعات، وكنت أعتقد أن المسلمين على قلب واحد، وشعرت بلذة الإخوة في الله.وعندما علمت بأمر هذه الجماعات وما يدور بينها أصابني الإحباط الشديد، لدرجة أنني شعرت بضعف إيماني.وفي المقابل هناك جماعة الإخوان، الذين هم بدورهم ينتقدون السلفية، ويعلقون على تصرفاتهم، وينتقدون تمسكهم باللحية والإزار، وبعض السنن الأخرى، علما بأن المنتمين إلى هذه الجماعات هم من أقاربي وجيراني، وهم ينظرون إلي نظرات فيها انتقاص، أو اتهام، أو لا أدري كيف أفسرها، وكأن لسان حالهم يقول لي: إن لم تكن في جماعتنا، فأنت على غير الصواب.فأنا في حيرة من أمري، وأود النصيحة منكم.
السؤال
قضايا وشبهات, فقه الدعوة
الموضوع
الأستاذ وصفي عاشور أبو زيد
المستشار
الحل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..أهلا بك - أخي الكريم - على صفحات موقعكم إسلام أون لاين، ونشكر لكم هذه الثقة الغالية، وحيا الله أهل ليبيا الشقيقة.اعلم - رعاك الله - أن الاختلاف سنة كونية أودعها الله تعالى في كونه وفي خلقه، فعالم الإنس غير عالم الجن، وهذان غير عالم العجماوات، والإنسان يختلف من لغة إلى لغة، ومن لهجة إلى لهجة، ومن بلد إلى بلد، ومن أسرة إلى أسرة، ومن فرد إلى آخر، بل إن الإنسان أحيانا تختلف مواقفه وتتعارض صفاته من حين إلى حين، وقد قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).وإذا كان الاختلاف سنة في الخلق، فهو أيضا سنة في الفهم، فعقول الناس مختلفة، ومن هنا نشأ الخلاف في فهم النصوص الشرعية.ونتيجة لهذا نشأت المذاهب الفقهية، ولا نكير على نشأتها؛ لأن اختلاف الآراء المبنية على الدليل مصدرُ ثراءٍ، ومنبعُ فخرٍ للفقه الإسلامي، وليست نقيصة فيه بحال من الأحوال، فلا غرابة أن تنشأ جماعات ودعوات وحركات تدعو إلى الإسلام، نابعة من الإسلام، منطلقة من أصوله، غير أنها تختلف في بعض الفروع، لكن بعضها – للأسف - يضخم هذه الفروع فيجعلها أصولا، ويضخم السنن فيجعلها فروضا، ويضع الفروع والجزئيات مكان الأصول والكليات، والبعض الآخر يستهين بالسنن الظاهرية، مثل اللحية وغيرها، فنحن واقعون بين طرفي نقيض، بين التهويل والتهوين، والوسط دائما هو الخير: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، نضع الأمور في نصابها الصحيح في ضوء فقه النِّسَبِ بين مراتب الأعمال، ولا نهون من شيء حتى لو كان من الفروع والجزئيات.أقول - علمني الله وإياك - إنه لا مانع أبدا من نشأة هذه الحركات والدعوات، بحيث يدعو الكل إلى الإسلام بالطريقة التي يراها، وبالفهم الذي يفهمه شريطة أن يكون اختلاف تنوع وتكامل وتضافر، لا اختلاف تطاحن وتراشق وتنافر، فاختلاف العقول ثراء، واختلاف القلوب وباء.وإذا كان اختلاف التنوع والتكامل والتضافر مباحا، أو مستحبا، بل أحيانا يبلغ درجة الواجب، فلابد من أصول تضبطه، وقواعد ترشد مسيرته، ومبادئ تسدد خطاه، ومن أهم هذه القواعد:أولا: أن لا يُنكَر على المجتهد في اجتهاده وعمله بهذا الاجتهاد، ولا يَمنع هذا من إقامة الحجة عليه، أو المحاورة معه؛ للخروج من الخلاف، والوصول إلى الحق، بل هو الأولى، إذ مازال السلف يرد بعضهم على بعض في مسائل الفقه والفروع من المعتقد، وهذا من النصيحة للمسلمين.وقد نقل عن كثير من السلف عدم الإنكار في مسائل الخلاف إذا كان للاجتهاد فيها مساغ، وهذا مقرر في قواعد الفقه، حيث لا إنكار في المختلف فيه، يقول سفيان: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه". [الفقيه والمتفقه 2/69].ويقول الإمام أحمد فيما يرويه عنه ابن مفلح: "لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب، ولا يشدد عليهم". ويقول كذلك: "لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع". [الآداب الشرعية 1/186].ويقول ابن تيمية: "مسائل الاجتهاد، من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه". [مجموع الفتاوى20/207].وقال النووي: "ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً". [شرح النووي على صحيح مسلم 2/24].ثانيا: الاحترام والمحبة على رغم الخلاف، فالخلاف أمرٌ واقع لا محالة، ولكن لا يجوز أن يؤدي الخلاف بين المتناظرين الصادقين في طلب الحق إلى تباغض وتقاطع وتهاجر، أو تشاحن وتدابر وتناحر، فأخوة الدين، وصفاء القلوب، وطهارة النفوس فوق الخلافات الجزئية، والمسائل الفرعية، واختلاف وجهات النظر لا ينبغي أن تكون سببا في قطع حبال المودة، ومهما طالت المناظرة، أو تكرر الحوار، فلا ينبغي أن تؤثر في القلوب، أو تكدر الخواطر، أو تثير الضغائن.ولقد اختلف السلف فيما بينهم، وبقيت بينهم روابط الأخوة الدينية، فهذان الخليفتان الراشدان - أبو بكر وعمر - يختلفان في أمور كثيرة، وقضايا متعددة، مع بقاء الألفة والمحبة، ودوام الأخوة والمودة، ومع هذا الخلاف بينهما فإن كل واحد منهما كان يحمل الحب والتقدير والاحترام للآخر، ويظهر ذلك من ثناء كل واحد منهما على صاحبه.وفي ذلك يقول الإمام بن تيمية: "كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة". [مجموع الفتاوى: 24/172]. ويقول: "فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ" [الاستقامة 1/31].ويقول يونس الصدفي: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة"، قال الذهبي: "هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون". [سير أعلام النبلاء 10/16-17].ويقول الإمام حسن البنا في كلمة معبرة عن هذا المعنى: "إن الخلاف في الفرعيات الفقهية لا يكون سببا في التفرق والتحزب والتنافر، فقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم والأئمة الأعلام ولم تختلف قلوبهم ... ونري أن هذا الخلاف لا يكون أبدًا حائلاً دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده وأوسع مشتملاته، وألسنا مسلمين وهم كذلك؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالا للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو للتفاهم؟ هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله علية وسلم كان يخالف بعضهم بعضا في الإفتاء، فهل أوقع ذلك اختلافا بينهم في قلوبهم؟ وهل فرق وحدتهم أو فرق رابطتهم؟ اللهم لا، وما حديث صلاة العصر في قريظة ببعيد". [رسالة دعوتنا].ثالثا: ضرورة حمل الكلام على أحسن المحامل إن اتسع لها التأويل، وساغ لها الفهم، ومسالك الأئمة كثيرة في هذا المعنى، فقد تأول ابن تيمية للمتصوفة قولهم: "إن المريد إذا أحبه الله لم يضره ذنب"، وحمله على أن من أحبه الله ووقعت منه معصية، فإن الله تعالى يوفقه للتوبة والاستغفار، ويعينه على الخلاص من ذنبه حتى لا يبقى مصرا عليها. وتأول ابن القيم معنى قول الجنيد: "إذا أراد الله بالمريد خيرا أوقعه على الصوفية، ومنعه صحبة القراء"، وحمله على معنى أنهم يهذبون أخلاقه، ويدلونه على تزكية نفسه، وأما القراء - وهم أهل التنسك الذين قصرت همتهم عن ظاهر العبادة - فلا يذيقونه من حلاوة أعمال القلوب، وتهذيب النفوس. [مدارج السالكين: 2/396-370].رابعا: عدم تتبع سقطات وعثرات الأئمة والدعاة الهداة، وبخاصة الذين تنغمر سيئاتهم في حسناتهم، ولا سيما أثناء الحوار؛ لأن هذا من شأنه أن يوغر الصدور، ويخرج الحوار عن أهدافه ومقاصده، يقول ابن رجب: "وَالْمُنْصِفُ مَنْ اغْتَفَرَ قَلِيلَ خَطَأِ الْمَرْءِ فِي كَثِيرِ صَوَابِهِ" [القواعد: خطبة الكتاب].وقال الذهبي وهو يتحدث عن ابن تيمية: "وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها، وهي مغمورة في بحر علمه، فالله تعالى يسامحه ويرضى عنه، فما رأيت مثله، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك". [تذكرة الحفاظ: 4/1497].وقال ابن القيم: "من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يُحتمل منه ما لا يُحتمل من غيره، ويعفى عنه ما لا يعفى من غيره، فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.. وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أن من له ألوف الحسنات، فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين" [مفتاح دار السعادة: 1/177].هذه كلها قواعد يجب أن تراعى عند الاختلاف كي يكون الاختلاف مسددا وهادفا وصحيًّا ورشيدا، وبغير ذلك تنقلب الساحة إلى حرب وتطاحن وتنافر، ويتغير حكم تعدد هذه الجماعات والدعوات من الوجوب إلى الحرمة، فاتحاد المسلمين فريضة محكمة إلى يوم القيامة.ويفيدك - أخي الكريم – مطالعة الاستشارات التالية:-
خلافات العلماء.. لا تخوضوا في الأرض السبخة- جماعة توحيد الجماعات.. "ولا يزالون مختلفين"- سلفي، أم إخواني، أم .. .؟؟؟ السؤال الخطأ- الخلاف حول الاختلاف.. ميدان الاتفاق أوسع- الخلافات الفقهية والتنظيمية .. كيف نستوعبها ؟- صراع الدعاة .. حراااااااااام- "العمل التنظيمي" .. شرط لاكتمال الإيمان!!
رعاك الله وحفظك وألهمك رشدك، وهدانا وإياك إلى الصواب وإلى طريق مستقيم، وتابعنا بأخبارك.

الثلاثاء، 12 فبراير 2008

وقع في الزنى.. هل تُقبل التوبة بلا حد؟ـ استشارة إيمانية

ناصف - مصر
الاسم
وقع في الزنى.. هل تُقبل التوبة بلا حد؟
العنوان
السلوكيات
الموضوع

هناك شخص عمره 28 سنة، وقع في خطيئة الزنى، ويريد أن يتوب ويرجع إلي ربه، فهل لا بد أن يقام عليه حد الزنى، لكي تُقبل توبتُه أم يكفي أن يتوجه إلي الله عز وجل بالدعاء، والاستغفار معلنا توبته وندمه على ما كان منه؟. أرجو الإفادة.
السؤال
فريق الاستشارات الإيمانية
المستشار
الرد
الحمد لله غافر الذنب، و قابل التوب، شديد العقاب، الفاتح للمستغفرين الأبواب، والميسر للتائبين الأسباب، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:

أخي الراغب في التوبة

السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بك، وشكر الله لك ثقتك بإخوانك في شبكة "إسلام أون لاين.نت"، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، وأن يتقبل منا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها لمخلوق حظا،...آمين... ثم أما بعد:

يقول الباحث الشرعي وصفي عاشور أبو زيد، عضو فريق الاستشارات الإيمانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومن اتبع هداه وبعد،

اعلم ـ يا أخي الكريم ـ أن الله تعالى أغلق المنافذ أمام مقدمات الزنى حين أمرنا بغض البصر ورتب عليه الأجر الجزيل، وحين أمرنا بالاستئذان قبل دخول البيوت والاستئناس والسلام على من فيها، وأوضح النبي أن الاستئذان إنما هو من النظر، فيما رواه أبو داود بسنده عن هزيل قال:

جاء رجل، قال عثمان ـ سعد بن أبي وقاص ـ فوقف على باب النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذن، فقام على الباب، قال عثمان: مستقبل الباب، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هكذا عنك أو هكذا؛ فإِنّما الاستئذان من النظر".

وحين حرم الله أمورا أباح أمورا أخرى حتى لا يحدث الكبت النفسي للنفس الإنسانية فيكون الانفجار بما يؤدي إلى ارتكاب الفواحش، ويسَّر أسباب الزواج وحذر من التعسير والتنطع فيه، وأوضح النبي ذلك حين قال فيما رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة، وصححه السيوطي: " إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض".

ذلك أن الإسلام لا يحارب الرغبات النفسية وما خلق عليه الإنسان وجبله عليه، وبخاصة هذه الشهوة العارمة التي تعد أقوى الملاذ، بل يهذبها الإسلام بما يحفظ كرامة الناس ويصون أعراضهم وأنسابهم، ويخط لها خطوطها المشروعة، وفي هذا يقول صاحب الظلال: "والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها، ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها. ومن ثم ينهى فقط عما يخالف نظافة الشعور، وطهارة الضمير".

فلابد من العلم بهذا والإحاطة به، ثم اعلم أن الله تعالى يقبل التوبة من التائبين، ويعفو عن السيئات وعن كثير، ويتجاوز عن المخطئين برحمته التي وسعت كل شيء، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، بشرط أن تكون التوبة صادقة نصوحا جامعة لشروطها المعروفة، من إقلاع وندم وعزم على عدم العودة للمعصية.

والتوبة الصادقة تمحو جميع الخطايا والذنوب، مهما بلغت، قال تعالى: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعَمِل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً"[الفرقان:68-71].

أما بخصوص مسألة علاقة قبول التوبة بإقامة الحد، فاعلم- رعاك الله- أن إقامة الحد منوطة بالحاكم وموكولة إليه، فمتى وصل إليه العلم بارتكاب ما يقام عليه الحد بشروطه فلا يسعه إلا أن يقيمه على صاحبه، وإذا لم يصل هذا الذنب الذي يستوجب الحد إلى الحاكم وستره الله تعالى على من قارفه، فلا يشترط لقبول توبته أن يقام عليه الحد؛ فالتوبة تَجُبُّ ما كان قبلها من الذنوب.

وحسبنا ما رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن ابن عمر وصححه السيوطي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يُبْدِ لنا صفحتَه نُقِمْ عليه كتابَ الله".

ولا أدل على ذلك من حديث الرجل الذي قَتل مائة نفس، وأراد أن يتوب، فدُلَّ على عالم، فقال له العالم: ومن يحول بينك في صحيح البخاري (3470)، وصحيح مسلم (2766)، فأمره بالتوبة، ولم يأمره بوجوب إقامة الحد، فَدلَّ ذلك على أن التوبة كافية لمن تاب، دون إقامة الحد عليه.

فعلى من فعل هذه المنكرات أن يتوجه إلى الله بالتوبة الصادقة، وأن يدعو لمن آذاهم، ويستغفر لهم، واسمع يا أخي إلى هذا الحديث القدسي الآسر الذي يهزُّ كيان كل مسلم:

عن أنس– رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله– صلى الله عليه وسلم– يقول:" "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ و تَعالَى: يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ عَلَى مَا كَانَ فيكَ ولا أُبالي. يا ابنَ آدمَ لوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استغفرتَني غفرتُ لكَ ولا أُبالي. يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لوْ أتيتني بِقُرابِ الأَرْضِ خَطَايا ثُمَّ لَقِيتَني لا تُشرِكُ بي شيئاً لأتيتُكَ بِقُرابِهَا مَغفِرةً". " أخرجه الترمذي (3640) وقال: حديث حسن غريب.

وأضف إلى هذا كله أن الله يفرح بتوبة العبد إذا تاب ورجع إليه، كما ثبت ذلك في الحديث المتفق عليه من حديث أنس –رضي الله عنه- أخرجه البخاري (6309)، ومسلم (2747).

فيا أخي الكريم أنصحك بما يلي:-
بادر بالتوبة ولا تسوف؛ فإن التسويف من الشيطان.
اقطع كل صلة تربطك بهذا الماضي السيئ.
عليك بحضور مجالس الذكر والعلم.
عليك بمصاحبة أهل الخير ومجالستهم، واحذر من قرناء السوء والقرب منهم؛ فمصاحبة الفريق الأول فوز وفلاح في الدارين، ومصاحبة الفريق الثاني شر وفساد وخيبة وخسارة في الدارين.
واظب على إقامة الصلاة مع جماعة المسلمين، في المسجد إن استطعت.
أكثر من فعل الطاعات ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
اقطع دابر أي شيء يوصلك إلى ارتكاب السيئات والمعاصي.
اصدق في اللجوء إلى الله؛ فإن الله يصدق مع من صدق معه.

واعلم - أخي الحبيب- أن هذا كله عون لك - بعد الله- على الثبات على طريق الهداية، وفقنا الله وإياك إلى ما فيه رضاه، وحفظنا وإياك من كل ما يقرب إلى غضبه.

وختاما؛
نسأل الله تعالى أن يوفقك لما يحب ويرضى، وأن يفقهك في دينك، وأن يعينك على طاعته، وأن يصرف عنك معصيته، وان يرزقك رضاه و الجنة، وأن يعيذك من سخطه والنار، وأن يهدينا وإياك إلى الخير، وأن يصرف عنا وعنك شياطين الإنس والجن إنه سبحانه خير مأمول ..
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ...

طالع أيضاً:
اغسل ذنوبك بدموع التوبة
أخشى الزنى ..الإيمان هو الحل
ذنوبي أماتتني.. التوبة بعث جديد
وقع في الزنا وتاب .. فهل أتزوجه؟

http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?pagename=IslamOnline-Arabic-Eman_Counsel/EmanA/EmanA&cid=1168265551715

موضة انتقاد النقاب.. ومطاردة الملتزمينـ استشارة إيمانية

ناردين - فلسطين
الاسم
موضة انتقاد النقاب.. ومطاردة الملتزمين
العنوان
أمراض القلوب
الموضوع
التزمت بالنقاب عن رغبة وحب شديدين. وكان الفضل في ذلك يعود لأنني أعد نفسي لرحلة أبدية. كما يعود إلى أنني أعلم أن الرابح الحقيقي في هذه الحياة هو الذي يفني شبابه في تقوى الله والالتزام بأوامره. كما أنني أريد أن يحفظني الله عندما أصبح عجوزا. وأنا مقتنعة بالنقاب تماما. ولكني واجهت معارضة كبيرة من أهلي.

مرت سنة على خير؛ وأنا فرحة جدا به. ولكن حدثت مشاكل ومضايقات كثيرة في تنقلاتي بحواجز فلسطين. حاول أهلي أن يقنعوني بخلع النقاب؛ ولكن اتفقت معهم أن أتخلى عن تغطية وجهي بالقرب من حاجز أو في حالة طلب جندي ذلك مني حفظا على سلامتي. ولكن بدأت اشعر بأنني لم أعد ملتزمة به. فأحيانا أتركه في تنقلاتي بين المدن؛ لرغبة أهلي وحتى لا أسبب لهم مشاكل في تنقلاتهم.

مرت سنة أخرى؛ ولم يتقدم ليّ أحد. وفي حالة تقدم شخص لي؛ فإن شرطه الأول أن أترك النقاب. وأما الآخرين فينتابهم الخوف من مجرد التقدم لي؛ باعتبار النقاب دليل على تشددي في الدين وأنا لست كذلك.

أجد نفسي يوميا في حلقة من السخرية سواء من عائلتي أو من الناس، ولكنني أتقبل الأمر برحابة. وأعتبره نوعا من الدعابة. وفي الجامعة؛ أجد الكثير من الأذى النفسي. لم أكن هكذا من قبل حساسة وضعيفة وأبالي كثيرا برأي من حولي.

ولكن لا أدري ما الذي حل بي ؟ إذ أجد نفسي في دوامة من الأسئلة :
هل من الحكمة أن أجعل النقاب محور مشكلتي؟ وهل كان من الصائب أن أضيع 3 سنوات ثمينة من عمري في تغطية وجهي؟
وعلى فرض أني خلعته .. فما هو السبب لتركي له ؟ هل السبب هو البحث عن زوج مناسب ؟
كل من تحطن بي كاشفات لوجوههن؛ ولسن عاصيات بطبيعة الحال. ودائما أسمع : "تغطية الوجه ليست ملزمة". ولكني ارتديت النقاب ابتغاء وجه الله وطاعة لرسوله. فلماذا بدأت أشعر بهذا الضيق والغربة والوحدة في مجتمعي ؟
لماذا بدأت أشعر بالهم اليومي عند تغطية وجهي كل يوم، وخاصة عند توجهي للجامعة ؟.
لماذا يفترض الناس أن كل جميلة فقط عليها تغطية وجهها. علما بأني جميلة؛ ولكن قمت بالأمر حبا لله...
أفكاري لم تعد مرتبة أبدا. ولم أعد أُدرك ماذا أريد بالفعل!
أعطوني أي نصيحة أو أي كلمة لعلي استفيد..
السؤال
فريق الاستشارات الإيمانية
المستشار
الرد
يقول الأستاذ وصفي عاشور أبو زيد، باحث شرعي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة،وعضو فريق الاستشارات الإيمانية بمصر:
الأخت الكريمة/ ناردين
أهلا وسهلا بك على موقع إسلام أون لاين، ونحن إذ نرحب بك نقدر لك ثقتك في إخوانك بالموقع، ودعاؤنا لكم ـ في أرض الرباط ـ بالنصر المؤزر والتمكين المبين.

أقول لكِ ولكل أخت مسلمة تجد صعوبة في التعايش داخل المجتمع الذي تعيش فيه، وخاصة أخواتك في الغرب اللاتي يجدن هجوما شنيعا في الآونة الأخيرة على ارتداء النقاب والحجاب، أذكركم جميعا بما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "بَدَأَ الإْسْلاَمُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ كمَا بَدَا". وروى الترمذي بسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر".

وبالتالي فإن إحساس أي ملتزم بالغربة ليس أمرا مستغربا، بل هو الطبيعي، وهو الشعور الصحي أن يشعر المسلم بغربة في مجتمعه، تقتضي صبرا جميلا على أذى الناس، لكن لا تكون هذه الغربة سببا في اعتزاله لهم.

ومن سوءات واقعنا أن "تعميم الحكم" هو السائد لدى الكثيرين إلا من رحم الله، وأن للواقع كثيرا من الجنايات على المصطلحات، بمعنى أن التي ترتدي النقاب ثم تأتي فعلا شائنا على سبيل البشرية، أو الذي يطلق لحيته ويتكلم كلمة لا تليق بمثله؛ يعمم الناس حكمهم بالسوء على كل ملتحٍ وعلى كل منتقبة.

فتُتَّهم ذاتُ النقابِ بالسرقة والتخفي وراء النقاب؛ حتى يتسنى لها أن ترتكب ما تشاء من مخالفات. ويُتَّهم ذو اللحية بالتجهم والتشدد والعبوس والخلق السيئ. ومن ثم يصير النقاب رمزا للتخفي من أجل ارتكاب المخالفات. وتصبح اللحية علامة على التشدد والتنطع.

مع أن الأصل خلاف هذا، والعيب ليس في النقاب أو اللحية؛ إنما العيب في الشخص نفسه. وكما تعلمين أن الإسلام حجة على الأشخاص وليس سلوك الأشخاص حجة على الإسلام، فعلى جمهور الناس ألا يعمموا الحكم بهذا الشكل. وعلى من التزم بهذه الشعائر أن يكون على مستواها من جميع النواحي قدر المستطاع.

أختي الفاضلة :
أريد أن أحيي فيك حبك للالتزام، وحبك لله، وحرصك على أن تلقين الله وهو عنك راضٍ، خاصة وأنت في هذه السن، وقد روى الإمام أحمد في المسند والطبراني في الكبير وحسنه السيوطي عن عقبة بن عامر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الله تعالى ليعجب من الشاب ليست له صبوة".

ولكنني أريد أن أوضح لك بعض القواعد الشرعية التي توضح لك الأمر وتجعلك في راحة من الفكر، وثقة في النفس، وإقدام بحب على الناس والحياة :
أولا: أنت ذكرت ضمن كلامك قول من قال إن ارتداء النقاب غير ملزم عندما قلت: "ودائما أسمع كلمة أن تغطية الوجه ليست ملزمة". وهذا كلام صحيح، وهو مذهب جمهور الفقهاء قديما وحديثا. ويمكنك في ذلك مطالعة الفتاوى التالية:
النقاب والتدرج في التشريع.
هل النقاب واجب؟
حكم النقاب
ثانيا: أن طاعة الوالدين فريضة محكمة ومعارضتهما حرام قطعا؛ لما تعلمينه من النصوص الواردة في القرآن والسنة؛ التي تدل على هذا الأمر دون أدنى شك إلا إذا أمرا بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وأنت لو وازنت بين ارتداء النقاب وطاعة الوالدين لوجدت أن كفة الوالدين هي الراجحة بلا تردد، وبناء عليه فليس لك وجه حق فيما جاء في رسالتك من قولك : "لقيت معارضة كبيرة من أهلي بداية ولكن قررت، أن أقوم بالأمر رغما عنهم لقناعتي بأنه مريح لي". فليس كل أمر يشعر المسلم أنه مستريح له يقوم بفعله دون نظر في العواقب والمآلات، ودون موازنة بين مراتب الأعمال، أو اعتبار فقه النِّسَب بينها.

ثالثا: لماذا تضيقين سعة أبواب الخير والأجر والثواب، وتعتبرين أن النقاب هو الطريق الوحيدة الموصلة للجنة، فليس يلزم من ارتدائك له أن الله سيحفظك وأنت عجوز، صحيح أن طاعة الله وحبه والحرص على رضاه كل ذلك يحفظ المسلم في الكبر ويحفظ عليه إيمانه وشباب قلبه.

لكن لماذا نحصر الخير كله والطاعة كلها في ارتداء النقاب بهذا الشكل مع أن أبواب الخير كثيرة، وطرق الطاعات متعددة، وأبواب الوصول إلى الله ليس لها عد ولا حد، ويكفيك أن تقرئي ما ورد في كتاب "رياض الصالحين" للإمام النووي من فضائل الأعمال ومكارم الأخلاق.

رابعا: لابد من مراعاة المكان الذي تحيون فيه وتقدير ظروفه؛ لأن اعتبار المكان له أثر في تغير الحكم الشرعي. وإذا كانت الضرورات ـ وما أكثر ما تلاقونه عندكم ـ تبيح المحظورات، فأين سنية النقاب ـ إذا قلنا بسنيته ـ مما تلاقينه من عنت وتبجح من عدو لا يخشى خالقا ولا يرحم مخلوقا؟!.

خامسا: أريد منك ـ أختي الكريمة ـ ألا تجعلي لكلام الناس اعتبارا ـ أي اعتبار ـ ما دمت تقومين بطاعة لله، وألا يؤثر ذلك على نفسيتك أبدا؛ لأن المؤمن لا ينظر إلى الأرض بل إلى السماء، ولا يكترث برضا الناس، بل يحرص على رضا الله تعالى، وألا يغير نفسيتك ذم الذامين أو مدح المادحين: "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي".

سادسا: أمر الزواج ليس لتأخره علاقة بارتدائك للنقاب، فكم من منقبة تزوجت وهي صغيرة السن، وكم من متبرجة متبذلة بلغت من العمر سن العنوسة ولم يتقدم لخطبتها أحد، فالأمر رزق من الله، وقدر من أقداره، ولن يؤخر الله قدره إذا جاء، وكل شيء عنده بمقدار، فلا تقلقي من هذه الناحية وكوني على ثقة من مقادير الله ومشيئته.

فأقدمي على الحياة بثقة في الله وقدره، ولابد من اعتبار الواقع الذي نحياه والاستجابة له دون مخالفة أصل من الأصول أو مقصد من المقاصد الكبرى لشريعة الإسلام، ودعي القلق والتوتر والحيرة جانبا، وتفاءلي خيرا، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحب الفأل الحسن.

نسأل الله أن ييسر لك أمرك، وأن يفتح لك أبواب الخير، وأن يرزقك الثبات على الحق، والنزول إلى الحق، وأن يصرف عنك شياطين الإنس والجن، إنه سبحانه على كل شيء قدير .. وتابعينا بأخبارك...


http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?pagename=IslamOnline-Arabic-Eman_Counsel/EmanA/EmanA&cid=1162385858000

هل الحسد وراء تأخر زواجي؟ ـ استشارة إيمانية

عيون القصيد - الأردن
الاسم
هل الحسد وراء تأخر زواجي؟
العنوان
العقيدة
الموضوع

السلام عليكم، أنا فتاة أبلغ من العمر 25 سنة، و لم أتزوج إلى الآن، فأود أن أعلم: هل يمكن أن يكون هناك حسد؟، وهل يوجد دعاء أدعو به ربي لأجل هذا الموضوع؟
السؤال
فريق الاستشارات الإيمانية
المستشار
الرد

يقول الأستاذ وصفي عاشور أبو زيد :

السائلة الكريمة، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بك على موقعك "إسلام أون لاين.نت"، وبعد،،،

فإن الحسد من حيث وجوده فلا أحد ينكر ذلك، لثبوته في القرآن والسنة، ففي القرآن أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم ـ أن يستعيذ بالله منه، فقال تعالى: (قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسقٍ إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسدٍ إذا حسد). [سورة الفلق].

قال الآلوسي: "أي إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه بترتيب مقدمات الشر ومبادي الأضرار بالمحسود قولاً وفعلاً، ومن ذلك على ما قيل النظرُ إلى المحسود وتوجيه نفسه الخبيثة نحوه على وجه الغضب، فإن نفس الحاسد حينئذ تتكيف بكيفية خبيثة بما تؤثر في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد شراً قد يصل إلى حد الإهلاك، ورب حاسد يؤذي بنظره بعين حسد نحو ما يؤذى بعض الحيات بنظرهن". روح المعاني: 23/190.

وفي السنة النبوية، عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "العين حق". [رواه البخاري]. وعن ابن عباس (رضي الله عنه) عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "العين حق. ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا". [رواه مسلم[.

قال الإمام مسلم: فيه إثبات القدر. وهو حق. بالنصوص وإجماع أهل السنة. ومعناه أن الأشياء كلها بقدر الله تعالى. ولا تقع إلا على حسب ما قدرها الله تعالى وسبق بها علمه. فلا يقع ضرر العين ولا غيره من الخير والشر إلا بقدر الله تعالى. وفيه صحة أمر العين، وإنها قوية الضرر.

وقال بعض الحكماء: والعائن يبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمُعان فيَهلك، أو يُهلك نفسه. قال: ولا يبعُد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية من العين فتتصل بالمَعِين، وتخلل مسام بدنه فيخلق اللّه الهلاك عندها كما يخلقه عند شرب السم.

فهذه نصوص من القرآن والسنة وكلام الأئمة والحكماء تشير إلى أن الحسد ثابت وهو حق، ولا مراء في ذلك.

أما فيما يخص حالتك ـ أيتها الأخت الكريمة ـ فورود الحسد في مثلها ربما يكون مستبعدا؛ وذلك أن معظم هذه الافتراضات أو الظنون يغلب أن تكون أوهاماً توجدها مخاوف المرأة التي تجاوزت الخامسة والعشرين أو الثلاثين من عمرها أن يفوتها سن الزواج.

ولعل من أهم أسباب ورود هذه المخاوف هو المحيط الذي تحيا فيه المرأة وأقاربها الذين تعايشهم ويعايشونها، فينظرون إليها نظرات مريبة ويكلمونها بأسلوب يحمل في طياته الإشارة إلى تقدمها في السن واحتمالية أن تبلغ العنوسة ويفوتها الزواج مما يوقع الفتاة في اضطرابات نفسية معقدة ومتشابكة وتستحوذ عليها وساوس ومخاوف تكدر عليها صفاء حياتها، وتخلق لها شبحًا يطاردُها ويؤرقها في نومها ويقظتها، في كلامها وصمتها.

ولعلكِ في غنى عن التذكير بأن هذه مشكلة اجتماعية تعاني منها كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، فعندنا في مصر ما يقرب من 8 ملايين فتاة تقريباً تجاوزت سن الثلاثين.

وأريد ـ من هنا ـ أن أهمس في أذنيك أنك ما زلت في سن لا قلق معها ولا اضطرابات؛ لأن سن الزواج الطبيعي في هذا العصر أصبح بين 25-30 عاما للفتاة نظرا للظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها مجتمعاتنا.

ومن أجل الخروج من هذه الوساوس والأوهام وحالتك التي تعيشينها ألفت نظرك إلى مجموعة من الوسائل، أرجو ـ لو اتبعتيها ـ أن تكوني مطمئنة راضية مرضية:

أولا: لابد أن تؤمني بقضاء الله وقدره، خاصة إذا تقدمت بك السن، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن قدر الله هو الخير على كل حال، وكل شيء عنده بمقدار وميعاد، فربما لو رزقك بزوج في هذه السن التي تعتبر مبكرة، كدّر عليك صفوك، وجعل عيشك كدًّا، وعملك ردًّا، وشيّبك قبل وقت المشيب.

وما أجمل ما قاله ذو النون المصري: "إن المؤمن إذا آمن بالله واستحكم إيمانه خاف الله، فإذا خاف الله تولدت من الخوف هيبة الله، فإذا سكن درجة الهيبة دامت طاعته لربه، فإذا أطاع تولد من الطاعة الرجاء، فإذا سكن درجة الرجاء تولد من الرجاء اشتياق أدّاه الشوقُ إلى الأنس بالله، فإذا أنس بالله اطمأن إلى الله، فإذا اطمأن إلى الله كان ليله في نعيم، ونهاره في نعيم، وسره في نعيم، وعلانيته في نعيم".

وهذه النقطة هي الأساس الذي ينبني عليه ـ إذا صح ـ كل خير، أما إذا لم يوجد فلا أمل في سعادة أو راحة أو رضا.

ثانيا: ليس تقدمُكِ في السن دون أن يتقدم لك زوج له علاقة برضا الله عنك أو سخطه عليك، وليس له علاقة أيضا بخِلْقتك إن كانت جميلة أو دميمة، فكم من دميمة تزوجت مبكرا قبل سن الزواج، وكم من جميلة تأخر عنها الخُطَّابُ حينا من الدهر.

ثالثا: وهي خاصة بأهلك، أن تكون معاملتهم لك طبيعية، ومبشِّرة، ومهونة لهذا الأمر حتى لا يحدث ما لا تحمد عقباه، وألا يُشعروك من قريب أو بعيد بهذا الأمر.

رابعا: عليك بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى دائما خاصة في الأوقات التي يُرجى فيها الإجابة، وارجعي إلى الله بصدق، واسأليه وأنت موقنة بأنه يسمع ويستجيب، أن ييسر أمرك، وينفس كربك، ويريح قلبك، ويقدر لك ما يرضيه عنا وعنك في الدنيا والآخرة.

وختاماً؛ تابعينا بأخبارك، لنطمئن عليك.

طالعي أيضاً:
رفض الزواج بسبب الكوابيس
جن داخل أختي يمنعها من الزواج
أنا من لحم ودم.. 36 عاما بلا زواج
أخاف على إيماني من "تأخير الزواج"
http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?cid=1156077842520&pagename=IslamOnline-Arabic-Eman_Counsel%2FEmanA%2FEmanA

السبت، 2 فبراير 2008

هكذا كان يخطب الرسول


هكذا كان يخطب الرسول
وصفي عاشور أبو زيد - 26/10/2003
بديهي أن الخطابة من الركائز الأساسية والوسائل المهمة في الدعوة إلى الله تعالى؛ فهي اللقاء الأسبوعي الذي يحتشد فيه المسلمون في مسجد جامع ليسمعوا داعي الله وهو يذكرهم به ويعلمهم دينه.
فالخطابة في الإسلام تمثل مظهر الحياة الذي يجعل القيم النبيلة والمثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة تصل من قلب إلى قلب، وتثب من فكر إلى فكر؛ فتنعش الروح وتجدد الإيمان، فلا غرو أن تكون بذلك من شعائر الإسلام.
ومن المؤسف حقًّا -في عصرنا الحاضر- أن المنابر أصبحت تحمل فوقها ساعة الجمعة أشباه الخطباء الذين فرَّغوا الخطابة من محتواها، وأخرجوها من إطارها الصحيح، وأبعدوها عن أداء أماناتها وإبلاغ رسالتها.
وإني لأعرف أناسًا من المصلين يتأخرون عن الخطبة -بصرف النظر عن الحكم الشرعي لذلك- ويحضرون قبيل إقامة الصلاة حتى يعفوا آذانهم من سماع هذا العبث الذي يخدش روعة الجمعة، ويُذهب جلال اليوم وبهاءه.
وهذا الحديث ليس موجهًا لهؤلاء الذين اتخذوا من الخطابة مهنة يتكسبون من ورائها، إنما هو موجه إلى دعاة على درجة معينة من الثقافة، فاقهين دور الخطابة، مدركين أثرها وتأثيرها في المجتمع.
أما غيرهم فساحة المسجد أولى بهم من مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نموذج حري بأن يُحتذَى
بين أيدينا حديثٌ من جوامع الكلم، وخطبة تعتبر وثيقة من وثائق الإسلام، ومثلا أعلى لكل داعية، ونموذجًا للخطبة الناجحة يحتذيه الخطيب الناجح.
إنها خطبة حجة الوداع التي ألقاها أفصح العرب طرًّا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في جموع بلغت الآلاف.
فبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال
[1]: "أيها الناس، اسمعوا قولي، فإن لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلَّغت، فمن كانت عنده أمانة فلْيؤدِّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوعٌ كله، وإن كل دمٍ كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضَعًا في بني ليث فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدًا، ولكنه إن يُطعْ فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس، "إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيُحلوا ما حرم الله" (التوبة: 37) ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم: ثلاثة متوالية، ورجب مضر
[2]، الذي بين جمادى وشعبان.
أيها الناس، إن لكم على نسائكم حقًّا، ولهن عليكم حقًّا، لكم عليهن ألا يُوطئن فرُشكم أحدًا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربًا غير مبرِّح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوانٍ
[3]، لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلَّغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبدًا، أمرًا بينًا: كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمُنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟
فذُكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد.
قال ابن إسحاق: .... كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرفه ربيعة بن أمية بن خلف..." انتهى ما أردته.
وفي الخطبة من الدروس والعبر ما لو أدركه الدعاة والخطباء لأدت الخطابة رسالتها أحسن ما يكون الأداء.. ومن أهم هذا الدروس.
دروس للدعاة والخطباء
أولا- الإخلاص والحرص على هداية الناس:
فالإخلاص هو مدار الأمر كله بعد الفقه الكامل لمعنى الخطابة؛ إذ به يصل الكلام إلى القلوب، فيتمثله الناس واقعًا عمليًّا في حياتهم، وبغيره لا يتعدى الكلام الآذان، ولو ملك الخطيب ناصية البيان وقوة الحجة ونصاعة البرهان.
من هنا وجدنا الإخلاص متمثلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصيح في هذا الجمع الحاشد: "اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا".
إن الذي يعيش الموقف مع هذا الجمهور يشعر أن النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الأمة بمثابة الأب مع أبنائه، يريد ألا يدعهم في آخر لقاءٍ بهم قبل أن يُلقي في آذانهم آخر ما لديه من نصح وحب وإرشاد.
وهذا من تمام حرص النبي صلى الله عليه وسلم على قومه وإخلاصه لهم، "كان يُحس أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة وحده؛ فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذي انطلق به القطار، يوصيه بالرشد، ويذكره بما ينفعه أبدا"
[4].
أفلم تكن تغني ثلاث وعشرون سنة -هي عمر الدعوة في هذا الوقت- عن هذا البيان الأخير؟! ولكن النبي الرءوف الرحيم يريد أن يضع اللمسات الأخيرة، والمبادئ الكلية، وأهداف الرسالة وخلاصتها قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى؛ لتظل هذه التوجيهات، وتلك الصيحات حاضرة في أذهانهم، ترددها آذانهم بعد رسول الله أبد الآبدين.
والحق أن الإخلاص والحرص على هداية الناس هما منهج الأنبياء جميعًا، فكم تكرر في القرآن الكريم على لسان الأنبياء: "فاتقوا الله وأطيعون"، "إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم"، "وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين". وغير ذلك.
وفي هؤلاء الأنبياء جميعًا أسوة للدعاة إلى الله الذين يواجهون المجتمع، ويوجّهون الجماهير إلى الله تعالى.
ثانيًا- جذب الجمهور وتهيئته من أول الخطبة:
وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم في البداية عبارته الفاجعة: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا". وهنا تشرئب الأعناق، وتتطاول الرقاب، وتترقب الآذان ما يُلقَى من وعظ ومن إرشاد.
إن وسائل الجذب وبراعة الاستهلال أول الخطبة ليتهيأ الناس للكلام لا حصر لها، يملكها الخطيب اللبيب من خلال الواقع الذي يموج بأحداث يعيشها الناس، ومن خلال القضايا المثارة في المجتمع، والتي ينبغي أن يكون الخطيب على دراية كاملة بها.
ولم يكن هذا الدرس الهام في بداية خطبة النبي فقط، إنما تخلل مواضع كثيرة منها، فكم قال: "أيها الناس"، وقال: "اسمعوا قولي واعقلوه"، وقال: "فاعقلوا أيها الناس قولي" ثم يرمي بالتبعة على كاهلهم حتى يتنبهوا لخطورة الكلام حين قال: "فإني قد بلَّغت"، وفي النهاية: "اللهم اشهد".
والقرآن الكريم يعلمنا هذا الأسلوب في كثير من سوره: فمرة يبدأ السورة بذكر شيء، ثم يستفهم عنه، ثم يعظِّم من شأنه: "الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة"، وقوله: "القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة"، ومرة يفاجئ الناس بوقائع مرهبة، وأحداث مرعبة: "إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت..."، ومرة أخرى يثير تساؤلا، ثم يجيب عنه: "عم يتساءلون * عن النبأ العظيم"، ومرة يبدأ بقسم -والقسم يشير إلى أهمية ما بعده- مثل قوله: "ن والقلم وما يسطرون". إلى آخر هذه الوسائل المثيرة للعقل والوجدان معًا.
والخطيب الحاذق هو الذي يتعلم من هذا الكلام المعجز؛ فيوظف أحداث عصره في ذلك، ثم يستهدي الشفاء والدواء من كلام الله ورسوله.
ثالثا- التركيز على المتفق عليه وترك المختلف فيه:
فينبغي ألا تثار قضايا الخلاف على المنبر في حضور هذا التجمع، أو في أي تجمع؛ لئلا يُحدث ذلك اضطرابًا واختلافًا وجدلا بين الناس، وما لأجل هذا جُعلت المنابر، إنما جعلت لتثبيت أركان التوحيد، وتقرير شعائر الإسلام، وتوضيح مبادئه الكلية ومقاصده العامة.
هناك نوعٌ من الخطباء لا ينقصهم الإخلاص بقدر ما ينقصهم حسن الفهم وعمق التجربة يصعدون المنابر -وليتهم لا يصعدون- من أجل إثارة هذه القضايا التي لم ينتهِ الخلاف فيه أزلا، ولن ينتهي الخلاف فيها أبدًا، ويقيمونها مقام أصول الإسلام، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ فينقسم الناس إلى طوائف يتراشقون ويتشاحنون، وليتهم شغلوا أنفسهم بالمتفق عليه -وهو كثير- أو بقضايا واقعهم المخزي المرير.
إن المتأمل في خطبة الوداع لا يجد فيها إلا أصول الإسلام العامة ومبادئه الكلية التي لا يختلف فيها اثنان.
من يختلف في حرمة دم المسلم وماله وعرضه، وأداء الأمانة؟ أو من يشك في حرمة الربا؟ أو من ينكر حقوق المرأة التي قررها الإسلام؟ أو من يماري في أن الرابطة العليا هي أخوة الإسلام؟ بل من يتكلم في كلمة النبي الجامعة: "تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا، أمرًا بينًا: كتاب الله وسنة نبيه".
إن إثارة القضايا الخلافية في تجمعات الناس وجُمعهم لَيُعَدّ نوعًا من السفه الذي يجب أن يترفع عنه الدعاة الذين أقامهم الله مقام الأنبياء ليُضيئوا ظلمات الأرض بنور السماء.
رابعًا- شمول الخطبة أمور الدنيا والآخرة:
من الخطباء مَن يجعل شغله الشاغل وهمه الأكبر الحديث عن عذاب القبر، وعذاب النار، وسخط الله وعقابه، وقضايا الآخرة عمومًا، ويعتبر الحديث عن شئون الدنيا أمرًا ينبغي ألا يكون موضوع خطبة، بل يجب على الخطباء أن يجتنبوه، فإن الخطبة -بزعمهم- تقوم على الوعظ الذي يشمل التخويف والترهيب وحسب.
وما نحن بصدده أكبر دحض لهذا، وإن أطول آية في كتاب الله تعالج أمرًا دنيويًا.
إن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته هذه لم يركز على أمور الآخرة -على أهميتها- بقدر ما ركز على شئون الدنيا؛ فقد ذكّرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم سيلقون ربهم فيسألهم عن أعمالهم، ثم بين لهم سبل غواية الشيطان وحذرهم منه، لا تكاد الخطبة تذكر من أمور الآخرة شيئًا سوى ذلك. أما بقيتها فتعالج شئون الحياة الدنيا، فإن صلاح الآخرة مرهونٌ بإصلاح الدنيا، والذين لا يبنون دنياهم يهدمون آخرتهم.
بينما قرر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أمور الدنيا الكثير والكثير، من ذلك:
ـ حرمة الأموال والدماء والأعراض: وهذا يمثل مفرق الطريق بين نظام الإسلام والنظم الأخرى من شيوعية ورأسمالية وغيرها.
ـ حرمة الربا: وهو هذا النظام الذي يسحق الفقراء، ويجعل المجتمع طبقيًّا.
ـ العدل والمساواة وحقن الدماء: حيث وضع النبي الربا، وأول ربا وضعه هو ربا عمه العباس بن عبد المطلب، ووضع دماء الجاهلية، وأول دم وضعه دم ابن ابن عمه، ابن ربيعة بن الحارث.
ـ حق الرجل على المرأة وحق المرأة على الرجل: اللذان يبلوران أسس العلاقة التي تقوم عليها كبرى لبنات المجتمع المسلم.
ـ حق المسلم على أخيه المسلم: وهو بيان أن الرابطة العليا في الأمة هي رابطة العقيدة.
هل ترك النبي من أنواع العلاقات شيئًا؟!
لقد ذكر علاقة المسلم بنفسه، عندما حذر من الشيطان وأوصانا بمجاهدته.
وذكر علاقة المسلم بربه، عندما تحدث عن لقائنا بالله وسؤاله لنا.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الصغير "الأسرة"، عندما ذكر حقوق النساء، وأوصى بهن خيرًا.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الكبير، عندما قرر حرمة الدماء والأموال والأعراض وأمر بأداء الأمانة.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الأكبر، وهي الأخوة التي تنتظمها العقيدة؛ لتكوِّن الرابطة العليا في الأمة.
إن الخطابة التي تقتصر على أمور الآخرة والترهيب، وتهمل شئون الدنيا، تبعث على اليأس والقنوط، وتجعل الناس في حالة من السآمة والملل والإعراض، ما لم تشتمل على قضايا تلمس واقع الناس، وتعالج مشكلاتهم.
"وبهذا لا يجيء الكلام على المنابر إلا حيًّا بحياة الوقت، فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد، ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل"
[5].
إن كل نبي من الأنبياء أرسله الله ليعالج مرضًا واقعيًّا موجودًا في حياة الناس، وذلك باستهداء الوحي الذي ينزله الله عليه، مع الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده قبل كل شيء.
وهكذا المجددون والمصلحون يبعثهم الله بعد انقطاع من الزمن ليجددوا ويحيوا معالم الإسلام التي انطمست وماتت -أو تكاد- في ضمير الأمة.
خامسًا- الاقتباس من القرآن والسير معه:
وهذه لا يتقنها أشباه الخطباء، إنما يقدر عليها أولو العزم منهم، الذين استظهروا كتاب الله قراءة وحفظًا وتفسيرًا وتدبرًا، وقبل ذلك حازوا ثقافة اللغة والأدب.
إن النبي صلى الله عليه وسلم ضمَّن خطبته معاني وآيات قرآنية كثيرة، وكيف لا وهو أفصح من نطق بالضاد، من ذلك: "لكم رءوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون" (البقرة: 279)، و"إنما النسيء زيادة في الكفر..." (التوبة: 37). و"ألا يأتين بفاحشة مبينة" (النساء: 19). وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن
[6]، وغير ذلك.
وكيف يكون داعيةً إلى الله مَن لا يفقه كلام الله قراءة وحفظًا، فضلاً عن إدراك أسراره ومقاصده؟ فالقرآن لم يدع أمرًا من شئون الدنيا والآخرة إلا تحدث فيه، والخطبة التي تخلو من كلام الله ينقصها الكثير.
إن "الخطيب الذي يصلح للتحدث عن الإسلام رجلٌ خبيرٌ بالحياة وعللها، مكين في الوحي الأعلى"
[7].
يقول الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله: "لا تسمى خطابة إسلامية هذه الكلمات الميتة التي يسمعها الناس في بعض المساجد ثم يخرجون وهم لا يدرون ماذا قال خطيبهم؛ لأنه لم يَصل أحدًا منهم بروح القرآن، ولا أنعش قلبًا بمعانيه، ولا علَّق بصرًا بأغراضه"
[8].
وبجانب الاقتباس من القرآن يليق للخطيب أيضًا أن يسير مع القرآن؛ فهناك قضايا ركز عليها القرآن، وأطال الحديث عنها في غير موضع، وهناك قضايا ذكرها في موضع أو موضعين، وبين هذه وتلك تفاوتٌ ونسبيّة في عرض القرآن للقضايا، والخطيب الناجح هو الذي يسير مع القرآن حيث سار، فيولي ما اهتم به القرآن اهتمامه الأكبر؛ لأن القرآن لا يركز على أمر إلا إذا كان له أثره الكبير في معاش الناس ومعادهم.
سادسًا- على الداعية البلاغ وليس عليه النتائج:
وهذا أمرٌ حسمه القرآن مع الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ قال له: "ليس لك من الأمر شيء" (آل عمران: 129)، و"ليس عليكم هداهم" (البقرة: 272)، و "إنك لا تهدي من أحببت" (القصص: 56)، و"إن أنت إلا نذير" (فاطر: 23)، و"فإنما عليك البلاغ" (آل عمران: 20)... إلى آخر هذه الآيات التي تحسم الأمر بوضوح لا لبس معه، ولا شبهة فيه.
وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يلقي التبعة عليهم -بعد أن بلغ ما عليه- بأنهم سيلقون ربهم، ويسألهم عن أعمالهم، وكم تكرر في خطبته الجامعة: "اللهم هل بلغت؟"، فتردد الجماهير: "اللهم اشهد".
وهذا بالطبع لا يتنافى مع شعور الداعية بالأسف والحزن على ما به قومه من ضلالة، وأنهم على غير الصراط المستقيم، فقد كان صلوات الله عليه أوضح مثَل لذلك، حتى أنزل الله عليه يواسيه ويخفف عنه: "فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا" (الكهف: 6) وقوله: "لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين" (الشعراء: 3).
والداعية يسير بهذا الحرص على قومه، ويرجو الله أن يهديهم، لكنه لا يقنط ولا ييأس إن استجابت له قلة، أو لم يستجب له أحد؛ فلقد مكث نوحٌ عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وما آمن معه إلا قليل.
المهم أنه أدى ما عليه، وبلَّغ ما أناط الله بعنقه، وأشهد الله وأشهدهم على ذلك، كما فعل مؤمن آل فرعون، وقد سلك مع قومه كل سبيل، ثم قال في النهاية: "فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله" (غافر: 44).
[1] السيرة النبوية لابن هشام: 6(/8ـ11) دار الجيل. بيروت. طـ أولى. 1411هـ. بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد، رواها ابن هشام عن ابن إسحاق بغير إسناد، وقد جاء إسنادها في أحاديث متفرقة، فقد جاءت في الصحيحين عن أبي بكرة، ولمسلم عن جابر رواية جامعة، وفي سنن الترمذي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص، وغيرها من كتب السنة. وحسبنا ما قاله ابن حجر العسقلاني في مقدمة "لسان الميزان" وهو يتحدث عن فضل الاشتغال بعلم الحديث موردًا بعض ما جاء في خطبة الوداع: "فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع.."، قال عن الخطبة: "وقد بلغت حد التواتر" راجع لسان الميزان: (1/3) بيروت. طـ ثالثة. 1406هـ.
[2] إنما قال النبي ذلك؛ لأن ربيعة كانت تُحرم رمضان وتسميه رجبًا، فبين أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وأنه الذي بين جمادى وشعبان.
[3] عوانٍ: جمع عانيه، وهي الأسيرة.
[4] فقه السيرة للشيخ الغزالي: 505. بتخريج الشيخ الألباني. دار الدعوة. طـ ثانية. بدون تاريخ.
[5] وحي القلم: (2/247).
[6] إشارة إلى الآية 34 من سورة النساء.
[7] مع الله دراسات في الدعوة والدعاة: للشيخ الغزالي: 273. دار الكتب الإسلامية. طـ سادسة 1405هـ.
[8] السابق: 272

الدكتور محمد عمارة لـ"إسلام أون لاين.نت"محمد عبده المهندس الأكبر لحركة التجديد والإصلاح ـ حوار


الدكتور محمد عمارة لـ"إسلام أون لاين.نت"محمد عبده المهندس الأكبر لحركة التجديد والإصلاح
2005/12/29
** حاوره- وصفي عاشور أبو زيد
د.محمد عمارة
مائة عام مرت على وفاة الأستاذ الإمام محمد عبده ولا زال مشروعه الفكري الإصلاحي التجديدي تستدعيه الأمة بقوة بكل طوائفها، ولا زال فكره متجددا كأنما كان يخاطب عصرنا بكلامه منذ مائة عام، ولا زلنا نعيش في إطاره ومعالمه الكبيرة.
موقع إسلام أون لاين.نت التقى المفكر الإسلامي د. محمد عمارة ليحدثنا عن هذه المناسبة الطيبة، وهي مرور مائة عام على وفاة الإمام محمد عبده الذي أثر تأثيرا كبيرا في العالم الإسلامي بدعوته التنويرية التجديدية سواء على مستوى النظرية والتطبيق.
وأكد د. عمارة في حواره أننا لا زلنا نحيا في إطار المشروع الفكري للأستاذ الإمام، وأنه جاء في وقت مناسب حيث كانت الأمة تعاني من فكرين متضادين؛ فكر الجمود والتقليد، وفكر التغريب والعلمنة، فكان فكر الإمام محمد عبده فكرا وسطيا يمثل منهج الإسلام الصحيح الذي لا يحترق بالتقليد، ولا ينعتق بالتغريب.
وأشار د. عمارة إلى أن التربية وإصلاح مناهج الفكر والتعليم كانت معلما بارزا في دعوته؛ حيث ركز الإمام على تجديد الأصول والمؤسسات التي تعيد بناء الأمة الإسلامية وتعيد صياغة الشخصية الإسلامية.
وبين أن دعوة الإمام محمد عبده ركزت على مقاومة ومحاربة التقليد والجمود مع وجود مقاومة المد التغريبي، ولذلك ركز الإمام على دعوة النخبة المثقفة، وقد تطرق الحوار إلى قضايا مهمة وحساسة لم تقف عند حدود دعوة الأستاذ الإمام فإلى تفاصيل الحوار:
* نريد أولا أن نتعرف على سر اهتمامك المبكر بفكر الإمام محمد عبده، وقصة جمع أعماله الكاملة وتحقيقها ودراستها.
-بسم الله الرحمن الرحيم، بدأت فكرة الجمع والتحقيق والدراسة لسلسلة الأعمال الكاملة مع بداية تفرغي للمشروع الفكري في منتصف الستينيات من القرن العشرين، وكانت الفكرة الدافعة لهذا المشروع الذي أنجزت فيه تحقيق أعمال: محمد عبده، والأفغاني، والكواكبي، وعلي مبارك، والطهطاوي، وقاسم أمين، هي معالجة الاستقطاب الحاد في الحياة الفكرية بين فكر الجمود والتقليد، وأحيانا العنف، وبين الفكر العلماني والتغريبي.
كان السائد في كثير من الأوساط هو فكر التغريب والعلمانية، وفي الإطار الإسلامي كانت أفكار الجمود والتقليد تغلب على الكثيرين، وخصوصا في ظل محنة الحركة الإسلامية في مصر ، وهجرة الكثيرين إلى بلاد الخليج، وأيضا مرحلة النفط التي ذهب فيها الكثير من أساتذة مصر إلى بلاد الخارج، ورشحت على الجميع الأفكار النصوصية أو ما يسمى بالسلفية الظاهرية، وبالتالي حدث هناك في مصر تحول وتغير من الفكر الوسطي إلى استقطاب حاد بين فكر الجمود والتقليد وبين فكر التغريب والعلمانية.
فكان الهدف هو بعث تراث مدرسة الإحياء والتجديد لتعود مرة أخرى بالوسطية الإسلامية الجامعة تفعل فعلها في الحياة الفكرية والثقافية .
وكان هذا هو الهدف الذي جعلني أبذل كل هذه السنوات، فقد استغرق محمد عبده وحده في جمع أعماله خمس سنوات، وقد كان محمد عبده في ذلك التاريخ لم يكن له في المكتبة إلا رسالة التوحيد، والإسلام بين العلم والمدنية الذي شوه وزور منذ الستينيات في الطبعة التي أصدرتها دار الهلال ثم أصبحت هي الطبعة التي تُكرر بعد ذلك، وكان له تفسير سورة الفاتحة، وتفسير جزء عم، وما له في تفسير المنار من آراء.
وكتاباته التي جمعها المرحوم الشيخ رشيد رضا، باعتراف الشيخ رشيد رضا أنه قد حذف منها كل ما يغضب الإنجليز ويغضب الخديوي عباس، برغبة من سعد زغلول وفتحي زغلول، وهؤلاء الذين كانوا جزءا من تلامذة الإمام محمد عبده.
إذن كان لابد من قراءة دوريات قرن كامل لجمع هذه الكتابات، ولتمييز ما هو لمحمد عبده عن ما لغيره من النصوص التي كانت تنشر دون توقيعات بلغت 80 نصا استطعت تحقيقها ونسبتها، ومنها بعض الكتب التي نسبت لمحمد عبده ولم تكن له ... إلخ.
إذن كانت الفكرة هي إحياء فكر الوسطية الإسلامية، فكر مدرسة الإحياء والتجديد والاجتهاد، وإبراز معالم التجديد عند هذه المدرسة، وأتصور أن الله قد وفق فعادت هذه الكتب وهذه المراجع لتكون مصادر في كثير من الدراسات العليا، وفي الحياة الثقافية منذ ذلك التاريخ.
* لن نستطيع أن نقف على مكانة وموقع دعوة الإمام الفكري إلا إذا استعرضنا الحركات والاتجاهات التي كانت حوله أو قبله وطبيعة وقيمة كل منها.
- أريد أولا أن أشير إلى طارئ هام وقع قبل دعوة محمد عبده، يفسر لنا كثيرا من الأمور، وهو أن المرجعية لأي تغيير قبل القرن 19 كانت هي المرجعية الإسلامية، فعندما كان يحدث تراجع حضاري أو تخلف يطرأ على العقل العربي والمسلم لم تكن هناك مرجعية للتقدم والإصلاح سوى الإسلام، ولذلك لم نقرأ أن أحد الفقهاء القدماء سمى مذهبه "إسلاميا"، أما نحن الآن فنسمي الحركات بـ "الحركات الإسلامية"؛ وذلك لأن المرجعية الآن أصبحت غير إسلامية لوجود أحزاب وجماعات، الإسلام ليس مرجعيتها ... الخ.
ومن ثم أقول منذ حملة بونابرت 1798م بدأ هناك تداخل وتنافس، وبدأ هناك نموذج جديد لمرجعية غير إسلامية هي مرجعية الحضارة الغربية، وهذا هو الجديد الذي طرأ في القرن 19، وبالتالي فإن حركة التجديد في مصر لم تبدأ بمحمد عبده ولا حتى الأفغاني، إنما ازدهرت بمحمد عبده، فهو المهندس الأكبر لحركة التجديد والإصلاح، بمرجعية إسلامية ناقدة للمرجعية الغربية.
وإذا كان الأفغاني هو واضع منهاج التجديد الذي سار عليه محمد عبده، واستغرقته العمليات والحركات السياسية والعمل السياسي المباشر، فإن محمد عبده كان له منهج متميز في الإصلاح حتى قبل الثورة العرابية؛ حيث كان يرى أن الإصلاح يأتي عن طريق إصلاح مناهج الفكر لدى المسلمين، وعن طريق التربية والتعليم والتهذيب، وعن طريق تكوين نخب مفكرة ومثقفة تستطيع أن تقود الأمة، وكان يرى أن هذا الطريق أطول وأصعب، لكنه الأكثر أمنا في تحقيق التقدم والتطور من الطريق السياسي والانقلابي السريع.
* كان للتعليم والتربية ـ كما تفضلتم ـ دور ومكانة كبيرة في مشروع الإمام الفكري والإصلاحي، فكيف مثل التعليم وكيف مثلت التربية مرتكزا أساسيا في مشروعه ؟!.
- كان منهج محمد عبده في الإصلاح منهجا متميزا عن المناهج السياسية بالمعنى الحزبي ، فالسياسة في المفهوم الإسلامي هي علم الفروع أو من علوم الفروع بينما الأصول هي العقيدة التي تعيد بناء الشخصية الإسلامية، وصياغة الشخصية الإسلامية، وبهذا المنهج تميز محمد عبده حتى عن الأفغاني وعن مصطفى كامل، وعن الحركات التي استغرقتها السياسة، فكان يريد إصلاح الأصول ، ومن هنا كان إصلاح مناهج الفكر مَعْلما أساسيا عنده، وإصلاح التربية والتعليم أيضا معلما أساسيا عنده، كان بناء منهاج في التعامل مع القرآن والتعامل مع السنة، وفي تنقية العقيدة من شغب الفرق الإسلامية القديمة، إصلاح المؤسسات التربوية والعلمية التي تصنع العقل المسلم كإصلاح المساجد وإصلاح الأزهر وإصلاح الأوقاف وإصلاح القضاء، وكل المؤسسات التي من شأنها أن تعيد صياغة الإنسان ، والتي تصوغ الأصول وتجعلها فاعلة في الشخصية الإسلامية.
ثم تسلم هذه المرحلة من إصلاح الأصول وخاصة التربية والتعليم وتثمر بعد ذلك الحياة السياسية والنيابية والحياة الحزبية والحياة الدستورية والقانونية... الخ، ومن هنا كان اهتمام محمد عبده بإصلاح التعليم، فكتب لوائح لإصلاح التعليم في مصر وإصلاح التعليم العثماني ، وجهوده لإصلاح الأزهر وإصلاح القضاء مثل التقرير الذي كتبه عن القضاء الشرعي.
إذن كان ميدانه الأساسي في الإصلاح هو ميدان التربية والتعليم ، وكانت هواياته التدريس، صحيح أنه منع منه بعد عودته من المنفى، لكن مارسه من خلال تفسيره للقرآن الذي يعتبر منهاجا متميزا غير مسبوق في تفسير القرآن الكريم، فمارس فيه التعليم حيث منعه الخديوي من ممارسة ذلك التعليم.
* يرى بعض المفكرين والكتاب أن دعوة الإخوان المسلمين تعتبر ترجمة عملية وواقعية لدعوة الإمام محمد عبده، فما مدى صحة هذا الرأي؟.
- هذا الكلام يعتبر صحيحا إلى حد كبير بمعنى أن محمد عبده أسلم فكر المدرسة إلى رشيد رضا، وكانت المنار هي الساحة التي حملت هذا الفكر على امتداد أربعين عاما إلى العالم الإسلامي، وهي التي أعادت نشر مقالات العروة الوثقى ونشر كل ما يتعلق بالإمام محمد عبده مثل تفسيره للقرآن وفتاواه ومقالاته ...الخ. فأعاد حسن البنا بعد وفاة رشيد رضا عام 1935م نشر وإصدار المنار لعدة سنوات.
والحقيقة أنه تبدو الصلة في أشياء كثيرة بين دعوة الإخوان ودعوة محمد عبده، فانتهى محمد عبده في التفسير إلى أجزاء من سورة النساء بالإضافة إلى جزء عم، فرشيد رضا بدأ يكمل التفسير بعد محمد عبده وكأنه امتداد له، ولما جاء حسن البنا وأراد أن يفسر القرآن بدأ من حيث انتهى رشيد رضا.
وعندما أقام حسن البنا جماعة الإخوان كان من أهم الكتب التي تدرَّس في داخل الأسر الإخوانية أهم كتابين لمحمد عبده وهما: كتاب رسالة التوحيد، وكتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، فلا يخفى هذا الامتداد بين المدرستين.
لكن أحب أن أقول إن الامتداد عادة يكون امتدادا متطورا، فلكل مرحلة تحدياتها، وبالتالي تميزها.
فكان هناك في مرحلة محمد عبده تركيز على الصفوة والنخبة التي تتناسب مع إصلاح الأصول أكثر من التركيز على الجماهير، وكان فيها تركيز على نقد الموروث أكثر من نقد التغريب مع وجود النقد للتغريب لكن حالة الموروث كانت تحتاج إلى تركيز أكبر في النقد.
أما مرحلة حسن البنا فكان فيها تغيران مختلفان عما كان عليه الوضع في مرحلة محمد عبده؛ حيث حدث لمسألة التراث تطور وتحسن ، كما حدثت حالة أشبه بعموم البلوى في التغريب الذي لم يعد على الباب كما كان في عهد محمد عبده إنما أصبح داخل الدار والبيت المسلم، وبالتالي كان التركيز عند حسن البنا على نقد التغريب أكثر من نقد الموروث، لأن الموروث تحسن والتغريب زادت مخاطره.
أما المتغير الثاني فتمثل في عموم البلوى بالاحتلال، وتخلُّق أحزاب علمانية داخل الوطن الإسلامي والعربي استدعى أن تكون دعوته دعوة جماهيرية وليست دعوة للنخبة أو الصفوة، وبالتالي فالحلقة الإصلاحية ممتدة، ومشروع التجديد والاجتهاد متواصل بين المدرستين، فالإخوان بالفعل هم امتداد تجديدي لمدرسة الإحياء والتجديد لكن مع مراعاة هذه المتغيرات التي حدثت سواء في التحديات أو الاستجابات.
* بين الحين والآخر تطل برأسها فتنة الأقباط والمسلمين في مصر، وقد كان للإمام محمد عبده حديث عن العلاقة بينهما، فماذا قال الإمام، وما رأيكم في واقع هذه المسألة الآن؟
- محمد عبده حينما تحدث عن الأقباط في مصر أكد أن العلاقة بينهم وبين المسلمين كانت دائما علاقة ترابط ومحبة، ولو وجد خطأ من فرد في الأقلية لا يجب أن ينسب هذا الخطأ إلى كل الأقلية إلا إذا كانت هذه الأقلية مستعمرة، ومكرم عبيد يقول: نحن مسلمون وطنا مسيحيون دينا.
والإسلام لا يميز في الوظائف بين المسلم والمسيحي، لكن هناك وظائف لها شروط مثل رئيس الدولة حيث له وظائف إسلامية بحكم الوظيفة، فالشروط تفرضها الوظيفة وليس العقيدة، وقد أكد محمد عبده هذا المعنى أيضا.
وأنا أرى القلاقل بين المسلمين والمسيحيين لا تقوم إلا في زمان التدخل الأجنبي أو الغزو العسكري لمصر، فنحن نريد أن يكونوا لبنات في جدار الأمن القومي، وليسوا ثغرات في هذا الجدار، وليس لنا لدى الأقليات إلا هذا المطلب أي أن يكونوا معنا في مواجهة التحديات الخارجية.
أما من يوالي الخارج ويستنجد به فإنه يضع نفسه في مواجهة أمته، وهذا وبال عليه قبل أن يكون وبالا على الأغلبية، فعلى الأقليات أن تلتمس أمنها وأمانها في مشروع الأغلبية؛ لأنه مشروعها وهي جزء من هذا الوطن وهذه الحضارة، فنحن أمة واحدة.
* برأيكم كيف للأمة أن تنهض من كبوتها في ضوء مشروع الإمام محمد عبده ؟
- إعادة الوعي بمجتمعاتنا والتزامنا بالإسلام يمثل نقطة البداية، ولابد من التوعية وإثارة القضايا الإسلامية مع أولادنا مثل: فلسطين، العراق، البوسنة والهرسك...الخ، فهذه المجازر التي تحدث للمسلمين تعيد الوعي للأمة، حيث إن كثيرا من الناس لم يكونوا يعرفون شيئا عن البوسنة مثلا، وقد كتب محمد عبده ترجمة لسامي البارودي باشا، وقال إن الجيش المصري في القرن التاسع عشر ذهب ليحارب في البوسنة والهرسك، وذكر ذلك محمد فريد في كتابه: "الدولة العلية" أي أن هناك أعضاء في جسد الأمة فقدنا الإحساس بها، فالآن يعود لنا الوعي والحس بهذه الأعضاء، فلابد أن نحول هذا التاريخ إلى وعي، وليس مجرد قراءة وتلقين، ولابد أن نربي أولادنا على هذه القيم.
*إذا أردنا أن نوجز القول في مدرسة محمد عبده الإصلاحية فماذا نقول؟
-مدرسة محمد عبده هي مدرسة الاستنارة الحقيقية، ومدرسة الاجتهاد والتجديد، إن محمد عبده توفي 1905م، لكنه ترك مدرسة فكرية حملها صاحب المنار الشيخ رشيد رضا على امتداد أربعين عاما، وإن كثيرين من أعلام علمائنا هم تلامذة مباشرون للإمام محمد عبده مثل المراغي ومصطفى عبد الرازق وشلتوت، وأبرز عقول علمائنا كان بينهم وبين مدرسة محمد عبده رابطة، لذلك فعطاؤه ما زلنا نعيش في إطاره، ونتمنى من الله أن يحمي هذا الفكر المستنير، وأن نكون الامتداد المتطور لهذه المدرسة؛ لأن أمامنا مهام لم تكن في عصر محمد عبده، فعلينا أن نكون خير خلف لخير سلف.
**باحث شرعي.

كن فقيها صوفيا ولا تكن صوفيا فقيها


كن فقيها صوفيا ولا تكن صوفيا فقيها
وصفي عاشور أبو زيد
**- 22/02/2005
الفقه والتصوف وجهان لعملة واحدة؛ فلا يصح أن ينفك أحدهما عن الآخر، ولا غنى للفقيه والمتصوف عنهما معا إلا إذا استغنت الروح عن الجسد؛ فعلى الفقيه أن يكون متصوفا كما على المتصوف أن يكون فقيها.
ذلك أن الفقيه وارث النبوة وناطق بحكم الله في الأرض، وموقِّع عن رب العالمين؛ فينبغي أن يكون فيه من التقوى والورع والزهد والعزة وكل قيم التصوف الحقيقي ما يمنعه من الانزلاق في الفتوى والحكم من أجل سيف المعز وذهبه، أو رهبة من سطوة الحكام ورغبة فيما عند الأثرياء.
والمتصوف يسلك طريقا كله أذواق ومواجيد، وربما يسرح في هذا الطريق على غير هدى فيضل ضلالا بعيدا، ولا يصح وهو يريد الوصول إلى الله والقرب من جنابه المهيب أن يسلك طريقا لم يشرعه -سبحانه- للتقرب إليه؛ فينبغي على المتصوف أن يكون لديه من الفقه ومعرفة الأحكام والحلال والحرام ما يمنعه من الزيغ واتباع الهوى، ويعصمه من الانحراف والضلال، ويُبلغه معافًى إلى ما يريد، ويقربه إلى جناب الله الكريم.
الفقه أعم وأشمل
وبهذا يتحكم الفقه في التصوف ويحكم عليه؛ لأنه أعم منه وأشمل، وهو الموجه له والضابط لطريقه، ومن هنا قال الشيخ زروق: "حكم الفقه عام في العموم؛ لأن مقصده إقامة رسم الدين ورفع مناره، وحكم التصوف خاص في الخصوص؛ لأنه معاملة بين العبد وربه من غير زائد على ذلك، فمن ثم صح إنكار الفقيه على الصوفي، ولا يصح إنكار الصوفي على الفقيه، ولزم الرجوع من التصوف إلى الفقه، والاكتفاء به دونه.. ولذلك قيل: كن فقيهًا صوفيًّا، ولا تكن صوفيًّا فقيهًا".
(1)
ولا شك أن النهي في هذه العبارة: "كن فقيهًا صوفيًّا، ولا تكن صوفيًّا فقيهًا" ليس محمولا على الحرمة عند القوم، ولكنه يدور على الأفضلية، وأنه لا بد من الرجوع بالتصوف إلى الفقه حتى يتم ضبطه وتوجيهه الوجهة الصحيحة؛ ولذلك فضلوا الفقيه المتصوف على الصوفي المتفقه، ويقرر الشيخ زروق هذا المعنى معللا: "وصوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية وأسلم؛ لأن صوفي الفقهاء قد تحقق بالتصوف حالا وعملا وذوقًا، بخلاف فقيه الصوفية فإنه المتمكن من عمله وحاله، ولا يتم له ذلك إلا بفقه صحيح وذوق صريح". (2)
ومعنى آخر مهم في هذه المعادلة وهو أن عبارة الفقيه فيها من الدقة والصرامة والصلابة ما تحتاج معه إلى نداوة التصوف وإشراق القرب من الله، فلا يكون على كلامه نور، ولا لأحكامه قبول، أو لفتاواه توفيق دون تحققه بمقامات العابدين وسَيْرِه قُدُمًا في طريق السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
كما أن عبارة الصوفي يصل فيها التوهج إلى درجة لا تكاد تبصر معها وجه الصواب، ولا تهتدي إلى المعنى المراد؛ لما يكتنفها من غموض ويحيط بها من إغلاق، فلا يكون لكلام الصوفي قبول أيضا إلا إذا حقق تصوفه وضبطه بأحكام الفقه، وجمع بين الشريعة والحقيقة، فلا يَسْرح العقل إلا بقدر ما يُسرِّحه الشرع، ولا تهيم الروح إلا بما تضبطها أحكام الفقه، كما أننا نقرأ الشرع بالعقل، ونحكم العقل بالشرع.
مخاطر التصوف بلا فقه
ولكي نقف على خطورة التصوف بلا فقه، وعدم ضبط الحقيقة بالشريعة، لا بد من الوقوف على أثر ذلك؛ فالمتصوف المنفلت من الشرع لا يشك أحد في أنه يضل ويزيغ؛ لأنه حتمًا سيصل إلى طريق غير مشروع، وربما تطور أمره واستفحل إلى دوائر التصوف الأخطر عاقبة وهي الإلحاد والكفر، فتصوف بغير فقه محقَّقُ الضلال والزيغ.
أما الفقيه فإن عدم تحققه بالتصوف ليس بخطورة المتصوف غير المتحقق بالفقه، وإن سبَّب ضعفُ ذلك نقصا أو خللا عنده، فمتى اتبع الفقيه القواعد الفقهية وأصول الفقه، ووقف على علوم الشريعة المختلفة وعلوم اللغة العربية وطرائق استعمالها التي توصله إلى الاستنباط الصحيح والحكم السليم.. فلا يشك أحد في إمكانية وصوله إلى الصواب، أما مسألة القبول عند الناس، أو أن يكون على كلامه نور فهذه ترجع إلى مدى تحقق الفقيه بمعاني العبودية واستشعاره لعظمة الربوبية، غير أن ضعف وجود هذه القيم في الفقيه أهون خطرا وأقل أثرا من عدم تحقق المتصوف بالفقه.
وعلى كل حال فلا غنى للفقيه عن التصوف ولا غنى للصوفي عن التفقه، على الرغم من أن صوفي الفقهاء أكمل وأسلم من فقيه الصوفية، وبرغم من أننا لا بد أن نرجع بالتصوف إلى الفقه، أو كما قال ابن عجيبة في شرحه للحكم العطائية: "لا تصوف إلا بفقه؛ إذ لا تعرف أحكام الله تعالى الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف؛ إذ لا عمل إلا بصدق توجه، ولا هما إلا بإيمان؛ إذ لا يصح واحد منهما بدونه، فلزم الجمع لتلازمهما في الحكم كتلازم الأرواح للأجساد".
(3)
اقرأ أيضا:
مستشرق فرنسي: الصوفية هي الحل
عثمان بن فوديو.. شيخ الصوفية المجاهدة
داعية فقيه أم فقيه داعية؟
** باحث في العلوم الشرعية
(1) قواعد التصوف: 15. صححه ونقحه محمد زهري النجار. مكتبة الكليات الأزهرية. بدون تاريخ.
(2) انظر السابق: نفس الموضع.
(3) إيقاظ الهمم في شرح الحكم: 5. طبعة الحلبي. مصر. ط ثالثة. 1402هـ/ 1982م.

عقوق وترك صلاة و"عادة سرية" !! ـ استشارة إيمانية


فريدة - السودان
الاسم
عقوق وترك صلاة و"عادة سرية" !!
العنوان
العبادات
الموضوع
الأخوة الأفاضل .. سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته ..
أود أن أعرض عليكم بعض من مشاكلي الإيمانية .. لعلي أصلح من نفسي الآن ..

أولا أعرفكم بنفسي.. أنا فتاة في الحادية والعشرين من عمري ووالداي متدينان، وأحفظ القرآن، ورفقتي صالحة ومتدينة، فكل ما حولي يدعو للالتزام والإيمان في هذا السن ، ولكن لم يكن الأمر كذلك وأنا صغيرة.

المهم أنا ولله الحمد أستغفر الله كثيرا وأتوب إليه دائما وخاصة قبل النوم، إلا أنني ومع الأسف لا أؤدي الصلوات في أوقاتها وبصفة مستمرة.. بل أصلي يوما وأتركها أياما ثم أعود واستغفر وأدعو الله أن يعينني ، كما إنني عندما أصلي لا أكون في خشوع ويكون ذهني مليء بالأفكار والهواجس، كما أنني أؤدي النوافل إلا أمام الناس خوفا من أن أسقط من أعينهم ، والأفظع من ذلك أنني أكثر جدا من الاغتياب، وخاصة في حق أساتذتي، لدرجة أن بعض الزميلات.

كما إنني في بعض الأحيان عندما أغضب من والدي أتلفظ بكلمات لا تليق في حقهم، وإذا رأيت ما لا يعجبني بهم تكلمت معهم بأسلوب غير لائق تماما، خاصة أنهم أخطئوا في حقي وأنا صغيرة كثيرا، ودائما أذكرهم بما فعلوه ، وربما قلت لهم : أنتم لم تربوني ، وإنما ربتني الحياة ومن حولي.

كما أني أمارس العادة السرية في كثير من الأحيان، وأتمنى أن أرفع من إيماني بالله والخشية منه، وأحافظ على شرائع الإسلام كمسلمة متدينة، وأن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.

أرجوكم أعينوني ووجهوني بخطوات عملية وفعالة.

السؤال
مجموعة مستشارين
المستشار
الرد
يقول
الأستاذ وصفي عاشور أبو زيد :

الأخت العزيزة..
أهلا وسهلا بك ، ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق..أما بعد.
فمن خلال كلامك نلاحظ أنه توفر لك منذ النشأة ما لم يتوفر لكثيرين غيرك من البيئة الإيمانية، والوالدان المتدينان، والرفقة الصالحة، وكل هذه عوامل تحمل الإنسان على الالتزام وإن لم يكن ملتزما، فكيف الحال لك وأنت تحفظين كتاب الله .

وأعلمي يا أختي أن كثيرا من الناس ينشأ في بيئة سيئة، وفي محيط غير ملتزم، ولكنه مع ذلك يحاول مجاهدة نفسه وحملها على الجادة، والسير بها إلى الطريق المستقيم.

لقد قلت أنك تحفظين كتاب الله، فعليك إذا أن تعلمي أن الكلمات التي تحفظينها في صدرك هي أغلى وأعظم كلام نزل من السماء إلى الأرض، وإنه من الواجب عليك أن تكرمي هذا الكلام وتقدريه حق قدره بالعمل الصالح.

أما ما ذكرتينه من قيامك بالاستغفار والتوبة إلى الله ، إلا أنك لا تحافظين على الصلاة يعد أمرا مناقضا، فلا يتصور أبدا أن يقوم إنسان بالنوافل من ذكر وقيام واستغفار ودعاء وهو مقصر في أعظم أركان الإسلام وهي الصلاة.. تلك الفريضة التي بها قيام الإسلام، فهي عموده وركنه الأكبر، ولا حظ في الإسلام لمن ضيعها.

إن المشكلة عندك ـ يا أختنا الكريمة ـ تكمن في خفوت شعلة الإيمان في قلبك، وضعف وجود الله في حياتك، وإلا لما كان حالك أن تصلي النوافل مخافة أن تسقطي في أعين الناس.. ألم تفكري في أنك ستسقطين من عين الله؟! وكم تساوي الحياة؟ وبكم تقدر الدنيا إذا ترك الله عبدا من عينه، وخلاه بعيدا عن عنايته ورعايته وتوفيقه عز وجل؟!

وعليك أختي السائلة..
ألا تعلقي أخطائك على تقصير أبويك في تربيتك، خاصة وأنك ذكرت أنهما متدينان ـ المهم ماذا قدمت أنت؟، وماذا أخذت من خطوات لدينك وأمتك؟، فإذا كان أبواك سيحاسبان على تقصيرهما في تربيتك ـ إن قصرا حقا ـ فإنك ستسألين أنت وحدك عن ما قدمت، وما أخرت.

ولا أريد أن أضع يدك على قيمة الوالدين ومكانتهما في الدين، لأنك بالتأكيد تعرفينها، حتى ولو كانا الأبوين على غير دين الإسلام حيث يقول الله عز وجل:( وصاحبهما في الدنيا معروفا) (وقل لهما قولا كريما).

فلابد وأن تعيدي النظر في حياتك، وأن توقني أنك ستسألين أمام الله وحدك (كل نفس بما كسبت رهينة) ( وكلكم آتيه يوم القيامة فردا ) ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة )، فمتى استشعرت هذه المسئولية وملأت قلبك بحب الله وخشيته في السر والعلن، فلن تجحدي تقصيرا في الفرائض.. بل ستجدين دافعا قويا نحو النوافل من ذكر وتسبيح وتهليل وقيام وغير ذلك من الطاعات، ولسوف يتغير أسلوبك مع والديك الملتزمين لا سيما وكل ما حولك يدعو للالتزام، ويشجع عليه.

ويضيف
الأستاذ عبد العظيم بدران :

أختنا الكريمة والعزيزة.. سلام الله عليك ورحمته وبركاته
أحمد الله الذي منَّ عليك بكل هذه النعم، الجليلة، والعظيمة حقا: فتاة في عنفوان شبابها، تحفظ كامل القرآن، أسرتها متدينة، تدرس في تخصص شرعي، رفقتها صالحة، نشيطة في الدعوة إلى الله... ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

ولا يقل أهمية عما ذكرتُه قبل قليل أنك تبصرين جيدا جوانب نفسك من الداخل، تميزين مواضع العطب، وتحددين أماكن الضعف، وتصفين المشكلة كما لا يستطيع أحد أن يصفها.. نعم، هذا أيضا شيء جيد، ومهم في حالتك، وكما يقولون: تشخيص الداء هو نصف الدواء.

أختنا الكريمة..
لقد تواصل فضل الله عليكِ بعد كل هذا، ومع كل ما أنت عليه.. ذلك لأن الله تعالى ما زال يريد لك الخير، على ما كان منك، ولهذا وفقك إلى إرسال هذا السؤال الذي تتمنين فيه رفع إيمانك بالله، وترجين التوجيه بخطوات عملية وفعالة لتتغيري قبل أن تتزوجي.

وقبل أن أغوص في شيء من التفاصيل، فإنني ألوم عليك في شيء ذكرته أنت، وهو أنك تداومين التأنيب والتقريع والتعنيف، الذي توجهينه لأبويك؛ لأنهما – كما تذكرين – أخطئوا في حقك وأنت صغيرة!.

ليكن ما تقولينه حقا، فهل من المناسب لك أن تداومي تعنيفهما على شيء مضى وانتهى؟ ومن من الناس لا يخطئ؟! إنهما أبواك على كل حال، وبرهما حق عليك وفرض ذكره الله تعالى بعد توحيده، وأنت تحفظين قول الله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}.

لن أقف عند هذه طويلا، ويكفيني فيها الإشارة؛ لأنه يبدو لي أنك غير راضية عن تصرفك تجاههما، ولكني قبل أن أغادر هذه النقطة أنبهك بأن تتلفتي وتبحثي عن الأشياء الجميلة واللطيفة والنعم العظيمة التي تجدينها بالقرب من أبويك، والتي يفتقدها كثيرون على وجه البسيطة، وذكري نفسك بقول الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد أدرك أبويه أو أحدهما على الكبر ولم يدخلاه الجنة".

أختنا العزيزة ..
إن بين جوانحك نفسا لوامة، وهي التي أقسم بها رب العزة في قرآنه، لمكانتها العظيمة، نعم، هي لوامة لأنك تشكين في سؤالك ما تشكين.

من أجل هذا أدعوك ألا تدعي هذه الفرصة التي هيأها الله لك، بل صممي على التغيير إلى الأفضل، ولن يقوم بهذا التغيير إلا أنت، ولعل الله تعالى يجعل منا لك خير ناصح أمين.

إذا شئت التفصيل فيما أرسلته إلينا فسأحتاج لكل نقطة رسالة، تطول أو تقصر، ولكني أحاول أن أجمل وأشير، واللبيب تكفيه الإشارة :

• ابدئي بالتوجه الخالص إلى الله تعالى أن يعينك على تغيير حالك.

• حدثي نفسك بصوت مسموع، في خلوة من خلواتك، قولي لها وكرري: الله رقيب علي والله ناظر إليَّ، ولمن خاف مقام ربه جنتان، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

• صافحي أبويك عندما تعودين، واطبعي على كفيهما قبلة الندم والمحبة والصفح الجميل، وليكن حالك معهما {عفا الله عما سلف}.

• توجهي إلى الله تعالى بهذا الدعاء: "اللهم أصلح ذات بيننا وألف بين قلوبنا واهدنا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور" ولتكن نيتك في هذا أن يحببك الله إلى أبويك.

• اطلبي من أحد صديقاتك الجادات أن تتابعك في أداء الفرائض، وليكن ذلك عن طريق جدول محاسبة مبسط.

• تذكري عندما يحدثك شيطانك، أو تغالبك نفسك على ترك صلاة مفروضة، بأن الموت يأتي بغتة، وأسمعي نفسك هذه العبارة: الموت يأتي بغتة، والقبر صندوق العمل.

• إذا سمعت الأذان فأسرعي، ودعي كل ما أنت عليه، ولا تؤجليها، فالصلاة خير وصلاح وفلاح، والله أكبر من كل شيء.

• توضئي وأسبغي الوضوء، ولتسبق الفريضة منك نافلة، عسى أن يعينك هذا على الخشوع في صلاة الفريضة.

• أخبري نفسك بأن الرياء شرك، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به؛ لأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: "من عمل عملا أشرك فيه غيري ذهب وعمله"، وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة: شهيد، وحامل للقرآن، ومنفق.. وما ذلك إلا بسبب الرياء، أعاذنا الله وإياك منه.

• لا تنفردي بنفسك دون حاجة، واشغلي نفسك بأعمال الخير دائما، ولا تعرضي نفسك للنظر إلى المحرمات والمناظر الخليعة المستفزة، عسى أن يبعدك هذا العادة السرية.

• داومي على المطالعة والدراسة والحوارات البناءة، والاتصال المدروس، واجعلي لنفسك هدفا في الحياة هو: خدمة الإسلام على درب رسول الإسلام. وفقك الله يا أم عمر، و جزاك الله خيرا. وتابعي معنا.

طالعي أيضاً :
13 وسيلة للحفاظ على الصلاة
والد عاق وبنت كارهة.. مشكلة مزمنة
الاستمناء.. برنامج عملي للخلاص

الداعية الناجح في فكر الغزالي


الداعية الناجح في فكر الغزالي *
وصفي عاشور أبو زيد**- 07/03/2004
الغزالي .. لسان الحق المر
كثير من الناس إذا ذُكر اسم الداعية ينصرف ذهنه إلى الخطيب، وإذا ذُكر اسم الخطيب ينصرف إلى الداعية.
والحقيقة أن الداعية يختلف عن الخطيب، وعمل الداعية غير عمل الخطيب؛ إذ الخطيب يقتصر عمله -في الغالب- على أداء خطبة الجمعة، وتفعيل الناس بعدها، ومحاولة رد الشبهات عنها، وتوضيح بعض المبهمات، وإجابة بعض التساؤلات، بينما عمل الداعية أشمل وأوسع وأعمق.
ذلك أن الداعية طبيب يَطبُّ المجتمع من أدوائه، ويبرئه من علله، ويعالج مشكلات الناس، ويلبي حاجات المجتمع؛ فهو عقل قادر على الربط بين مشكلات المجتمع وثقافة الدعوة، يشخص فيه الداء؛ ليصف له الدواء.
إن الخطابة تمثل إحدى وسائل الدعوة التي تشمل وسائل أخرى عديدة، منها: القدوة الحسنة، والتعليم والتذكير، والكتابة بأنواعها، والترغيب والترهيب، والعمل المتواصل من أجل قضاء مصالح الخَلْق، والمشاركة في النشاطات الاجتماعية المختلفة، والقيام بكل ما يوصف بالعمل الصالح في مجتمع من المجتمعات.
ومن الخير -أيضا- أن نفرق بين الصفات أو الخصائص والمقومات؛ فالمقومات هي ما يكوِّن للداعية ذاته وينشئ بنيانه، أما الصفات والخصائص فهي شيء خارج عن تكوين الداعية، أو ملتصق بجسده؛ فالمبنى مثلا يتكون من حجرات وأدوار ومواد كونت هذا البناء، هذه هي المقومات، أما الصفات والخصائص فهي كأن يكون المبنى مرتفعا وحجراته واسعة، ولونه كذا... إلخ؛ فالمقومات -بتعبير المناطقة- جوهر، بينما الخصائص والصفات عَرَض.
ويطيب الحديث عن خصائص الداعية ومقوماته إذا كان من خلال داعية كبير مثل الشيخ محمد الغزالي، الذي عاش حياته داعيا إلى الله مجاهدا في سبيله، ومات وهو يدافع عن الدعوة.
لا غنى عن الوحي
يرى الشيخ الغزالي -ابتداء- أن الناس لا غنى لهم عن هداية الله كما لا غنى لهم عن رزقه؛ فهم فقراء فيما يطعم أبدانهم من جوع، وفيما يزكِّي أرواحهم من كدر.
ومهما أوتي بعضهم من ذكاء أو صفاء؛ فإنه لن يستطيع تدبير شأنه وإصلاح أمره بعيدًا عن وحي الله وتعاليم أنبيائه.
إن الأمم إذا لم تنتعش برسالات السماء؛ فهي جماهير من موتى القلوب، أو هي ألوف من الرمم الهامدة، وإن حرّكتها الغرائز السافلة، والأمم مهما ارتقت من الناحية النظرية أو الصناعية، فإن بعدها عن الله يزين لها من الجرائم ما تنحط به إلى الدرك الأسفل، وما تتعرض به لأوخم العواقب.
إن الجفاف الروحي والانقطاع الرهيب عن الله رب العالمين، والصدود الغريب عن تراث النبيين، وغلبة الأَثَرَة والجشع على الأقوياء، وسيادة المنطق المادي في كل شيء.. إن هذا نذير شؤم، وأي تقدم يحرزه العِلْم في تلك الميادين لا يبعث على التفاؤل، ما لم يصحبه عَوْد سريع إلى الله، وإعزاز لأمره، وإعلاء لشرعه
(1).
ويؤكد الشيخ دوما على أن تكوين الدعاة يعني تكوين الأمة؛ فالأمم العظيمة ليست إلا صناعةً حسنة لنفر من الرجال الموهوبين، وأثر الرجل العبقري فيمن حوله كأثر المطر في الأرض الموات، وأثر الشعاع في المكان المظلم.
فرق بين العالم والداعية
إذا كان الأمر بهذه الأهمية فليس كل إنسان -بداهة- يصلح أن يكون داعية؛ فقد يكون المرء عالِمًا كبيرًا، ولا يكون داعيةً، فالداعية له مؤهلات أو خصائص قد لا تتوافر لغيره من العلماء الباحثين (الأكاديميين)، والدعاة أنفسهم متفاوتون في حظهم مِنْ هذه الخصائص.
وربما تبدو هذه الخصائص لأول وهلة نعوتا عامة يجب وجودها في جماهير المسلمين، ولا يختص بها نفر من الناس، بيد أن هذه النعوت وإن كانت شائعة في عامة المؤمنين فإن أنصبة الدعاة من معناها يجب أن يكون أَرْبَى وأزكى.
إن حقائق الدرس بعد أن يشرحها الأستاذ قد تظهر متساوية لدى الجميع، وقد يظن التلاميذ أنهم ومعلمهم أصبحوا سواء في وعيها، وهذا بعيد؛ فإن الأستاذ لديه من رسوخ المعلومات ووضوحها، ومن القدرة على تقليبها وعرضها ما يعز على غيره، وقد يوجد في الناس من امتلأ قلبه بالإيمان، لكن هذا الإيمان لا يعدو أصحابه، والإناء لكي ينضح على ما حوله يجب أن يفيض، وأن ينزل فيه ما يزيد على سعته وما ينسكب من جوانبه؛ فنفوس الدعاة يجب أن يكون لديها مقادير من اليقين والحماس والفضل يتجاوزها إلى ما عداها، ويجعل الاستفادة منها ميسرة للآخرين
(2).
وقد استقرأنا استقراء سريعا كتب الشيخ وتراثه، فوجدنا أبرز خصائص الداعية الناجح ومقوماته تتمثل فيما يلي:
أولا: حسن الصلة بالله تعالى
غلاف كتاب الحق المر
وهي الصلة التي إليها يفيء الداعية ويرجع، وعليها يعتمد ويعوِّل، ومنها يستمد ويقتبس، ولها يدعو ويبتهل، وعندها تجد نفسه راحتها وعزاءها.
والشيخ الغزالي يسميها "الدعامة الأولى في أخلاق الدعاة"، ولا يجوز عنده أن ينفك هذا الخلق عن داعية من الدعاة؛ إذ كيف تدعو الناسَ إلى أحد وصِلَتك به واهية ومعرفتك به قليلة؟ ويشهد التاريخ أنه ما من نبي أو داعية أو مصلح إلا وكان له من حسن الصلة بالله النصيب الأوفر والقدح المعلَّى، وكانت صلته بالله قوية لا تخبو، حاضرة لا تغيب.
وإذا كان حسن الصلة بالله مطلبا ضروريًّا لكل مسلم، فكيف يكون حكمها في شأن الداعية؟
إن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله، ولدفع الناس إلى سبيله وصفِّهم في طريقهلا بد أن يكون شعورهم بالله أعمق، وارتباطهم به أوثق، وشغلهم به أدوم، ورقابتهم له أقوى وأوضح.
وهذه الصلة تشمل في موكبها أرقى ما في الحياة، وأهم أسباب النجاة؛ ولهذا حقٌّ على الدعاة ألا يهنوا في الحياة، وألا يهونوا، وألا يعدلوا بنسبتهم إلى الله شيئا، وأن ينظروا إلى الحياة على أنهم أكبر منها، وأن تغلب رؤيتهم لله كل ما يملأ العين في زحام الأحياء وتكاثرهم
(3).
ثانيا: إصلاح النفس
وهو أمر واجب على كل مسلم، ونصيب الدعاة منه أقوى وألصق، ولعل إصلاح النفس ومعالجتها أولى ثمرات حسن الصلة بالله تعالى؛ فمن ذكر الله وأحسن به الصلة بصَّره بعيوب نفسه، وجعله منها على بصيرة، أما الذين نسوا خالقهم فهم يسيرون على غير هدى، ويخبطون خبط عشواء: "وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [الحشر: 19].
إن من أخطر النقائص أن يدعو الداعية إلى خُلُق وقلبه منه فارغ، أو ينهى عن خلق ويراه الناس عليه، إنه -والحالة كذلك- لا يسيء إلى نفسه فحسب إنما يسيء إلى غيره من الدعاة، لا.. بل يسيء إلى الإسلام ذاته.
فضلا عن ذكر الشيخ لنوع من الدعاة يحسبون كل ما يقولونه لغيرهم ليس موجَّهًا إليهم بالدرجة الأولى.. إنما هو أمر يخص المخاطبين فقط، إنهم نَقَلَة فحسب، "أشرطة مسجلة" أو "أسطوانات معبأة" تدور بعض الوقت ليستمع الناس إليها، وهي تهرف بما لا تعرف، ثم توضع في أماكنها لتدار مرة أخرى إذا احتيج إليها.
ومع أن هذا النوع أهون من سابقه فإن الشيخ يقول عنهم: "هم آفة الإيمان، وسقام الحياة، وهم الثقل الذي يهوي بالمثل العليا ويمرغها في الأوحال"
(4).
ثالثا: ذكاء العقل ونقاء القلب ودقة الفهم
وهذه فطرة يُفطر عليها الداعية ويُخْلق بها، تجعله يقدِّر الأمور بمقدارها، ويضع كل شيء في مكانه، ويزن كل شيء بالقسطاس المستقيم، وباختصار تعبر عنها كلمة "الحكمة": "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ" [البقرة: 269].
ويوضح الشيخ مراده بذكاء العقل قائلا: "ولا أريد بالذكاء عبقرية فائقة، يكفي أن يرى الأشياء كما هي دون زيادة أو نقص؛ فقد رأيت بعض الناس مصابا بحَوَل فكري لا تنضبط معه الحقائق، قد يرى العادة عبادة، والنافلة فريضة، والشكل موضوعا، ومن ثَمَّ يضطرب علاجه للأمور، وتصاب الدعوة على يديه بهزائم شديدة"
(5).
كما يبين مراده بنقاء القلب فيقول: "لا أريد بنقاء القلب صفاء الملائكة، وإنما أنشد قلبا محبا للناس، عطوفا عليهم لا يفرح في زلتهم، ولا يشمت في عقوبتهم؛ بل يحزن لخطئهم ويتمنى لهم الصواب"
(6).
وفي فكر الشيخ الغزالي -بل في أي فكر مستقيم- ينتج عن دقة الفهم عند الداعية التشخيص الصحيح للعلة التي أمامه، وتهيئة شفاء مناسب لها من كلام الله ورسوله، وبذلك يجيء نصحه طبا للمريض، ورحمة تُذهب عناءه، ونورًا يهديه السبيل.
والقدرة على هذا الأسلوب لا يُلقَّاها -عند الشيخ- إلا من استجمع ثروةً طائلة من نصوص الكتاب والسنة، تكون رصيدا عنده لأي داءٍ وافد أو مرض عارض، وإحاطةً تامة بطبيعة البيئة وأحوالها الخفية والجلية، وظروفها القريبة والبعيدة؛ ليكون ذا خبرة واعية بالميدان الذي سيعمل فيه، حتى يدرك كيف يصلح دنيا الناس بدين الله
(7).
ذلك أن هناك دُعاة يَعِيشون في الماضي البعيد، وكأنَّ الإسلام دين تاريخي، وليس حاضرًا ومستقبلا، والغريب أنك قد تَراه يَتَحامَل على المُعْتَزِلة والجَهْمِية مَثلاً، وهو مُحِقٌّ في ذلك، ولكنه يَنْسَى أن الخُصومات التي تُواجِه الإسلام قد تَغَيَّرتْ وحَمَلَتْ حقائق وعناوين أخرى
(8).
إن الداعية الذي لا يجمع بين الذكاء والنقاء يثير مشكلات معقدة أمام انتشار الإسلام؛ فلا دين إذا لم يتكون القلب النقي والعقل المؤمن، فمن فقد الضمير الصاحي والفكر الذكي فلا خير فيه
(9).
رابعا: الإخلاص
ولا يتعجب القارئ من تأخير الإخلاص بعد حسن الصلة بالله وإصلاح النفس والذكاء والنقاء؛ فلا يغني الإخلاص شيئا إذا كانت صلة الداعية بالله واهنة، بل هما متلازمان، وكذلك الأمر إذا كان مخلصا ولا يتعهد نفسه بالعلاج والمجاهدة، أو يخالف قوله فعله، وهل يغني الإخلاص عن ذكاء العقل ونقاء القلب شيئا مذكورا؟
إن الحركة الإسلامية المعاصرة لأشد ما عانت من قوم لا يشكِّك أحد في إخلاصهم وتجردهم لله تعالى، لكنهم فاتهم كثير من حسن الفهم وعمق التجربة، فأساءوا إلى الإسلام من حيث أرادوا الإحسان، ولقيت الدعوة على أيديهم ما لم تلقه من أعدائها.
والإخلاص هو روح الدين ولباب العبادة وشرط قبول العمل؛ فلا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان خالصا وابتُغي به وجهه، وقد قال ابن عطاء الله قديما: "الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها".
وإذا كان الإخلاص فريضة على كل عابد؛ فهو في حق العامل والداعي أفرض وأوجب، وغني عن الذكر ما ورد في القرآن من آيات وفي السنة من أحاديث تحض على الإخلاص في العمل والعبادة، وتحذر من الشرك بالله وابتغاء غير وجهه تعالى بالعمل.
إن الداعية المرائي -في فكر الشيخ- يقترف جريمة مزدوجة، إنه في جبين الدين سُبَّة متنقلة وآفة جائحة، وتقهقُرُ الأديان في حلبة الحياة يرجع إلى مسالك هؤلاء الأدعياء، وقد رويت آثار كثيرة تفضح سيرتهم وتكشف عقباهم، والذي يحصي ما أصاب قضايا الإيمان من انتكاسات على أيدي أدعياء التدين لا يستكثر ما أعد لهم في الآخرة من ويل.. والعمل الخالص الطيب -ولا يقبل الله إلا طيبا- هو الذي يقوم به صاحبه بدوافع اليقين المحض وابتغاء وجه الله، دون اكتراث برضا أو سخط، ودون تحرٍّ لإجابة رغبة أو كبح رغبة
(10).
خامسا: الثقافة الموسوعية
غلاف كتاب الطريق من هنا
فقر الثقافة للدعاة يمثل -في فكر الشيخ- خطرا أشد من فقر الدم، وأسوأ عقبى من الفقر المالي، والشعب الذي يعاني الغباء والتخلف لا يصلح للمعالي، ولا يستطيع حمل رسالة كبيرة
(11).
فغزارة الثقافة وسعة الأفق وروعة الحصيلة العلمية خِلالٌ لا بد منها لأي داعية موفق، وكيف لا والداعية يواجه طبقات شتى واهتمامات متعددة تختلف باختلاف الناس؟ إنه يخاطب الطبيب والمهندس والأستاذ والمعلِّم والعامل والصانع والحائك والتاجر، والمتعلم والجاهل، والمؤدب وسيئ الأدب، والعاقل والأحمق، إنه يحتاج إلى ثقافة تضم هؤلاء جميعا وتؤثر فيهم.
ولهذا يطلق الشيخ الغزالي العنان في الثقافة أمام الداعية، يقول: "إن الداعِيَة المسلم في عَصْرِنا هذا يجب أن يكون ذا ثَرْوَةٍ طائلة من الثقافة الإسلامية والإنسانية؛ بمعنى أن يكون عارفًا للكتاب والسُّنَّة والفقه الإسلامي والحضارة الإسلامية. وفي الوقت نفسه يجب أن يكون مُلِمًّا بالتاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة، والثقافات الإنسانية المُعاصرة التي تَتَّصِل بشتَّى المذاهب والفَلْسَفات ... ويحتاج الداعية المسلم في هذا العصر إلى بصر بأساليب أعداء الإسلام على اختلاف مَنازِعِهم، سواءً كانوا مُلْحِدين يُنْكِرون الألوهية أو كِتابِيِّينَ يُنْكِرون الإسلام"
(12).
كما يحتاج الداعية -في نظره- إلى علوم العربية والأدب شعرا ونثرا؛ فـ"الداعية الذي يشعر بغربة في ميدان الأدب يجب أن يترك ميدان الدعوة لفوره؛ فإن الذي يحاول خدمة الرسالة الإسلامية دون أن يكون محيطا بأدب العربية في شتى أعصارها إنما يحاول عبثا، وأنَّى لرجل محروم من حاسة البلاغة أن يخدم دينا كتابه معجزة بيانية، ورسوله إمام للحكمة وفصل الخطاب!"
(13).
ويركز الشيخ الغزالي في الثقافة على فهم القرآن أولا قبل السنة بالذات؛ لأن السنة مبيِّنة له، وشارحة لغامضه، وموضحة لمبهمه، وقد قال الله تعالى: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (النحل: 44). فالنفس الإنسانية لا تدرك أطرافا من الكمال الأعلى يغرس في أعماقها أروع العقائد وأرسخ الإيمان إلا إذا اتصلت بهذا القرآن واستمعت إليه وفتحت أنظارها لهَدْيه
(14).
سادسا: صفات جامعة
وهناك صفات أخرى عديدة، لعل أهمها الشجاعة والجرأة ما دام الداعية على حق في مواجهة باطل، وهي صفة يسقط عندها كثير من الدعاة إلا مَنْ عصم الله وسدَّد، ذلك أن فتن الحياة كثيرة؛ فهذه رغبة في مال أو منصب تُثْنِي، وتلك رهبة عن طريق رزق أو ولد تَصُدُّ، وهذا سلطان يخيف، وذاك جبار يُقْعِد. إن الفتن من حول الإنسان كفيلة أن تُقعد الداعية وتُثنيه عن قولة الحق والصدع بها ما لم يكن معه من الإيمان وحب الحق والطهر ما يجعله يوضح معالم الهدى، ويعلي كلمة الله.
والشجاعة في الجهر بالحق عند الشيخ تنبعث من اجتماع خُلُقَين عظيمين: أولهما: امتلاك الإنسان نفسه، وانطلاقه من قيود الرغبة والرَّهْبة، وارتضاؤه لونًا من الحياة بعيدا عن ذل الطمع، وشهوة التنعم؛ فكم من داعٍ يبصر الحق ويقدر على التذكير به، ولكنه يحتبس في حَلْقِه فلا يسمع به أحد.. لماذا؟ لأنه لو نطق لَحُرِمَ من هذا النفع، أو لغضب عليه هذا الرئيس، أو لَفَاتَه هذا الحظ، فهو -إيثارا لمتاع الدنيا- يلزم الصمت ويظلم اليقين
(15).
ومن هذه الصفات الجامعة: التواضع والرحمة والتهلل والبشاشة والإنصاف والمروءة والوفاء وكل ما يزين المسلم فضلا عن الداعية
(16).
وأختم هذا المقال بكلمة معجبة للشيخ تعبر أصدق تعبير، وتدل أتم دلالة وأصدقها على ما يجب توفيره في الداعية؛ بحيث تسير هذه الكلمة علما يُهْتَدَى به، ووميضًا يبرق للعاملين، يقول -وما أحسن ما قال-: "ولو ذهبنا نستقصي الخِلال التي تلزم لمن يتعرضون لهذا المنصب لطال حبل الحديث؛ فلنكتفِ بذكر هذه الحقيقة: إن الداعية يؤدي وظيفة سبقه النبيون إليها، وإنه أحق الناس باقتباس شمائلهم، والاقتداء بهداهم، وأخذ الأسوة من محياهم ومماتهم، وأنجحُ الناس في أداء هذه الرسالة مَنْ ترى وراثات النبوة في خلقه وسلوكه، وعبادته وجهاده وتضحياته، وكبريائه على الدنيا، ومقاومته لفتنتها، ومعاملته لذوي السلطان غير راغب ولا راهب"
(17).
طالع في هذا الملف:
رجل دعوة.. وكفى!!
الداعية الناجح في فكر الغزالي
من ملامح المنهج الدعوي عند الغزالي
الغزالي .. قلب رقيق ولسان بالحق طليق
الإسلام خارج أرضه .. طرقات إزميل الإصلاح
كتيبة الجهاد الغزالية
اقرأ أيضًا:
الشيخ الغزالي: جدد حياتك
الهجرة النبوية في فكر الشيخ الغزالي
محمد الغزالي.. فارس الدعوة البليغ
مواقع ذات صلة:
الشيخ محمد الغزالي .. سيرة ذاتية
الشيخ محمد الغزالي .. الداعية الأديب
محمد الغزالي .. الداعية الحزين
تربية المرأة من منظور الشيخ محمد الغزالي
(1) مع الله.. دراسات في الدعوة والدعاة: 15، 17،19. دار الكتب الإسلامية. القاهرة. ط. سادسة 1405هـ.
(2) مع الله: 166، وفي موكب الدعوة: 83. طبع نهضة مصر. القاهرة. ط.أولى. 1997م.
(3) مع الله: 167-168، وعلل وأدوية: 166-167. دار الكتب الإسلامية. القاهرة. ط ثانية. 1405هـ، والغزو الثقافي يمتد في فراغنا: 210. طبع مؤسسة الشرق للعلاقات العامة والنشر والترجمة. الأردن. ط. ثانية. 1985م.
(4) مع الله: 171.
(5) الحق المر: 135. طبع مركز الإعلام العربي. القاهرة. ط. ثانية. 1417هـ، وراجع خطب الشيخ محمد الغزالي في شئون الدين والحياة: 1/17. طبع دار الاعتصام. القاهرة. بدون تاريخ.
(6) السابق: نفس الصفحة، وراجع خطب الشيخ محمد الغزالي: 1/16.
(7) مع الله: 173-174، 179.
(8) خطب الشيخ محمد الغزالي: 1/16.
(9) الحق المر: 136،141، وعلل وأدوية: 208-210.
(10) مع الله: 180-181، 184.
(11) راجع مثلا كنوز من السنة: 12. ضمن مهرجان القراءة للجميع. 1999م.
(12) خطب الشيخ محمد الغزالي في شئون الدين والحياة: 1/16، وانظر: مع الله: 195، وما بعدها، وراجع بتوسع ثقافة الداعية للشيخ يوسف القرضاوي.
(13) مع الله: 201.
(14) راجع تركيز الشيخ على القرآن والاهتمام بفهمه في: هموم داعية: 31-33، 147-149، ومشكلات في طريق الحياة الإسلامية: 82-83. ضمن سلسلة كتاب الأمة، كنوز من السنة: 12-14، والغزو الثقافي: 211، 214، ومع الله: 21، 377، وما بعدها، ولعل أكبر ما يشير إلى ذلك عند الشيخ مؤلفاته التي خلفها عن القرآن وتفسيره.
(15) مع الله: 192.
(16) راجع مثلا: الحق المر: 121، وفي موكب الدعوة: 73، وتأملات في الدين والحياة: 187-190. طبع دار الدعوة. الإسكندرية.ط. أولى. 1410هـ.
(17) مع الله: 194-195.
* نقلا عن مجلة المجتمع، العدد 1562
*
*باحث مصري في العلوم الشرعية

شبكات المحمول أعلى المآذن.. رؤية فقهية

ردا على مفتي الجمهورية
شبكات المحمول أعلى المآذن.. رؤية فقهية*
وصفي عاشور أبو زيد**
أثارت الفتوى التي أطلقها الشيخ الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية بجواز استخدام مآذن المساجد كأبراج تقوية لإرسال إشارات الهاتف المحمول ردود فعل متباينة بين الكتاب والفقهاء، واختلفت كلمة الفقهاء المعاصرين حول هذه الفتوى، فمن قائل بقول فضيلة المفتي؛ بحجة أن تأجير المآذن لهذا الشأن يساهم في عمليات التطوير والتجديد ما دامت لا تحدث أي ضرر بالمسجد، ومن قائل بخلافه؛ نظرا لحرمة المساجد والحفاظ على قدسيتها.
وإزاء هذه الضجة التي أثيرت مؤخرا ولا تزال أصداؤها تتردد حتى كتابة هذه السطور، لابد من الوقوف وقفة فقهية متأنية حتى نصل فيها إلى رأي صحيح.
استثمار العائد
الدكتور: علي جمعه
المسألة المطروحة بشكل أوضح عبارة عن تركيب محطات أعلى مآذن المساجد؛ وذلك لتقوية إرسال واستقبال الاتصالات الهاتفية للتليفون المحمول، على أن تعود الأجرة التي ستُحصَّل من خلالها بالنفع على المسجد في إعماره وإصلاح مرافقه، وفي الوقت نفسه لا تعوق رسالته التي بُني لأجلها.
تلك هي القضية التي اختلفت حولها آراء الفقهاء فجاء البعض مؤيدا ومتفقا مع رأي فضيلة المفتي وعلى رأس هؤلاء كان الدكتور محمد رأفت عثمان -عضو مجمع البحوث الإسلامية- الذي لم ير مانعا من وضع مثل هذه المحطات على مآذن المساجد ما دامت لن تُحْدث أية أضرار، بل ستدر الأموال من حصيلة التأجير، مما يساهم في تطوير المساجد وإصلاحها.
وأوضح أن المصادر العادية للدخل في المساجد لا يمكنها الاستمرار في الوفاء باحتياجاتها، كما يعد ذلك تدعيما لجهود الدولة في استحداث مساجد جديدة، مؤكدا على أن ذلك ليس فيه أية مخالفة للشرع أو إهدار لمكانة المسجد، كما يمكن استثمار هذه الأموال لصالح الفقراء وتلبية احتياجاتهم.
للعبادة فقط
الدكتور: أحمد عمر هاشم
وبالرغم من إجازة المفتي وتأييد الدكتور عثمان فإن اعتراضات قوية صدرت عن عدد كبير من العلماء: منهم الدكتور عبد المعطي بيومي -عضو مجمع البحوث الإسلامية- والدكتور أحمد عمر هاشم -رئيس اللجنة الدينية بمجلس الشعب المصري ورئيس جامعة الأزهر السابق- والدكتور عزت عطية والدكتورة آمنة نصير -الأستاذان بجامعة الأزهر- ملخصين حججهم فيما يلي:
ـ أن المساجد يجب صيانتها عن مثل هذه الأمور لحفظ هيبتها ومكانتها، فهي أماكن عبادة، والمآذن جزء منها ولا تنفصل عنها بل تأخذ حكمها، واستخدامها في مشاريع إنتاجية أو فوائد مادية ممنوع؛ لأنه ينقلها من مجال الإخلاص لله تعالى بتجريدها للعبادة والطاعة إلى الأنشطة الدنيوية التي لا صلة لها بالآخرة.
ـ أن مآذن المساجد لا تصلح لتعليق محطات التقوية، والأولى أن تكون أعلى المباني الشاهقة، كما أن المساجد ليست بحاجة لهذه الإيرادات لوجود أوقاف كثيرة بالوزارة لهذا الأمر بالإضافة لدور المناسبات داخل المساجد، والتي تدر ربحا لا بأس به من المآتم والأفراح، ولو أردنا مصادر أخرى للإيرادات فيجب أن تكون من الأعمال التي يتقرب بها العباد إلى الله مثل الدروس الدينية، أو مجموعات التقوية ذات الأجور الرمزية.
ـ أنه إذا كان البيع والشراء ممنوعا في المساجد، وكذلك عقد الصفقات، والبحث عن الأشياء المفقودة، فمن باب أولى منع استخدامها لصالح شركات المحمول التي يمكن أن تبحث عن أماكن أخرى بعيدا عن المسجد وتؤدي نفس الهدف، وتترك المسجد يؤدي رسالته في هدوء.
ـ أن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وقد ثبت علميا أن هذه المحطات تضر بصحة من يجاورها، وتلحق الأذى بالمصلين وغيرهم، وتصرفهم عن الذهاب للمسجد، ومن المقرر في الفقه الإسلامي أنه لا ضرر ولا ضرار.
قراءة في النصوص
تلك كانت آراء الفقهاء المتباينة، إلا أن الضرورة تحتم علينا من أجل الوصول إلى حكم شرعي صحيح في مثل هذه المسائل أن ننظر أولا إلى نصوص الشرع، هل فيها ما يؤيد ذلك أو ما يخالفه، ثم الرجوع ثانية إلى أهل التخصص في هذا الشأن للوقوف على مدى أضرار هذه المحطات. وأخيرا الموازنة بين الآراء العلمية والنصوص الشرعية مع مراعاة مقاصد الشريعة ومصالح الناس؛ لينبني الحكم الشرعي بناء صحيحا.
ففي القرآن الكريم نصوص تؤكد أن المساجد إنما خصصت للصلاة والذكر والعبادة، قال جل شأنه: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ . رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ). النور: 36-37، وأنها مضافة إلى الله تعالى إضافة تشريف وتعظيم، قال عز من قائل: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً). الجن: 18.
وفي السنة النبوية الكثير مما ينص على أن المساجد يجب أن تصان عن البيع والشراء، ونشدان الضالة؛ لأن لها حرمة ولها مقاصد جُعلت لها.
فعن أبي عبد الله مولى شداد بن الهاد؛ أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك. فإن المساجد لم تبن لهذا". رواه مسلم، وفي نفس الباب عند مسلم عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الأَحْمَرِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ وَجَدْتَ، إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ".
قال الإمام النووي في شرح مسلم: "في هذين الحديثين فوائد: منها: النَّهي عن نشد الضَّالَّة في المسجد، ويلحق به ما في معناه، من البيع والشِّراء والإجارة ونحوها من العقود.
تعارض ظاهر
وربما يبدو هناك تعارض بين هذه النصوص وما يستخرج منها من حرمة وهيبة للمساجد، وتخصيصها بالذكر والعبادة فقط، والنهي عن رفع الصوت فيها، وتحريم البيع والشراء. وبين ما هو مدون في وقائع السيرة وأحداث التاريخ من أن المسجد كان جامعة علمية، وجمعية خيرية، ومحكمة قضائية، كان يدرَّس فيه العلم، ويُفصل فيه بين الناس، ويُبدأ فيه بالجهاد ويُنتهى إليه، وتقسم فيه الغنائم، ويربط فيه الأسير.
فكيف نفهم هذه النصوص التي توحي بهذه الخصوصية المسجدية بشكل لا يتعارض مع السيرة النبوية -وهي سنن عملية- التي روتْ لنا هذه الوقائع وأثبتتها أحداث التاريخ؟!.
يبدو من الوقائع التي روى التاريخ عملها في المسجد أن كل ما كان يتعلق نفعه وتعود مصلحته إلى عموم الأمة أجاز الشرع عمله مع مراعاة أن تكون فيه مسحة العبادة مع نظافة المسجد، ولا بأس أن يجمع إلى ذلك عموم مصالح المسلمين.
أما ما كان نفعه يعود على أشخاص بأعيانهم أو كيانات خاصة فلم يجزه الشرع، وله أماكن أخرى مثل الأسواق والميادين العامة مما يجب أن يتنزه عنه المسجد كي يؤدي رسالته ويحقق الأغراض التي أقيم لأجلها، وهذا هو التحقيق الذي يفك هذا الالتباس، ويجمع بين الخلاف القائم بين النصوص وأحداث السيرة والتاريخ.
وهذا ما قرره الإمام النووي في وضوح حين أورد في شرحه على مسلم: "إنَّما يمنع في المسجد من عمل الصَّنائع الَّتي يختصُّ بنفعها آحاد النَّاس ويكتسب به، فلا يتَّخذ المسجد متجراً، فأمَّا الصَّنائع الَّتي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كالمثاقفة وإصلاح آلات الجهاد ممَّا لا امتهان للمسجد في عمله فلا بأس به". شرح النووي على مسلم.
نظرة عميقة
وإذا نظرنا إلى واقع هذه الشركات التي تريد أن تعلق هذه الشبكات على مآذن المساجد، وسألنا أنفسنا عن الدافع الذي ألجأها إلى المساجد بالذات، دون المباني الشاهقة القريبة والبعيدة عن العمران، لوجدنا الآتي:
ـ أن هذه الشركات تعمل لنفسها ولمصالحها الخاصة، وليس لعموم مصالح المسلمين، وإن ادعت أن جزءا من المال سوف يعود على ما يُصلح المسجد ويجدد مرافقه، فما هذا إلا ذرّا للرماد في العيون حتى لا ترى الأغراض الشخصية والربحية التي تسعى لها هذه الشركات، وإلا فمصادر تمويل المساجد عديدة ومتنوعة: رسمية وأهلية، ومنذ متى كانت هذه الشركات حريصة على تجديد وإصلاح المساجد؟.
ـ أن هذه الشركات وجدت تعليق هذه الشبكات فوق العمارات والأماكن المأهولة بالبشر يكلفها تكلفة باهظة، حيث تدفع لأصحاب العمارات مبالغ كبيرة لتكسر خوفهم من الضرر الحادث جراء هذه الشبكات، فلجأت إلى أماكن تابعة لمؤسسات حكومية لتقنعها بأن الأمر تعود مصلحته -في جزء منه على الأقل- لما ينفع المسجد، وهي في الحقيقة لا تريد إلا مصلحتها الخاصة وتجري وراء الربح الفردي.
هذا من جهة واقع تلك الشركات وأهدافها الحقيقية، أما فيما يتصل بالناحية التقنية والعلمية فيما إذا كانت إشعاعات هذه الشبكات تضر بالبشر أم لا، فالرجوع إلى المتخصصين هنا يجب أن يُقرَّر أولا حتى يبني الفقه كلمته على كلامهم.
يقول المتخصصون: إن استعمال الهاتف المحمول استعمالا فرديا يضر بمستخدمه على المدى البعيد، وربما القريب، فما بالنا بالشبكات والمحطات؟.
ففي مقال بعنوان: "الاحتياطات الصحية الواجب اتخاذها عند استعمال التليفون المحمول"* يقول الأستاذ الدكتور أحمد حاني -أستاذ الصحة العامة والطب الوقائي بكلية الطب جامعة أسيوط: "خلص د.بروني وزملاؤه عام 1998 إلى أن الموجات الصادرة عن التليفون المحمول Gsx digital بعد فترة تعرُّض 20 دقيقة تؤدى إلى نقص مؤقت في عدد ضربات القلب Bradycardia، وأن ضغط الدم يزيد بمقدار 10مم؛ ذلك لأن القلب والأوعية الدموية حساسان لموجات التليفون المحمول، ومن ثم فيجب على مريض القلب أو مريض الأوعية الدموية الحذر الشديد عند استعمال هذا الجهاز، وإن كان من المستحب عدم استخدامه البتة".
هذا عن الاستعمال الفردي أما عن تركيب محطات لهذه الشبكة، ففي مقال بعنوان: "التليفون المحمول والتلوث الكهرومغناطيسي"** يقول الأستاذ الدكتور صلاح الدين عبد الستار -أستاذ الهندسة الكهربائية بكلية الهندسة جامعة أسيوط: لا يخفى أن هناك ارتباطا بين المجالات الكهرومغناطيسية منخفضة الترددات وبعض الأمراض مثل سرطان الدم (اللوكيميا) عند الأطفال وسرطان الثدي عند النساء وأمراض الجهاز العصبي المركزي ومنها الزهايمر؛ فهناك دراسات عديدة حول إصابة الأطفال الذين يسكنون بجوار خطوط القوى الكهربائية ذات الجهد العالي بسرطان الدم أكثر من غيرهم ساكني المناطق الأخرى.
فقد أظهرت الدراسات التي أجريت على مئات الأطفال الذين يعيشون بالقرب من تلك الخطوط أنهم يتعرضون للإصابة بأمراض الجهاز العصبي وسرطان الدم ضِعْفَ الأطفال الآخرين الذين يسكنون بعيدا عن هذه الخطوط، حيث قد تزيد نسبة إصابة الأطفال بسرطان الدم بنحو 375% إذا كانوا يعيشون في حدود 50 مترا من خطوط الجهد العالي.
ويؤكد أيضا على أنه: يجب إنشاء محطات المحمول بعيدًا عن المستشفيات والمدارس؛ وذلك لأن تلك الموجات بصفة عامة خطر على الصحة بلا جدال، ومن هنا انطلقت الأبحاث لمعرفة التأثير الفعلي لأجهزة التليفون المحمول على صحة الإنسان".
لا ضرر ولا ضرار
وأخيرا وباعتبار جميع ما سبق من إشارات أهل التخصص العلمي لأضرار هذه الشبكات، وأخذا بأقوال علماء الفقه مستندة لما سبق توضيحه من نصوص شرعية نجد أن وجود مثل هذه الشبكات فوق المآذن هو ضرر محقق ومؤكد على البشر، وقد قررت الشريعة الإسلامية رفع الضرر، بل دعت إلى منع وقوعه أصلا.
وقواعد الفقه الإسلامية العديدة في هذا الباب تقضي بهذا أيضا، ومن جهة أخرى فإن فيه خطرا على النفس التي جعلتها الشريعة الإسلامية من كليات مقاصدها، بل قدم بعض الأصوليين حفظها على حفظ الدين في منظومة كليات المقاصد.
وعلى وفق هذه المعطيات الشرعية يجب قراءة الاجتهاد الفقهي، ليتجه نحو ما يظن أنه حكم الله تعالى في المسألة، وذلك على نحو الرؤية الكلية دون النظر إلى بعض الجوانب دون غيرها.

* مقال منشور بمجلة أسيوط للدراسات البيئية - العدد السابع والعشرون - يوليو 2004.
* مقال منشور بنفس المجلة السابقة ـ العدد الخامس والعشرون (يوليو 2003).

* باحث دكتوراه في الشريعة بكلية دار العلوم.

http://www.islamonline.net/Arabic/shariah_corner/Fatwa/topic_02/2006/09/03.shtml