الخميس، 9 أغسطس 2007

حديث الفضائيات بين الضعفاء والثقات


وصفي عاشور أبو زيد
إسلام اون لاين
زدحم الفضائيات اليوم بكمٍّ من الغثاء الشرعي والدعوي غير محدود، يصاحبه جرأة غير محمودة على الأحكام الشرعية وإصدار الفتاوى والآراء، دون نظر في مقاصدها أو اعتبار لمآلاتها، أو مراعاة للواقع الذي يتم تنزيلها عليه.

ولا شك أن وسائل الإعلام المستحدثة -من شبكة عنكبوتية وفضائيات وغيرها- من الفتوح الجديدة التي يجب أن تستثمر استثمارًا إسلاميًّا أمثل؛ لتبليغ الخطاب الإسلامي الحقيقي الذي ظل دهرًا طويلاً حبيس أدراك القهر والظلم والاستبداد السياسي في المنطقة العربية كلها، وبعض الدول الإسلامية أيضًا.

بيد أنه تصدّر لهذا الأمر الجَلل ثلة من الدعاة، لا يستطيع أحد أن يشكك في إخلاصهم أو حرصهم على التبليغ، غير أن بعضهم -أو كثيرًا منهم- أساء من حيث أراد الإحسان، ووجْهُ الإساءة أنهم تحدثوا -إلا من رحم ربي- في دوائر ما كان أغناهم عن الولوج فيها والحديث حولها، فإن لكل علم رجالاً كما قيل، والقرآن قرر مبدأ التخصص حين قال: (فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا) [الفرقان: 59]، (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43]. والسنة أيضًا بما رواه ابن حبان بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح".

وأخطر ما في الأمر أن يتلقى الواحد منهم الأسئلة على الهواء مباشرة، ويجيب عنها بجرأة لا يُحسَد عليها، لكن يا للحسرة حينما تسمع الجواب الذي يشي بالجهل المطبق بأبجديات الفقه والفتوى، في أعوص المسائل التي يجيب عنها في التوِّ، وهي التي يُجمَع لها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.

عتاب على الثقات

وإن كنت أعتب هنا على هؤلاء الدعاة الذين طاروا بأجنحة ليست لهم، فارتادوا آفاقًا لم يحسنوا فيها الطيران فضلُّوا وأضلوا؛ لأنهم لم يقدروا الأمر حق قدره، ولم يقفوا على عظيم خطره ووخيم عاقبته، فإني عاتب بنبرة أعلى واستنكار أكبر على دعاتنا الثقات، وعلمائنا الراسخين الأجلاء الذين تركوا هؤلاء الدعاة الأدعياء والفقهاء الدخلاء يمتدون في فراغهم.

ولا شك أن الداعية ضعيف التكوين يسارع في الظهور واجتلاب الأنظار واستتباع الجماهير، مع أنه يعلم في قرارة نفسه أنه ليس هو الجدير بهذه المنابر، ولا المستحق لهذا الذيوع والانتشار، وفجأة تجد اسمه في الصحف، ومواقع الشبكة الإلكترونية، يزاحم أسماء علماء الأمة ودعاتها وقادة الرأي فيها، في الوقت الذي تجد فيه الراسخين في العلم والمتمكنين من فقه الدعوة والمحيطين معرفة بفقه الواقع ومآلات الكلام منعزلين عن هذه المنابر، مؤْثرين الصمت والبعد عن الأضواء.

فهي معادلة صعبة حقًّا تذكرنا بقولة الفاروق عمر رضي الله عنه الشهيرة -مع الفارق-: "اللهم إني أشكو إليك جَلَد الفاجر وعجز الثقة". فإذا وجدتَ صاحب موهبة في الحديث والتأثير والحشد، لا تجد معه من العلم والفقه ما يضمن له سلامة الرأي في المواقف المتنوعة والأفكار المختلفة، وإن وجدت صاحب العلم والفقه والنظر، رأيته عازفًا عن خوض غمار الإعلاميات منعزلاً عن الأضواء غير راغب في الظهور والشهرة.

وحجة الدعاة ضعيفي التكوين أن هذه الوسائل الإعلامية فرصة طيبة لإبراز معالم الدين وتبليغ رسالة الإسلام، وما ألف خطبة وخطبة يكون لها أثر خمس دقائق كلامًا على فضائية من الفضائيات؛ وذلك لما تتمتع به هذه الفضائيات من ذيوع وشهرة وعالمية، إضافة إلى أن الله تعالى أكرمنا بوسائل إعلامية تتناسب مع عالمية دين الإسلام، فلم يَعُد لنا عذر في التقاعس أو التراجع، والرسول صلى الله عليه وسلم قال في ما رواه البخاري: "بلّغوا عني ولو آية".

وهذا كله كلام طيب ومقبول، بل مأجور أجرين إن أصاب وأجرًا واحدًا إن أخطأ، لكن البلية العظمى أن جانب التكوين العلمي الذي يوقعهم غيابه أو ضعفه -إن وجد أصلاً- في معضلات ومشكلات يصعب التصرف معها أو الخروج منها أو معالجتها إن حدثت جراح فكرية بسببها تمس الفقه والعلم، وياللمصيبة لو مست قضايا الأمة الكبرى.

وهؤلاء الدعاة وإن ادَّعوْا أنهم يمارسون دعوتهم في حدود معينة لا يتخطَّوْنها، فإن هذا غير مسلّم لهم؛ لأن طبيعة العمل الدعوي عبر هذه الوسائل الإعلامية يجر الداعية -شاء أم أبى- إلى مساحات يأتي منها الخطر على يد ضعف التكوين وقلة البضاعة، فلا بد له من التعرض لهذه المساحات التي يفرضها عليه وجوده في هذه الوسائل، ومن هنا يقع ما لا تحمد عقباه.

حجة الثقات في السكوت

وحجة الدعاة الثقات والعلماء الراسخين، هي أنهم يريدون أن ينأوا بأنفسهم عن هذا العبث، وأن يربئوا بعلمهم ومكانتهم أن يزاحموا هؤلاء الأدعياء، وأنهم لم يعودوا في حاجة إلى الشهرة ولا إلى المال، بالإضافة إلى أن الجهات الرسمية لهذه الإذاعات أو القنوات أو غيرها من وسائل ربما تعاملت بشكل لا يليق ومكان هؤلاء العلماء ومكانتهم، بالإضافة إلى كلام المثقفين وبعض زملائهم من العلماء، مما يزهدهم في ممارسة هذا الأمر، وقد قرأنا عن اعتزال أحدهم قريبًا ميدان الدعوة، لكنه تراجع عن قراره.

على أن جانب الشهرة والظهور يحتل مساحة كبيرة لدى عدد غير قليل من هؤلاء العلماء الذين نفتقدهم والذي يتعارض -في رأيهم- مع الإخلاص والتجرد، والبعد عما يلبِّس عليهم نواياهم وإخلاصهم لله تعالى، وقد قال ابن عطاء الله: "الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها"، وقال أيضًا: "ادفن نفسك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه".

أضرار جرأة الضعاف

وتتمثل أضرار الحرص على الظهور والتبليغ من قبل الدعاة الضعاف مع عدم تكوُّنهم التكوُّن الذي يسمح لهم بذلك فيما يلي:

- أنهم يضرون أنفسهم أولاً؛ لأنهم يرتكبون مخالفات شرعية؛ إذ يتحدثون فيما لا يعلمون، وهو أمر منهي عنه شرعًا.

- أنهم يُضِلون أناسًا كثيرين بكلامهم غير الصحيح، وبالتالي يتحملون وزرهم ووزر من يعمل بعملهم، وهذا فيه من الخطر ما لا يخفى، ويصعب عليه أن يصحح ما أخطأ فيه من قبل ويصل التصحيح إلى كل من سمع، وفي قصة ابن عباس مع نكاح المتعة عبرة وعظة، حيث إنه لما أباحها بشكل ما شاعت فتواه بين الناس وعملوا بها بتوسع حتى قال قائلهم:

قد قلت للشيخ لما طال مجلسه

هل لك في رخصة الأطراف آنسةٍ

يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس

تكون مثواي حتى رجعة الناس

فلما بلغ ابن عباس ذلك ضرب كفًّا على كفٍّ واسترجع، وأرسل مناديًا ينادي في الناس يصحح رأيه، ولم يكتفِ بذلك، فنادى يوم عرفة بأعلى صوته: "من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا عبد الله بن العباس: ألا إن المتعة حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير".

- أنهم يعرِّضون أنفسهم لغضب الله وسخط الناس؛ إذ يحلون الحرام ويحرمون الحلال عن طريق الفتاوى التي ليسوا لها أهلاً.

- أنهم يُغرون غيرهم ممن ليسوا أهلاً لذلك بالاقتداء بهم، واستعجال الظهور، والتطلع إلى الشهرة مثلهم، وهذا يعود عليهم بالخراب والبوار دنيا وأخرى.

أضرار إحجام الثقات

أما الأضرار التي يمثلها إحجام الدعاة الثقات والعلماء الراسخين، فمنها:

- أنه ضرر وخطر عليهم هم أنفسهم؛ لأنهم لا يؤدون زكاة علمهم، فإن للعلم زكاته أيضًا إذا بلغ نصابًا.

- أنهم سيعاقَبون على كتمان هذا العلم الذي أمرهم الله ببيانه: (وإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: 187]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كتم علمًا يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار". [رواه الترمذي وغيره، وقال: حسن صحيح].

- أن عقابهم أمام الله سيكون بقدر الأعذار، ولم يَعُد لها وجود في التبليغ الآن، وهي وجود هذه الوسائل العالمية مع تشويه الصورة العامة للإسلام الذي أصبح اليوم متهمًا ومصادرًا ومرفوضًا في كثير من دول العالم.

- أنهم يميتون الحق ويضيعونه، وقد استأمنهم الله عليه، وأمرهم بالقيام بحقه، وبالحفاظ على الميراث الذي ورثوه بتعليمه وتوريثه، فإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم.

- أنهم يظلمون القضية الإسلامية حينما يتركونها لمن لا يحسن القيام بها والتحدث عنها، في الوقت الذي يُسخِّر فيه أعداء الإسلام كل طاقاتهم العلمية والمادية من أجل توصيل رسالتهم وإظهار خطابهم، وبهذا ينقلب الحق باطلاً والباطل حقًّا، ويصير المظلوم ظالمًا، والظالم ضحية ومجنيًّا عليه.

كلمتان

وفي النهاية أود أن أقول كلمتين: كلمة للدعاة أصحاب التكوين الضعيف، وأخرى للدعاة المتكونين تكوينًا ثابتًا راسخًا.

فأما الأولون فأقول لهم:

لا يحملنّكم بريق الظهور وشهوة استتباع الناس، ولا كذلك الرغبة في البلاغ الإسلامي والحرص على إظهار مبادئ الإسلام على الجور على جانب التكوين أو إهماله؛ لأن هذا لا يصب في صالح "الحكمة والموعظة الحسنة"، ولا الجدال "بالتي هي أحسن"، ولأنه إذا تصدر الحَدَثُ فاته خير كثير، وليس معنى هذا أن تظلوا قابعين في بيوتكم للتكوين، فالتكوين لا ينتهي حتى الممات، ولكن اعملوا بقدر تكوينكم، ولا تطيروا بأجنحة ليست لكم، فإن لكل مجال تكوينًا يرشحه ويقدمه، وما لم يتوفر لديكم التكوين اللازم لمجال معين فلا تقربوه، وإلا أصيبت الدعوة - وربما الإسلام- على أيديكم بهزائم شديدة.

وأما الكلمة التي أوجهها لدعاتنا وعلمائنا الراسخين الذين تستدعي الساحة الإعلامية والدعوية علمهم وفقههم الدعوي بقوة، من أمثال الشيخ حسن أيوب، والشيخ عبد الستار فتح الله سعيد، والدكتور حسن الشافعي، والشيخ عبد المنعم تعيلب، والدكتور أحمد العسال، والدكتور يحيى إسماعيل، والدكتور السيد محمد نوح، والدكتور عبد اللطيف عامر، وهناك العشرات بل المئات داخل الأزهر وخارجه من الأخفياء الأتقياء والراسخين من العلماء، أقول لهم: متى تؤدون زكاة علمكم وتورثوه لمن بعدكم، ولماذا تركتم الساحة حتى امتد هذا الغثاء وتربع في فراغكم؟! اعلموا أن الله سائلكم عن هذا العلم ماذا عملتم به، وعن هذه الوسائل التي أتاحتْها تطورات العصر كيف كان لها استغلالكم، وعن القضية الإسلامية التي خذلتموها وأضعتموها لسبب أو لآخر، فمهما قابلكم من صعوبات وإهانات واستبدادات وتسلطات ووساوس نفسية أو إيمانية فهو ميدان جهاد ومغالبة، وإن الثمرة المرجوة والمصلحة المجلوبة أعظم بكثير منها، وإلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. اللهم قد بلغت فاشهد!.

عتاب لأبو الفتوح بشأن قطب وقميحة.


.وصفي عاشور أبو زيد
جريدة : المصريون
نشرت صحيفة "أخبار الأدب" المصرية في عددها الصادر بتاريخ 18/12/2005. تحقيقا عن زيارة مجموعة من الأدباء للأديب العالمي الأستاذ نجيب محفوظ احتفالا بعيد ميلاده، واحتفل بالمقالة موقع إسلام أون لاين. نت، فنشرها في صفحة "ثقافة وفن" بتاريخ: 21/12/2005م، وكان من بين الحاضرين، والذي تصدر في اللقاء، القيادي الإخواني الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وتحول اللقاء من حفل للأديب الكبير إلى حوار حول "الفوبيا" التي استحوذت على المثقفين تجاه مواقف حركة الإخوان من الثقافة والفن الأمر الذي أثاره فوز الإخوان الأخير بعدد كبير من مقاعد مجلس الشعب.

وكان من بين الكلام الجيد الذي ذكره الدكتور أبو الفتوح تقريره أن الإخوان جزء من المسلمين، ورفضه رفضا قاطعا أن يكون الإخوان محتكرين للإسلام، أو أن تكون معهم الحقيقة المطلقة بحيث من وافقهم فهو على الصواب ومن خالفهم فهو على الخطأ، وأن الإخوان ليسوا أوصياء على الإسلام.


وأثناء الحوار أيضا أعلن رفضه لقيام دولة دينية، أو حزب ديني يكون الحاكم فيه رجال الدين، بل دولة مدنية أو حزب مدني ذو مرجعية إسلامية يحتكم إلى الدستور الذي يقرر أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.

وقال: "يجب ألا يُحاسَب أحد على كونه شيوعيا، قد ترفضها، ولكن يجب ألا تقصيني لكوني شيوعيا أو إسلاميا، أو قوميا، لا يجوز من باب احترام حريات البشر أن تقصيهم بسبب فكرهم". وأكد أن "الإسلام الذي قبل التعددية الفقهية أولى به أن يقبل التعددية السياسية التي هي أهم في حياة البشر من التعددية الفقهية".

وهذا بلا شك كلام لا يختلف فيه أحد، بل كان كلاما مُطَمْئِنًا إلى حد كبير للمثقفين الذين حضروا هذا الحفل بالرغم من إبدائهم مخاوفهم أن يكون هذا هو رأيا فرديا لأبو الفتوح وليس رأيا تتبناه الجماعة، خاصة أن الدورة البرلمانية الماضية قدم الإخوان فيها عددا من الاستجوابات تخص الثقافة والفن والإعلام.

وقبل هذه الإيجابيات لابد أن أمتدح زيارة أبو الفتوح لمحفوظ؛ لأنها خطوة جريئة في التواصل مع الآخرين، وهي سياسة جيدة لتبديد المخاوف تجاه الإخوان، خاصة أن الأستاذ نجيب محفوظ من الشخصيات التي عليها علامات استفهام كثيرة عند كثير من التيارات الإسلامية.


ولكن ما آلمني هنا فيما ذكره الدكتور أبو الفتوح ـ وهو مرجعية إخوانية مرموقة ـ وأريد أن أسجل عتابي له عليه، كلامه عن شهيد الإسلام الأستاذ سيد قطب، والكلام الذي وصفه به ضمن إجابته على سؤال الروائي المعروف الأستاذ يوسف القعيد حول سيد قطب ومعالم في الطريق، فرد الدكتور أبو الفتوح أننا لا يصح أن نؤاخذ سيد قطب بما قاله بعد دخوله السجن واصفا حالته وقتها بـ "حالة مَرَضية"!! وزاد موضحا: "وأنا كطبيب لا يمكن أن أؤاخذ إنسانا في حالة مرضية على تصرفاته. وأتذكر ـ والكلام له ـ أنني في (79) كنت أجري عملية فتح خراج لمريض، فقام بصفعي على وجهي، لا يمكن أن أغضب أو ألوم هذا المريض على ما فعل".


ثم قال مؤكدا: "التعذيب الذي تعرض له سيد قطب جعله في حالة مرضية، وأنا لا أبرر ما كتبه، ولكن التعذيب الذي تعرض له جعله غاضبا من المجتمع كله، وفي ظل التعذيب لا يستطع الإنسان أن يمتلك من الرشد والحكمة ما يجعله يلتمس العذر للشعب. ومع ذلك ما كتبه قطب في "معالم على الطريق" وما خطه أحيانا في كتابه "في ظلال القرآن" يختلف عما كتبه بعد ذلك بعد 54، ويختلف عما كتبه الإمام البنا، ويتحمله سيد قطب وليس له علاقة بفكر الجماعة".

وآلمني أيضا بدرجة لا تقل عما سبق ما وصف به أدب الأديب الداعية الدكتور جابر قميحة وحكم على شعره قائلا: "أنا ضد ما يكتبه جابر قميحة من شعر، وكتاباته ليس لها علاقة بالفن أو الثقافة"!!!.

وكان هذا إجابة على سؤال سأله أيضا يوسف القعيد مفاده: أن هناك جريدتين تنتميان إلى جماعة الإخوان هما "آفاق عربية" و"الأسرة العربية" وصفحات الفن والثقافة منهما ليس لهما علاقة بالفن والأدب، وأضاف القعيد أن أبو الفتوح نفسه سيتهم بالكفر والزندقة إذا قال ما قال في هاتين الجريدتين.
وأضاف أبو الفتوح أن "هذه الصفحات وصلت إلى ما هي عليه بسبب عزوف بعض المثقفين عن الكتابة والنشر في هذه الجرائد".

وأريد أن أوجه عتابي ولومي الشديدين للدكتور أبو الفتوح في نقاط محددة:
أولا: كيف يحكم على رجل في وزن سيد قطب هذا الحكم القاسي الذي يخالف الحقيقة ويسيء إلى الرجل بغير حق، وما معنى وصف حالته بالـ "مرضية"؟ إن لهذا الوصف دلالات وأثارا خطيرة على مستويات عدة، يكفي أن معناه رفض كل ما كتبه سيد قطب بعد انتسابه لجماعة الإخوان وتحديدا ما بعد عام 1954م، وتبرؤ الجماعة منه، وهو وحده المسئول عن فكره لا الجماعة، فهل ما كتبه سيد قطب في كتبه الفكرية التي تنضح بالإبداع الفكري والجدة الفلسفية والفهم السامق لشريعة الله ـ في كتبه: المستقبل لهذا الدين، وهذا الدين، وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته، وفي التاريخ فكرة ومنهاج، كل هذا يرفض ويلغي ويتحفظ عليه في رأيك يا دكتور!!!.
ولا مانع أيضا ـ في رأي الدكتور أبو الفتوح ـ من أن ينسحب هذا الحكم على كل كتاب كتبه صاحبه في السجن، ابتداء بما أملاه الإمام الحنفي العظيم "السرخسي" في كتابه: "المبسوط" المكون من ثلاثين جزءا، والذي يعتبر مرجعا أساسيا عند الأحناف، وما كتبه الإمام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، ومن المعاصرين الشيخ سعيد حوى الذي كتب: "الأساس في التفسير" والشيخ الغماري المغربي الذي كتب بعض كتبه في سجون مصر، والشيخ عبد الستار فتح الله سعيد الذي كتب رائعته للدكتوراه: "المنهاج القرآني في التشريع" في السجن أيضا، والشيخ يوسف القرضاوي الذي كتب كتابه الفريد، أو إن شئت فقل موسوعته عن "فقه الزكاة" في السجن أيضا، كل هذا لا يصح أن نؤاخذهم عليه لأنهم كانوا في حالة مرضية، كالمريض الذي صفعه على وجهه حين كان يجري له جراحة.
الرجل الذي كان يحمل رأسا كله فكر في شريعة الله أصبح اليوم ـ في رأي أبو الفتوح ـ في حالة مرضية لا يمكن أن نطمئن لما كتبه أو أن تكون حركة الإخوان مسئولة عنه بل يتحمله سيد قطب كاملا، مع أن السجين ـ وقد جرب أبو الفتوح ذلك ـ يمكنه أن يبدع وأن يكتب ما لا يمكن أبدا أن يتاح له خارج السجن، ويتبدى له من مساحات الفكر والرؤى ما لا يمكن أن يبدو له خارجه أبدا، وهذا ما حدث مع سيد قطب وغيره من المؤلفين السجونيين.

ثانيا: ثم يصف "في ظلال القرآن" بأنه خواطر وليس تفسيرا، وربما نتفق معه في أن الأجزاء الأولى من القرآن أعاد تنقيحها، لكن لا ليغير فيها الأفكار والآراء، ولكن لينقح ويراجع ما كتبه مثل أي كاتب يراجع وينقح، ولم يمهل القدر مفسرنا الملهم حتى يتم مراجعة باقي الأجزاء، وهي عشرون تقريبا، ولذلك يلحظ القارئ الفرق بين الأجزاء العشرة الأولى وبين باقي الظلال، حيث إنك يمكن أن تطلق على ما نقحه وراجعه تفسيرا لا يخلو من ظلال، وما سواه ظلالا لا تخلو من تفسير، ومع ذلك فإن تفسير سيد قطب مدرسة متميزة متفردة ذات منهج غير مسبوق في تنزيل هدايات القرآن الكريم على الواقع وعلى حياة الناس، ويعتبر ـ بحق ـ إضافة حقيقية في مجال التفسير؛ حيث أضاف لمحاولات من سبقوه وبنى عليها، وسمعت أستاذنا الدكتور محمد إبراهيم شريف أستاذ التفسير بقسم الشريعة بكلية دار العلوم يقول عام 1998م ونحن في التمهيدية للماجستير: "إن تفسير سيد قطب هو آخر تفسير إلى الآن أضاف جديدا لمجال تفسير القرآن"، ومع أن الكلمة تحمل إطلاقا لا يليق بالبحث العلمي فإن لها دلالات لا تنكر وقد خرجت من رجل متخصص، وقد أعجبتني كلمات قالها الخطيب المفوه الشيخ عبد الحميد كشك وهو يتحدث عن قطب وتفسيره: "كنت أود أن ألقى ذلك الرجل العملاق الذي فسر القرآن تفسيرا كأنه يتنزل عليه من السماء".

ثالثا: قوله عن د. جابر قميحة ـ ذلك الرجل الخلوق ـ : "أنا ضد ما يكتبه جابر قميحة من شعر، وكتاباته ليس لها علاقة بالفن أو الثقافة". أقول له من حقك يا دكتور أن تكون مع أو ضد أي فكر، وهذا ما يكفله الإسلام لأي رأي أو أي فكر، وكذلك الدستور والقانون، أما أن تحكم على إبداع الرجل بأنه ليس له علاقة بالفن أو الثقافة، فهذا لا يصح ولا يجوز أن يخرج عن مثلك أبدا، لأنك لست من أهل هذا الشأن، وأَعلمُ أن جماعة الإخوان تحترم التخصص وترجع إلى المتخصصين سواء من داخل الجماعة أو خارجها في أي مجال، فكيف يبيح د. أبو الفتوح لنفسه أن ينصب نفسه حاكما على تفسير الشهيد سيد قطب، ويحكم عليه وعلى حالته بأنها مرضية، ويتحفظ ـ بالتالي ـ على كل ما كتبه الرجل فترة سجنه، ثم يتدخل في الأدب والشعر والفن فيحكم على أدب وشعر رجل في وزن الأديب الدكتور جابر قميحة بأنه لا علاقة له بالفن أو الثقافة، مع أن القعيد لم يذكر جابر قميحة بذاته، ولكن ذَكَر ضعف الصفحات الفنية والأدبية في صحافة الإخوان، وكان من الممكن أن يتكلم الدكتور أبو الفتوح عن الطريق الصحيحة لتقوية هذه الصفحات دون أن يذكر الرجل أو يقدح فيه بهذا الشكل المزري، ومع ذلك فإن الدكتور جابر قميحة قد جعل قلمه الحر، وشعره ـ بصرف النظر عن قيمته الفنية ـ وقفًا لخدمة الدعوة، ونصرة دين الله.

رابعا: أعتقد أن الدكتور أبو الفتوح قد جاوز غرسه حينما تكلم في مجالات ليست في مجال تخصصه، وفي رجال لم يقدر إبداعهم حق قدره، وكان يمكن للدكتور أن يترك المتخصصين حتى من أبناء الجماعة أو من غيرها أن يدلوا بدلوهم في هذه القضية، وغيرها من القضايا، كل في مجال تخصصه، أو إن لم يكن هناك متخصصون في الجماعة في هذه المجالات فليعلن ذلك، وساعتها سيكون موضع احترام من الجميع.
خامسا: ليس معنى ذلك أن سيد قطب أو جابر قميحة أو غيرهما فوق المراجعة أو فوق النقد، فلم يقل أحد ذلك يوما، ولم يقله عنهم أحد ممن تربوا على إبداعهم، بل الكل بشر يخطئ ويصيب ويؤخذ من كلامه ويرد، لكن ينبغي أن تكون المراجعة والنقد من أهل الفن والتخصص، لا أن يحكم أهل الطب والحركة والسياسة على كل علم وكل فن، وقد قال القرآن: "فاسأل به خبيرا"، "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".

ليس هذا ما ذكره فقط الدكتور أبو الفتوح، بل ذكر ما يدين جيل ما قبل السبعينيات في جماعة الإخوان بشكل غير مباشر حينما قال في إشارة إلى أن جيل السبعينيات هو الجيل الذي يتعامل مع المجتمع ويختلط به ليرد بذلك على من قال ليس هذا الفكر المستنير معبرا عن فكر الجماعة، فقال: "إن معظم الأجيال التي ظهرت بعد السبعينيات تحمل هذا الفكر الجديد...ويجب ألا نؤاخذ الإخوان على فترة التغييب، حينما غاب الإخوان في الخمسينيات والستينيات انتصر الفكر البدوي وساد...الإخوان أصبحوا الآن يمثلون الفكرة الإسلامية الوسطية المعتدلة التي تعتمد العمل السلمي لتحقيق أهدافها في التغيير".

وهذا الكلام فيه قدح للجيل الذي ضحى بعمره وشبابه في سجون ناصر، وأنه جيل منغلق لا يتعامل مع المجتمع، وأن منهاجه في التغيير هو منهاج غير سلمي، وبسبب غياب هذا الجيل انتشر الفكر البدوي، وهذا غمط ـ من ناحية أخرى ـ لجهود العلماء الأفذاذ الذين كانوا خارج السجن وقتها يبشرون بالإسلام السمح الوسطي أمثال الشيخ الغزالي والشيخ السيد سابق والشيخ أبو زهرة والشيخ شلتوت والدكتور محمد يوسف موسى وغيرهم.

ليس هذا فحسب بل قرر أن الرسالة التي يحملها لمحفوظ من الإخوان أنها: "تحمل لك الإعزار والتقدير، وتعتبر أن النجاح النسبي الذي حققوه في الانتخابات نتيجة لفضل محفوظ على مصر كلها، بنشره الاستنارة والاعتدال في كتاباته ورواياته"!!!!.
وقال له في مقام آخر: ""هذا حدث بفضل الكتاب الشرفاء أمثالك، وهم الذين علمونا هذا اللين والاعتدال". !!!! ولا تعليق.

أعتقد أن الهجمة التي تواجهها حركة الإخوان بعد نجاحهم في الوصول لمجلس الشعب الآن، والاتهامات الموجهة لهم في مجالات عديدة مثل: القبول بالآخر وتداول السلطة، والثقافة والفن، والأقباط، والمرأة، وغير ذلك من ملفات، لا ينبغي ـ بل لا يجوز ـ أن تحمل بعضهم بشكل فردي ـ فضلا عن الجماعي ـ على تصريحات أو سلوكيات تخالف الحقائق، أو تهز الثوابت وتسيء للبعض، في محاولة لإظهار الجماعة بمظهر "متطور" و"مستنير" حتى تُبدَّدَ مخاوف المثقفين وغير المثقفين، فالثوابت ثوابت، والمتغيرات متغيرات، وإذا بددنا مخاوف المثقفين بهذه الطريقة المفَرِّطة، انفتحت علينا جبهات أخرى ومخاوف أخرى من تيارات أخرى، فاتباع الحق والوسط يريح المسلم، وقديما قالوا: رضا الناس غاية لا تدرك، وقال الشاعر: إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضبانا علي لئامها.
انتظرت طويلا حتى كتابة هذه السطور بعد مرور أكثر من أسبوع على ما نشر أن يصدر بيان عن الدكتور أبو الفتوح لينفي هذا الكلام أو يوضحه، فربما حرفه الصحفي أو فهمه فهما غير كامل، وهذا يحدث كثيرا في عمل الصحافة، لكن ذلك لم يحدث، ما يؤكد صحة نسبته إليه، فأردت أن أعاتبه هذا العتاب الذي أود أن يجد صدره مفتوحا ومستوعبا، وهو فاعل إن شاء الله، والحق أحق أن يتبع.